المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ السرعة الفنية: - الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي

[يوسف خليف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الباب الأول: الصعاليك

- ‌الفصل الأول: التعريف بالصعلكة

- ‌في اللغة

- ‌الفصل الثاني: التفسير الجغرافي لظاهرة الصعلكة

- ‌ أهمية العامل الجغرافي:

- ‌ جزيرة العرب:

- ‌ التضاد الجغرافي وأثره في نشأة حركة الصعاليك:

- ‌ التضاد الجغرافي وأثره في توجيه حركات الصعاليك:

- ‌الفصل الثالث: التفسير الاجتماعي لظاهرة الصعلكة

- ‌ القبيلة:

- ‌ إيمان القبيلة بوحدتها:

- ‌ إيمان القبيلة بجنسها:

- ‌ الصعاليك والمجتمع القبلي:

- ‌الفصل الرابع: التفسير الاقتصادي لظاهرة الصعلكة

- ‌ العرب والتجارة:

- ‌ الطرق التجارية:

- ‌ الأسواق:

- ‌ الصراع الاقتصادي في المدن التجارية:

- ‌ الصراع الاقتصادي في البادية:

- ‌الباب الثاني: شعر الصعاليك

- ‌الفصل الأول: ديوان الصعاليك

- ‌مصادره

- ‌ مادته:

- ‌الفصل الثاني: موضوعات شعر الصعاليك

- ‌ الشعر داخل دائرة الصعلكة

- ‌ الشعر خارج دائرة الصعلكة:

- ‌الفصل الثالث: الظواهر الفنية في شعر الصعاليك

- ‌ شعر مقطوعات:

- ‌ الوحدة الموضوعية:

- ‌التخلص من المقدمات الطلية

- ‌ عدم الحرص على التصريع:

- ‌ التحلل من الشخصية القبلية:

- ‌ القصصية:

- ‌ الواقعية:

- ‌ السرعة الفنية:

- ‌ آثار من الصنعة المتأنية:

- ‌ الخصائص اللغوية:

- ‌ ظواهر عروضية:

- ‌الفصل الرابع: شخصيتان متميزتان

- ‌ تشابه وتميز:

- ‌ عروة بن الورد:

- ‌الشَّنْرَي

- ‌الخاتمة:

- ‌ الصعاليك:

- ‌ شعر الصعاليك:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ السرعة الفنية:

8-

‌ السرعة الفنية:

وإذ كانت حياة الشعراء الصعاليك قلقة مضطربة لا تكاد تعرف للاستقرار أو الطمأنينة طعما، فهم دائما مشغولون بكفاحهم من أجل العيش، ذلك الكفاح الدامي المرير الذي فرغوا له فراغا تاما، والذي وهبوا له حياتهم، وجعلوه مذهبا لهم يعيشون له ويموتون في سبيله، وإذ كان شعر الصعاليك صورة صادقة لحياتهم، كانت النتيجة الفنية لهذا أن اتسم شعرهم بالسرعة الفنية، فالعمل الفني عند الشعراء الصعاليك أشبه الأشياء بشوط من أشواط عدوهم، يندفعون فيه ولا يتوقفون حتى يصلوا إلى غايتهم. وليس من البعيد أن تكون هذه السرعة الفنية التي وسمت شعرهم صدى نفسيا لتلك السرعة التي اعتمدت عليها حياتهم، منبعثا من أعماق "اللاشعور". ولست أدري فقد يؤيد هذا ما نلاحظه من أن الصنعة الفنية في شعر عروة أبطأ وأشد أناة وإحكاما منها في شعر صعاليك السراة، ومن المعروف أن عروة لم يكن من العدائين وإنما الصعاليك العداءون -كما رأينا من قبل- هم أولئك الذين كانوا ينزلون منطقة السراة بين مكة واليمن1.

وقد رأينا من مظاهر هذه السرعة الفنية انتشار المقطوعات والقصائد القصيرة في شعرهم، وتخلصهم من المقدمات الطللية، ومن التصريع، وهي مظاهر ترجع إلى الشكل العام أو البناء الخارجي للعمل الفني.

وحين نمضي إلى داخل البناء الفني لشعر الصعاليك نجد أن أقوى مظاهر هذه السرعة "خفوت الصنعة الفنية" في شعرهم بحيث لا يكاد الناظر فيه يلمح أثرا من آثار التجويد الفني المتمهل الواضح الأناة، وإنما هو حديث سريع يتدفق من نفس الشاعر دون أن يحرص على أن يتمهل هنا أو هناك لينمقه أو يوشيه بتلك الألوان الفنية المختلفة التي يحرص عليها الشعراء المحترفون. والواقع أن حياة الشاعر الصعلوك لم تكن بالتي تتيح له من الفراغ والاطمئنان ما يجعله يتمهل في عمله الفني أو يتأنى فيه. وهل نستطيع مثلا أن نتصور أن السليك وقد مضى للغارة مع صعلوكين التقى بهما في طريقه، ثم مضى وحده ليستكشف لهما خبر نار لاحت لهم، حتى إذا ما بلغها ووجد أن ليس عندها سوى عبيد وإماء يسهل التغلب عليهم، رفع عقيرته متغنيا بهذين البيتين ليعلم صاحبيه أن الفرصة سانحة:

يا صاحبي ألا لا حي بالوادي

إلا عبيد وآم بين أذواد

أتنظران قليلا ريث غفلتهم

أم تعدوان فإن الريح للعادي2

هل نستطيع أن نتصور أن السليك في هذا الجو يستطيع أن يفرغ

1 الباب الأول: الفصل الثاني "التفسير الجغرافي" ص86.

2 ابن قتيبة: الشعر والشعراء / 215. والأغاني 18/ 134. وانظر البيت الثاني في لسان العرب: مادة "روح".

ص: 292

لفنه مجودا منمقا موشيا؟ أظن أن الشاعر لم يكن يبغي من وراء هذين البيتين سوى أن يسمعهما صاحباه فيفهما عنه ما يريد، فالصنعة الفنية لم تكن هدفا يحرص عليه، وإنما كل حرصه على أن يبلغ صاحبيه هذه الرسالة، أو بتعبير أدق هذه "البرقية" في أسرع وقت حتى لا تفلت منهم الفرصة.

ومثل السليك كان أكثر الصعاليك، وخاصة العدائين منهم، لم تتح لهم حياة الكفاح وما تلقيه على كواهلهم من تبعات جسام فراغا لفنهم يجودونه وينمقونه ويخرجونه إخراجا متأنيا متمهلا.

ومن هنا نستطيع أن نقول أن الشعر عند الصعاليك لم يكن "حرفة" تقصد لذاتها، ويفرغ صاحبها لتجويدها، والوصول بها إلى المثل الأعلى الذي يستطيع معه أن يدخل حلبة المبارة الفنية ليقول لغيره من الشعراء: هأنذا، وإنما كان الشعر عندهم وسيلة يسجلون بها مفاخرهم، أو ينفسون بها عما تضيق به صدورهم من تلك العقد النفسية" التي تمتلئ بها أعماق نفوسهم، أو يدعون بها إلى مذهبهم في الحياة لعلهم يجدون من يؤمن بها وينضم إليهم، أما أن يرضى عنهم المجتمع الفني الذي يعيشون فيه فهذا أمر لم يكن في حسابهم، فهم يعرفون أنهم يعيشون في مجتمعهم شذاذا متمردين ليس بينهم وبينه إلا صلة الصراع، وهم لهذا يدركون أن مجتمعهم لن يرضى عن فنهم كما لم يرض عنهم، ولن يحرص عليه كما لم يحرص عليهم، ويعرفون أن القبائل لا تحرص إلا على شعرائها، ولا تشغل إلا بهم، ولا تقيم وزنا إلا لهم، ولا تخص بالتقدير والإعجاب إلا شعرهم. وهكذا انصرف الشعراء الصعاليك عن احتراف الشعر، ولو أنهم فكروا في احترافه لاتخذوا منه وسيلة يتكسبون بها كما يتكسب بها غيرهم من الشعراء، ولضمنوا بهذا لأنفسهم حياة هادئة مستقرة مطمئنة كالتي كان يحياها غيرهم من الشعراء المحترفين.

ولعل "التشبيه" أقوى الألوان الفنية التي اعتمد عليها الشعراء الصعاليك في شعرهم، وهو لون يتفق تماما مع هذه السرعة الفنية التي لاحظناها؛ إذ إن الصنعة الفنية في التشبيه صنعة سريعة لا تتجاوز عقد موازنة بين أمرين يشتركان في معنى، وهو -من هذه الناحية- غير الاستعارة مثلا التي تعتمد على لون

ص: 293

من الصنعة الفنية العميقة المتأنية. وفي صنيع القدماء من علماء البلاغة ما يشعر بهذا، فقد جعلوا التشبية المرحلة الأولى التي تبنى عليها الاستعارة، ووجه بنائها على التشبيه -كما يقولون- أن استعارة اللفظ إنما تكون بعد المبالغة في التشبيه، وإدخال المشبة في جنس المشبه به ادعاء. ومن هنا دار بينهم كلام طويل حول جعله بابا مستقلا من أبواب البيان مع أنه مقدمة لها تتوقف عليه، وهل توقف بعض الأبواب على بعض يوجب كون المتوقف عليه مقدمة للفن أو لا يوجب1. ومعنى هذا بتعبير أيسر أن العملية الفنية في التشبيه عملية بسيطة من درجة واحدة، ولكنها في الاستعارة عملية مركبة من درجتين.

وعلى كل حال، وبدون الوقوف عند هذه التعليلات العقلية، فالأمر الذي لا شك فيه أن الصنعة الفنية في التشبيه صنعة سريعة لا تحتاج إلى أكثر من وضع الأمرين المراد عقد الموازنة التشبيهية بينهما في معرض واحد حتى يتضح وجه الشبه بينهما.

وحين ننظر في شعر الصعاليك لنتين كيف استخدموا هذا اللون الفني في صناعة نماذجهم فإن أول ما نقف عنده تلك العناصر التي استخدموها في تأليف هذا اللون، أو بعبارة أخرى نستأذن أصحاب الرسم في استعارتها منهم "صندوق الأصباغ عند الشعراء الصعاليك".

وصندوق الأصباغ عند الشعراء الصعاليك صندوق متعدد العناصر، ولكنها في مجموعها عناصر قاتمة قليلة الإشراق والتألق، مستمدة من تلك البيئة البدوية القاحلة التي يعيشون فيها، ومتأثرة بتلك الحياة الخشنة القاسية التي يحبونها، ومتسمة بتلك الواقعية التي تسيطر على تفكيرهم ومزاجهم.

والحق أن هذه العناصر أكثر من أن تحصى؛ لأنها -من ناحية- مستمدة من واقع الحياة بكل ما فيه من مظاهر متعددة، ولأنها -من ناحية أخرى- منتشرة في شعرهم انتشارا واسعا. ولكنا مع ذلك سنحاول أن نردها إلى

1 انطر شروح التخليص عند قول صاحب التخليص في مقدمة علم البيان "ثم منه ما يبنى على التشبيه فتعين التعرض له" 3/ 289 وما بعدها "الطبعة الثانية بمطبعة السعادة بمصر سنة 1343هـ".

ص: 294

ثلاثة منابع أساسية: عالم الحيوان أولا، والحياة الإنسانية ثانيا، ثم البيئة الطبيعية ثالثا، وهو ترتيب قائم على أساس "الكم"، كما يقول المناطقة.

أما المنبع الأول فلعله أغزر المنابع التي اعتمد عليها الشعراء الصعاليك في تشبهاتهم، فقد استغلوا حيوان الصحراء ووحشها وطيرها وحشراتها استغلالا واسعا. ومرد ذلك من غير شك إلى حياتهم القريبة منها نتيجة لتشردهم في مواطنها الأصلية وبيئاتها الأولى. وقد رأينا في الفصل السابق أنهم تعرضوا بالذكر لسبعة وعشرين نوعا منها، وطبيعي أننا لم ندخل في ذلك الإحصاء تلك الأنواع الأليفة التي تعرضوا لها بالذكر كالإبل والخيل والغنم والبقر؛ لأننا كنا بصدد الحديث عن تشردهم.

وقد رأينا في الفصل السابق كيف استغل الشعراء الصعاليك الطير وحيوان الصحراء المشهور بالعدو في حديثهم عن شدة عدوهم. وحين ننظر مرة أخرى في هذه الظاهرة الموضوعية في شعر الصعاليك من الزاوية الفنية التي ندرسها الآن نجد أن التشبيه هو أكثر الأساليب شيوعا في هذا الحديث.

أما ضواري الصحراء، وجوارح طيرها، وأفاعيها، فأكثر ما يستغلها الشعراء الصعاليك في تشبيه أنفسهم أو رفاقهم أو أعدائهم بها.

فالشنفرى سمع أزل لا يبالي بشيء مهما يكن صعبا:

أنا السمع الأزل فلا أبالي

ولو صعبت شناخيب العقاب1

وبنو سلامان أعداؤه الألداء يعرفون بشائر عرامته منذ صغره يوم أن كان يمشي بينهم كالأسد الورد:

هم عرفوني ناشئا ذا مخيلة

أمشي خلال الدار كالأسد الورد2

ويصف تربصه فوق المرقبة العالية المنيعة، وكيف بات على حد ذراعيه "كما ينطوي الأرقش المتقصف"3، أو "الأرقم المتعطف" في رواية

1 ديوانه المطبوع/ 33 - والسمع فيما يرى العرب ولد الذئب من الضبع.

2 المصدر السابق/ 34.

3 الأغاني 21/ 140.

ص: 295

أخرى1. ويشبه قيس بن الحدادية قومه -في بعض شعره القبلي- بالضراغم، فيقول معيرا أعداءهم بالهزيمة:

غداة توليتم وأدبر جمعكم

وأُبنا بأسراكم كأنا ضراغم2

ويشبه صخر الغي وروده ماء مخوفا على حذر بمشي النمر حين يستقبل ريحا بادرة ندية:

وماء وردت على زورة

كمشي السبنتي يراح الشفيفا3

ورفاق الشنفرى "سراحين فتيان"4، وصاحب أبي خراش "كالسرحان سرحوب"5 وعدو أبي خراش يسقط صريعا كما يسقط نسر أكل لحما مسموما:

به ندع الكمي على يديه

يخر تخاله نسرا قشيبا6

وهي صورة قوية تستمد قوتها من عنصر "الحركة" الذي نتمثله في سقوط النسر صريعا، ذلك السقوط العنيف المفاجئ الذي يمثل لنا سقوط العدو تمثيلا قويا بعد أن عبر عنه الشاعر بتلك اللفظة الموحية المعبرة "يخر".

ولكن تأبط شرا يخرج على هذه القاعدة، فيشبه حصان الشنفرى في رثائه له بالعقاب التي تنقض بين ذروتين شامختين:

وأشقر غيداق الجراء كأنه

عقاب تدلى بين نيقين كاسر7

ويستغل الشعراء الصعاليك النحل في صورتين: صورة تعتمد على الصوت، وصورة تعتمد على الهيئة. أما الأولى فهي صورة القوس حين تنطلق منها سهامها

1 ديوانه المطبوع/ 37.

2 الأغاني 13/ 4 "بولاق".

3 شرح أشعار الهذليين 1/ 47، وشرح المفضليات لابن الأنباري / 872، ولسان العرب مادة "روح" 3/ 282، ومادة "زور" 5/ 423، وورد الشطر الثاني فقط في مادة "شفف" 11/ 83.

4 ديوانه في الطرائف الأدبية/ 32، والأغاني 18/ 216.

5 ديوان الهذليين، القسم الثاني/ 161.

6 المصدر السابق/ 135 - القشيب هنا: المسموم.

7 ديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية/ 28، وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة رقم 417.

ص: 296

فتحدث حفيفا مبهما غير واضح هو في سمع بعض الشعراء الصعاليك كصوت النحل، وأما الأخرى فهي صورة الجماعات الكثيرة المتزاحمة سواء أكانوا أعداء يطاردونهم، أم وفود المعوزين المحتاجين على أبواب الكرماء.

فحفيف النيل في سمع الشنفرى حين ينطلق من قوسه كصوت النحل العائد إلى غاره وقد أخطأ فهو يحوم حوله:

كأن حفيف النيل من فوق عجسها

عوازب نحل أخطأ الغار مطنف1

وأعداء تأبط شرا من خلفه وهم يطاردونه كالنحل الكثير الذي يتجمع في خليته:

ولم أنتظر أن يدهموني كأنهم

ورائي نحل في الخلية واكنا2

وطالبوا الحاجات الذين يغشون باب بعض الكرماء الذين يمدحهم أبو خراش يشبهون النحل الذي يهوي إلى غاره:

ترى طالبي الحاجات يغشون بابه

سراعا كما تهوي إلى أُدمى النحل3

وكما استغل الشنفرى النحل في تصوير حفيف سهامه استغل القطاة في تصوير أفواقها، ففوق سهمه مدور كعرقوب القطاة:

عليه نساري على خوط نبعة

وفوق كعرقوب القطاة مدحرج4

وإذا كان المطاردون عند تأبط شرا كالنحل فإن العدائين عند أبي خراش كأرجال الجراء الذي يقصد إلى الأماكن الغليظة المرتفعة:

وعادية تلقي الثياب وزعتها

كرجل الجراد ينتحي شرف الحزم5

ويستغل الشعراء الصعاليك من الغربان جانبين متناقضين: سوادها الحالك، وصفاء عيونها الشديد. فقطعان السوام عند صخر الغي كجماعات الأغربة في سوادها:

1 الأغاني 21/ 141.

2 الأغاني 18/ 213.

3 ديوان الهذليين 2/ 166 - أدمى: موضع.

4 ديوانه المطبوع/ 34. والمصور: لوحة 52. والأغاني 21/ 141.

5 ديوان الهذليين 2/ 132.

ص: 297

فأرسلوهن يهتلكن بهم

شطر سوام كأنها العجد1

أما عيون الماء في ديار أبي الطمحان التي يحن إليها وهو خليع مجاور في مكة فهي في صفائها كعين الغراب:

إذا شاء راعيها استقى من وقيعة

كعين الغراب صفوها لم يكدر2

ويستغل الشعراء الصعاليك السماني استغلالا طريفا، فهم يشبهون بأشلائها نعالم الممزقة، وهي طرافة تأتي من تلك المفارقة الغريبة بين طرفي التشبيه:

ونعل كأشلاء السماني تركتها

على جنب مور كالنحيزة أغبرا3

ونعل كأشلاء السماني تبذتها

خلاف ندى من آخر الليل أورهم4

ويستغل الشعراء الصعاليك الإبل في تشبياتهم على صورة واسعة، ولكنها لا تصل إلى الدرجة التي نراها في استغلالهم لحيوان الصحراء السريع أو ضواربها.

ومرد ذلك -فيما يبدو- إلى قلة اتصالهم بتلك الفصيلة من الحيوان التي هي أول سمات "الرأسمالية" العربية. وقد يؤيد هذا ما نلاحظه من أن أكثر الأوضاع التي يتخيرونها للإبل في تشبيهاتهم تعد من الناحية النفسية أصداء لذلك الحقد الذي كان يملأ نفوسهم عليها، فالصعلوك الخامل المذموم عند عروة:

يعين نساء الحي ما يستعنه

فيمسي طليحا كالبعير المحسر5

والجبل بعد أن غسله المطر وصقله عند صخر الغي كالبعير الأجوب الذي طلى ونتف:

فذاك السطاع خلاف النجا

ء تحسبه ذا طلاء نتيفا6

وحين يسخر أبو خراش من امرأته التي لا تستطيع صبرا على الجوع يذكر

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 13 - والحديث في البيت عن الفرسان والخيل. الاهتلاك: رمي النفس في تهلكة. والعجد: الغربان.

2 الأغاني 11/ 134 "بولاق". والحيوان للجاحظ 3/ 421 - والوقيعة: المكان الصلب يمسك الماء. وفي الأمثال "أصفى عينا من الغراب""المصدر الأخير/ 421".

3 الشنفرى في ديوانه المطبوع/ 35. وانظر: ص226 من هذا البحث.

4 أبو خراش في ديوان الهذليين 2/ 131. وانظر: ص226 من هذا البحث

5 ديوانه/ 77.

6 شرح أشعار الهذلين 1/ 44 - السطاع: جبل. خلاف النجاء أي بعد المطر.

ص: 298

أن رجوفها كجوف البعير:

إذا هي حنت للهوى حن جوفها

كجوف البعير، قلبها غير ذي عزم1

والقبر عنده في احديدابه ومنظره العالم كالبعير:

إذا راحوا سواي وأسلموني

لخشناء الحجارة كالبعير2

ومع ذلك فلا يخلو الأمر من بعض الصور الطريفة التي أحسن الشعراء الصعاليك اختيار أوضاعها وألوانها، فحين يصف أبو خراش عدوه هو ورفاقه في ليلة ممطرة من ليالي جمادى الباردة، يشبه الغثاء الكثيف الملتف تحت أقدامهم بأوساط الإبل الدهم التي قرن بعضها ببعض:

إذا ابتلت الأقدام والتف تحتها

غثاء كأجواز المقرنة الدهم3

وصوت القوس عند عمرو ذي الكلب كحنين الناقة المسنة المتخلفة عن الإبل الفنية لأنها لا تستطيع مسايرتها:

تعج في الكف إذا الرامي اعتزم

ترنم الشارف في أخرى النعم4

أما الخيل فهي قليلة الدوران في تشبيهات الشعراء الصعاليك لدرجة كبيرة. ويبدو أن السبب في هذا قلة اعتمادهم عليها في حياتهم. ولكن الصور التي وردت -على قلتها- مشرقة زاهية. ولعل أطرف هذه الصور على الإطلاق صورتان: صورة الفجر عند تأبط شرا حين لاح ضوءه كأنه تلك الخطوط البيض في جواد أدهم:

وقد لاح ضوء الفجر عرضا كأنه

بلمحته أقراب أبلق أدهم5

وصورة البرق الذي يلمع بين السحاب الأسود عند عروة كأنه فرس بلقاء حديثة النتاج تنحي برجليها ذكور الخيل عن ولدها فيبدو بياض بطنها:

إذا قلت استهل على قديد

يحور ربابه حور الكسير

1 ديوان الهذليين: القسم الثاني/ 126.

2 المصدر السابق/ 126.

3 المصدر نفسه/ 130.

4 شرح أشعار الهذليين 1/ 240.

5 الأغاني 18/ 215.

ص: 299

تكشف عائذ بلقاء تنفي

ذكور الخيل عن ولد، شغور1

ويستغل تأبط شرا جبن الغنم وخوفها في رثائه للشنفرى، فيشبه أعداءه وهو يجيل فيه سلاح الموت بالغنم المذعورة:

تجيل سلاح الموت فيهم كأنهم

لشوكتك الحدى ضئين نوافر2

أما الشنفرى فيستغل أولاد البقر في رسم صورة غريبة، فهو يشبه سيوف رفاقه الصعاليك مشرعة في أيديهم وهي تنهل من دماء أعدائهم وتعل بأولاد البقر الصغار إذا رأت أمهاتها فجعلت تحرك أذنابها:

تراها كأذناب الحسيل صوادرا

وقد نهلت من الدماء وعلت3

وهي صورة تستمد غرابتها من هذه المفارقة بين طرفي التشبيه: أولاد البقر الصغيرة المسألة، وسيوف الصعاليك المخضبة بالدماء.

أما المنبع الثاني لأصباغ لون التشبيه عند الشعراء الصعاليك، وهو الحياة الإنسانية، فمن الممكن أن نرده إلى أربعة مظاهر من مظاهر هذه الحياة: الحياة الاجتماعية، والحياة الاقتصادية، والحياة النفسية، والحياة الجسدية.

وقد استخدم الشعراء الصعاليك عناصر هذا المنبع الإنساني استخداما طريفا، ولعل أطرف ما فيه أنه يصور كيف كان تأثر هؤلاء الصعاليك بالحياة التي كانت تدور حولهم أو التي كانوا يدورون فيها.

فحين يرى صخر الغي السحاب الثقيل وهو مقبل في بطء لا تتراءى أمامه إلا صورة الأسير الذي يساق في قيوده فهو بطيء الخطو متثاقله:

وأقبل مرا إلى مجدل

سياق المقيد يمشي رسيفا4

وهي صورة من الطبيعي أن تترءى لهذا الصعلوك الهذلي الذي كان

1 ديوانه/ 42 - العائذ: الحديثة النتاج. وشغور صفة لعائذ، وهي التي ترفع رجليها.

2 ديوان الشنفرى المطبوع/ 28. وشرح المفضليات/ 199. مع اختلاف في ألفاظ الشطر الأول - الحدى: الحادة، مؤنث أفعل التفضيل.

3 المفضليات/ 205.

4 شرح أشعار الهذليين 1/ 43.

ص: 300

يعيش قريب من مكة حيث سوق الرقيق يساق إليها الأسرى الذين لا يفتديهم أهلهم حيث يباعون.

وحين يفرغ هذا السحاب مطره بعد ما تكاثفت أواخره، ويهدأ ذلك الدوي الذي كانت تثيره رعوده، ويرى الشاعر أن أقرب صورة لهذا المنظر صورة جماعة من النصارى مجتمعين في عيد من أعيادهم يسقي بعضهم بعض، وهم من مرحهم ولهوهم في ضجة وصخب، ولكنهم ينظرون فإذا أمامهم رجل من غير دينهم، فإذا ضجتهم تهدأ، وصخبهم ينقطع، حتى يتبينوا أمر هذا الغريب:

كان تواليه بالملا

نصارى يساقون لاقوا حنيفا1

وهي صورة ترسم في براعة ممتازة جانبا دقيقا من الحياة الدينية في العصر الجاهلي. ومن الطبيعي أن يعرف صخر الغي هذا الجانب معرفة دقيقة، فقد كانت هذيل تنزل في تلك المنطقة التي تقع فيها مكة المركز الديني الأول في جزيرة العرب، والتي تقام فيه أشهر الأسواق التي كان القسس والرهبان يردونها فيعظون ويبشرون، ويذكرون البعث والحساب والجنة والنار.

ومن هنا أيضا نستطيع أن نكشف الستار عن تشبيه الأعلم الهذلي لجلود جراء الضباع السود بثياب الرهبان:

سود سحاليل كأن

جلودهن ثياب راهب2

ولكنا مع ذلك نحس شيئا من السخرية الماكرة من هذه التقاليد الكهنوتية في عقد الصلة بين جراء الضباع وبين الرهبان، وهي سخرية ليست غريبة على هؤلاء الصعاليك المتمردين على كثير من تقاليد مجتمعهم.

وحين يلمع البرق فإن الصورة التي تتراءى لصخر الغي هي صورة ذلك البشير الذي أقبل بعد غزوة ناجحة وهي يحرك ترسه في كفه ليعلم أصحابه أنه قد عاد غانما:

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 45. وديوان الهذليين القسم الثاني/ 71 - وقد اختلف المفسرون في معنى هذا البيت اختلافا عريضا، ولكني أظن أن هذه الصورة التي رسمتها للبيت هنا هي أقرب الصور إلى معناه.

2 شرح أشعار الهذليين 1/ 57.

ص: 301

أرقت له مثل لمع البشير

يقلب بالكف فرضا خفيفا1

وهي صورة -كما نرى- تستمد أصباغها من اللون المشرق من حياة المغامرة التي يحياها هؤلاء الصعاليك، ومن هنا جاءت طرافتها.

وحين يرسم أبو الطمحان صورة لشيخوخته، يستخدم لونين من ألوان الحياة الاجتماعية التي عاشها وتركت رواسبها في تفكيره، فالدهر قد حناه حتى صار كالصياد الماكر الذي يحني قامته ليخفي شخصه عن صيد يدنو منه، وهو قد أصبح قريب الخطو متثاقلا كالأسير المقيد:

حنتني حانيات الدهر حتى

كأني خاتل يدنو لصيد

قريب الخطو يحسب من رآني

ولست مقيدا أني بقيد2

وهذان اللونان اللذان استخدمهما أبو الطمحان عاش في جوهما زمنا طويلا، فليس من شك في أن حياته صعلوكا اتصلت بالصيد اتصالا قريبا، وليس من شك أيضا في أن حياته مستجيرا في مكة بعد خلعه جعلته قريبا من تلك الأسواق التي تستقبل الأسرى لتنقلهم من قيود الأسر إلى قيود العبودية.

ويستخدم الشعراء الصعاليك ألوان المقامرة كثيرا في رسم صورهم التشبيهية. فالظبي المفزع عند أبي خراش ينطلق مسرعا كما ينطلق القداح المعلم يرسله الضارب بالقداح:

يطيح إذا الشعراء صاتت بجنبه

كما طاح قدح المستفيض الموشم3

وصاحبه في المرقبة يظل متربصا فوقها كأنه قدح كثير الفوز قد جعل صاحبه فيه علامة لشدة اعتزازه به وحرصه عليه:

يظل في رأسها كأنه زلم

من القداح به ضرس وتعقيب4

والصعلوك العامل الذي يمدحه عروة يظل مصدر تهديد لأعدائه مطلا

1 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 69، وشرح أشعار الهذليين 1/ 43 وقد آثرت معنى البيت كما ورد في المصدر الأول - والفرض هنا الترس.

2 الأغاني 11/ 130 "بولاق"، والسجستاني: كتاب المعمرين / 63.

3 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 146.

4 المصدر السابق/ 161.

ص: 302

عليهم وهم يزجرونه ما يزجر المقامرون بعض قداحهم الخاسرة إذا ضربوا بها:

مطلا على أعدائه يزجرونه

بساحتهم زجر المنيح المشهر1

ومن أطرف الصور التي نراها عند الشعراء الصعاليك تلك الصور التي استخدموا في رسمها ألوانا من الحياة الاقتصادية. ووجه الطرافة في هذه الصور هو أنها مرسومة بريشة أولئك الصعاليك الفقراء الذين ارتبطت حياتهم بهذه الحياة ارتباطا وثيقا.

ولعل أطرف هذه الصور على الإطلاق ثلاث صور يرسمها صخر الغي، يشبه في إحداها أواخر السحب المتراكمة الثقيلة التي يتوالى بعضها في إثر بعض بسفائن أعجمي رست إلى بعض السواحل فأوقرت من صادراته:

كأن تواليه بالملا

سفائن أعجم ما يحن ريفا2

ويتصور في الثانية هذه السحب أيضا وقد حملت من الماء ما أثقلها كأنها مقبلة من تجارة وقد حملت بضائع كثيرة اشتريت بغير حساب:

فأقبل من طوال الذري

كأن عليهن بيعا جزيفا3

ويدعو في الثالثة أصحابه إلى أن يثبتوا في القتال، ويمشوا إلى أعدائهم كما تمشي جمال الحيرة المثقلة بالبضائع التي تحملها من تلك المنطقة التجارية الغنية:

يا قوم ليست فيهم غفيرة

فامشوا كما تمشي جمال الحيرة4

ويستغل الشعراء الصعاليك أيضا بعض مظاهر الحياة النفسية في تشبيهاتهم، على نحو ما رأينا عند الشنفرى الذي يشبه صوت قوسه بصوت الشجي الذي أثقلته همومه وأحزانه:

1 ديوانه/ 78 - المنيح هنا هو القدح الذي لا نصيب له.

2 شرح أشعار الهذليين 1/ 43، وديوان الهذليين القسم الثاني/ 69 - ما يحن أي خالطن.

3 المصدران السابقان: المواضع نفسها.

4 شرح أشعار الهذليين 1/ 33.

ص: 303

وصفراء من نبع أبي ظهيرة

ترن كإرنان الشجي وتهتف1

وهي صورة نفسية معبرة برغم إيجازها وتركيز ألوانها.

ولعل أطرف هذه الصور النفسية في شعر الصعاليك تلك الصورة التي يرسمها عروة لموقف صعاليكه منه بعد أن تعهدهم حتى "أخصبوا وتمولوا" فإذا هم يلتوون عليه ويتنكرون له. وهو يستخدم في رسم هذه الصورة لونا من ألوان الحياة النفسية التي تعرفها الحياة الإنسانية في مختلف عصورها:

تلك الأم التي تعهدت وليدها الصغير متحملة في سبيله كل تعب وجهد، حتى إذا تم شبابه، وراحت تنتظره خير، وترتجى نفعه، تزوج فغلبت الزوجة الأم على ابنها، وأخذته منها تاركا أمه العجوز مكبة على حد مرفقيها تشكو وتولول مما نزل بها، وهي حائرة ماذا تفعل، ولكنها لا تملك في النهاية إلا أن ترجع صابرة متجملة. يقول عروة مخاطبا صعاليكه:

فإني وإياكم كذي الأم أرهنت

له ماء عينيها تفدي وتحمل

فلما ترجت نفعه وشبابه

فباتت لحد المرفقين كليهما

أتت دونها أخرى جديد تكحل

توحوح مما نابها وتولول

تخير من أمرين ليسا بغبطة

هو الشكل، إلا أنها قد تجمل2

والصورة هنا صورة نفسية متكاملة الخطوط والألوان، دقيقة التلوين والتظليل إلى حد كبير، ألح الشاعر فيها على المشبه به فجاءت تشبيها تمثيليا رائعا -على حد الاصطلاح البلاغي. وقد يكون طبيعيا أن تتراءى هذه الصورة من الحياة الإنسانية لعروة، وهو الإنسان الذي وهب حياته للعمل من أجل تلك العناصر الضعيفة في مجتمعه، وجعل من نفسه أبا للصعاليك.

ويستخدم الشعراء الصعاليك بعض المظاهر الجسدية في رسم صورها التشبيهية. فالمأزق الحرج الذي تسد أمام المرء جميع منافذه حتى لا يعرف له مخرجا منه يشبه تأبط شرا بسد المنخرين. يقول في رثاء الشنفرى:

1 ديوانه المطبوع/ 38.

2 ديوانه/ 117، 118.

ص: 304

وأمر كسد المنخرين اعتليته

فنفست منه والمنايا حواضر1

وهي صورة -على بساطتها- قوية تستمد قوتها من معرفة كل إنسان بها معرفة عملية وتسليمه بها تسليما تجريبيا لا مجال للتفكير النظري فيه، وهل يختلف اثنان في أن أشد ما يقع فيه إنسان أن تكتم أنفاسه حتى يشعر كأن صدره يوشك أن يتمزق؟

ويشبه أبو خراش اهتزاز ثوبه البالي في أثناء عدوه بانتفاضة الحمى:

فعديت شيئا والدريس كأنما

يزعزعه ورد من الموم مردم2

وهي صورة تستمد قوتها من تلك الدقة في اختيار المشبه به، ومن ذلك القرب بينه وبين المشبه، وهل هناك أقرب إلى اهتزاز الثوب وقد أخذت بصاحبه حمى العدو من انتفاضته وقد أخذت بصاحبه حمى المرض؟

ولا يجد الشنفرى ما يشبه به رهبة الماء المخوف الذي يفتخر بوروده في مغامراته الرهيبة مثل داء البطن الذي يخافه كل الخوف، ويخشاه كل الخشية. يقول مخاطبا صاحبته:

وأمر كسد المنخرين اعتليته

فنفست منه والمنايا حواضر1

وهي صورة -على بساطتها- قوية تستمد قوتها من معرفة كل إنسان بها معرفة عملية وتسليمه بها تسليما تجريبيا لا مجال للتفكير النظري فيه، وهل يختلف اثنان في أن أشد ما يقع فيه إنسان أن تكتم أنفاسه حتى يشعر كأن صدره يوشك أن يتمزق؟

ويشبه أبو خراش اهتزاز ثوبه البالي في أثناء عدوه بانتفاضة الحمى:

فعديت شيئا والدريس كأنما

يزعزعه ورد من الموم مردم2

وهي صورة تستمد قوتها من تلك الدقة في اختيار المشبه به، ومن ذلك القرب بينه وبين المشبه، وهل هناك أقرب إلى اهتزاز الثوب وقد أخذت بصاحبه حمى العدو من انتفاضته وقد أخذت بصاحبه حمى المرض؟

ولا يجد الشنفرى ما يشبه به رهبة الماء المخوف الذي يفتخر بوروده في مغامراته الرهيبة مثل داء البطن الذي يخافه كل الخوف، ويخشاه كل الخشية. يقول مخاطبا صاحبته:

وإنك لو تدرين أن رب مشرب

مخوف كالداء البطن أو هو أخوف

وردت بمأثور يمان وضالة

تخيرتها مما أريش وأرصف3

وهي صورة نستطيع أن نشعر بما فيها من قوة وصدق في الإحساس إذا تذكرنا أن حياة الصعاليك كانت تعتمد أكثر ما تعتمد على سلامة الجسد وقوته وأنهم كانوا يفخرون بأنهم ضامرو البطون مهازيل قد نشرت أضلاعهم، والتصقت أمعاؤهم، لإيثارهم غيرهم على أنفسهم بالزاد، ومن هنا كان أخوف ما يخافه أحدهم أن يصاب بمرض يضعفه، ويقعد به عن تحقيق رسالته في الحياة، وبخاصة أمراض البطن التي يُصاب بها المتخمون النهمون، والتي تعد بالنسبة لهم اتهاما صارخا بالتنكر لهذه الرسالة وخيانتها.

1 ديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية/ 28.

2 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 144.

3 ديوان المطبوع/ 38.

ص: 305

أما المنبع الثالث لأصباغ لون التشبيه عند الشعراء الصعاليك، وهو البيئة الطبيعية، فلعله أقل المنابع الثلاثة تدفقا في شعر الصعاليك. ولست أرى سببا لهذا سوى شغل الصعاليك بكفاحهم في الحياة من أجل العيش عن التأمل في الطبيعية، واستغلال مظاهرها في فنهم. وسنرى أن أصباغ هذا المنبع أقل طرافة من أصباغ المنبعين السابقين، وأن الصور الطريفة فيه أقل منها فيهما.

فظبات السهام عند عمرو ذي الكلب كشوك شجر السيال1، والربيء الذي يبعثه عروة ليرقب لهم الطريف يقوم فوق المربأة كأنه أصل شجرة لا يبرح موضعه:

إذا ما هبطنا منهلا في مخوفة

بعثنا ربيئا في المرابي كالجذل2

وعيون رفاق تأبط شرا، أولئك الرفاق الأبطال الشعث، كأنها نار الغضا التي تتأجج بما يُلقى عليها من أعشاب الجبال الجافة:

مساعرة شعث كأن عيونهم

حريق الغضا تُلقى عليها الشقائق3

ويتحدث تأبط شرا عن رجل كثير شعر الرأس متلبده لعدم عنايته به، فيشبهه بحقف الرمل الذي كثر صعود الناس عليه حتى أصبح صلبا متماسكا:

فذاك همي وغزوى أستغيث به

إذا استغثت بضافي الرأس نغاق

كالحقف حدأة النامون قلت له

ذو ثلتين وذو بهم وأرباق4

وحين يصف عروة الأسد يشبه زئيره بصوت الرعد، ولكنه يشعر أنه تشبيه عادي مألوف ليست فيه براعة ممتازة، فيحتال بعض الاحتيال ليضفي

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 235 بيت رقم 20 وانظر/ 199 من هذا البحث.

2 ديوانه/ 111.

3 الأغاني 18/ 214.

4 المفضليات/ 15 - النغاق: الذي يصيح في إثر الطرائد. والحقف: المجتمع من الرمل. النامون: الذين يرتفعون إليه ويدوسونه. وحدأة النامون أي داسوه وصلبوه بدوسهم إياه وصعودهم عليه. الثلة: القطعة من الغنم. والبهم: أولاد الشاء. والأرباق: جمع ربق وهو حبل يجعل منه مثل الحلق تشد فيه البهم. ويقال في شرح البيتين أيضا إنه يصف بهما فرسه. وعلى كلا المعنيين فالفكرة التي نقررها هنا واحدة.

ص: 306

عليه شيئا من الغرابة والبراعة فيقلبه، فإذا صوت الرعد كأنه زئير الأسد:

كأن خوات الرعد رز زئيره

من اللاء يسكن الغريف بعثرا1

ولعل أطرف الصور التي رسمها الشعراء الصعاليك مستخدمين أصباغ هذا المنبع تلك الصورة التي رسمها الشنفرى لصاحبته في قصيدته التائية المشهورة، وهي صورة حشد لها الشنفرى مجموعة من الألوان المتناسقة الزاهية، وأجاد مزجها وعرضها إجادة رائعة، فصاحبته طيبة الرائحة تملأ البيت عطرا، كأن البيت أغلق على ريحانة مطلولة، سرت إليها نسمات باردة في وقت العشاء، فجاءت بأريجها المعطر، وهذه الريحانة نبتت في ربوة فهي لهذا قوية الرائحة، ثم هي ريحانة ناضجة قد خرج نورها، وانتشر عطرها في كل جانب، ثم هي فوق ذلك كله في بقعة خصبة كل ما حولها خصب غير مجدب:

فبتنا كأن البيت حجر فوقنا

بريحانه ريحت عشاء وطلت

بريحانه من بطن حلية نورت

لها أرج، ما حولها غير مسنت2

على هذا النحو استغل الشعراء الصعاليك هذه المنابع الثلاثة في تأليف أصباغهم التي استخدموها في رسم لوحاتهم التشبيهية.

1 ديوانه/ 56.

2 المفضليات/ 202 - ريحت: أصابتها ريح فجاءت بنسيمها. وطلت: أصابها الطل. والمسنت: المجدب.

ص: 307