الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الظواهر الفنية في شعر الصعاليك
1-
شعر مقطوعات:
حين ننظر في شعر الصعاليك الذي بين أيدينا من الزاوية التي تظهر على بنائه الخارجي، فأول ما يلفت نظرنا فيه أنه شعر مقطوعات. ولسنا نعني بهذا انعدام القصيدة فيه، وإنما نعني ذيوع المقطوعة أكثر من ذيوع القصيدة.
وإذا استثنينا تائية الشنفرى المفضلية ذات الأبيات الأربعة والثلاثين في بعض المصادر1. والخمسة والثلاثين في بعض المصادر الأخرى2، ولامية عمرو ذي الكلب الهذلي ذات الثلاثين بيتا3، ورائية عروة بن الورد المشهورة4. وفائة صخرة الغي الهذلي5، وكل منهما في سبعة وعشرين بيتا، ثم تلك الأبيات المفرقة لتأبط شرا في رثاء الشنفرى التي جمعها ناشر ديوان الشنفرى وتألفت منها قصيدة في سبعة وعشرين بيتا6، وقافية تأبط شرا المفضلية ذات الأبيات الستة والعشرين7، وبائية الأعلم8، وميمية أبي خراش9، وكلتاهما في
1 المفضليات 194-207.
2 انظر في المصدر السابق/ 207 تعليق lyall على البيت الأخير من التائية.
3 شرح أشعار الهذليين 1/ 232-237.
4 ديوانه/ 63-85.
5 شرح أشعار الهذليين 1/ 42-49.
6 ديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية/ 28-29.
7 المفضليات/ 1-19.
8 شرح أشعار الهذليين 1/ 55-60.
9 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 125-132.
أربعة وعشرين بيتا، ودالية صخر الغي ذات الأبيات الثلاثة والعشرين1، إذا استثنينا هذه القصائد التسع، واستثنينا معها تلك المجموعة القليلة من القصائد الطويلة التي قيلت في أغراض عامة، والتي أخرجناها في الفصل السابق من دائرة شعر التصعلك، فإننا نجد أنفسنا أمام مجموعة كبيرة من المقطوعات التي يتراوح عدد أبيات الواحدة منها بين البيتين والسبعة، وأمام مجموعة أخرى من القصائد القصيرة التي توشك أن تكون مقطوعات لا تتجاوز أطوالها، وهي فائية للشنفرى، عشرين بيتا في بعض المصادر2، وتسعة عشر بيتا في بعض المصادر الأخرى3، هذا إلى جانب مجموعة كبيرة من الأبيات المفردة التي يرجح جدا أنها أبيات من قصائد أو مقطوعات لم تصل إلينا.
وقد يكون من الطريف أن نلاحظ أن كل ما وصل إلينا من شعر أبي الطمحان مقطوعات قصيرة، أطولها في أربعة أبيات4، وأقصرها في بيتين5، وأن كل ما وصل إلينا من شعر حاجز، ما عدا قصيدة ميمية في تسعة أبيات6، مقطوعات قصيرة أقصرها في بيتين7، وأطولها في سبعة8، وأن كل ما وصل إلينا من شعر السليك مقطوعات أقصرها في بيتين9 وأطولها في ستة أبيات10، وإن تكن إحداها قد بلغت أربعة عشر بيتا11، وكذلك قيس بن الحدادية،
1 شرح أشعار الهذليين 1/ 12-13.
2 ديوانه في الطرائف الأدبية / 37-39.
3 الأغاني 21/ 140، 141.
4 اللامية في الحيوان للجاحظ 1/ 380، والبيان والتبيين 3/ 150، 151، والأغاني 11/ 132 "بولاق"، ورواية الجاحظ أصح، والبائية في الأغاني 11/ 132، 133 "بولاق"، والقافية في المصدر نفسه / 133، والرائية في الحيوان للجاحظ 6/ 113.
5 النونية في الأغاني 11/ 134 "بولاق" والقافية في البيان والتبيين 3/ 202.
6 الأغاني 12/ 50 "بولاق".
7 المصدر السابق/ 52، 53.
8 المصدر نفسه/ 51.
9 الأغاني 18/ 134، 137. والشعر والشعراء / 215.
10 الأغاني 18/ 135. والميداني: مجمع الأمثال 1/ 399.
11 الأغاني 18/ 136.
إذا استثنينا قصيدتين له في الغزل1 لأنهما خارج دائرة التصعلك، فإن كل ما لدينا من شعره بين الأبيات الثلاثة والتسعة، بل إن تأبط شرا، ومجموعته الشعرية أوفر عددا من هؤلاء، إذا استثنينا قصيدتيه اللتين ذكرناهما بين القصائد العشر المطولات، واستثنينا خمسا أخرى بين تسعة أبيات وستة عشر بيتا2، فكل ما يتبقى أمامنا مجموعة بين بيت واحد وستة أبيات.
وهنا نقف لنتساءل: ما السر في هذا؟
نحن بين أمرين: إما أن نفترض أن مجموعة شعر الصعاليك التي بين أيدينا ناقصة لا من حيث عدد قصائده ومقطوعاتها فحسب، ولكن من حيث عدد أبياتها أيضا. وهو فرض له إغراؤه لأنه مريح من ناحية، ولأنه يتفق مع ما يذكره مؤرخو الأدب العربي من ضياع أكثر الشعر الجاهلي من ناحية ثانية، ولأنه -من ناحية ثالثة- مقبول في مثل حالة الشعراء الصعاليك الذين رأينا أن قبائلهم لم تكن تحرص على شعرهم، وحتى لو حرصت عليه فليست السبيل إليه ميسرة لهم.
وإما أن نقبل الحقيقة الماثلة أمامنا وهي أن مجموعة شعر الصعاليك -في مجموعها- مقطوعات قصيرة، ثم نتلمس العلة في ذلك. والعلة عندي هي طبيعة حياتهم نفسها، تلك الحياة القلقة المشغولة بالكفاح في سبيل العيش التي لا تكاد تفرغ للفن من حيث هو فن يفرغ صاحبه لتطويله وتجويده، وإعادة النظر فيه، كما كان يفعل الشعراء القبليون، تلك الطائفة "الأرستقراطية" التي فرغت للفن تلك فراغا هيأته لها قبائلها لا من أجل الفن ولكن من أجل أنفسها. وإلا فما معنى تلك الفرحة التي كانت تعم أفراد القبيلة جميعا حين ينبغ فيها شاعر إن لم تعمل القبيلة على الاستفادة من شاعرها وتهيئ له أو -بتعبير أدق- لها سبيل هذه الاستفادة؟
وهل نتصور مثلا أن يفرغ الشاعر الصعلوك لفنه كما كان يفرغ زهير
1 الأغاني 13/ 6، 7، 8 "بولاق".
2 حماسة أبي تمام 1/ 46، 2/ 26، والأغاني 18/ 213، 214، 215.
لحولياته، أو أمرؤ القيس في حياته اللاهية الفارغة المطمئنة التي ضمن له رغدها ملك أبيه، أو النابغة في حياته المستقرة في بلاط المناذرة والغساسنة؟ الأمر الذي لا شك فيه هو أن حياة الصعاليك كانت حياة قلقة مضطربة، وأنهم جميعا كانوا يشعرون شعورا عميقا بأنها حياة قصيرة، وبأنهم دائما على موعد مع الموت الذي يترصدهم ترصد الموتور، حتى كثر ذكر الموت عندهم، وتردد الحديث عنه في شعرهم، صدى لما كان يجيش في نفوسهم من إحساس عميق بقصر حياتهم، وهل نظن شاعرا هذه طبيعة حياته يستطيع أن يفرغ لفنه يطيله ويجوده ويعيد النظر فيه المرة بعد المرة؟ أظن أن الطبيعي أن مثل هذه الحياة التي لا يكاد الشاعر يفرغ فيها لنفسه لا تنتج إلا لونا من الفن السريع الذي يسجل فيه الشاعر ما يضطرب في نفسه في مقطوعات قصير وموجزة، يسرع بعدها إلى كفاحه الذي لا ينظره ولا يمهله. أما تلك القصائد الطويلة القليلة فهي أصداء لفترات قليلة كانت تمر بحياة الشعراء الصعاليك يستريحون فيها من الكفاح في سبيل العيش، فيفرغون لأنفسهم يستخرجون من رواسبها العميقة فنا متأنيا مطمئنا مطولا مجودا رائعا ممتازا.
أما أنا فأميل كل الميل إلى هذا الرأي الثاني الذي يفسر الحقيقة الماثلة أمامنا تفسيرا واقعيا دون أن يتكلف في سبيل إنكارها الفروض النظرية التي إن جاز قبولها جاز رفضها.
ومع ذلك أليس من المحتمل أن يكون السبب في كثرة المقطوعات في شعر الصعاليك أنه وصل إلينا مفرقا في مصادر مختلفة اقتصر كل منها على ما يستشهد به منه، وأنه لو كان قد وصل إلينا مجموعا في ديوان مفردا أو دواوين مفردة لكان من الجائز أن يكون قصائد طويلة؟ وهو احتمال له وجاهته. وهنا لا يسعنا مرة أخرى إلا إبداء الأسف على عدم حصولنا على تلك المجموعة من أشعار اللصوص التي جمعها السكري، وعلى مخطوطة ديوان تأبط شرا الذي جمعه ابن جني. ولكن بين أيدينا مجموعة من الدواوين المفردة لطائفة من الشعراء الصعاليك: صخر الغي، والأعلم، وعمرو ذي الكلب، وأبي خراش في
مجموعة أشعار الهذليين، وعروة بن الورد، والشنفرى في ديوانين مستقلين. وحين ننظر في هذه الدواوين نجد أن ظاهرة انتشار المقطوعات فيها واضحة كل الوضوح، فليس في ديوان صخر الغي سوى ثلاث قصائد طويلة1 من مجموعة شعره التي تبلغ ثلاث عشرة قطعة، ومن هذه القصائد الثلاث واحدة خارج دائرة التصعلك2، وليس في ديوان الأعلم سوى قصيدتين طويلتين3 من مجموعة شعره التي تبلغ ست قطع، وليس لأبي خراش سوى سبع قصائد طويلة4، منها اثنتان خارج دائرة التصعلك5، من مجموعة شعره الكبيرة التي تبلغ اثنتين وعشرين قطعة، وكل ما سوى هذه القصائد السبع مقطوعات وقصائد قصيرة لا تتجاوز أطولها تسعة أبيات، وأما ذو الكلب فله قطعتان: إحداهما قصيدة طويلة6، والأخرى أرجوزة قصيرة7، وأما عروة بن الورد فإذا أخرجنا من إحصائيتنا تلك المجموعة التي أضافها ناشر ديوانه مما عثر عليه في مصادر الأدب المختلفة؛ لأننا نبني حكمنا على ما جمعه القدماء من شعر هؤلاء الصعاليك في دواوين مفردة، واقتصرنا على المجموعة التي رواها ابن السكيت وهي تبلغ إحدى وثلاثين قطعة، فإننا لا نجد فيها سوى سبع قصائد طويلة8، وأقصرها في أحد عشر بيتا9، وأطولها في سبعة وعشرين10، وكل ما عدا ذلك مقطوعات لا تتجاوز أطولها ثمانية أبيات، وتنخفض مجموعة منها إلى بيتين، وأما الشنفرى، فإذا استثنينا اللامية التي
1 شرح أشعار الهذليين 1/ 12-13، 36-37، 42-49.
2 المصدر السابق/ 36-37.
3 المصدر نفسه/ 54-60، 60-61.
4 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 116-123 و125-132 و132-136 و144-147 و148-150 و151-153 و 161-164.
5 المصدر السابق/ 166-123 و151-153.
6 شرح أشعار الهذليين 1/ 232-237.
7 المصدر السابق/ 239-240.
8 ديوانه: القصائد 1، 2، 3، 6، 7، 9، 23.
9 المصدر السابق: قصيدة رقم 6.
10 المصدر نفسه: قصيدة رقم 3.
تُنسب إليه أحيانا، ويشك في نسبتها إليه أحيانا أخرى، والتي بينا رأينا فيها في الفصل الأول من هذا الباب الثاني، فإننا لا نجد في ديوانه المخطوط -لأننا لا نريد أن نعتمد على ديوانه المطبوع الذي أضاف إليه ناشره طائفة من شعره من مصادر متفرقة- سوى قصيدتين طويلتين هما تائيته1 وفائيته2، وما عداهما مقطوعات لا تتجاوز أطولها ستة أبيات3.
أليس في هذا ما يجعلنا نقف من هذا الاحتمال موقف المتشكك في قبوله، ونظل عند ميلنا إلى قبول الحقيقة الماثلة أمامنا، وهي ظاهرة "انتشار المقطوعة في شعر الصعاليك" دون حاجة إلى تكلف فروض واحتمالات؟
1 من لوحة رقم 46 - لوحة رقم 50.
2 من لوحة رقم 50 - لوحة رقم 52.
3 لوحة رقم 10.