المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الصراع الاقتصادي في البادية: - الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي

[يوسف خليف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الباب الأول: الصعاليك

- ‌الفصل الأول: التعريف بالصعلكة

- ‌في اللغة

- ‌الفصل الثاني: التفسير الجغرافي لظاهرة الصعلكة

- ‌ أهمية العامل الجغرافي:

- ‌ جزيرة العرب:

- ‌ التضاد الجغرافي وأثره في نشأة حركة الصعاليك:

- ‌ التضاد الجغرافي وأثره في توجيه حركات الصعاليك:

- ‌الفصل الثالث: التفسير الاجتماعي لظاهرة الصعلكة

- ‌ القبيلة:

- ‌ إيمان القبيلة بوحدتها:

- ‌ إيمان القبيلة بجنسها:

- ‌ الصعاليك والمجتمع القبلي:

- ‌الفصل الرابع: التفسير الاقتصادي لظاهرة الصعلكة

- ‌ العرب والتجارة:

- ‌ الطرق التجارية:

- ‌ الأسواق:

- ‌ الصراع الاقتصادي في المدن التجارية:

- ‌ الصراع الاقتصادي في البادية:

- ‌الباب الثاني: شعر الصعاليك

- ‌الفصل الأول: ديوان الصعاليك

- ‌مصادره

- ‌ مادته:

- ‌الفصل الثاني: موضوعات شعر الصعاليك

- ‌ الشعر داخل دائرة الصعلكة

- ‌ الشعر خارج دائرة الصعلكة:

- ‌الفصل الثالث: الظواهر الفنية في شعر الصعاليك

- ‌ شعر مقطوعات:

- ‌ الوحدة الموضوعية:

- ‌التخلص من المقدمات الطلية

- ‌ عدم الحرص على التصريع:

- ‌ التحلل من الشخصية القبلية:

- ‌ القصصية:

- ‌ الواقعية:

- ‌ السرعة الفنية:

- ‌ آثار من الصنعة المتأنية:

- ‌ الخصائص اللغوية:

- ‌ ظواهر عروضية:

- ‌الفصل الرابع: شخصيتان متميزتان

- ‌ تشابه وتميز:

- ‌ عروة بن الورد:

- ‌الشَّنْرَي

- ‌الخاتمة:

- ‌ الصعاليك:

- ‌ شعر الصعاليك:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ الصراع الاقتصادي في البادية:

5-

‌ الصراع الاقتصادي في البادية:

إذا ما تركنا هذه المدن التجارية بطبقاتها الاقتصادية، وما يدور بينها من صراع، ومضينا إلى البادية لنتبين موقف أهلها من هذا النشاط التجاري، فإننا نجد أن موقفهم قد اختلف تبعا لمواقع قبائلهم، من حيث قربها من مراكز النشاط التجاري وطرق القوافل أو بعدها عنها.

ومن الطبيعي أن تشارك القبائل التي كانت تنزل على طول الطرق التجارية أو قريبا منها في هذا النشاط التجاري، فقد كان مرور القوافل التجارية بهم فرصة تسنح لهم من حين إلى حين، يستغلونها في إنعاش حياتهم الاقتصادية ولو لفترة محدودة من الزمن، فكان بعض الأفراد من الطبقات الفقيرة في هذه القبائل يعملون لهذه القوافل نظير أجر يتقاضونه، يعينهم على تكاليف الحياة، ويساعدهم على موازنة حياتهم الاقتصادية، وسداد ما عليهم من ديون اضطروا إليها في أوقات الأزمات التي كانوا كثيرا ما يتعرضون لها. ويحدثنا الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يستعد لغزوة بدر بعث برجلين إلى ماء بدر ليتحسسا له أخبار قريش، فسمعا جاريتين "تتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأعمل لهم حتى أقضيك الذي لك"1.

وليس من شك في أن هذه القوافل الضخمة في رحلاتها الطويلة في مجاهل

1 تاريخ الطبري 2/ 275 - والملازمة: المطالبة بالحق.

ص: 138

الصحراء كانت تحتاج إلى أشياء كثيرة حتى تصل إلى غايتها البعيدة بسلام.

ولعل أول ما كانت تحتاج إليه "الأدلاء" الذين يهدونها الطريق في دروب الصحراء الملتوية الغامضة، بما لهم من خبرة ودراية بها، حتى لا تضل أو تضيع بين مجاهلها، وتحدثنا الأخبار عن دليلين كانت تستخدمهما القوافل المكية في أيام النبي صلى الله عليه وسلم: فرات بن حيان، وقيس بن امرئ القيس1.

وليس من شك في أن هؤلاء الأدلاء كانوا كثيرين، نظرا لطبيعة البيئة الصحراوية التي تفرض على سالكها أن يكون على علم دقيق بطرقها، ومواقع مياهها، ومنازل الرعي التي تحتاج إليها الإبل في طريقها، ومواطن الأمن والخوف فيها، إلى غير ذلك مما جعل العربي يفخر بمقدرته على هداية الركب "في ديمومة فيها الدليل يعض بالخمس"2، ومكابدته الخرق الذي:

ينسى الدليل به هدايته

من هول ما يلقى من الرعب3

ولم يكن هذا العلم الواسع ليتهيأ إلا لأولئك البدو الذين يعيشون في قلب الصحراء، ويضطرون تحت الظروف الجغرافية إلى التنقل من منزل إلى منزل، أما أبناء المدن من العرب المستقرين فلم يكن يتاح لهم -أو لأكثرهم على الأقل- شيء من هذا، فلم يكن هناك بد من استعانتهم بهؤلاء الأدلاء "جوابي الصحراء الذين لا يتعبون" كما يصفهم لامانس4، والذين لم تعد الصحراء أمامهم سرا مغلقا، وإلا كان إقدامهم على اختراقها مغامرة جنونية

1 الواقدي: كتاب المغازي/ 196، 36. وقد ورد ذكرهما في شعر حسان بن ثابت "انظر ديوانه ط السعادة بالقاهرة/ 237 قصيدته الكافية"، وقد وصف المكيون فرات بن حيان بأنه دليل بطرق الصحراء يسلكها وهو مغمض العين قد دوخها وسلكها "المغازي/ 196"، وقد طلبوا إليه في أثناء الحصار الذي ضربه المسلمون على طريقهم التجاري إلى الشام أن يسلك بهم طريقا إلى أسواق الشام دون أن يمروا بمنطقة المدينة "المصدر السابق/ 196".

2 الأغاني 16/ 97، والتبريزي: شرح حماسة أبي تمام 4/ 155.

3 الأصمعيات/ 10 البيت 14.

4 la mecque a la veille de l'hegire، p. 182 = 278.

ص: 139

لا تؤمن عواقبها، ويحدثنا ابن حبيب عن طائفة من "أدلاء العرب الذين انتهت إليهم الدلالة"1. ويذكر منهم واحدا "بلغ وبار ولم يبلغها غيره"2.

وإلى جانب هؤلاء الأدلاء كانت القوافل التجارية تحتاج إلى "خفراء" أو "حماة" يؤمنون سبلها، ويذودون عنها وحوش الصحراء3، ويدفعون عنها "ذؤبان العرب، وصعاليك الأحياء، وأصحاب الغارات، وطلاب الطوائل" كما يعددهم الجاحظ في بعض رسائله4، وذلك لأن طرق القوافل "كانت دائما معرضة لغزو القبائل، وسطو شذاذ الطرق وقطاعها، الذين كانوا يعيثون في الصحراء فسادا، ويعيشون من السلب والنهب"5، وبخاصة في تلك المناطق التي يصفها المؤرخون بأنها "لم تكن أرض مملكة، وكان من عز فيها بز"6، أي تلك المناطق التي لم تكن فيها حكومة منظمة تضرب على أيدي العابثين، وإنما كانت تدين بشريعة القوة، ويسيطر عليها مذهب "الحق للقوة"، ولهذا كان أصحاب القوافل مضطرين إلى استخدام جماعات كبيرة من الناس لخفارة بضائعهم والمحافظة عليها في الطريق7، "وكانوا يسارعون إلى تقوية هذا الحرس عند اقترابهم من المسالك الخطرة، بالقرب من تلك المفاوز المعرضة لغزوات الصعاليك، أو عندما يضطرون إلى اختراق المناطق التي تنزلها قبائل معادية أو مشتبه فيها"8، كقبيلة هذيل التي كانت قبيلة تخشاها القوافل التجارية9، وكقبيلة فهم التي كانت

1 المحبر/ 189 وما بعدها.

2 المصدر السابق/ 189.

3 o'leary; arabia before muhammad، p. 185.

4 رسالة فضل هاشم على عبد شمس/ 71.

5 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية الإسلامية/ 16.

6 تاريخ اليعقوبي 1/ 314، والمحبر/ 267.

7 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية الإسلامية/ 17.

8 lammens; la mecque a la veille de l'hegire، p. 185 = 281.

وانظر أيضا مقالته عن "mecca" في: ency. of islam; p. 440.

9 lammens; la mecque a la veille de l'hegire، p. 52 = 148.

ص: 140

برغم صغرها مشهورة بلصوصها1، وكان هؤلاء الخفراء يقومون بهذا العمل نظير جُعْل يسمى "الخفارة"2، وسواء أكان هدايا أم نقدا3 فقد كان في العادة جعلا كبيرا يتكافأ مع خطر العمل، وكثرة تبعاته، وكان هؤلاء الخفراء "يعيدون في أكثر الأحيان هذا الجعل إذا ما عرض عارض يحول دون أن تؤتي خفارتهم ثمرتها"4، ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء الخفراء من القبائل التي تمر بها القوافل لأن في هذا ضمانا من تعرض هذه القبائل لهم، أو قطعها الطريق عليهم، وإرضاء لكبرياء البدوي التي تجعله دائما يتوقع "أن يُطلب ليتقدم الطريق أمام أي قافلة تخترق إقليمه الذي يعده ملكا خاصا لقبيلته"5، كما أن أفراد هذه القبائل أعرف -بطبيعة الحال- بمواطن الخطر في مناطقهم، وأدرى بسبل النجاة منها، ويحدثنا الرواة أن كل تاجر يخرج من اليمن والحجاز في طريقه إلى سوق دومة الجندل كان يتخفر بقريش ما دام في بلاد مضر؛ لأن مضر لم تكن تعرض لتجار مضر، ولا يهيجهم حليف لمضري، فإذا أخذ طريق العراق تخفر ببني عمرو بن مرثد من بني قيس بن ثعلبة فتجيز ذلك له ربيعة كلها، أما إذا مضى إلى مهرة، وهي ليست بأرض مملكة، فإنه كان يتخفر فيها ببني محارب من مهرة، فإذا مضى إلى حضرموت حيث تقام سوق الرابية التي "لم يكن يصل إليها أحد إلا بخفارة؛ لأنها لم تكن أرض مملكة، وكان من عز فيها بز صاحبه" فإن قريشا كانت تتخفر ببني آكل المرار، وسائر الناس يتخفرون بآل مسروق بن وائل من كندة6، ومن هنا كان أصحاب القوافل يلجئون في أكثر الأحيان إلى رؤساء القبائل، أو إلى سيد

1 krenkow; ency. of islam، art. "al-shanfara".

2 ency. of islam; art، arabiz، p.325.

3 o'leary; arabia before muhammad، p. 179.

4 ibid; pp. 179، 186.

5 ibid; p. 185.

6 ابن حبيب: المحبر/ 264-267.

ص: 141

فيهم مطاع، ليجبروا لهم قوافلهم، كما كان يفعل النعمان مع لطائمه التي كان يبعث بها كل عام إلى سوق عكاظ، فقد كان يجيرها له سيد مضر1، ومن هنا أطلقوا على هذه الخفارة أيضا الجوار2، وكان هذا الجوار "عملا مربحا يسعى وراءه سادة الصحراء سعيا شديدا"3، فقد كان أصحاب القوافل يشركونهم في عملياتهم التجارية، أو يقاسمونهم الأرباح، أو يفتحون لهم حسابات جارية في نوافذ مصارفهم، على حد تعبير لامانس4. ولم يكن يعدل سعي هؤلاء السادة وراء هذا الجوار إلا حرص أصحاب القوافل عليه، حتى لقد كانوا يستميلونهم أحيانا بالمصاهرة5، ولعل أشهر قصص هذا الجوار قصة "إيلاف قريش" التي أشار إليها القرآن الكريم6، ويحدثنا العتبي ومحمد بن سلام عن قصة هذا الإيلاف حديثا طويلا يرويه لنا القالي في نوادره7، وكذلك يحدثنا الجاحظ في بعض رسائله8 عن هذا الإيلاف حديثين آخرين، وكيفما كان هذا الإيلاف فيبدو لي أن المسألة -في أبسط صورها- ترجع إلى أن القرشيين قاموا بمفاوضات مع جيرانهم الذين تمر قوافلهم بديارهم، من أجل تأمين سلامة هذه القوافل، والإذن لها بالمرور، وحصلوا على ترخيص من ملوك البلاد التي كانت لهم "متاجر" أو "وجوها" -كما

1 الأغاني 19/ 74.

2 الأغاني 16/ 99 سطر 12.

3 o'leary; arabia before muhammad، p. 185.

4 la mecque a la veille de l'hegire، p. 178 = 274.

5 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ 17.

6 سورة قريش 274، والإيلاف: العهد والذمام "لسان العرب، مادة ألف" وهو "عهود بينهم وبين الملوك""الألوسي: روح المعاني 30/ 238" ويفسره الأزهري بأنه "شبه الإجارة بالخفارة""المصدر السابق/ 240"، وقد أجمع الرواة على أن أول من أخذ الإيلاف لقريش هاشم بن عبد مناف "رسالة فضل هاشم على عبد شمس من رسائل الجاحظ/ 70"، وفي حديث ابن عباس "وقد علمت قريش أن أول من أخذ لها الإيلاف لهاشم""لسان العرب مادة ألف".

7 ص199، 200.

8 رسالة فضل هاشم على عبد شمس/ 70، 71.

ص: 142

كانوا يسمونها-1 ليدخلوا بتجاراتهم أسواق هذه البلاد، ويذكر الجاحظ في تفسير قوله تعالى:{وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف} في قصة هذا الإيلاف أنه "خوف من كان هؤلاء الإخوة "يعني هاشما وأخوته" يمرون به من القبائل والأعداء وهم مغتربون ومعهم الأموال"2.

وإلى جانب هذه الخفارة كان بدو القبائل يقومون أحيانا بدور الرسل أو "البريد" بين القوافل في أثناء الطريق وبين المراكز التجارية التي خرجت منها أو التي تقصدها، فإذا جد ما يستدعي اتصال القافلة بأحد هذه المراكز استأجر أصحابها بعض البدو من القبيلة التي يمرون بها، وبعثوا به إلى حيث يريدون. ويحدثنا رواة السيرة أن أبا سفيان عندما تعرضت قافلة قريش لخطر مهاجمة المسلمين لها عند بدر "استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا يستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة"3، وكان هذا نظير عشرين مثقالا استأجره بها4.

ولكن إلى جانب هذه العناصر الكادحة من بدو القبائل، وجدت عناصر متمردة رأوا في هذه القبائل الضخمة التي تنتقل بين أطراف الجزيرة محملة بثرواتها وكنوزها، مخترقة البادية، أرض الجوع والجدب والضيق، صورة من صور اختلال التوازن الاقتصادي، ومثلا من أمثلة سوء توزيع الثروة، فرفضوا أن يشاركوا في هذه الأوضاع الاقتصادية المختلة، ورأوا أن يقفوا منها موقفا معاديا يعتمد على القوة في كسب الرزق، ففي مرور هذه القوافل في مناطق الصحراء المقفرة الموحشة فرصة صالحة للغارة والغزو، وصيد موات للسلب والنهب، ورزق ساقه الله إليهم يجدر بهم أن يعتمدوا على قوتهم في اغتصابه، فاجتمعوا في عصابات، وانضم إليهم خلعاء القبائل،

1 انظر الأغاني 9/ 56، والمحبر/ 162، 163.

2 رسالة فضل هاشم على عبد شمس/ 71.

3 تاريخ الطبري 2/ 270.

4 الواقدي: كتاب المغازي/ 22.

ص: 143

وشذاذ الأحياء، وصعاليك القبائل التي تنزل بعيدا عن طرق القوافل، ووقفوا يتربصون بها في مواسم مرورها، ويقطعون عليها الطرق، وينتهبون ما يقدرون على انتهابه، ليتقاسموه فيما بينهم، ويشركوا فيه أحيانا أولئك الصعاليك الضعاف والمرضى والمسنين ممن حالت ظروفهم الخاصة دون المشاركة في الغزو والغارة.

ومن الطبيعي أن يتربص هؤلاء المتمردين من الصعاليك بالقوافل الصغيرة؛ لأنها غنيمة أيسر منالا، وأضمن عاقبة، ويحدثنا ابن قتيبة عن فاتكين التقيا "فسارا حتى لقيا رجلا من كندة في تجارة أصابها من مسك وثياب وغير ذلك" فتربصا به، حتى قتلاه واقتسما ماله1. ولهذا كان أصحاب القوافل يحرصون -إلى جانب ما كانوا يتخذونه من وسائل لسلامة قوافلهم- على أن تكون هذه القوافل كبيرة ضخمة كثيرة العدد، وقد بلغت قافلة قريش التي تصدى لها المسلمون عند بدر ألف بعير2، وبلغ عدد الرجال المرافقين لها قريبا من سبعين راكبا في بعض الروايات3. وثلاثين أو أربعين في رواية أخرى4، ويصفها ابن إسحاق بأنها "عير عظيمة"5، وكانت بعض قوافل قريش تصل إلى ألفين وخمسمائة بعير6، وكان مرافقو بعض هذه القوافل يبلغون أحيانا ثلاثمائة7، وقد رأى سترابو قافلة من قوافل العرب التجارية وشبهها بالجيش8، ويذكر لامانس أن هذه القوافل كانت تتميز عادة بضخامتها العددية9.

ومع ذلك لم يحل هذا كله دون استمرار حركات المتمردين ضد هذه

1 عيون الأخبار، المجلد الأول 2/ 181، 182.

2 الواقدي: المغازي/ 20.

3 تاريخ الطبري 2/ 267.

4 المصدر السابق/ 270.

5 المصدر نفسه/ 270.

6 الواقدي: المغازي /2.

7 المصدر السابق/ 7.

8 o'leary; arabia before muhammad، p. 185. & lammens; la mecque a la veille de l'hegire، p. 178 = 274.

9 la mecque a la veille de l'hegire، p. 178 = 274.

ص: 144

القوافل، أو "تعوير المتجر" كما كان يقول أهل مكة1، ويحدثنا الرواة أن لطائم النعمان التي كان يبعث بها كل عام للتجارة إلى عكاظ كان يعترضها بعض بني كنانة فينتهبها2، وليس من شك في لطائم النعمان كانت ضخمة كثيرة العدد والرجال.

ويبدو أن هذه الغارات -مهما تختلف أسبابها المباشرة باختلاف أصحابها- يرجع سببها العام إلى اختلال التوازن الاقتصادي في ذلك المجتمع الذي يضع طائفة من أفراده بين نابين من فقر وجوع، بينما يضع في أيدي طائفة أخرى كنوز الثروة ومفاتيح الاقتصاد، وهو لا يفصل بين هاتين الطبقتين، ولا يجعل كلا منهما تعيش في عالمها الخاص، وإنما أباح لإحداهما أن تعرض ثراءها، وتتيه بما أغدق عليها أمام أعين الطائفة الأخرى، فتزيد من إحساسها بالفقر والجوع، فكان من الطبيعي -إذا ما أتيحت لهذه الطائفة البائسة الفرصة لاغتصاب أي شيء من الطائفة الأخرى- أن تنتهزها مؤمنة بأن هذا الاغتصاب حق، ما دامت لا تبغي من ورائه سوى أن تعيش.

فإذا ما تركنا هذه القبائل التي كانت تنزل على الطرق التجارية، ومضينا إلى داخل البادية العربية حيث تنزل القبائل بعيدة عن مراكز النشاط التجاري، فإننا نجد ثمة صورا أخرى من صور الصراع بين الفقر والغنى.

والمجتمع البدوي من ناحيته الاقتصادية بسيط التكوين، يتكون من طبقتين اقتصاديتين أساسيتين: طبقة أصحاب الإبل، أو "أرباب المخائض" كما يسميهم بعض الشعراء3، وطبقة الصعاليك.

والناظر في المجتمع البدوي يلاحظ لأول وهلة أن الفرق الاقتصادي بين هاتين الطبقتين كان بعيدا، بقدر ما كان الفرق النفسي بينهما قريبا، ومن

1 الواقدي: المغازي/ 196.

2 ابن حبيب: المحبر/ 196.

3 يزيد بن الصقيل العقيلي في الكامل للمبرد/ 59.

ص: 145

هاتين الظاهرتين المتناقضتين: ظاهرة البعد الاقتصادي، وظاهرة القرب النفسي نشأت ظاهرة الصعلكة.

وقد حصرت البيئة الجغرافية لأعراب البادية مواردهم الطبيعية في المراعي، ووقفت ظروفهم الحضارية بمجال عملهم عند الرعي، ومن هنا انحصرت ثروتهم في قطعان من الإبل والغنم والمغز. ومن الطبيعي أن تكون الإبل مقياس ثروتهم، فهي خير ما في هذه الثروة، وقد سموها "النعم"1؛ لأنها النعمة الكبرى التي أنعم الله بها عليهم، وقد كان من عوامل سقوط اعتبار الفرد في الهيئة الاجتماعية أن تقوم المعز أو صغار الماشية في حياته مقام الإبل2، وبينما كانت المعز مادة يشتق منها الساخرون من الهجائين عناصر سخريتهم، كانت الإبل مادة يشتق منها المادحون عناصر مدحهم، أما الغنم فليست بحيوان الصحراء الأول، لشدة حاجتها إلى المراعي، وقلة صبرها على الماء. ومن هنا كانت الإبل حيوان الصحراء الأول بلا منازع، والدعامة التي تقوم عليها ثروة أبنائها، وبحق سموها مالا3؛ لأنها -على حد التعبير الاقتصادي الحديث- "الرصيد" الذي تعتمد عليه "ميزانيتهم"، و"العملة" التي يتعاملون بها في حياتهم، "منها مهور نسائهم، وديات دمائهم، ورهن ميسرهم"4. ولهذا كانت كل قبيلة تتخذ "وسما" خاصا لإبلها تميزها به5، كما تتخذ كل دولة في العصر الحديث رسما خاصا لنقدها.

وكانت ثروة الأفراد في المجتمع البدوي تقاس بمقدار ما يملكون من الإبل، "فكل ثرائهم كان يقوم بالإبل"6، وما أكثر ما نسمع عن أولئك

1 لسان العرب مادة "نعم".

2 lammens; le berceau de i'islam، vol. i، p. 134.

3 "وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل""لسان العرب، مادة مول"، ويقول الزمخشري "مال العرب الإبل""أساس البلاغة، المادة نفسها"، ويقول الشاعر "فلم أر مثل الإبل مالا لمفتن""حماسة أبي تمام 4/ 67".

4 lammens; le berceau de i'islam، vol. i، p. 134.

5 smith kinship and marriage in early arabia، p. 247.

6 lammens; le berceau de i'islam، vol. i، p. 134.

ص: 146

الذين كان لهم "نعم قد ملأ الأرض"1، أو "نعم قد ملأ كل شيء"2، أو أولئك الذين كانوا يفقئون أعين فحلهم ليردوا عن إبلهم العين لأنها بلغت ألفا3، أو ذلك الذي فقأ أعين عشرين بعيرا لأن إبله بلغت عشرين ألفا، والذي ربما ذبح في أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة4، وفي الأخبار أن عتاب بن ورقاء تكفل مرة بدفع تسع ديات5، وما أكثر ما نسمع عن ديات بلغت آلافا من الإبل6.

وإلى جانب هذه الطبقة من المالة الذين ملأ نعمهم الأرض، وجدت طبقة أخرى من الصعاليك لا تكاد تملك شيئا، أو -كما يقول بعض شعرائها- "تجرر حبلا ليس فيه بعير"7. وقد رأينا في الفصل الأول صورة لفقر هؤلاء الصعاليك، وكيف أن بعضهم كان يملق حتى لا تبقى له شيء، أو يفتقر فيخرج وقد آلى على نفسه ألا يرجع حتى يستغني.

والأمر الذي لا شك فيه أن حياة هذه الطبقة الفقيرة من البدو كانت في مستوى اقتصادي سيئ جدا، حتى ليضطر بعضهم إلى قتل أولادهم خشية إملاق، كما يحدثنا القرآن الكريم8، أو بيعهم ليستعينوا بأثمانهم على الحياة، كما نرى فيما يرويه الرواة عن صعصعة بن ناجية الذي كان يشتري الموءودات من آبائهن؛ إذ يذكرون عنه إنه لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، قال له: "يا رسول الله، إني كنت أعمل عملا في الجاهلية، أفينفعني

1 نقائض جرير والفرزدق 1/ 234.

2 الأغاني 18/ 134.

3 نقائض جرير والفرزدق 1/ 234.

4 ابن كثير: البداية والنهاية 1/ 187.

5 الجاحظ: البيان والتبيين 3/ 134.

6 بلغت الدية التي دفعت لبني ثعلبة بن سعد في حرب داحس والغبراء ألف ناقة "نقائض جرير والفرزدق 1/ 105" وقد عرض بنو أسد على امرئ القيس بعد قتلهم أباه ألف بعير دية "الأغاني 19/ 85" وبلغت الديات في حرب عبس وذبيان ثلاثة آلاف بعير "الأغاني 10/ 297".

7 الأحيمر السعدي في المؤتلف والمختلف للآمدي/ 36.

8 الأنعام/ 151، والإسراء/ 31.

ص: 147

ذلك اليوم؟ قال: $"وما عملك؟ " قال: أضلك ناقتين عشراوين، فركبت جملا ومضيت في بغائهما، فرفع لي بيت حريد، فقصدته فإذا شيخ جالس بفناء الدار، فسألته عن الناقتين، فقال: ما نارهما؟ قلت: ميسم بني دارم فقال: هما عندي وقد أحيا الله بهما قوما من أهلك من مضر، فجلست معه لتُخْرَجا إليَّ، فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت فقال لها: ما وضعت؟ فإن كان سقبا شاركنا في أموالنا، وإن كانت حائلا وأدناها، فقالت العجوز: وضعت أنثى، فقلت: أتبيعها؟ قال: وهل تبيع العرب أولادها؟ قلت: إنما أشتري منك حياتها ولا أشتري رقها، قال: فبكم؟ قلت: احتكم، قال: بالناقتين والجمل، قلت: ذاك لك على أن يبلغني الجمل وإياها، قال: ففعل فآمنت بك يا رسول الله وقد صارت لي سنة في العرب على أن أشتري كل موءدة بناقتين عشراوين وجمل، فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا موءودة فقد أنقذتها1

"، وهي قصة تعطينا صورة واضحة عن الفرق الكبير بين هاتين الطبقتين الاقتصاديتين في المجتمع البدوي، وبين أولئك الذين يبيعون بناتهم بهذا الثمن البخس، وذلك الذي يشتري ثمانين ومائتي موءودة، ثم أرأيت إلى هذا اللون من ألوان "التجارة" عند هؤلاء الأعراب الفقراء؟ بيع بناتهم نظير ناقتين وجمل راجين من وراء ذلك أن يتكون لهم رأس مال من الإبل يعينهم على الحياة، ويساعدهم على رفع مستواهم الاقتصادي، ولو كان ذلك على حساب أكبادهم التي تمشي على الأرض، كما يقول شاعرهم القديم2.

والقصة بعد هذا تشير إلى نفسية أولئك الفقراء، وإحساسهم بما سميناه "القرب النفسي" بينهم وبين الأغنياء، أرأيت إلى ذلك الأعرابي كيف يقول لذلك السيد إن ناقتيه اللتين أضلهما قد أحيا الله بهما قوما من أهله؟ كأنما يرى أن الأغنياء والفقراء أسرة واحدة، وأن هذا الفرق الاقتصادي بينهما

1 المبرد: الكامل/ 278، 279.

2 حطان بن المعلى، في حماسة أبي تمام 1/ 153.

ص: 148

لا تأثير له في "العامل المشترك" بينهما وهو كرم العنصر وطيب النجار، ثم أرأيت إليه كيف يتساءل منكرا: وهل تبيع العرب أولادها؟ وانظر كيف عبر بالعرب ولم يقل الناس، كأنما يرى أن العرب جنس متميز لا يجري عليهم ما يجري على سائر الأجناس، أولئك الذين يرى أولادهم رقيقا يشترى عند "أهله" من السادة الأغنياء؟ وليس ينقض هذا الإحساس بالجنس أنه باع ابنته بعد ذلك، فقد كان ذلك تحت ضغظ الفاقة وإلحاح الحاجة، ثم هو لم يفعل ذلك إلا بعد أن تعهد له هذا السيد بأنه لن يستعبدها، وهو عذر -مهما يكن واهيا- يصور ذلك الإحساس النفسي الذي كان يسيطر على نفوس هؤلاء البدو، فإن "الصفقة" لم تتم بين ذلك السيد وذلك الصعلوك إلا بعد هذه المحاولة من السيد لإرضاء نفس الصعلوك. ومهما يكن من أمر ذلك الأعرابي، فالشيء الذي لا ريب فيه هو أن هؤلاء البدو -بقدر ما كانوا في فقر مادي- كانوا على جانب كبير من الغنى النفسي. ومعنى هذا أن البدوي الفقير كان يرى نفسه مساويا للسيد الغني، ويرفض أن يكون فقره سببا في النزول بنفسه أو تطامن كبريائه، وأن الحياة إذا كانت قد ظلمته برغمه، فإن عليه أن يعمل على أن يزيل عنه ذلك الظلم، سالكا في ذلك أي سبيل، والغاية تبرر والوسيلة.

ولسنا في الحاجة إلى القول بأن مجال العمل أمام هؤلاء البدو الفقراء كان ضيقا جدا، فهذه قضية مفروغ منها؛ لأن أخلاف الحياة الاقتصادية الثلاثة: الزراعة والتجارة والصناعة لا تدر خيرا فوق رمال الصحراء القاحلة، وفي وسط تلك الظروف الحضارية المتأخرة. ومن هنا لم يكن أمامهم إلا أن يعملوا لهؤلاء الأغنياء، يقومون لهم بالرعي وخدمة الإبل، أو يعينون نساء الحي، كما يقول عروة بن الورد1، فإذا رفضت نفوسهم القيام بهذه الأعمال لم يكن هناك بد -إبقاء على حياتهم- من الغزو والإغارة للسلب والنهب محاولين -كما يقول بعض الباحثين- "أن يزيلوا هذا الحيف المقدر بأسنة رماحهم،

1 انظر ديوانه/ 77.

ص: 149

معتقدين أن من الحلال دهم القوافل، وسلب ما بأيديهم، تعويضا لهم عما لم تقدر أن تجود عليهم به أراضيهم القاحلة"1.

ولكن يجب أن نسجل أن حركات القبائل في هذا الصراع بين الفقر والغنى كانت حركات قبلية، تصدر عن القبيلة وتجري برضاها، أما حركت الصعاليك فقد كانت حركة فردية، تصدر عن شخصياتهم المتمردة، حتى لو أدى الأمر إلى أن يخلع الصعلوك نفسه من قبيلته في سبيل تنفيذ حركته. وعلى هذا الأساس في التفسير الاقتصادي نستطيع أن نفهم كثيرا من حركات صعاليك العرب.

ومعنى هذا أن ثمة صراعا كان يدور في داخل البادية العربية بين طبقة المالة أصحاب المخائض والمتمردين من طبقة الصعاليك، وأن مادة هذا الصراع التي دار حولها كانت الإبل عادة؛ لأنها الثروة الأساسية في المجتمع البدوي، فكان هؤلاء المتمردين يتربصون بقطعان الإبل ما أمكنتهم الفرصة، وينهبون منها ما يقدرون على نهبه، أو يقتلون أصحابها أو رعاتها ويسوقون القطيع بأسره، ولكن ليس معنى هذا أن الإبل كانت المادة الوحيدة التي دار حولها هذا الصراع، فإن أيدي الصعاليك لم تكن تمتنع عن أية غنيمة تعرض لهم، ففي أخبار تأبط شرا أنه خرج غازيا مع رجل يريدان بجيلة، فأتى ناحية منهم "فقتل رجلا ثم استاق غنما كثيرة"2، وفي أخبار عروة أن سلب هذليًّا فرسه3، ولكن الأمر الذي نراه بكثرة تلفت النظر في أخبار هؤلاء الصعاليك وأشعارهم تعرضهم للإبل ونهبها.

1 جوستاف لوبون: حضارة العرب/ 82.

2 الأغاني 18/ 213.

3 الأغاني 3/ 84.

ص: 150