المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الشعر خارج دائرة الصعلكة: - الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي

[يوسف خليف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الباب الأول: الصعاليك

- ‌الفصل الأول: التعريف بالصعلكة

- ‌في اللغة

- ‌الفصل الثاني: التفسير الجغرافي لظاهرة الصعلكة

- ‌ أهمية العامل الجغرافي:

- ‌ جزيرة العرب:

- ‌ التضاد الجغرافي وأثره في نشأة حركة الصعاليك:

- ‌ التضاد الجغرافي وأثره في توجيه حركات الصعاليك:

- ‌الفصل الثالث: التفسير الاجتماعي لظاهرة الصعلكة

- ‌ القبيلة:

- ‌ إيمان القبيلة بوحدتها:

- ‌ إيمان القبيلة بجنسها:

- ‌ الصعاليك والمجتمع القبلي:

- ‌الفصل الرابع: التفسير الاقتصادي لظاهرة الصعلكة

- ‌ العرب والتجارة:

- ‌ الطرق التجارية:

- ‌ الأسواق:

- ‌ الصراع الاقتصادي في المدن التجارية:

- ‌ الصراع الاقتصادي في البادية:

- ‌الباب الثاني: شعر الصعاليك

- ‌الفصل الأول: ديوان الصعاليك

- ‌مصادره

- ‌ مادته:

- ‌الفصل الثاني: موضوعات شعر الصعاليك

- ‌ الشعر داخل دائرة الصعلكة

- ‌ الشعر خارج دائرة الصعلكة:

- ‌الفصل الثالث: الظواهر الفنية في شعر الصعاليك

- ‌ شعر مقطوعات:

- ‌ الوحدة الموضوعية:

- ‌التخلص من المقدمات الطلية

- ‌ عدم الحرص على التصريع:

- ‌ التحلل من الشخصية القبلية:

- ‌ القصصية:

- ‌ الواقعية:

- ‌ السرعة الفنية:

- ‌ آثار من الصنعة المتأنية:

- ‌ الخصائص اللغوية:

- ‌ ظواهر عروضية:

- ‌الفصل الرابع: شخصيتان متميزتان

- ‌ تشابه وتميز:

- ‌ عروة بن الورد:

- ‌الشَّنْرَي

- ‌الخاتمة:

- ‌ الصعاليك:

- ‌ شعر الصعاليك:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ الشعر خارج دائرة الصعلكة:

2-

‌ الشعر خارج دائرة الصعلكة:

آثار القبلية في شعرهم:

الباحث في شعر الصعاليك يجد مجموعة من القصائد والمقطوعات قيلت في أغراض قبلية، وتتسم بسمات الشعر الجاهلي القبلي، وهي مجموعة -وإن تكن قليلة متضائلة- تبدو للنظرة الأولى غريبة على شعر الصعاليك؛ لأننا نعرف أن هؤلاء الصعاليك قد تحللوا من التزاماتهم القبلية، فتحللت شخصياتهم الفنية من التأثر بها، فكان طبيعيا أن يخلو شعرهم من تلك الأغراض القبلية التي نراها في سائر الشعر الجاهلي.

ولكن المسألة لا تصل إلى درجة المشكلة، فمن الطبيعي أن حياة هؤلاء الصعاليك قد مرت بدورين اجتماعيين: الدور الأول وهو فترة ما قبل التصعلك، تلك الفترة التي كان الصعلوك فيها عضوا عاملا في المجتمع القبلي قبل أن يبلغ سوء توافقه الاجتماعي الذروة التي يبدأ من عندها الدور الثاني في حياته الاجتماعية، وهي فترة تصعلكه التي قد تستمر حتى مقتله أو موته. وليس يعنينا أن يقلع الصعلوك عن تصعلكه، فهو في هذه الحالة لا يبدأ دورا ثالثا في حياته الاجتماعية، وإنما يعود عودة اجتماعية لا عودة زمنية إلى الدور الأول. ومن الطبيعي أيضا أن يكون بعض هؤلاء الصعاليك قد اكتملت مواهبهم الفنية في الدور الأول فشاركوا شعراء القبيلة في حياتهم الفنية، وأيضا قد يشاركونهم فيها إذا ما انتهى الدور الثاني بالعودة إلى الحياة القبلية. ومعنى هذا أن هذه المجموعة القبلية من شعر الصعاليك نتاج لفترتين تمثلان في الحقيقة دورا اجتماعيا واحدا: فترة ما قبل التصعلك وفترة ما بعد التصعلك.

ص: 248

ولعروة بن الورد العبسي مجموعة قليلة من القصائد والمقطوعات في موضوعات قبلية1، كما نعثر برواسب ضيئلة جدا من الحياة القبلية عند صخر الغي الهذلي، والسليك بن السلكة السعدي. أما صخر الغي فلا يتجاوز ما وصل إلينا من شعره القبلي أبياتا قليلة في مقطوعتين يناقض فيهما شاعرا فيهدده بكثرة قومه، وبأنهم ينصرونه، ويأبون له الضيم:

وخفض عليك القول واعلم بأنني

من الأنس الطاحي الحلول العرمرم

أبت لي عمرو أن أضام ومازق

وقرد ولحيان وسهم فسلم2

ويعلنه بأن قومه يلبون دعوته إذا دعاهم، فيسرعون لنصرته كما تسيل الشعاب بالماء:

أبا المثلم إني غبر مهتضم

إذا دعوت تميما سالت المُسُل3

وأما السليك فكل ما وصل إلينا من شعره القبلي مقطوعة واحدة في ثلاثة أبيات يحذر فيها قومه من مغيرين قابلهم في بعض تشرده مسرعين إليهم، ويذكر أن قومه يكذبونه، ويؤكد لهم صدقه:

يكذبني العمران عمرو بن جندب

وعمرو بن سعد والمكذب أكذب

ثكلتكما إن لم أكن قد رأيتها

كراديس يهديها إلى الحي موكب

كراديس فيها الحوفزان وقومه

فوارس همام متى يدع يركبوا4

ومن مجموعة شعر حاجز القليلة التي وصلت إلينا خمس قطع من هذا الشعر القبلي قالها في ظروف قبلية معروفة يذكرها الرواة. وحاجز في هذه القطع مندمج في المجتمع القبلي اندماجا واضحا، يعبر بلسان قومه كما يعبر أي شاعر جاهلي قبلي، يفخر بهم فيذكر أنهم كرماء، ويعتز بأبيه وعمه اللذين أسديا

1 انظر ديوانه: القطعتين رقم 10 ورقم 24.

2 شرح أشعار الهذليين 1/ 21 - الأنس: الحي. والطاحي: المتسع المنتشر. والأسماء في البيت الثاني أسماء قبائل.

3 المصدر السابق/ 24 - وتميم هنا من هذيل. والمُسُل: جمع مسل وهو مسيل الماء.

4 الأغاني 18/ 136. والشعر والشعراء / 216.

ص: 249

للقبيلة يدين بيضاوين في يومين من أيامها. والطريف حقا أن حاجزا يبدأ إحدى هذه القصائد كما يبدأ الشعراء القبليون قصائدهم بالنسيب1، فيحيي صاحبته ويدعو لها بالسلامة، ثم يصفها ويتحدث عن صرمها له وبعدها عنه، ثم ينتقل -كما يفعل الشعراء القبليون أيضا- إلى الحديث عن ناقته ورحلته عليها، ثم ينتقل انتقالا مفاجئا -كعادة الشعراء القبلين أيضا- إلى الحديث عن قومه.

وكما يفخر حاجز بقومه يذكر أيامهم التي انتصروا فيها:

إن تذكروا يوم القرى فإنه

بواء بأيام كثير عديدها

فنحن أبحنا بالشخيصة واهنا

جهارا فجئنا بالنساء نقودها

ويوم كراء قد تدارك ركضنا

بني مالك والخيل صعر خدودها

ويوم الأراكات اللواتي تأخرت

سراة بني لهبان يدعو شريدها

ونحن صبحنا الحي يوم تنومة

بملمومة يُهوي الشجاع وئيدها

ويوم شروم قد تركنا عصابة

لدى جانب الطرفاء حمرا جلودها

فما رغمت حلفا لأمر يصيبها

من الذل إلا نحن رغما نزيدها2

ويسجل شماتته، أو -بعبارة أدق- شماتة قبيلته بأعدائهم، ويعيرهم بما فعلوه بهم من قتل رجالهم وسبي نسائهم:

يا ضمر هل نلناكم بدمائنا

أم هل حدونا نعلكم بمثال

تبكي لقتلى من فقيم قتلوا

فاليوم تبكي صادقا لهلال

ولقد شفاني أن رأيت نساءكم

يبكين مردفة على الأكفال

يا ضمر إن الحرب أضحت بيننا

لقحت على الدكاء بعد حيال3

ويتوعد أعداء قبيلته، ويهددهم بأبطال شجعان من قومه مسلحين

1 "ميميته" الأغاني 12/ 50 "بولاق".

2 المصدر السابق/ 51. البواء: الكفء. والملمومة: الكتيبة.

3 المصدر السابق/ 52. الحيال: العقم.

ص: 250

بالسيوف والرماح قد عرفتهم القبائل من قبل:

ستمنعنا منكم ومن سوء صنعكم

صفائح بيض أخلصتها الصياقل

وأسمر خطي إذا هز عاسل

بأيدي كماة جربتها القبائل1

وأما قيس بن الحدادية ففي مجموعة شعره القليلة أيضا التي وصلت إلينا، نعثر بثلاث قطع من الشعر القبلي، إذا أخرجنا تلك القصيدة البائية المشكوك فيها، والتي أشرنا إليها في الفصل السابق2.

وشأن قيس في هذا الشعر شأن حاجز في شعره القبلي شأن سائر الشعراء القبليين، يفخر بانتصار قومه على أعدائهم، ويسجل أسماء من قتلوا منهم، ويذكر عودتهم بالإبل التي غنموها، والنساء اللاتي سبوهن3، ويعتز بقومه حين تغزوهم قبيلة أخرى فيثبتون لهم، ويردونهم على أعقابهم خاسرين، بعد أن أعمل فيه فرسانهم الرماح والسيوف التي تنتزع سواعدهم4، ويهجو أعداء قومه ويرد عليهم دعواهم بالنصر بأنهم يفخرون بيوم ليس لهم، ويعيرهم بفراراهم أمامهم، والخيل تركض خلفهم، وقد تركوا وراءهم أسرى5. وقد يكون من الطريف أن نلاحظ أن اثنتين من هذه القطع الثلاث نقيضتان بين قيس وبين شاعرين من أعداء قومه6 يرد بهما عليهما، وهي صورة أدل على قبلية هذا الشعر؛ لأن قيسا حريص على أن يكون رده على هذين الشاعرين من جنس قولهما، وهما شاعران قبليان.

وعلى كل حال فهذه المجموعة من الشعر القبلي التي تقابلنا في شعر الصعاليك قليلة، كما أن عدد شعرائها قليل أيضا.

1 المصدر السابق/ 50.

2 الأغاني 13/ 4 "بولاق". وانظر ص174 من هذا البحث.

3 انظر قصيدته الحائية في المصدر السابق/ 3.

4 انظر مقطوعته الدالية في المصدر نفسه/ 5.

5 انظر مقطوعته الميمية في المصدر نفسه/ 4.

6 الحائية والميمية السابقتان.

ص: 251

المجموعة الإسلامية في شعرهم:

حين ننظر فيما بين أيدينا من شعر الصعاليك نجد مجموعة أخرى قليلة نظمها المخضرمون منهم: أبو الطمحان القيني، وأبو خراش الهذلي، وفضالة بن شريك الأسدي، بعد أن أشرقت الجزيرة العربية بنور ربها.

وقبل أن نمضي في استعراض موضوعات هذه المجموعة التي يصح أن نطلق عليها "المجموعة الإسلامية في شعر الصعاليك" نقف لنسجل ملاحظتين: أولاهما أن مجموعة من شعر أبي الطمحان ليس من اليسير تمييز الجاهلي فيها من الإسلامي؛ إذ إن كل ما يرويه الرواة حولها من أخبار لا يكفي لتحديد الوقت الذي قيلت فيه، كما أن هذه المجموعة خالية تماما من الإشارات التي تحدد زمنها، ما عدا بيتين يصف فيهما انحناء جسمه وتقارب خطوه1، مما يرجح أنه قالهما في شيخوخته المتأخرة، وبيتين آخرين في مدح يزيد بن عبد الملك يذكر الأصمعي أنه أعطاهما مغنيا ليتغنى بهما في مجلس يزيد2.

وأما الملاحظة الأخرى فهي أن كل ما وصل إلينا من شعر فضالة بن شريك إسلامي، تؤكد ذلك أخباره والأسماء الإسلامية التي وردت فيه، أما شعره الصعلكي فلم يصل إلينا شيء منه، مع أنهم يذكرون عنه أنه "كان شاعرا فاتكا صعلوكا مخضرما أدرك الجاهلية والإسلام"3. وهي ظاهرة غريبة وقفت طويلا أمام تعليلها، وانتهيت إلى فرضين: إما أن فضالة لم يكن قد نضج فنيا في الجاهلية، ولم يتم نضجه إلا بعد الإسلام، وإما أن يكون له شعر داخل دائرة التصعلك ولكن عملت ظروف خاصة على ضياعه، وأنا أرجح هذا الفرض الأخير، وأرجح أن أهم هذه الظروف المركز الاجتماعي لابنه فاتك، فقد "كان سيدا جوادا"4، وكان كريما على بني أمية، وهو

1 السجستاني: كتاب المعمرين / 63. والبغدادي: خزانة الأدب 3/ 426. والأغاني 11/ 130، "بولاق" وحماسة البحتري / 323.

2 العقد الفريد 6/ 37.

3 الأغاني 10/ 171 "بولاق".

4 المصدر السابق / 171.

ص: 252

الوافد على عبد الملك بن مروان قبل أن ينهض إلى حرب ابن الزبير فضمن له على أهل العراق طاعتهم وتسليم بلادهم إليه، وأن يسلموا مصعبا إذا لقيه ويتفرقوا عنه، وله يقول الأقيشر في هذه الوفادة:

وفد الوفود فكنت أفضل وافد

يا فاتك بن فضالة بن شريك1

وقد يؤيد هذا أن كل أخبار تصعلك فضالة قد ضاعت أيضا، والسبب هنا هو السبب هناك، ولو قد وصل إلينا شيء منها لوقفنا من هذا الفرض موقف المتشكك.

ومهما يكن من أمر فإن موضوعات "المجموعة الإسلامية في شعر الصعاليك" قد خلت من تلك الموضوعات التي عرفناها في شعرهم داخل دائرة التصعلك، وهذا طبيعي بعد أن غير الإسلام من أوضاع الحياة العربية الاجتماعية والاقتصادية ولم يعد للتصعلك مجال فيها. وتوشك موضوعات هذه المجموعة الإسلامية أن تنحصر في تلك الموضوعات العامة التي يعرفها الشعر العربي: المدح والهجاء والرثاء.

أما المدح والهجاء فيوشك فضالة أن يستأثر بهما. ويبدو أن فضالة أدرك أن هذه وسيلة من وسائل العيش تغنيه عن التصعلك، فاندمج في الوسط السياسي الأموي، وشارك شعراءه، وأصبح شاعرا أمويا يمدح الأمويين ويهجو أعداءهم. وهو يؤثر بالمدح خاصة يزيد بن معاوية2، وقد تبدو هذه الصلة بين يزيد وفضالة طبيعية، فقد كان يزيد بما فيه من استهتار وجاهلية أقرب إلى نفس فضالة الصعلوك، حتى ليجيره من عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة يؤمئذ بعد أن هرب منها لهجائه عاصم بن عمر بن الخطاب، واستعداء عاصم الأمير عليه3، وهو -وإن يكن قد آثر يزيد بمدحه- لم ينس أن يمدح بني أمية عامة4.

1 الأغاني 11/ 271 "دار الكتب" وانظر أيضا 10/ 171 "بولاق".

2 الأغاني 10/ 170، 172 "بولاق".

3 المصدر السابق/ 171، 172.

4 المصدر نفسه/ 170، 172، 173.

ص: 253

أما الهجاء فقد صبه مرة على عاصم بن عمر بن الخطاب، كما رأينا؛ لأنه "نزل به فلم يقره شيئا، ولم يبعث إليه ولا إلى أصحابه بشيء وقد عرفوه مكانهم"، وهو يعلن له في بعض هجائه أنه لولا فضل أبيه لقلده خزيا وعارا:

فلولا يد الفاروق قلدت عاصما

مطوقة يخزى بها في المواسم1

وصبه مرة ثانية على رجل من سليم أودع عنده ناقة وخرج في سفر فلما عاد وطلبها منه ذكر السلمي أنها سرقت2.

وصبه مرة ثالثة على عبد الله بن مطيع وإلى عبد الله بن الزبير على الكوفة بعد أن طرده عنها المختار الثقفي3، وعلى عبد الله بن الزبير نفسه في قصيدة ينسبها بعض الرواة إليه، وينسبها بعضهم إلى ابنه عبد الله4.

وصبه مرة رابعة على رجل من الكوفة تزوج امرأة فسأل في صداقها5، وهي مسألة مشينة وبخاصة في نفس صعلوك لم يرض أن يتخذ من السؤال وسيلة للعيش في يوم من الأيام.

وقد روى بيتان لأبي الطمحان يمدح بهما يزيد بن عبد الملك وكان قد انتجعه:

يكاد الغمام الغر يرعد أن رأى

محيا ابن مروان وينهل بارقه

يظل فتيت المسلك في رونق الضحى

تسيل به أصداغه ومفارقه6

أما الرثاء فقد اختص به أبو خراش، شأنه في ذلك شأن سائر الشعراء الهذليين الذين عرفوا بمقدرتهم الرثائية الفائقة. والطريف أن أبا خراش في الإسلام يرثي أصدقاءه في الجاهلية، وبين أيدينا من شعره الإسلامي أربع قطع يرثي بها صديقين من أصدقاء الجاهلية: أخاه أو ابن عمه زهير بن

1 المصدر نفسه/ 177.

2 المصدر نفسه/ 172، 173.

3 المصدر نفسه/ 172.

4 المصدر نفسه/171، 173.

5 المصدر السابق/ 172.

6 ابن عبد ربه: العقد الفريد 6/ 37، 38.

ص: 254

العجوة1 الذي يخصه بثلاث منها: قصيدتين ومقطوعة2، ودبية سادن العزى الذي يرثيه بمقطوعة من أربعة أبيات3. وتتجلى لوعته وفجيعته بالذات على زهير الذي يبدو من حديثه عنه أنه كان أيضا رفيقا له في مغامراته4، أما دبية فلا يتحدث عنه حديث الملتاع المفجوع بقدر ما يتحدث عنه حديث الذاكر لأيامه الآسف على انقضائها، ولعله وفاء بدين كان لدبية في عنق أبي خراش، أو -بعبارة أدق- في قدمي أبي خراش منذ أيام تصعلكه، فقد حذاه دبية مرة نعلين فرح بهما فرحا شديدا، ومدحه بمقطوعة يسجل فيها هذه الهدية وقيمتها له5. والأمر الذي لا شك فيه أن أبا خراش كان جريئا حين وقف في الإسلام يرثي دبية سادن العزى الذي قتله خالد بن الوليد بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم6. ومع ذلك فمن المحتمل أن أبا خرش حين قتل دبية لم يكن قد أسلم بعد، ولكن يبدو أنه احتمال ضعيف نظرا لطبيعة المرثية التي بين أيدينا، فإن أبا خراش فيها لم يتعرض لقاتل دبية على الإطلاق، ولو كان أبو خراش قالها قبل إسلامه لتعرض لخالد بن الوليد كما فعل مع قاتل زهير. ومع ذلك فقد يكون الرواة أسقطوا منها تعرضه لخالد، وحتى مع هذا الاحتمال بأنه قالها قبل إسلامه فلا شك في أنه كان جريئا حتى وقف يرثي دبية في ذلك الوقت الذي أخذ فيه المسلمون يسيطرون على الموقف في جزيرة العرب؛ إذ إن دبية لم يقتل إلا بعد فتح مكة7.

ويرثي أبو خراش صديقيه بمعان مألوفة في الشعر الجاهلي عامة: الكرم والشجاعة وعجز الإنسان أمام الموت الذي لا ينجو منه حي حتى الحيوان

1 يقال إنه أخوه، ويقال إنه ابن عمه "انظر ابن الأثير: أسد الغابة 5/ 178، 179".

2 ديوان الهذليين 2/ 147-150، 161-164، 157.

3 المصدر السابق/ 155، 156.

4 انظر الأبيات السبعة في المصدر السابق/ 150.

5 انظر مقطوعة اللامية في المصدر السابق/ 140، 141. وانظر كتاب الأصنام/ 22، 23.

6 انظر كتاب الأصنام/ 24-26.

7 المصدر السابق/ 24، 25.

ص: 255

الشارد في صحرائه، ولكنا نقف أمام ظاهرتين طريفتين تستحقان التسجيل:

أولاهما: رواسب الصعلكة في شعر أبي خراش الإسلامي.

والأخرى: تأثير الإسلام فيه.

فما زالت صورة الفقراء المهتلكين الجياع ذوي الثياب البالية، والضباع التي تنتظر أجساد القتلى في اشتهاء ظامئ، والثأر الذي يملأ النفوس حقدا وغليلا، وذكريات الماضي الذي لا ينساه أبو خراش، تتردد في رثائه لزهير، وبخاصة في لاميتيه1.

ومع هذه الصورة نعثر على صورة أخرى لتلك الحياة التي تغيرت ظروفها نتيجة لظهور الإسلام، فقد أحاطت برقاب هؤلاء الصعاليك سلاسل الدين الجديد، فلم يعودوا قادرين على أن يمضوا في حياتهم كما كانوا في الجاهلية، وأصبح مقياس الأمور في هذه الحياة الإسلامية العدل والحق، أما الظلم والباطل فقد مضى عهدها الطائش الجاهل، وأصبح فتيان الصعاليك وقد تفرقت جماعاتهم كأنما فرق بينهم الموت:

فليس كعهد الديار يا أم مالك

ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل

سوى العدل شيئا فاستراح العواذل

فأصبح إخوان الصفاء كأنما

أهال عليهم جانب التراب هائل2

وأشد ما يملأ نفس أبي خراش غيظا وغليلا أنه أصبح عاجزا عن أن يثأر لصاحبه من قاتله، وهو من قريش، أولئك الذين صارت الإمارة والملك فيهم، ولولا ذلك ما كان ليخشاهم، ولكن ماذا يفعل سوى أن يظل طول عمره مغيظا محنقا عليهم حتى يُقتلوا بصاحبه:

فما كنت أخشى أن تنال دماءنا

قريش ولما يُقتلوا بقتيل

وأبرح ما أمرتم وملكتم

يد الدهر ما لم يُقتلوا بغليل3

1 ديوان الهذليين 2/ 148-150، 157.

2 المصدر السابق/ 150.

3 المصدر نفسه/ 157.

ص: 256

وهكذا تمتزج الصورتان في صورة رائعة طريفة لوناها التصعلك والإسلام.

والطريف أيضا أن أبا خراش بعد أن أسلم وحسن إسلامه1، وبعد أن عاش في الإسلام عمرا طويلا امتد به حتى خلافة عمر بن الخطاب2، حين يقف على البرزخ الفاصل بين الحياة والموت، لا يأسف على شيء كما يأسف على ساقه التي نهشتها حية، والتي طالما أعانته في حياته وكان لها عليه فضل أي فضل:

لعمرك والمنايا غالبات

على الإنسان تطلع كل نجد

لقد أهلكت حية بطن أنف

على الأصحاب ساقا ذات فقد3

لقد أهلكت حية بطن أنف

على الأصحاب ساقا ذات فضل

فما تركت عدوا بين بصرى

إلى صنعاء يطلبه بذحل4

وهذه أيضا من رواسب تلك الحياة المتصعلكة التي أخلص لها أبو خراش في جاهليته إخلاصا عميقا ظلت آثاره تتسرب من حين إلى حين في شعره الإسلامي.

ولأبي خراش بعد ذلك قصيدة في سبعة أبيات يصور فيها حزنه على هجرة ابنه خراش الذي كان قد حمد الله في بعض أيام تصعلكه البعيدة على أن أنجاه له يوم قتل عروة أخوه5، وكان خراش قد هاجر في خلافة عمر وغزا مع المسلمين، وكان أبوه بطبيعة الحال في ذلك الوقت شيخا كبيرا، فهو يتحدث إلى ابنه في نهاية الأبيات حديثا تبدو فيه روح الإسلام واضحة، فليس البر أن يهاجر خراش لينال أجر الشهادة مع المجاهدين مخلفا أباه رواءه شيخا كبيرا ضعيفا في أشد الحاجة إليه، وإنما البر أن يرعى أباه الذي بلغ عنده الكبر:

1 ابن الأثير: أسد الغابة 5/ 178، 179.

2 المصدر السابق/ 179.

3 ديوان الهذليين 2/ 171. والأغاني 21/ 19.

4 الأغاني 21/ 70.

5 ديوان الهذليين 2/ 157-159.

ص: 257

ألا فاعلم خراش بأن خير الـ

ـمهاجر بعد هجرته زهيد

فإنك وابتغاء الخير بعدي

كمخضوب اللبان ولا يصيد1

وكأنما نستشف من هذين البيتين الآيتين الكريمتين {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} 2.

وبحق أمر عمر رضي الله عنه بعد أن استمع إلى هذه الأبيات بأن يعود خراش إلى أبيه، وألا يغزو من كان له أب شيخ إلا بعد أن يأذن له3.

1 المصدر السابق/ 171. والأغاني 21/ 69.

2 سورة الإسراء/ 23، 24.

3 الأغاني 21/ 69.

ص: 258