المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الشعر داخل دائرة الصعلكة - الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي

[يوسف خليف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الباب الأول: الصعاليك

- ‌الفصل الأول: التعريف بالصعلكة

- ‌في اللغة

- ‌الفصل الثاني: التفسير الجغرافي لظاهرة الصعلكة

- ‌ أهمية العامل الجغرافي:

- ‌ جزيرة العرب:

- ‌ التضاد الجغرافي وأثره في نشأة حركة الصعاليك:

- ‌ التضاد الجغرافي وأثره في توجيه حركات الصعاليك:

- ‌الفصل الثالث: التفسير الاجتماعي لظاهرة الصعلكة

- ‌ القبيلة:

- ‌ إيمان القبيلة بوحدتها:

- ‌ إيمان القبيلة بجنسها:

- ‌ الصعاليك والمجتمع القبلي:

- ‌الفصل الرابع: التفسير الاقتصادي لظاهرة الصعلكة

- ‌ العرب والتجارة:

- ‌ الطرق التجارية:

- ‌ الأسواق:

- ‌ الصراع الاقتصادي في المدن التجارية:

- ‌ الصراع الاقتصادي في البادية:

- ‌الباب الثاني: شعر الصعاليك

- ‌الفصل الأول: ديوان الصعاليك

- ‌مصادره

- ‌ مادته:

- ‌الفصل الثاني: موضوعات شعر الصعاليك

- ‌ الشعر داخل دائرة الصعلكة

- ‌ الشعر خارج دائرة الصعلكة:

- ‌الفصل الثالث: الظواهر الفنية في شعر الصعاليك

- ‌ شعر مقطوعات:

- ‌ الوحدة الموضوعية:

- ‌التخلص من المقدمات الطلية

- ‌ عدم الحرص على التصريع:

- ‌ التحلل من الشخصية القبلية:

- ‌ القصصية:

- ‌ الواقعية:

- ‌ السرعة الفنية:

- ‌ آثار من الصنعة المتأنية:

- ‌ الخصائص اللغوية:

- ‌ ظواهر عروضية:

- ‌الفصل الرابع: شخصيتان متميزتان

- ‌ تشابه وتميز:

- ‌ عروة بن الورد:

- ‌الشَّنْرَي

- ‌الخاتمة:

- ‌ الصعاليك:

- ‌ شعر الصعاليك:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ الشعر داخل دائرة الصعلكة

‌الفصل الثاني: موضوعات شعر الصعاليك

1-

‌ الشعر داخل دائرة الصعلكة

أحاديث المغامرات:

من الطبيعي -ما دامت حياة صعاليك العرب قد اتخذت شعارها "الغزو والإغارة للسلب والنهب"- أن يكون أكبر ما يُعنى به شعراؤهم أحاديث مغامراتهم؛ لأن هذه المغامرات هي "الحرفة" التي قامت عليها حياتهم، والأسلوب الذي انتهجوه فيها لتحقيق غاياتهم. وهم يتحدثون عن هذه المغامرات حديث المؤمن بقيمتها في حياته، المعجب بها، الفخور ببطولته فيها، أو بمقدرته على النجاة من أخطارها وقد ضاقت في وجهه سبل النجاة.

وهم يصفون كل ما يحدث في هذه المغامرات، منذ أن تأخذ جماعة الصعاليك في وضع خطتها، إلى أن تنتهي الغارة، ويعود فتيان الصعاليك بأسلابهم بعد أن نفذوا خطتهم، وحققوا أهدافهم، وهم يصفون، في أثناء ذلك، الطريق الذي سلكوه، ويتحدثون عن رفاق الغارة، ودور كل واحد فيها، وكيف نفذوا خطتهم، وكيف كانت آثارها في أعدائهم، وكيف انتهت الغارة وعاد فتيان الصعاليك إلى قواعدهم سالمين بعد أن قتلوا وسلبوا ونهبوا.

فهذا الشنفرى يخرج في عدة من فهم1 فيهم عامر بن الأخنس وتأبط شرا والمسيب وعمرو بن براقة ومرة بن خليف يقصدون العوص، وهم حي من بجيلة، فلما انتهوا من الغارة، وأخذوا طريق العودة، اعترضت لهم خثعم،

1 الأغاني 18/ 215، 216، وديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية/ 32.

ص: 182

ودارت بينهم معركة انتهت بانتصار الصعاليك، فإذا ما انتهت المعركة فرغ الشنفرى إلى فنه يحدثنا عنها حديثا رائعا فيه دقة وتفصيل، يبدأ منذ أن أعلن امرأته أنه خارج لها، غير مبال بحياته أو حريص عليها، وفيم المبالاة أو الحرص وهو يعلم أن أجله لا بد آت في يوم من الأيام:

دعيني وقولي بعد ما شئت إنني

سيغدَى بنعشي مرة فأغيب

وهو لا يطيل في هذا الحديث لأنه في لهفة إلى أن يدرك رفاقه، والموقف لا يحتمل ريثا ولا إبطاء، فليترك امرأته بعد هذا القول الفاصل "دعيني وقولي بعد ما شئت"، وبعد هذه الحجة القاطعة "إنني سيغدى بنعشي مرة فأغيب"، وليسرع إلى رفاقه في لهفة شديدة، يمثلها انتقاله السريع من هذا الحديث إلى حديثه عن خروجهم في مغامرتهم. وهو يذكر لنا أنهم كانوا ثمانية، وأنهم خرجوا جميعا مسرعين، لم يعهدوا إلى أحد بالقيام على شئونهم، ولم يوصوا أحد بأهلهم، وهم جميعا فتيان كأنهم الذئاب، وجوههم مشرقة لا تبدو عليها مظاهر جزع أو خوف:

خرجنا فلم نعهد وقلت وصاتنا

ثمانية ما بعدها متعتب

سراحين فتيان كأن وجوههم

مصابيح أو لون الماء مذهب1

ثم هاهم أولاء في طريقهم إلى هدفهم مسرعين، لا يعرجون على شيء حتى على الماء، على شدة حاجتهم إليه، وعلى علمهم أن الزاد ظن مغيب، ثم هاهم أولاء بعد ثلاثة أيام على أقدامهم يصلون إلى هدفهم يتقدمهم دليل خفيف فارع شجاع:

نمر برهو الماء صفحا وقد طوت

ثمائلنا، والزاد ظن مغيب

ثلاثا على الأقدام حتى سما بنا

على العوص شعشاع من القوم محرب2

1 الذي هنا رواية الأغاني، وفي الديوان "مستعتب" مكان "متعتب". والسراحين: الذئاب.

2 الرهو: مستنقع الماء. الثمائل جمع ثميلة وهي سقاء الماء. الشعشاع: الطويل الخفيف. المحرب: الشديد الحرب الشجاع.

ص: 183

ثم يصور المعركة التي دارت قبيل الفجر، في ظلام الهزيل الأخير من الليل، وقد تنبه لهم الحي الذي يهاجمونه، فعلت صيحاتهم، واختلطت بصيحات الصعاليك. ودارت المعركة وقام كل من الصعاليك بدوره فيها في بطولة وشجاعة: أما تأبط شرا فقد بدأ هجومه السريع بسيفه الذي يهتز في يده لسرعة ضرباته، وأما المسيب فقد أعمل فيهم سيفه في تصميم لا يلين، وأما الشنفرى فقد وقف للدفاع هو وجماعة من فتيان الصعاليك، وثبتوا في موقفهم، حتى انجلت المعركة عن انتصار الصعاليك بعد أن قتلوا جماعة من أعدائهم وسلبوهم، أما سائرهم -على كثرتهم- فقد انتابهم فزع شديد، حتى خيل إليهم أن كل مرتفع من الأرض يصب عليهم كل الصعاليك الثمانية:

فثاروا إلينا في السواد فهجهجوا

وصوت فينا بالصباح المثوب

فشن عليهم هزة السيف ثابت

وصمم فيهم بالحسام المسيب

وظلت بفتيان معي أتقيهم

بهن قليلا ساعة ثم خيبوا

وقد خر منهم راجلان وفارس

كمي صرعناه وخوم مسلب

يشن إليه كل ريع وقلعة

ثمانية، والقوم رجل ومقنب1

وهنا، وقد انتهى الشاعر من تصوير هذه الغارة الناجحة، لم يعد أمامه هو أصحابه إلا أن يسرعوا عائدين إلى قواعدهم سالمين، ليحدثوا قومهم الصعاليك في فخر واعتزاز بما قاموا به من بطولة:

فلما رآنا قومنا قيل أفلحوا

فقلنا اسألوا عن قائل لا يكذب

وهذا السليك يخرج مع رفيقين له يريدون الغارة "في عشية فيها ضباب ومطر"، حتى يأتوا بيتا "قد انفردت من البيوت"، ويأبى السليك إلا أن يكون بطل هذه الغارة، فيخلف صاحبيه وراءه، ويتربص هو بمفرده، حتى

1 هجهجوا: صاحوا. المثوب: الداعي المكرر الدعاء. الوخوم: الثقيل. الربع: المرتفع من الأرض. الرجل: الجماعة على أرجلهم. المقنب: الجماعة على الخيل - وقد خالفنا الأستاذ الميمني في شرحه للبيت الأخير "انظر الطرائف الأدبية/ 32".

ص: 184

إذا خرج رب البيت بإبله ليعشيها تبعه السليك، حتى إذا ما أخذت الشيخ سنة من النوم وقد غطى وجهه بثوبه من البرد حانت الفرصة للسليك، فاستله من ردائه فضربه فأطار رأسه، وصاح بالإبل فطردها إلى حيث ينتظره صاحباه، فطرداها معه1، حتى إذا ما اطمأنوا فرغ السليك لفنه مسجلا هذه المغامرة في هذه المقطوعة الرائعة:

وعاشية راحت بطانا ذعرتها

بسوط قتيل وسطها يتسيف2

كأن عليه لون برد محبر

إذا ما أتاه صارم يتلهف3

فبات له أهل خلاء فناؤهم

ومرت بهم طير فلم يتعيفوا4

وباتوا يظنون الظنون، وصحبتي

إذا ما علوا نشزا أهلوا وأوجفوا5

وما نلتها حتى تصعلكت حقبة

وكدت لأسباب المنية أعرف6

وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني

إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف7

فالشاعر الصعلوك هنا يبدأ مقطوعته من حيث انتهت مهمته الخطرة، فهو لا يذكر شيئا عن خروجه للغارة ولا عن تربصه لها، وإنما يبدأ بذكر طرده الإبل بعد أن قتل صاحبها، كأنما هو فرح بتلك الغنيمة التي أنقذته من الجوع والإشراف على الهلاك، فهو لا يرى إلا تلك الإبل التي نهبها، ثم ينتقل إلى موازنة طريفة بين طرفي الصراع: بين أصحابه الصعاليك وأهل ذلك الشيخ القتيل، أما هؤلاء فقد خلا فناؤهم من إبلهم، ولكنهم مطمئنون حتى إنهم لم يتعيفوا الطير التي مرت بهم؛ لأن خبر الغارة لما يبلغهم بعد، وأما أولئك

1 الأغاني 18/ 134، 135، والميداني: مجمع الأمثال 1/ 399.

2 هذه رواية الأغاني، وفي مجمع الأمثال "وعاشية روح بطان"، و"بصوت قتيل". والعاشية: الإبل ترعى ليلا. ويتسيف: يضرف بالسيف.

3 هذه رواية الأغاني، وفي مجمع الأمثال "صارخ" مكان "صارم"، وفيه أيضا "متلهف". ويريد بقوله "لون برد محبر" طرائق الدم على القتيل.

4 هذه رواية الأغاني، وفي مجمع الأمثال "لها" مكان "له".

5 كذا في المصدرين. النشز: المكان المرتفع. أهل: صاح ورفع صوته. أوجفوا: حملوا الإبل على الوجيف وهو ضرب من السير.

6 كذا في المصدرين.

7 هذه رواية الأغاني، وفي مجمع الأمثال "يغشاني". أسدف أي أظلم بصره من شدة الجوع.

ص: 185

فقد نجوا بغنيمتهم فوق طريق جبلي وعر، وهم يصيحون صيحة الفرح والفوز، ويحثون الإبل المنهوبة على الإسراع بينما أهل الشيخ يفكرون أين استقر به وبإبله المقام؟ وماذا أخره حتى تلك الساعة من الليل؟ وفي هذه الغمرة من الفرح لا ينسى السليك أن يبرر غارته، فهو لم يقدم عليها إلا بعد أن أصبحت المسألة مسألة حياة أو موت، فقد أشرف على الهلاك لشدة فقره وجوعه، حتى ليصيبه الدوار كما قام لفرط ضعفه وإعيائه، وتظلم عيناه لشدة هزاله وإجهاده.

وهذا تأبط شرا يحدثنا في مقطوعة له1 عن مغامرة طريفة من مغامراته، خرج فيها إلى غار في بلاد هذيل، أعدائه الألداء، ليشتار عسلا، وعلمت هذيل بخبره، فوجدوا الفرصة سانحة ليتخلصوا منه، فحاصروه في الغار وطلبوا إليه التسليم، ولكنه راح يراوغهم وقد أخذ "يُسيل العسل على فم الغار، ثم عمد إلى زق فشده على صدره، ثم لصق بالعسل، ولم يزل يزلق حتى جاء سليما إلى أسفل الجبل، فنهض وفاتهم".

يبدأ الشاعر الصعلوك قصيدته بأبيات في الحكمة يودعها خلاصة تجربته التي مر بها، فالشخص الحازم هو الذي يستعين بالحيلة في مواطن الخطر، لينجو بها منه، وهو الذي يعمل للأمر حسابه قبل أن يأخذه على غرة، وعلى المرء أن يكون مرنا في تصرفاته إذا ما سدت منافذ الأمر عليه:

إذ المرء لم يحتل وقد جد جده

أضاع وقاسى أمره وهو مدبر

ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا

به الخطب إلا وهو للقصد مبصر

فذاك قريع الدهر ما عاش حول

إذا سُد منه منخر جاش منخر2

1 التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 1/ 38 وما بعدها، والبغدادي: خزانة الأدب 3/ 357 وما بعدها، والعيني: شرح الشواهد الكبرى "على هامش الخزانة" 2/ 165-170، وفي الأغاني 18/ 215 مع اختلاف في ترتيب الأبيات عن سائر المصادر الأولى، ومع انفراده بزيادة بيت على آخر القصيدة، وقد آثرنا رواية المصادر الأولى لأنها أدق في التعبير عن نفسية الشاعر.

2 قريع الدهر: يريد به المجرب البصير. وقوله: "إذا سد منه منخر" المراد به إذا ضاقت عليه الأمور، وسدت المسالك.

ص: 186

فإذا ما انتهى الشاعر من هذا "الدرس النظري" انتقل إلى "التطبيق العملي"، يبدأ به منذ أن تحرجت أموره حين حاصرته لحيان1، وينقل لنا ظرفا من حواره معهم، ذلك الحوار الذي أراد أن يخدعهم به حتى يفرغ من إعداد وسيلته للنجاة:

أقول للحيان وقد صفرت لهم

وطابي، ويومي ضيق الحجر معور2

هما خطتا إما إسار ومنة

وإما دم، والقتل بالحر أجدر

وأخرى أُصادي النفس عنها وإنها

لمورد حزم إن فعلت ومصدر

ولا يكاد الشاعر يفرغ من تهيئة وسيلة نجاته حتى يسارع إلى تنفيذها، فإذا هو يفرش لها صدره في براعة تساعده عليها ضخامة صدره ودقة متنه، حتى نجا من الموت الذي وقف ينظر إليه خزيان، ثم إذا هو في قبيلته وقد عاد إليهم بعد أن كاد يهلك:

فرشت لها صدري فزل عن الصفا

به جؤجؤ عبل ومتن مخصر3

فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا

به كدحة، والموت خزيان ينظر

فأبت إلى فهم ولم أك آيبا

وكم مثلها فارقتها وهي تصفر4

شعر المراقب:

كما تحدث الشعراء الصعاليك عن مغامراتهم، تحدثوا أيضا عن تربصهم بأعدائهم، وترصدهم لضحاياهم، وارتقابهم الفرصة الملائمة لمهاجمتهم، فوق المرتفعات العالية التي يشرفون منها على الطريق بحيث يرون الناس ولا يرونهم، والتي كانوا يسمونها "المراقب". وتكثر في شعر الصعاليك هذه الأحاديث

1 لحيان: بطن من هذيل.

2 الوطاب: جمع وطب وهو سقاء اللبن. وصفرت: خلت. والمراد بقوله "صفرت لهم وطابي" أن نفسه أشرفت على الهلاك بسببهم. والمعور: الذي انكشفت عورته للعدو فهو مكشوف غير محصن. والمراد بقوله "ويومي ضيق الحجر معور" أنه في مركز حرج ضيق المنافذ.

3 الصفا: الصخر. والجؤجؤ: الصدر. والعيل: الضخم.

4 فهم: قبيلته. وقوله "وهي تصفر" المراد به أنها تلغط في أمره، وتكثر القول في شأنه، أو المراد أنها تتأسف على إفلاته منها.

ص: 187

التي يصح أن نطلق عليها "شعر المراقب".

والمرقبة التي يتربص فوقها الشاعر الصعلوك دائما منيعة أبية على سواه، وأكثر ما يتحدثون عن تربصهم فوقها والليل مقبل يغشى الكون بدياجيه الكثيفة، ليكون هذا أمعن في التخفي، وأقرب إلى مواتاة الفرصة، وأدل على جرأتهم وقوة قلوبهم، و"الليل أخفى للويل" كما يقول العرب في أمثالهم1، و"الصعاليك نومهم قليل" كما يقول الشاعر الصعلوك عمرو بن براقة2.

ويرسم الشنفرى في قصيدة من شعره لوحة رائعة لمرقبة منيعة عالية يعجز دونها الصياد الماهر الخفيف الذي يخرج بكلابه المضراة للصيد، ويصف كيف صعد إليها وقد أقبل الليل بظلامه الحالك الشديد الذي يلف الكون، وكيف قضى الليل فوقها متربصا، محدبا على ذراعيه مبالغة في تخفيه كما يتطوى الأفعوان المتكسر، ولا شيء معه سوى نعلين باليتين، وثياب أخلاق، ثم أصحابه الذين لا يفارقونه، سيفه وقوسه وسهامه:

ومرقبة عيطاء يقصر دونها

أخو الضروة الرجل الخفيف المشفف

نميت إلى أعلى ذراها وقد دنا

من الليل ملتف الحديقة أسدف

فبت على حد الذراعين محدبا

كما يتطوى الأرقش المتقصف

قليل جهازي غير نعلين أسحقت

صدورهما مخصورة لا تخصف

وملحفة درس وجرد ملاءة

إذا أنجمت من جانب لا تكفف3

1 الميداني: مجمع الأمثال 2/ 120.

2 الأغاني 21/ 175.

3 الأغاني 21/ 140، 141. وديوانه في الطرائف الأدبية/ 37. وديوانه المصور لوحة رقم 50. ورواية الأبيات في المصدرين الأخيرين مضطربة يكثر فيها التحريف، ولذا آثرنا رواية الأغاني - العيطاء: العالية المرتفعة، أو الأبية الممتنعة. أخو الضروة: الصياد معه كلاب ضراها للصيد. الرجل بسكون الجيم وفتح الراء كالرجل بضمهما. المشفف: النحيل. الأسدف: المظلم. محدبا: من أحدب إذا انحنى. أسحقت: بليت. الملحفة: ما يلبس فوق الثياب من دثار البرد ونحوه. الدرس بكسر الدال: الثوب الخلق، ومثله الجرد بفتح الجيم. أنجمت: ظهرت وطلعت. كف الثوب: خاط حاشيته.

ص: 188

فإذا ما قتل الشنفرى، ووقف تأبط شرا يرثيه، لم ينس تلك المراقب الشماء التي طالما ربض فوقها في انتظار فرائسه، فرائس الغزو وفرائس الثأر:

ومرقبة شماء أقعيت فوقها

ليغم غاز أو ليدرك ثائر1

وأما عند تأبط شرا فالمرقبة ذات صورة طريفة، إنها مرقبة تعلو سائر المراقب، وهي -إلى جانب هذا- معقدة ذات تجاعيد كأنها عجوز شمطاء عليها ثياب بالية، ولكنه -مع ذلك- ما إن ينتصف الليل حتى ينهض إليها ليبدأ في تنفيذ خططه:

ومرقبة يا أم عمرو طمرة

مذبذبة فوق المراقب عيطل

نهضت إليها من جثوم كأنها

عجوز عليها هدمل ذات خيعل2

وأما ذو الكلب فالمرقبة التي يتربص فوقها بعيدة واسعة عالية ملساء، وهو متربص فوق حرفها طول يومه يخفي شخصه، حتى إذا حانت الفرصة تحدر فوقها وهو ما يزال متخفيا كما يتحدر الماء الصافي:

ومرقبة يحار الطرف فيها

تزل الطير مشرفة القذال

أقمت بريدها يوما طويلا

ولم أشرف بها مثل الخيال

ولم يشخص بها شرفي ولكن

دنوت تحدر الماء الزلال3

وأما أبو خراش فالصورة التي يرسمها لمرقبته أشمل وأكثر تفصيلا، فهي مرقبة في نتوء مشرف من الجبل كأنه حد الفأس، يشرف على طريق ضيق كأنه النفق، يتسرب فيه الناس بعضهم في إثر بعض، وقد أقيم فوق هذا النتوء عرش يستظل المتربص تحته ويختفي فيه، ولكن هذا العرش قديم متهدم لم يبق منه إلا عودان أحدهما قائم والآخر ملقى على الأرض:

1 ديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية/ 28.

2 لسان العرب، مادة "هدمل"، ومادة "جثم". ويروى البيت الثاني أيضا في أمالي القالي 1/ 38 - الطمرة: المرتفعة. العيطل: الطويلة. الهدمل: الثوب الخلق. الخيعل: ثوب من ثياب النساء كالقميص، أو هو قميص لا كمين له.

3 شرح أشعار الهذليين 1/ 237 - القذال: الرأس، يريد به رأس المرقبة. الريد: الحرف يندر من الجبل، ومعنى البيت الثاني أنه أقام بها منكبا ولم يقم مشرفا.

ص: 189

لست لمرة إن لم أوف مرقبة

يبدو لي الحرف منها والمقاضيب

في ذات ريد كذلق الفأس مشرفة

طريقها سرب بالناس دعبوب

لم يبق من عرشها إلا دعامتها

جذلان: منهدم منها ومنصوب1

ولكن أبا خراش يختلف هنا عن زملائه شعراء المراقب، فهو لم يكن وحيدا فوق مرقبته، وإنما كان معه صاحب له، وهو معني بصاحبه أكثر من عنايته بنفسه، فهو صاحب حذر قوي النفس لم يرض لها أن يكون عبدا راعيا، وإنما آثر أن يكون صعلوكا عاملا، يتربص فوق المراقب في سواد الليل، رافضا تلك الراحة البغيضة التي ينعم بها الضعفاء الذين لا خير فيهم، ممن يؤثرون النوم والدفء على العمل والكفاح:

بصاحب لا تنال الدهر غرته

إذا افتلى الهدف القن المعازيب

بغثته بسواد الليل يرقبني

إذ آثر النوم والدفء المناجيب2

ويمضي أبو خراش بعد ذلك مضيفا إلى صورة صاحبه خطين آخرين، فهو قائم فوق هذه المرقبة كأنه السهم، ثم هو سمح النفس على نحافته وقلة لحمه:

يظل في رأسها كأنه زلم

من القداح به ضرس وتعقيب

سمح من القوم عريان أشاجعه

خف النواشر منه والظنابيب3

1 ديوان الهذليين 2/ 159، 160 - أوفى: أشرف. الحرف من الجبل: أعلاه المحدد، وقد رجحنا من قبل أنها هنا تحريف صوابه "الحرث" بمعنى النبات، بدليل "المقاضيب" التي تأتي بعدها، وهي الأرض تنبت النبات الرطب. ذلق الفأس: حدها. السرب: الشائع الذي يتسرب فيه الناس بعضهم في إثر بعض. الدعبوب: الموطوء. الجذل: العود.

2 ديوان الهذليين 2/ 160 - افتلى الهدف أي فلاه من أهله، أي عزله وفصله. الهدف: الثقيل الوخم من الرجال. القن: الذي أبوه عبد وأمه أمة. المعازيب: الإبل والشاء التي تعزب عن أهلها في المرعى. يريد بصاحب ليس براع تبعده إبله وشاؤه عن أهله. المناجيب: الضعفاء الذين لا خير فيهم.

3 المصدر السابق/ 161 - الزلم بفتح الزاي وضمها: القدح لا ريش عليه. الضرس: تأثير العض. عريان أشاجعه يعني ليس بكثير اللحم. النواشر: عصب ظهر الكف. الظنابيب: عظام الساق أو حرفها.

ص: 190

وأما صخر الغي -وإن لم يرد فيما بين أيدينا من شعره حديث عن المراقب- فإن حديثها قد ورد عنه في رثاء شاعر هذلي له هو أبو المثلم، حيث يصفه بأنه "رباء مرقبة"1

وأما عروة فصفة الزعامة لا تفارقه، فهو لا يقف ربيئا لأصحابه، وإنما يبعث أحدهم ليرقب لهم الطريق فوق المرتفعات، وهو يرسم في بعض شعره صورة لهذا الربيء، وقد وقف فوق مرقبة ثابتا لا يتحرك كأنما غرس فوقها، ولكن عينيه لا تستقران، فهو يقلبهما دائما في الفضاء الذي يحيط بهم، حيث أناخوا إبلهم، وأوقدوا مواقدهم يهيئون لأنفسهم طعاما:

إذا ما هبطنا منهلا في مخوفة

بعثنا ربيئا في المرابئ كالجذل

يقلب في الأرض الفضاء بطرفه

وهن مناخات ومرجلنا يغلي2

التوعد والتهديد:

كما تحدث الشعراء الصعاليك عن التربص والترصد تحدثوا عن التوعد والتهديد، حتى يجمعوا بين ركني الجريمة القانونيين: التربص وسبق الإصرار!

وأكثر من يتوعدهم الشنفرى بنو سلامان، أولئك الذين أشربت نفسه بغضهم، والذين كانوا السبب المباشر لتصعلكه، والذين عاهد نفسه ليقتلن منهم مائة بما اعتبدوه3. وهو يتوعدهم في شعره توعدا عنيفا، فيعلن لهم أنه -ما لم يحل الموت بينه وبينهم- لن يكف عن غزوهم، فالمسألة عنده مفروغ منها، وكل ما يرجوه أن يمد الله في أجله حتى يشفي غليله منهم حين يلاقيهم في عقر دارهم:

فإلا تزرني حتفتي أو تلاقني

أمش بدهو أو عداف بنورا

أمشي بأطراف الحماط، وتارة

ينفض رجلي بسيطا فعصنصرا

أبغي بني صعب بن مر بدارهم

وسوف ألاقيهم إن الله أخرا

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 34.

2 ديوانه/ 111، 112 - الجذل هنا جذع الشجرة.

3 انظر الأغاني 21/ 134.

ص: 191

ويوما بذات الرأس أو بطن منجل

هنالك نبغي القاصي المتغورا1

وهو إذا كان يتأخر عن غزوهم أحيانا فليس هذا دليلا على أنه قد كف عنهم، وإنما هو يمهلهم إلى حين، وهو واثق من قدرته على غزوهم، فهو يعرفهم وهم يعرفونه، وأحب شيء إليه أن يُغير عليهم، وأن يقطع الطريق على سادتهم، وهو الخبير بطرق الصحراء ومسالكها، القدير على الاهتداء في مجاهلها:

كأن قد، فا يغررك مني تمكثي

سلكت طريقا بين يربغ فالسرد

وإني زعيم أن ألف عجاجتي

على ذي كساء من سلامان أو برد

وأمشي لدى العصداء أبغي سراتهم

وأسلك خلا بين أرفاغ والسرد

هم عرفوني ناشئا ذا مخيلة

أمشي خلال الدار كالأسد الورد

كأني إذا لم أمس في دار خالد

بتيماء لا أهدَى سبيلا ولا أهدِي2

أما عمرو ذو الكلب فيعلن أعداءه بأن الصراع بينه وبينهم سيكون مريرا لا رحمة فيه، الويل فيه للمغلوب، وينذرهم بأنه لن يرحمهم إذا ظفر بهم، كما أنه لا يريد منهم رحمة إذا هم ظفروا به، فليكن الصراع بينه وبينهم عنيفا، وليغزهم برفاقه الصعاليك الشجعان الذين يختلف عددهم بين الواحد والجماعة، وهو -فوق ذلك كله- يتوعدهم بأنه لن يكف عن غزوهم حتى يقتلهم ويرمل نساءهم:

فإن أثقفتموني فاقتلوني

وإن أثقف فسوف ترون بالي

فأبرح غازيا أهدى رعيلا

أؤم سواد طود ذي نجال

ويبرح واحد واثنان صحبي

ويوما في أضاميم الرجال

1 ديوانه في الطرائف الأدبية/ 35، 36. والأغاني 21/ 135. وديوانه المصور، لوحة رقم 10، 11. مع اختلاف في الألفاظ والترتيب - دهو أو رهو، وعداف، وبنور، وبسيط، وعصنصر: أسماء جبال. الحماط: شجر يشبه شجر التين. بنو صعب بن مر هم إخوة سلامان. ذات الرس وبطن منجل: موضعان.

2 ديوانه في الطرائف الأدبية/ 34. والأغاني 21/ 135. والبكري: معجم ما استعجم 1/ 139. يربغ: موضع بين عمان والبحرين. السرد وأرفاغ: جبلان لبني سلامان، وبهما منازلهم. العصداء: أرض لبني سلامان. الخل: الطريق ينفذ في الرمل، أو النافذ بين رملتين، أو النافذ في الرمل المتراكم.

ص: 192

بفتيان عمارط من هذيل

هم ينفون آناس الحلال

وأبرح في طوال الدهر حتى

أقيم نساء بجلة بالنعال1

وأما تأبط شرا فقد كان أوسع ميدانا من ذي الكلب، فإنه لا يقنع بغير غزو خثعم وبجيلة وثمالة وهذيل، وهو يرد الفضل في هذا كله إلى قدميه اللتين أودع الله فيهما عذابا وشرا يصبهما عليهم:

أرى قدمي وقعهما خفيف

كتحليل الظليم حذا رئاله

أرى بهما عذابا كل يوم

لخثعم أو بجيلة أو ثمالة

وشرا كان صب على هذيل

إذا علقت حبالهم حباله2

وهو لا يترك دم صديقه دون أن يثأر له، وإنما يهدد بالانتقام الشنيع، يقتل في الرجال، ويسبي النساء، فأكبر همه كما يقول "دم الثأر أو يلقى كميا مسفعا"3، غاية ما في الأمر أن يحترم تقاليد مجتمعه الدينية، فيؤخر انتقامه حتى تنتهي الأشهر الحرم:

فعدوا شهور الحرم ثم تعرفوا

قتيل أناس أو فتاة تعانق4

وهو في هذا الاحترام لمقدسات مجتمعه يخالف تلميذه الشنفرى الذي يُصرح في بعض شعره بأنه قتل قتيلا في أيام حجة وسط الحجيج المصوت بمنى:

قتلنا قتيلا مهديا بملبد

جمار منى وسط الحجيج المصوت5

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 233، 234 - أثقفه: ظفر به. البال في البيت الأول معناه الحال. قوله "فأبرح غازيا" يريد به فلا أبرح. الرعيل: الجماعة المتقدمة. النجال: ما يخرج من الأرض. الأضاميم: الجماعات، واحدها إضمامة. العمارط: الصعاليك. الحلال: جمع حلة، والمعنى أنهم يمرون بأصحابها فيهربون من خوفهم. بجلة: قبيلة.

2 الأغاني 18/ 218، وأيضا/ 216 - التحليل: العدو. الرئال: جمع رأل وهو ولد النعام. حذا: حاذى.

3 حماسة أبي تمام 1/ 46. والأغاني 18/ 217 وفيه "مقنعا" مكان "مسفعا".

4 الأغاني 18/ 214. الحرم: الإحرام. ويريد بقوله "فتاة تعانق" سبية تقع في أسره.

5 المفضليات/ 205. والأغاني 21/ 140 وفيه "محلهما بين الحجيج". وأيضا/ 137=

ص: 193

ومن أطرف ما نصادفه في هذا الباب توعد الصعلوك للصعلوك، وتأتي طرافته من أنه يمثل صراعا بين قوتين متكافئتين، ومن هنا كان حرص كل منهما على تجنب الاصطدام بالآخر من أخص ميزات هذا اللون من التوعد، ولكن هذا الحرص ليس جبنا، وإنما هو محاولة لتفادي الكارثة، ولهذا كان حديث الشاعر الصعلوك عن حرصه هذا مقرونا عادة بحديثه عن قوته، ومقدرته على التغلب على خصمه إذ إن أي ضعف يبدو منه في هذا الحديث قد يكون سببا في أن يدفع حياته ثمنا له، ولهذا كله كان توعد الصعلوك للصعلوك في شعر الصعاليك قليلا جدا، ولعل أصدق مثال لهذه "الحرب الباردة" بين الشعراء الصعاليك توعد صخر الغي الهذلي لتأبط شرا، أو ابن ترنى كما كان يلقبه، فهو في قصيدة له يصفه أولا بأنه يعاني صراعا نفسيا، سببه حقده عليه وعجزه عنه، ثم ينصحه ثانيا بأن يخفف من حدة هذا الصراع النفسي، ولكنه يحذره من أن يجعل وسيلته إلى ذلك الاصطدام به، فإنه لو فعل للقي حتفه لا محالة، ثم يعود فيخفف قليلا من حدة أسلوبه، فيمزج العنف باللين في حديث فيه لياقة وفيه دهاء، يجعل وسيلته إليه أن يشير إلى بعض الصفات المحمودة في خصمه، ويسأله ألا يكون سببا في الإساءة إليها:

فإن ابن ترنى إذا جئتكم

أراه يدافع قولا عنيفا

قد افنى أنامله أزمه

فأمسى يعض على الوظيفا

فلا تقعدن على زخة

وتضمر في القلب وجدا وخيفا

ولا تقدمن على خطة

تكون إذن لك حتفا ذفيفا

ولا أبغينك بعد النهي

وبعد الكرامة شرا ظليفا

ولا أرفعنك رقع الصديـ

ـع لاءم فيه الصناع الكتيفا1

= وفيه "قتلت حراما" و"ببطن منى وسط الحجيج"، وهي رواية البغدادي في خزانة الأدب 2/ 18- المهدي: الذي يقدم الهدي. والملبد: المحرم الذي يأخذ صمغا فيلبد به شعره لئلا يشعث في مدة الإحرام. والمعنى: قتلنا رجلا محرما برجل محرم. وقوله "جمار منى" أي عند جمار منى. والمصوت: الملبي الذي يرفع صوته بالتلبية في الحج.

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 46، 47 - الأزم: العض. الوظيف: الذراع. الزخة:=

ص: 194

وصف الأسلحة:

ومن الطبيعي أن يتحدث الشعراء الصعاليك عن أسلحتهم، فهي القوة الثالثة التي يعتمدون عليها في مغامراتهم إلى جانب قوة قلوبهم وقوة أرجلهم، تلك القوى الثلاث التي تقوم عليها حياة الصعلوك يجمعها تأبط شرا في رثائة للشنفرى حيث يقول:

فلا يبعدن الشنفرى، وسلاحه الـ

ـحديد، وشد خطوة متواتر1

والأسلحة التي يصفها الشعراء الصعاليك هي تلك التي كان يعرفها العرب في العصر الجاهلي، سواء منها أسلحة الهجوم: السيف، والرمح، والقوس، والسهام، أو أسلحة الدفاع: الدرع، والترس، والمغفر. ويلح الشعراء الصعاليك على الحديث عن هذه الأسلحة إلحاحا شديدا، وليس في هذا غرابة؛ إذ إنها تكاد تكون كل ما يملكون في حياتهم الفقيرة، وهي من غير استخدام لأفعال المقاربة كل ما يحرصون عليه في هذه الحياة الحمراء المتمردة. وفي أبيات لعروة يذكر أنه لن يخلف لورثته بعد موته سوى درع ومغفر وسيف ورمح وجواد2، فهذا كل ما يحرص عليه في حياته، وكل ما سيظل محافظا عليه إلى آخر رمق منها حتى يرثه ورثته من بعده.

ويصرح صخر الغي في بعض شعره بأنه حريص على سلاحه لا يفرط فيه، لئلا يطمع فيه أحد من أولئك الذين يتوعدونه، ويتربصون به، من أعدائه الذين طالما وترهم، فهو يعدد سلاحه في قصيدة طويلة له ويصفه، ثم يقول عنه:

ذلك بزي فلن أفرطه

أخاف أن ينجزوا الذي وعدوا3

ويصل اعتداد الأعلم الهذلي بسلاحه إلى درجة أن يرى فيه وسيلة تنقله من

= الغيظ. الخيف: جمع خيفة. الحتف الذفيف: القاتل الذي يجهز عليه. الظليف: الشديد أو الغليظ. رقعه: أصلحه بالرقاع كرقعه "بالتشديد". الصديع: النصف من الشيء المشقوق نصفين. لاءم: أصلح. الكتيف: الضبات، يريد لا أرقعنك بالهجاء.

1 الأعاني 21/ 137. وديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية/ 29 - الشد: الجري.

2 انظر ديوانه/ 207.

3 شرح أشعار الهذليين 1/ 13 - والبز: السلاح.

ص: 195

دائرة البشرية إلى دائرة يكون فيها صنوا للموت:

متى ما تلقني ومعه سلاحي

تلاق الموت ليس له عديل1

ويصف الشعراء الصعاليك أسلحتهم المختلفة وصف المفتون بها الذي يهتم بكل أجزائها، ويحرص على أن يسجل في حديثه عنها كل شيء فيها: لونها، وشكلها، وصوتها، وطريقة صنعها، وطريقة استخدامها، وقيمتها في حياته، وفعلها في أعدائه.

فالسيف عند عمرو بن براقة "جل ماله" لا يفارق يمينه، بل هو طوع أمرها، ولكن لحمله تقاليد، فصاحبه يجب أن لا ينام الليل؛ إذ إن من تقاليد حمله أن يكون صاحبه من "أبناء الليل" الذين يرعون حق "أبوته":

وكيف ينام الليل من جل ماله

حسام كلون الملح أبيض صارم

غموض إذا عض الكريهة لم يدع

له طعما، طوع اليمين ملازم2

وهو عنده أحد أركان ثلاثة يعتمد عليها من يريد أن تجتنبه المظالم في ذلك المجتمع الذي يدين بشريعة القوة:

متى تجمع القلب الذكي وصارما

وأنفا حميا تجتنبك المظالم3

وهو عند عمرو ذي الكلب الهذلي وشاح لصدره:

نمناني وأبيض مشرفيا

وشاح الصدر أخلص بالصقال4

وصخر الغي الهذلي حريص على أن يرسم لسيفه صورة دقيقة، فهو سيف من حديد جيد أصيل، رقيق الشفرتين، يجري الفرند في متنه، ثم هو سيف منتقى، فلا عنه سيوف أريح حتى أخرجه من بينها سيف معدوم النظير، لا تقوى أشد العظام على ضربته، وإنما تتكسر تحتها قطعا:

وصارم أخلصت خشيبته

أبيض مهو في متنه ربد

1 المصدر السابق/ 63.

2 القالي: الأمالي 2/ 122، والأغاني 21/ 175، وفيه "صموت" مكان "غموض"، "مكارم" مكان "ملازم". السيف الغموض: الذي يغيب في اللحم.

3 المصدران السابقان: الأمالي الصفحة نفسها، والأغاني/ 176.

4 شرح أشعار الهذليين 1/ 235.

ص: 196

فلوت عنه سيوف أريح إذ

باء بكفي ولم أكد أجد

فهو حسام تتر ضربته

ساق المذكي فعظمها قصد1

أما تأبط شرا فيعرض علينا صورة طريفة لسيفه، فهو -إلى جانب أنه حاد ثقيل لا يفارقه حتى أبلى محمله- سيف أصيل إذا كل لا يحتاج إلى صيقل، وإنما حسبه أن يحده صاحبه على الصخر فإذا هو حاد كما كان:

فطار بقحف ابنه الجن ذو

سفاسق قد أخلق المحملا

إذا كل أمهيته بالصفا

فحد ولم أره صيقلا2

وأما الشنفرى فيهتم بأثر سيفه في أعدائه، وبالحديث عن براعته في استخدامه، فهو يقصد به أطراف سواعدهم، ليعجزهم بذلك عن العمل:

وأبيض من ماء الحديد مهند

مجذ لأطراف السواعد مقطف3

وهو حريص على أن يصور رفاقه ونفسه في غاراتهم وهم يستخدمون سيوفهم في الهجوم والدفاع حتى ينهزم أعداؤهم:

فشن عليهم هزة السيف ثابت

وصمم فيهم بالحسام المسيب

وظلت بفتيان معي أتقيهم

بهن قليلا ساعة ثم خيبوا4

ولا يعدل وصف السيف عند الشعراء الصعاليك إلا وصفهم القوس والسهام. وأكثر من اهتم بوصفها منهم الشنفرى والهذليون. ويبدو أن مرد هذه الظاهرة الفنية إلى ظواهر اجتماعية خاصة في حياتهم، فقد كان الشنفرى -كما يصوره الرواة مفتونا بسهامه، حريصا على أن تكون معلمة يعرفها الناس،

1 المصدر السابق/ 13 خشيبته: طبيعته. مهو: رقيق الشفرتين. ربد: أي لمع تخالف لونه، يريد الفرند. فلا: بحث. أريح: قرية بالشام. باء بكفي: أي صار بكفي. تتر: تبري. المذكي: المسن أو اليدين. القصد: الكسر، أو القطع فيها مخ.

2 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 176 - سفاسق السيف: طرائفه. أمهى السيف: أحده.

3 ديوانه في الطرائف الأدبية/ 38. وديوانه المصور لوحة رقم 50. والأغاني 21/ 141 وفيه "فحد لأطراف السواعد معطف". والتحريف فيه واضح.

4 الأغاني 18/ 216، وديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية /32 - لضمير في "بهن" يعود على السيوف المفهومة من السياق.

ص: 197

فكان يميزها بعلامة خاصة حتى تعرف، ويحدثنا الرواة أنه كان "يصنع النبل ويجعل أفواقهم من القرون والعظام"، فكان أعداؤه إذا رماهم "يعرفون نبله بأفواقها في قتلاهم"1، وأما الهذليون فقد عرف عنهم الرمي من بين ثلاث صفات مميزة سجلها لهم القدماء2.

وهم يصفون السهام في جميع أطوارها، منذ بريها، وتركيب الريش فيها، حتى استخدامها، في الرمي، كما يصفون نصالها وأفواقها. ويتحدث الشنفرى في بعض شعره عن سهامه وكيف يتخيرها، وكيف يركب في قداحها الريش، وكيف يتابع فيها البري حتى تصير صالحة للاستعمال، ثم يتحدث عن قيمة هذه السهام التي أعدها هدية لأعدائه الذين يبغضهم:

وردت بمأثور يمان وضالة

تخيرتها مما أريش وأرصف

أركبه في كل أحمر غاثر

وأنسج للولدان ما هو مقرف

وتابعت فيه البري حتى تركته

يرن إذا أنزفته ويزفزف

بكفي منها للبغيض عراضة

إذا بعت خلا ما له متعرف3

ويتحدث في مقطوعة أخرى عن رمية أحد أعدائه بسهم قوي لا عوج فيه، ثم يصف أجزاء هذا السهم، فهو عود من نبع عليه ريش من ريش العقاب، وله فوق كأنه عرقوب القطاة:

ومستبسل ضافي القميص ضممته

بأزرق لا نكس ولا متعوج

1 الأغاني 21/ 142 - "أفواقهم" كذا في المصدر، ومن الواضح أنه خطأ صوابه "أفواقها". وأفواق جمع فوق وهو موضع الوتر من السهم.

2 يقول الأصمعي: "إذا فاتك الهذلي أن يكون شاعرا أو ساعيا أو راميا فلا خير فيه". "المصدر السابق / 75".

3 ديوانه في الطرائف الأدبية / 38. والأغاني 21/ 141. وديوانه المصور، لوحة رقم 51. مع اختلاف في الروايات، والذي هنا رواية المصدر الأولى - المأثور: السيف. الضالة: يريد هنا السهام. الغثرة: غبرة إلى خضرة. المقوف: الداني. أنزفته: كذا في نسختي الديوان، وأظنها تحريفا صوابه ما في الأغاني "أنفذته". الزفزفة: صوت القدح حين يدار على الظفر. العراضة: الهدية. الخل: الطريق في الرمل.

ص: 198

عليه نساوي على خوط نبعة

وفوق كعرقوب القطاة مدحرج1

وأما عمرو ذو الكلب فيُعنى بوصف نصال سهامه لأنها التي يكمن في سنانها الموت، فهي حينا رماح طائرة يكسوها ريش منسول:

وثجرا كالرماح مسيرات

كسين دواخل الريش النسال2

وهي حينا آخر كأنها شوك العضاه:

وفي قعر الكنانة مرهفات

كأن ظباتها شوك السيال3

وهم يتحدثون أحيانا عن عددها، فهذا الشنفرى يصف تأبط شرا أو "أم العيال" كما كان يسميه مداعبا، ويذكر عدد سهامه التي يحملها في جعبته:

لها وفضة فيه ثلاثون سيحفا

إذا آنست أولي العدي اقشعرت4

أما حين يذكرون القوس فأشد ما يهتمون به صوتها حين ينبضون فيها، أو حين يتهيئون للرمي، فهو صوت يفتنهم فتنة شديدة تبدو في ذلك الإلحاح الشديد على تسجيله في شعرهم، وليس في هذا غرابة فإن هذا الصوت إيذان ببدء عملهم الذي وهبوا حياته له. وصوت القوس في سمع صخر الغي عندما ينبض فيها كأنه أصوات قوم يبحثون عن شيء فقدوه:

وسمحة من قسي زرارة صفـ

ـراء هتوف عدادها غرد

1 ديوانه المطبوع / 34. والأغاني 21/ 141. وديوان المصور، لوحة رقم 52. مع اختلاف في رواية البيتين - الأزرق يريد به السهم. النكس: السهم ينكسر فوقه فيجعل أعلاه أسفله. النساري: ريش النسارية وهي العقاب، ويذكر الميمني في تعليقاته على الديوان أنه لم يجدها في المعاجم، وقد ظن أنها من ريش النسر. المدحرج: المدور.

2 شرح أشعار الهذليين 1/ 235 - الثجر: جمع أثجر وهو النصل العريض الوسط. النسال: ما تساقط من الريش.

3 شرح أشعار الهذليين 1/ 235 - السيال: نبات له شوك أبيض طويل، أو ما طال من السمر.

4 المفضليات/ 204. والأغاني 21/ 140 وفيه "سلجما" و"إذا ما رأت" - الوفضة: الجعبة. السيحف: السهم العريض النصل. العدي: القوم من الرجالة. اقشعرت: تهيأت للقتال.

ص: 199

كأن إرنانها إذا ردمت

هزم بغاة في إثر ما فقدوا1

ولكنه في سمع عمرو ذي الكلب عجيج، كأنه حنين ناقة مسنة تسبقها إبل شابة فنية، فهي عاجزة عن مسايرتها وهي لهذا دائمة الحنين:

وفي الشمال سمحة من النشم

صفراء من أقواس شيبان القدم

تعج في الكف إذ الرامي اعتزم

ترنم الشارف في أخرى النعم2

وهو في سمع الشنفرى رنين وهتاف، ولكنه رنين حزين كصوت الشجي أثقلته شجونه وأحزانه:

وصفراء من نبع أبي ظهيرة

ترن كإرنان الشجي وتهتف3

ولكن هذا الصوت الحزين الخافت ينقلب عندما تأخذ السهام في الانطلاق إلى صوت نشط مدو كأنه دوي نحل عائد إلى غاره، فهو ملتف حوله مطيف به، يبحث عن منقذ إلى داخله في نشاط ودوي:

إذا طال فيها النزاع تأبى بعجسها

وترمي بذرويها بهن فتقذف

كأن حفيف النبل من فوق عجسها

عوازت نحل أخطأ الغار مطنف4

يلاحظ أن القوس عند الرمي صوتين: صوتا عند بدء الرمي، وصوتا بعد الانتهاء منه، فانطلاق السهم يبدأ بصوت عال صارخ ثم ما إن ينطلق السهم حتى يهدأ رنين القوس، ويتحول إلى صوت ضعيف خافت نتيجة لاهتزازات وترها، فهما صوتان مختلفان، أما أولهما فهو عنده صياح، وأما الآخر فأنين كأنين الجريح:

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 13. وديوان الهذليين 2/ 60 - السمحة: القوس المواتية. زارة: حي من أزد السراة. عدادها: صوتها. غرد: شديد الصوت. ردمت: أنبض فيها. الهزم: الصوت.

2 شرح أشعار الهذليين 1/ 239، 240 - النشم: شجر. الشارف: الناقة المسنة.

3 الأغاني 21/ 141. ديوانه المطبوع / 38. وديوانه المصور، لوحة رقم 50، وفيهما "وحمراء" بدلا من "وصفراء" - الظهيرة: القوية الظهر.

4 الأغاني 21/ 141. وديوان المطبوع / 38. وديوانه المصور، لوحة رقم 51، مع اختلاف في الروايات - العجس، مثلثة العين، مقبض القوس. والذروان: طرفاها. والمطنف: الذي يعلو الطنف وهو رأس الجبل.

ص: 200

وقاربت من كفي ثم فرجتها

بنزع إذا ما استكره النزع مخلج

فصاحت بكفي صيحة راجعت بها

أنين الأميم ذي الجراح المشجج1

وكما يهتم الشعراء الصعاليك بصوت القوس، يهتمون أيضا بلونها، وهي عند الهذليين في ضوء ما وصل إلينا من شعرهم صفراء دائما:

وسمحة من قسي زارة صفـ

ـراء هتوف عدادها غرد2

وصفراء البراية عود نبع

كوقف العاج في ورك حدال3

وفي الشمال سمحة من النشم

صفراء من أقواس شيبان القدم4

ولكنها عند الشنفرى أحيانا صفراء وأحيانا حمراء، ويبدو أن مرد هذا إلى دقة ملاحظة الشنفرى، وصدق تعبيره عن تجاربه، فالقوس تكون صفراء في أول أمرها، فإذا ما كثر أستعمالها وتعرضت للشمس والمطر والتقلبات الجوية صارت حمراء. يقول في تائتيه متحدثا عن أصحابه في بعض غزواته بهم:

وباضعة حمر القسي بعثتها

ومن يغز يغم مرة ويشمت5

ويقول في قصيدة أخرى:

وصفراء من نبع أبي ظهيرة

ترن كإرنان الشجي وتهتف6

ومن هنا اختلف الرواة في هذا البيت، فبعضهم يرويه "حمراء من

1 الأغاني 21/ 141، 142. وديوانه المطبوع / 34. وديوانه المصور، لوحة رقم 52، مع اختلاف في الروايات - النزع: مد القوس. مخلج: من خلج بمعنى جذب وغمز وانتزع، وفي نسختي الديوان "محلج" من حلج النداف. الأميم: المشجوج على أم رأسه.

2 انظر ص200 من هذا البحث، الهامش رقم 1.

3 شرح أشعار الهذليين 1/ 235 - الوقف: السوار. الورك: جانب القوس، ومجرى الوتر منها، والقوس المصنوعة من ورك الشجرة أي عجزها. القوس الحدال: التي مال عنقها، وتطامنت إحدى سيتيها.

4 انظر ص200 من هذا البحث، الهامش رقم 2.

5 المفضليات/ 202 - الباضعة: القاطعة، ويريد بها قوما غزاة. حمر القسي: يقول ابن الأنباري في شرحه على المفضليات / 203 "غزوا مرة بعد مرة فاحمرت قسيهم للشمس والمطر، والقسي تحمر على القدم". يشمت: يخيب ولا يغنم.

6 انظر ص200 من هذا البحث، الهامش رقم3.

ص: 201

نبع"1، ولكن من الطريف أن تأبط شرا في رثائه له يصف قوسه بأنها صفراء:

يفرج عنه غمه الروع عزمه

وصفراء مرنان وأبيض باتر2

أما وصف الصعاليك للرماح فهو قليل، ولعل السبب في هذا قلة اعتمادهم عليها في مغامراتهم، وذلك لأنها من الأسلحة التي يستخدمها الفرسان أكثر مما يستخدمها الرجالة، ومن هنا كان أشهر من تحدث عنها من الشعراء الصعاليك عروة بن الورد وهو من الصعاليك الفرسان3، وهو يرسم في رائيته المشهورة صورة رائعة له ولأصحابه، وهم على خيلهم يطاردون إبلا نهبوها، وقد أشرعوا رماحهم وسيوفهم ليدفعوا عنها أصحابها الذين خرجوا خلفهم ليستردوها:

سيفزع بعد اليأس من لا يخافنا

كواسع في أخرى السوام المنفر

نطاعن عنها أول القوم بالقنا

وبيض خفاف ذات لون مشهر4

وهي صورة تستمد روعتها من صدقها وحيويتها، فهذه الخيل القوية السريعة التي يمتطيها الفرسان الصعاليك مشغولة بمطاردة أخريات الإبل المنهوبة، أما فرسانها أنفسهم فمشغولون بمقاتلة القوات المهاجمة من أصحاب الإبل.

وقد مر بنا أن عروة ذكر رمحه من بين الأسلحة التي هي كل ما سيخلفه لورثته من بعده، وهو يذكر أنه رمح أسمر، قناته من الخطي المشهور، ثم هو رمح مقوم معتدل:

وأسمر خطي القناة مثقف

وأجرد عريان السراة طويل5

والطريف في حديث عروة عن رمحه أنه لا يذكره إلا مقترنا بجواده، كما نرى في هذين المثلين، مما يؤيد تعليلنا لقلة وصف الشعراء الصعاليك للرماح بأنها من أسلحة الفرسان

1 انظر الموضع السابق، الهامش نفسه.

2 ديوان الشنفرى المطبوع / 28. وحماسة الخالديين "مخطوطة"، ورقة رقم 417.

3 الأغاني 3/ 73.

4 ديوانه/ 83، 84.

5 انظر ص54 من هذا البحث.

ص: 202

ومع ذلك نجد عند بعض الصعاليك السرويين آثارا ضئيلة من أحاديث الرماح. يتحدث تأبط شرا، في رثائه لصاحبين له قتلا في بعض غزوهما، عن مغامراته بفتيان من الصعاليك يحملون في أيمانهم نوعين من الأسلحة، رماحا سمرا ونصالا ذات شعبتين:

لأطرد نهبا أو نرود بفتية

بأيمانهم سمر القنا والفتائق1

ويتحدث الشنفرى عن طعنه قتلة أبيه طعنة سامة تمج من حولها سم ثعبان خطر:

فإن تطعنوا الشيخ الذي لم تفوقوا

منيته، وغبت إذ لم أشهد

فطعنة خلس منكم قد تركتها

تمج على أقطاها سم أسود2

ويتحدث أبو الطمحان عن ضرب يزيل الرءوس عن الأعناق، وطعن شديد يحدث صوتا كأنه تشهاق ولد الحمار حين يهم بالنهق:

بضرب يزيل الهام عن سكناته

وطعن كتشهاق العفا هم بالنهق3

وهي جميعا -ما عدا بيت تأبط شرا- حديث عن آثار استخدام الرماح في الطعن، وليست وصفا صريحا لها.

ومن الطريف أننا لا نجد حديثا عن الرماح في شعر صعاليك هذيل، ما عدا بيتا واحدا لأبي خراش، وهو مع ذلك ليس في مقام الحديث عن

1 الأغاني 18/ 214 - النهب: الغنيمة. والفتيق: النصل له شعبتان.

2 ديوانه المطبوع / 35. وشرح ابن الأنباري على المفضليات/ 198 - لم تفوقوا: يرى الميمني في تعليقاته على الديوان أنه تحريف "ولعل صوابه لم تفوتوا من الفوت"، ويرى bevan أن صوابه "لم تعوقوا" "انظر تعليقات lyall على هذا البيت في شرح المفضليات / 198"، وعندي أن الكلمة صحيحة لا تحريف فيها، وأنها من فوق الفصيل إذا سقاء اللبن فواقا فواقا، والفواق ما بين الحلبتين من الوقت، والمفوق ما يؤخذ قليلا من مأكول ومشروب، ويكون المعنى على هذا "أنكم طعنتموه طعنة قاتلة لم تدع له فرصة للنجاة". والطعن خاص بالرماح "انظر الثعالبي: فقه اللغة/ 301".

3 لسان العرب: مادة "شهق". والسيوطي: المزهر 2/ 234، وفيه "بضرب كآذان الفراء فضوله" - السكنة: مقر الرأس من العنق. التشهاق: الشهيق. العفا: ولد الحمار.

ص: 203

استخدامه لها، وإنما في مقام تشبيه إخوته الذين يرثيهم بها1.

وكما يتحدث الشعرء الصعاليك عن أسلحة الهجوم، يتحدثون عن أسلحة الدفاع: الدرع والترس والمغفر، ولكنه حديث خافت الأنغام. وهذا طبيعي لأن الصعاليك ليسوا في حاجة إلى أسلحة للدفاع لأن سلاحهم الدفاعي الأول -أو بتعبير أدق- سلاح أكثرهم سرعة العدو الخارقة للعادة، وهو سلاح طالما استخدموه فأنجاهم. ولهذا كان طبيعيا أن يتحدث عروة عن درعه ومغفره كما نرى في أبياته التي أشرنا إليها والتي يتحدث فيها عما سيخلفه لورثته من بعده، فإن عروة كما نعرف عنه لم يكن من العدائين، ومع ذلك لم يتحدث عن هذه الأسلحة الدفاعية إلا في هذا الموضع، إلا إذا كان شعر عروة الذي بين أيدينا ليس كل شعره، وكان في شعره المفقود حديث عن هذه الأسلحة الدفاعية. ولكن الغريب حقا أن يرد ذكر هذه الأسلحة الدفاعية في شعر صعاليك هذيل، ووجه الغرابة أن الهذليين مشهورون بالعدو، فهم ليسوا في حاجة إلى هذه الأسلحة الدفاعية لأن سلاحهم معهم دائما. ومع ذلك فالمسألة لا تصل إلى درجة المشكلة لأن حديث صعاليك هذيل عن هذه الأسلحة لم يتجاوز حديثهم عن الترس فقط، وهو مع هذا حديث خافت الأنغام لا يعدو حالتين: إما إشارة سريعة له، وإما وصفا لصنعه، فصخر الغي يشير إلى ترسه، عند ذكره لمجموعة أسلحته، أو "بزه" كما يسميها، إشارة سريعة لا يتجاوز جزءا من شطر يصفه فيه بأنه مقبب موثق:

إني سينهى عني وعيدهم

بيض رهاب ومجنأ أجد2

وقد يكون عمرو ذو الكلب أشد عناية بترسه من صخر الغي، فهو يفرد له بيتا في إحدى قصائده يصفه فيه بخمس صفات: فهو أسمر، مقبب، مصنوع من جلد ثور، أصم لا خلل فيه، تصيبه النصال فترتد عنه وقد تكسرت ظباتها:

1 ديوان الهذليين 2/ 124 "البيت الأول".

2 شرح أشعار الهذليين 1/ 13 - رهاب أي رقاق. مجنأ أي مقبب. أجد أي موثق قوي.

ص: 204

وأسمر مجنأ من جلد ثور

أصم مفللا ظبة النصال1

أما أبو خراش، ثالث الصعاليك الهذليين الذين وصفوا الترس، فقد وصف ترسه بأنه موثق، مصنوع من جلد ثور، ولكن وقفته طالت عند هذه الصفة الثانية؛ إذ مضى يصف هذا الثور، وكيف نشأ في واد خصيب مطير، حتى شب قويا يطعن الثيران المتصدية له، فترتد دامية من طعناته، ضخما كأنه خيمة كبيرة:

أواقد، لا آلوك إلا مهندا

وجلد أبى عجل وثيق القبائل

غذاه من السرين أو بطن حلية

فروع الأباء في عميم السوائل

مشب إذا الثيران صدت طريقه

تصدعن عنه داميات الشواكل

يظل على البرز اليفاع كأنه

طراف رست أوتاد عند نازل2

وهكذا نستطيع أن نقرر، في ضوء ما بين أيدينا من شعر الصعاليك، أنهم بقدر ما كانوا حريصين على ذكر أسلحة الهجوم، مفتونين بوصفها، كانوا نفورين من ذكر أسلحة الدفاع، مقلين من وصفها.

الحديث عن الرفاق:

كما يتحدث الشعراء الصعاليك عن أسلحتهم التي يستخدمونها في مغامراتهم، يتحدثون عن رفاقهم الذين يرافقونهم فيها، ودور كل واحد منهم. وما أكثر ما نجد في شعرهم ألفاظ الرجل، والمنسر، والسربة، والمقنب، والفتيان، والأصحاب، والصحب، والقوم، وأمثال هذه الألفاظ التي تدل على الجماعة،

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 235.

2 ديوان الهذليين 2/ 139 - لا آلوك: أي أدع جهدا في أمرك. أبو عجل هو الثور. السرين: هي رتقة السرين بلدة على الساحل قريبة من مكة بين حلى وجدة. الأباء: القصب. العميم: ما اعتم من النبت في سوائل المطر، والسوائل الأماكن التي تسيل بالماء. المشب: الشاب من الثيران أو المسن. الشواكل: كل لحم مضطرب بين الجنب والورك. الطراف: الخيمة.

ص: 205

وما أكثر ما نجد في شعرهم استخدام ضمير الجماعة، يعبرون به عن رفاقهم لا عن قبائلهم.

وقد مر بنا في صدر هذا الفصل1 حديث الشنفرى في بائيته عن رفاقه الذين خرج معهم ليغزوا العوص، أولئك الرفاق الثمانية الذين يعتز بهم، ويملأ الإعجاب بهم نفسه، حتى ليصفهم بأنهم:

سراحين فتيان كأن وجوههم

مصابيح أو لون من الماء مذهب

ورأينا كيف وصف خروجهم معه، وسيرهم إلى العوص ثلاث ليال على الأقدام، والدور الذي قام به كل واحد منهم في الغارة، فمن مهاجم بسيفه لا يثني ولا يلين، ومن مدافع عن رفاقه يحمي ظهورهم، حتى تم لهم النصر، وعادوا بغنيمتهم إلى قومهم الصعاليك.

وفي تائيته المفضلية المشهورة يحدثنا الشنفرى أيضا عن غزوة له لبني سلامان أعدائه الألداء، بل ألد أعدائه، على رأس جماعة من رفاقة الصعاليك2، وهو يبدأ الحديث برسم صورة لرفاقه، صورة سريعة ولكنها قوية ومعبرة، فهم جماعة من الغزاة المغامرين قد احمرت قسيهم لكثيرة غزواتهم، ويقدم نفسه لنا رئيسا عليهم، يبعثهم للغزو وهو يعلم أن النصر والهزيمة أمران يتعرض لهما كل مغامر، وما احتمال الهزيمة بصارف له من المغامرة، فهذه طبيعة المغامرة، ومن يغز يغنم مرة ويشمت مرة أخرى. ثم بعد أن ينتهي من تقديم رفاقه وتقديم نفسه، يأخذ في وصف خروجهم، فيحدد أولا الموضع الذي اجتمعوا فيه بأمره تحديدا جغرافيا دقيقا، ثم يذكر الدوافع التي دفعته إلى هذه المغامرة، ثم يهون على نفسه مشقة الطريق، فستنتهي هذه المشقة باقترابه من هدفه حيث يراوح أعداءه ويغاديهم بغاراته، ثم يعود بعد هذا إلى رفاقه ليتحدث عنهم حديث طويلا، وهو يخص أحدهم -وهو تأبط شرا الذي كان يقوم على زادهم في غزواتهم، ويتولى أمر "التموين" فيها- بحديث مرح

1 انظر: ص182 من هذا البحث.

2 المفضليات/ 202-205 وانظر أيضا ص50 من هذا البحث.

ص: 206

يداعبه فيه مداعبة طريفة، فهو "أمهم" التي تقوم على قوتهم، وتقتر عليهم مخافة أن تطول الغزاة بهم فيموتوا جوعا، يعلن أنه غير راض عن هذه السياسة التي تنتهجها "أمهم" لأن "عيالها" جياع من تقتيرها، فما تخشاه عليهم توقعهم فيه، ولكنها لا تؤثر نفسها بشيء عليهم، حتى لقد أصبحت نحيلة دقيقة، وهي "أم" ليست كسائر الأمهات، إنها غير محجبة، لا يحجبها ستر، ولا يضمها بيت، تحمل جعبة فيها ثلاثون سهما عريضة النصال، وتعدو في سرعة فائقة وفي يمينها سيف صارم بتار:

وأم عيال قد شهدت تقوتهم

إذا أطعمتهم أوتحت وأقلت

تخاف علينا العيل إن هي أكثرت

ونحن جياع، أي آل تألت

مصعلكة لا يقصر الستر دونها

ولا تُرتجى للبيت إن لم تنبت

لها وفضة فيها ثلاثون سيحفا

إذا آنست أولي العدي اقشعرت

وتأتي لعدي بارزا نصف ساقها

تجول كعير العانة المتلفت

إذا فزعوا طارت بأبيض صارم

ورامت بما في جفرها ثم سلت

حسام كلون الملح صاف حديده

جراز كأقطاع الغدير المنعت

تراها كأذناب الحسيل صوادرا

وقد نهلت من الدماء وعلت1

ويتحدث عروة كثيرا عن أصحابه، ولكنه حديث الزعيم أو القائد، لا حديث الرفيق أو الزميل، فهو يدعوهم إلى الخروج معه للغزو والغارة:

أقيموا بني لبني صدور مطيكم

فإن منايا القوم خير من الهزل

1 أوتحت: أفلت. العيل: الفقر. قوله "أي آل تألت" يعني أي سياسة ساست، يقال آله أولا إذا ساسه. مصعلكة بكسر اللام: صاحبة صعاليك، وبفتحها: نحيفة. الوفضة: للقتال. المتلفت: أي الذي يتلفت إلى الحمر يطردها عن أتنه، ويُروى "المتفلت" أي الذي يتفلت إلى قتال الحمر عن عانته، والعانة: جماعة الأتن الوحشية. الجفر: الكنانة. الجراز: السيف القاطع. الحسيل: جمع حسيلة وهي أولاد البقر، شبه السيوف بأذناب الحسيل إذا رأت أمهاتها فجعلت تحرك أذنابها.

ص: 207

فإنكم لن تبلغوا كل همتي

ولا أربتي حتى تروا منبت الأثل1

وهو يصرح بأنه سيغزو بهم -لا معهم- ليحقق أهدافه، أو يرضي نفسه:

فإني لمستاف البلاد بسربة

فمبلغ نفسي عذرها أو مطوف2

وهو قائد بارع، يجمع جنوده، ويخرج بهم فرسانا ورجالة ليغيروا، حتى إذا ما انتهت الغارة، وأخذوا طريق العودة، ونزلوا عند بعض المياه لينحروا مما نهبوه، حتى ينالوا حظهم من الطعام والراحة، تحول القائد البارع إلى قائد حذر، يبعث ربيئا منهم فوق شرف عال، ليراقب لهم الطريق حتى لا يفجأهم عدو وهم غافلون:

لعل انطلاقي في البلاد ورحلتي

وشدي حيازيم المطية بالرحل

سيدفعني يوما إلى رب هجمة

يدافع عنها بالعقوق وبالبخل

قليل تواليها وطالب وترها

إذا صحت فيها بالفوارس والرجل

إذا ما هبطنا منهلا في مخوفة

بعثنا ربيئا في المرابئ كالجذل

يقلب في الأرض الفضاء بطرفه

وهن مناخات، ومرجلنا يغلي3

ولعل أطرف ما في حديث عروة عن أصحابه حديثه عن مضايقاتهم له، وشكواه من بعض تصرفاتهم التي يضيق صدره بها، وبخاصة تنكرهم له بعد أن يخصبوا ويستغنوا ويصبحوا كالأغنياء المتمولين، ولكنه -مع هذا كله- يغفر لهم؛ لأنهم عياله وأبناؤه، وهو أبوهم الذي يتقبل منهم ما يرتكبونه في حقه، ثم لأنه يقوم منهم مقام السيد الذي تفرض عليه سيادته أن يتحمل ما يصدر عنهم، فيعفو عن جاهلهم، ويغفر لمسيئهم، ثم لأنه أخيرا يقف

1 ديوانه/ 106، وشرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 8، 9. مع اختلاف لفظي يسير.

2 ديوانه/ 93.

3 ديوانه/ 108-112. الهجمة: الجماعة من الإبل، أولها أربعون إلى ما زادت، أو ما بين السبعين إلى المائة، أو إلى دوينها.

ص: 208

منهم موقف الزعيم الخبير بنفسية جماهيره1.

ويتحدث تأبط شرا عن رفاقه حديث المعجب بهم، المعتز برفقتهم، المقدر لقيمتهم في حياته المغامرة، تلك الحياة التي يحياها وحيدا إلا منهم، فهم عونة على هذه الحياة، يستعين بهم عليها، ويستغيث بهم إذا أفزعه أمر. وهم دائما أبطال شجعان شعث، لكثرة اشتغالهم بالغزو والكفاح، والضرب في أعماق الصحراء، وجوب آفاقها، عيونهم نفاذة تتوقد بنار الحماسة والجرأة والإقدام كأنها نار الغضا المتأججة:

مساعرة شعث كأن عيونهم

حريق غضا تُلقى عليه الشقائق2

وهو لهذا لا ينسى أبدا فضلهم وقيمتهم في مغامراته، وهو يسأل الله أن يتولى عنه جزاءهم؛ لأنه عاجز عن جزائهم:

جزى الله فتيانا على العوص أمطرت

سماؤهم تحت العجاجة بالدم3

فإذا ما سقط أحدهم صريعا اشتد جزعه عليه، فإذا مصابه فيه لا يعدله مصاب، وإذا آماله في الحياة تنهار:

أبعد قتيل العوص آسى على فتى

وصاحبه أو يأمل الزاد طارق4

وهي يرى أن فقد أحدهم خسارة لا تعوض، وإضعاف للجماعة التي تشق طريقها في الحياة بقوة أبنائها، وكسر لسلاح من أسلحتها يستحق الأسف، بل يستحق الأسى والحزن والبكاء، وهو -على قلة دموعه- لا بيخل بها على من تفقده هذه الجماعة من أبنائها الممتازين، أولئك الذين يمتازون بما يجب أن يمتاز به كل صعلوك عامل: من بصر بكسب المحامد، وسبق إلى غايات المجد، وقوة وزعامة بين الرفاق، وخفة في الجسم، وجرأة على اقتحام الأهوال

1 انظر أبياته اللامية التي يقص فيها قصة من هذه المضايقات في ديوانه من ص113 - إلى ص118، ومن ص123 - إلى ص125.

2 الأغاني 18/ 214 - مساعرة: جمع مسعر وهو موقد نار الحرب. والشقائق هنا المراد بها أعشاب الجبال.

3 الأغاني 18/ 215.

4 المصدر السابق / 214.

ص: 209

والسرى في الليل البهيم المظلم، وشجاعة فائقة، ورأي صائب، وكرم واسع، وفصل في الأمور، وحب للحركة والغزو، وبغض للدعة والإقامة والاستقرار:

لكنما عولى إن كنت ذا عول

على بصير بكسب الحمد سباق

سباق غايات مجد في عشيرته

مرجع الصوت هدا بين أرفاق

عاري الظنابيب ممتد نواشره

مدلاج أدهم واهي الماء غساق

حمال أولوية، شهاد أندية

قوال محكمة، جواب آفاق

فذاك همي وغزوي أستغيث به

إذا استغثت بضافي الرأس نغاق1

ومن هنا كثر رثاؤه لأصحابه، فهو وفي لهم ولذكراهم، لا تنسيه إياهم شواغل الحياة. وهي يرثي صديقه الأعز، وتلميذه النابغة، الشنفرى، رثاء حارا تتجلى فيه تلك اللوعة التي أصابته بعده، وتلك الحسرة التي استشعرها لفقده، وتلك الفجيعة التي لا يجد لها دفعا، وهو يأسف لأنه لم يكن معه في ساعة الشدة حين قتل، إذن لوقف إلى جانبه أخا ناصرا معينا:

فلو نبأتني الطير أو كنت شاهدا

لآساك في البلوى أخ لك ناصر2

وهو لا ينسى في غمرة هذا الأسى أن يسجل تعاونهما معا في ساعات الشدة، وأوقات الكفاح:

إذا راع روع الموت راع، وإن حمى

حمى معه حر كريم مصابر3

1 المفضليات/ 13-15. العول: الإعوال: مرجع الصوت: يريد أنه يصبح بأصحابه آمرا وناهيا. الهد: الصوت الغليظ. الظنابيب: جمع ظنبوب وهو حرف عظم الساق، ويريد بقوله "عاري الظنابيب" أنه خفيف اللحم، والعرب تمدح الهزل وتذم السمن. النواشر: عروق ظاهر الذراع، ويريد بقوله "ممتد نواشره" أنه طويل الذراعين دلالة على تمام خلقه. الأدهم هنا: الليل، والغساق: الشديد الظلمة. المحكمة: الكلمة الفاصلة القاطعة للأمور. ضافي الرأس: رجل كثير شعر الرأس لكثرة اشتغاله بالغزو فهو لا يتعاهد شعره. النفاق: الذي يصبح في إثر الطرائد.

2 ديوان الشنفرى المطبوع/ 29.

3 المصدر السابق/ 29.

ص: 210

أحاديث الفرار:

كما يتحدث الشعراء الصعاليك عن مغامراتهم وانتصارهم فيها، وفوزهم على أعدائهم، يتحدثون أيضا عن فرارهم وهربهم، دون أن يجدوا في هذه الأحاديث غضاضة، أو أمرا يدعو إلى الخجل والمداراة. وفيم الخجل ما دام الفرار أمرا طبيعيا من قوم عدائين، أو -بعبارة أخرى- سلاحا من أسلحتهم يضمن لهم النجاة ليعيدوا الكرة من جديد ليحققوا أهدافهم الاجتماعية والاقتصادية؟ فإذا لاحظنا -إلى جانب هذا- أن الفرار فرصة تتيح لهم إظهار تلك الميزة التي يفخرون بها دائما، وهي سرعة العدو، أدركنا سر حرصهم على أحاديث الفرار في شعرهم؛ لأنها أحاديث تتيح لهم مجال الفخر بهذه الميزة.

وقد اشتهر بعض الصعاليك بفرارهم، وبخاصة صعاليك الحجاز ومنطقة جبال السراة، وبالذات صعاليك هذيل التي كانت تنزل في هذه المنطقة، وقد رأينا من قبل1 ما يذكره الأصمعي من كثرة انتشار العدائين في الحجاز والسراة، أولئك الذين كانوا "يعدون على أرجلهم ويختلسون"، وما يذكره من "أن بهذيل وحدها منهم أربعين"، ويصف الرواة حاجزا الأزدي بأنه "كان مع غاراته كثير الفرار"2. ويفرد البحتري في حماسته بابا "فيما قيل في الفرار على الأرجل"3، يروي فيه اثنتي عشرة مقطوعة لثمانية من الشعراء، منها ثماني مقطوعات لأربعة من الصعاليك4، أي أن ثلثي المقطوعات من شعر الصعاليك، ونصف الشعراء من الصعاليك، فإذا لاحظنا أن من هذه المقطوعات الثماني ثلاثا لحاجز وحده5، أدركنا أن الرواة كانوا على حق حين وصفوه بكثرة الفرار، وإذا لاحظنا أيضا أن من المقطوعات الاثنتي عشرة

1 انظر: ص80 من هذا البحث "فصل التفسير الجغرافي".

2 الأغاني 12/ 52 "بولاق".

3 الباب الخامس والعشرون من ص63 - إلى ص69.

4 أبو خراش الهذلي "ص63، 64"، وحاجز الأزدي "ص64، 65"، والأعلم الهذلي "66"، وتأبط شرا "ص68، 69".

5 ص64، 65.

ص: 211

التي يضمها الباب أربعا لشعراء من هذيل1، أي ثلث الباب كله أو ما يعادل نصف عدد مقطوعات الصعاليك أدركنا دقة ملاحظة الأصمعي عن كثرة العدائين في هذيل.

والواقع أن أحاديث الفرار ظاهرة واضحة كل الوضوح في أخبار الهذليين وأشعارهم حتى لتعد سمة من سمات الشعر الهذلي. وفي شعر الأعلم الهذلي قصيدة طويلة2 يتحدث فيها عن فراره مع صاحب له من مغامرة لهما في بعض بلاد كنانة. وهو يبدؤها مباشرة بالحديث عن ذلك المازق الحرج الذي وجد نفسه فيه حين رأى القوم يطاردونه هو وصاحبه، وقد اقتربوا منهما حتى لم يعد بينهما وبينهم إلا أقل من رمية سهم، ثم يصور الفزع الذي انتابه فشل مقدرته على الرمي، وإن لم يشل تفكيره عن أن يحث صاحبه على العدو حتى ينجو معا:

لما رأيت القوم بالـ

ـعلياء دون قدى المناصب

وفريت من فزع فلا

أرمي ولا ودعت صاحب

يغرون صاحبهم بنا

جهدا وأغري غير كاذب

أغري أبا وهب ليعـ

ـجزهم ومدوا بالحلائب3

ثم يمضي في وصف تلك الجماعات التي تطاردهما، وسرعة عدو أحد مطارديه، ثم ينتقل إلى الاعتذار عن فراره بأنه خشي أن يقتل بسيوفهم فيصير طعاما للذئاب والضباع والثعالب والطير الجارحة:

وخشيت وقع ضريبة

قد جربت كل التجارب

فأكون صيدهم بها

وأصير للضبع السواغب

جزرا وللطير المربـ

ـة والذئاب وللثعالب

1 ص63، 64، 65، 66.

2 شرح أشعار الهذليين 1/ 55 وما بعدها، وديوان الهذليين 2/ 77 وما بعدها. وفي حماسة البحتري / 66 قطعة منها.

3 القدى: القدر. المناصب: الرامي الذي يناصبك الرمي، ويرميك وترميه. فريت: تحيرت ودهشت. الحلائب: الجماعات يجيء بعضها في إثر بعض.

ص: 212

وتجر مجرية لها

لحمي إلى أجر حواشب1

ثم يصف هذه الضباع وجراءها، وكيف تنزع جلد المرء نزعا شديدا، ولا يكاد ينتهي من رسم هذه الصورة المفزعة لمصيره لو قتل، حتى يعود لذكر عدوه في شدة الحر، ولكنه لا يبالي بشيء من هذا، فقد اقترب من منطقة الأمان، ولاحت لعينيه منازل السلامة، وهنا فقط يذكر أهله وفقرهم، وأولاده الصغار وحاجتهم، كأنما يؤنب نفسه التي أغرته بالفرار والهرب دون أن يحقق شيئا من أهدافه:

حتى إذا انتصف النها

ر وقلت يوم حق ذائب

رفعت عيني الحجا

ز إلى أناس بالمناقب

وذكرت أهلي بالعرا

ء وحاجة الشعث التوالب

المصرمين من التلا

د اللامحين إلى الأقارب2

ولا يجد حاجز غضاضة من أن يتحدث عن فراره إلى صاحبته الجميلة المتأنقة، وحسبه -وحسبها أيضا- أن نجا من أعدائه بعد أن كادوا يقتلونه:

ألا هل أتى ذات الخواتم فرتي

عشية بين الجرف والبحر من بعر

عشية كادت عامر يقتلونني

لدى طرف السلماء راغية البكر3

وهو ينهزها فرصة كغيره من الشعراء الصعاليك العدائين، ليتحدث عن سرعة عدوه التي تفوق سرعة الظبي الهارب من مطاردة طائر جارح له:

فما الظبي أخطت حلقة الظفر رجله

وقد كاد يلقى الموت في حلقة الظفر

كمثلي أوان القوم بين معيع

وآخر كالنشوان مرتكز يعزي3

1 الضريبة: السيف. جزرا: أي قطعا، يقال: تركته جزر السباع. الطير المربة: المقيمة على لحم أبدا. مجرية: أي ضبع ذات جراء. الأجرى: الجراء. الحواشب: المنتفخات البطون.

2 يوم حق ذائب: أي شديد الحر. المناقب: أماكن. التوالب: الجحاش الصغار، يريد بها هنا أولاده.

3 حماسة البحتري / 65. والأغاني 12/ 52 "بولاق"، والرواية فيه مضطربة لفظيا. عيع: عي عن أمر قصده. ومرتكز أي معتمد على سية قوسه. والجرف وبعر: موضعان. وراغية البكر: مثلي في الشدة والشؤم ضرب في بكر ناقة صالح. "انظر أساس البلاغة مادة: رغو".

ص: 213

ويدافع تأبط شرا في قصيدة له عن فراره وتركه رفيقا له بأنه ما كان ليستطيع أن ينتظر حتى يدهمه مطاردوه الذين كانوا وراءه كالنحل، ولا أن يبطئ في عدوه حتى تصيبه السهام التي كانوا يرسلونها خلفه فترديه صريعا، وهو لهذا يثني جسده، ويسرع بعيدا عن الشر كأنه الظليم المذعور:

ولم أنتظر أن يدهموني كأنهم

ورائي نحل في الخلية واكنا

ولا أن تصيب النافذات مقاتلي

ولم أك بالشد الذليق مداينا

فأرسلت مثنيا عن الشر عاطفا

وقلت تزحزح لا تكونن حائنا

وحثحثت مشعوف النجاء كأنني

هجف رأى قصرا سمالا وداجنا1

وبعد أن يمضي في وصف سرعة الظليم، على طريقة الهذليين في الإلحاح على أوصاف المشبه به، ينتقل إلى الصورة التي رأيناها عند الأعلم، صورة الفزع من الموت على أيدي الأعداء، تلك الصورة التي تقترن عادة بإلقاء الجسد لحيوان البادية الضاري، وبخاصة الضباع، تلك الفصيلة التي اشتهرت بولعها بجيف الموتى كما يقرر علماء الحيوان2، فيحدثنا عن نجاته من مطارديه، ولو لم ينج منهم لأمسى قتيلا في صحراء غبراء، أو بين براثن ضبع تنبش الأرض بحثا عن الجيف:

فزحزحت عنهم أو تجئني منبتي

بغبراء أو عرفاء تفري الدفائنا

كأني أراها الموت، لا در درها

إذا أمكنت أنيابها والبراثنا3

ويدافع أبو خراش عن فراره، ويضفي على دفاعه لونا من "المذهبية"،

1 الأغاني 18/ 213 - الشد: العدو. الذليق: الحاد. النجاء: الإسراع، والمشعوف هنا: من أصيب قلبه بذعر. الهجف: الظليم. والقصر هنا: اختلاط الظلام. والسمال: جمع سملة وهي بقية الماء في الحوض. والداجن: لعل معناه هنا المطر المطبق، أو الصياد المتعوذ للغزو. ويكون الشاعر بهذا يصور فزغ الظليم حين أخذ الظلام يختلط، والمطر يسقط، أو حين رأى عند اختلاط الظلام ماء عنده صياد متربص.

2 الدميري: حياة الحيوان 2/ 71.

3 الأغاني 18/ 213 - العرفاء: الضبع.

ص: 214

فهو يفر لا لأنه جبان، فهو إلى جانب فراره مقاتل شجاع، ولكن لأنه يرى أحيانا أن قتاله لا يجديه شيئا إلا أن يورده موارد هلاك، وهو مع ذلك لا يكف عن القتال إلا إذا لم يجد لنفسه مجالا فيه:

فإن تزعمي أن جبنت فإنني

أفر وأرمي مرة كل ذلك

أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا

وأنجو إذا ما خفت بعض المهالك1

ولكن الأعلم يعلن في منتهى الصراحة والبساطة أنه حين تكاثر عليه أعداؤه فر منهم مسرعا، ولم يحاول قتالهم:

بذلت لهم بذي وسطان شدي

غداتئذ ولم أبذل قتالي2

سرعة العدو:

ولا يكاد الشعراء الصعاليك يتحدثون عن شيء في مثل ذلك الإلحاح الذي نراه في حديثهم عن مغامراتهم كما يتحدثون عن سرعة عدوهم، ويبدو أن مرد هذا إلى أمرين: أولهما شعورهم بأنها ميزة تفردوا بها من بين إخوانهم في البشرية، وثانيهما إيمانهم بأنها من الأسباب الأساسية في نجاتهم من كثير من المآزق الحرجة. ومن هنا كان حديثهم عنها حديث المعجب بنفسه تارة، والمعجب بها تارة أخرى: المعجب بنفسه لأنه تفرد بها من سائر الناس، والمعجب بها لأنها كم أنقذته من أخطار أحدقت به.

وأحسب أننا لسنا في حاجة إلى القول بأن الشعراء الصعاليك الذين يتحدثوا عن سرعة عدوهم هم أولئك الذين تحدثنا عنهم في تفسيرنا الجغرافي لظاهرة الصعلكة وهم الصعاليك السرويون -كما يسميهم الأصمعي-3 وبخاصة صعاليك هذيل وفهم والأزد، أما أولئك الذي لم يعرفوا بالعدو كعروة بن الورد فمن الطبيعي ألا يتحدثوا عن شيء لم يُعرفوا به.

ويتحدث الصعاليك العداءون من هذه الميزة حديث المعجبين بأنفسهم

1 ديوان الهذليين 2/ 169، وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة 397.

2 شرح أشعار الهذليين 1/ 63.

3 فحول الشعراء "مخطوطة" ورقة رقم 15.

ص: 215

الذين يرون أنهم قادرون على شيء يعجز عنه بعض الناس، على نحو ما نرى في قول الأعلم:

فلا وأبيك لا ينجو نجائي

غداة لقيتهم بعض الرجال1

ولكن ذا الكلب لا يرضى بهذه "البعضية"، وإنما يوسع حكمه حتى تشمل كل ذي قدم:

فجئت لا يشتد شدى ذو قدم2

بل إن أبا خراش لا يرضى بالبشر طرفا ثانيا في هذه المباراة كأنما يرى أن البشر أبطأ من أن يصلحوا لها. وإنما يعقد المباراة بينه وبين حمار الوحش، ذلك الحيوان المشهور بسرعة العدو، ومع ذلك فحمار الوحش لا يستطيع أن يجاريه في عدوه:

أقبلت لا يشتد شدى واحد

علج أقب مسير الأقراب3

وقد رأينا حاجز يتحدث إلى صاحبته الجميلة المتأنقة عن فرته دون أن يجد في هذا الحديث غضاضة، وما من سبب لذلك سوى إعجابه بنفسه إذ استطاع النجاة من أعدائه عدوا على قدميه، فهو في هذا الحديث كأنما يقدم إلى صاحبته لونا من ألوان البطولة التي يراها جديرة بإعجابها، حتى ليتساءل في أول حديثه في لهفة ظاهرة "ألا هل أتى ذات الخواتم فرتي؟ ".

وهم يتحدثون عن هذه الميزة أيضا حديث المعجبين بها، المقدرين لقيمتها في حياتهم. يصرح حاجز بأن الفضل الأكبر في نجاته من بعض مواقفه الضيقة لا يرجع إلى قتاله، وإنما يرجع إلى عدوه، وهو -لهذا ولشدة إعجابه برجليه اللتين أتاحتا له هذا العدو- لا يتورع من أن يفديهما بأمه وخالته، وماذا جنى

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 60.

2 المصدر السابق / 239، وتُروى لأبي خراش، وقد قلنا في الفصل السابق إن هذا الاختلاف لا يضيرنا في هذا الدراسة لأنه اختلاف داخلي.

3 ديوان الهذليين 2/ 169، وتُروى لتأبط شرا وللأعلم، والقول في هذا كالقول في البيت السابق - والعلج: حمار الوحش السمين القوي. والأقب: الضامر البطن. ومسير الأقراب: أي مخطط الخاصرتين.

ص: 216

من أمه وخالته غير ذلك السواد الذي صبغه بصبغة بغيضة كانت سببا من أسباب تلك الحياة المتصعلكة التي يحياها، والتي زجت به في هذا الموقف الضيق الذي لولا رجلاه لفقد حياته فيه:

فغير قتالي في المضيق أغاثني

ولكن بذلي الشد غير الأكاذب

فدا لكما رجلي أمي وخالتي

بشدكما بين الصفا والأثائب1

ويصرح أبو خراش بأنه لولا سرعة عدوه فرارا من أعدائه لآمت امرأته ويتم ابنه:

ولولا دراك الشد قاظت حليلتي

تخير من خطابها وهي أيم

فتقعد أو ترضى مكاني خليفة

وكاد خراش يوم ذلك ييتم2

ويقص علينا تأبط شرا في قافيته المشهورة كيف أنجاه عدوه من عدوه، برغم ما أرسلوه خلفه من خيل سريعة:

ليلة صاحوا وأغروا بي سراعهم

بالعيكتين لدى معدَى ابن براق

كأنما حثحثوا حصا قوادمه

أو أم خشف بذي شث وطباق

لا شيء أسرع مني، ليس ذا عذر

وذا جناح بجنب الريد خفاق

حتى نجوت ولما ينزعوا سلبي

بواله من قبيض الشد غيداق3

وكما يتحدث الصعاليك العداءون عن شدة عدوهم، يتحدثون عن شدة عدو رفاقهم، ويصف تأبط شرا أحد أصحابه الصعاليك بأنه سريع العدو يسبق الريح:

1 حماسة البحتري / 64. والأغاني 12/ 52 "بولاق".

2 ديوان الهذليين 2/ 148. والأغاني 21/ 56، 57 - قاظت: من القيظ، أي أدركها القيظ، وهو الصيف.

3 المفضليات / 7-11. حصا قوادمه يريد به الظليم، والأحص: الذي تناثر ريشه وتكسر، والقوادم من ريش الجناح: ما ولي الرأس. وأم خشف يريد بها الظبية. والشث والطباق: من نبت السراة، وإنما خصهما لأنهما يضمران ما يرعاهما من الحيوان، ويشدان لحمه، وذا عذر يعني به فرسا، والعذر: ما أقبل من شعر الناصية على الوجه. الربد: أعلى الجبل، وإنما خص جارح الجبل لأنه أسرع طيرانا من جارح السيل. الواله: الذاهب العقل. والقبيض: السريع. والغيداق: الكثير الواسع.

ص: 217

ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي

بمنخرق من شدة المتدارك1

ويشبه الأعلم انقضاض جماعة من الصعاليك العدائين من كل ناحية على فريسة عرضت لهم في أثناء تربصهم بالصحراء بتفجر الماء من حوض قديم متهدم يحاول صاحبه أن يصلحه ولكن الماء يغلبه فيتفجر من شتى نواحيه:

تخاف لزام عادية ثعول

كما يتفجر الحوض اللقيف2

ويرسم أبو خراش صورة رائعة لجماعة من العدائين يحرص كل منهم على ألا يتخلف عن رفاقه حتى لا يفتضح بينهم، وهم خارجون للغزو في ليلة ممطرة، وقد ابتلت أقدامهم، والشجر يتكسر من وقعها، فيلتف تحتها أكواما كأنها أوساط الإبل السود:

وليلة دجن من جمادى سريتها

إذا ما استهلت وهي ساجية تهمي

وشوط فضاح قد شهدت مشايحا

لأدراك ذحلا أو أشيف على غنم

إذا ابتلت الأقدام والتف تحتها

وغثاء كأجواز المقرنة الدهم3

وكما يتحدثون عن شدة عدو رفاقهم، يتحدثون عن شدة عدو أعدائهم أيضا، ليثبتوا لأنفسهم تلك الميزة عن طريق غير مباشر. ويرسم الأعلم في يائيته التي يتحدث فيها عن فراره هو وصاحب له من بعض أعدائهما صورة رائعة لمطاردتهم لهما، يصف فيها خروجهم خلفهما، وكيف يغرون أسرعهم ليدركهما، بينما يغري هو صاحبه ليفوتهم، ثم يصف تلك الجماعات التي تطاردهم، والتي يجيء بعضها في إثر بعض، كما تدفع الرياح السحب فتجلجل بالرعود، ثم يصف سرعة عدو أحد مطارديه الذي ينطلق خلفه كأنه حمار وحش ضامر يسرع ليرد الماء:

1 حماسة أبي تمام 1/ 48.

2 شرح أشعار الهذليين 1/ 68 - اللزام: العذاب. الثعول: التي لها زيادات بمنزلة الضرع. اللقيف: الذي أصلحه صاحبه فطينه وسواه من نواحيه.

3 ديوان الهذليين 2/ 130 - شوط فضاح: أي إن سبق فيه رجل افتضح. المشايح: الجاد في كلام هذيل. أشيف: أشرف.

ص: 218

يغرون صاحبهم بنا

جهدا وأغري غير كاذب

أغري أبا وهب ليعـ

ـجزهم ومدوا بالحلائب

مد المجلجل ذي العما

ء إذا يراح من الجنائب

يغري جذيمة والردا

ء كأنه بأقب قارب1

ويرسم أبو خراش في ميميته التي يتحدث فيها عن فراره من خزاعة صورة دقيقة لمطارديه، وقد اقترب منه أحدهم حتى صار كأنه توءم له، والسهام تنهال حوله ولكنها تخطئه، وكيف زاد من سرعته حين رأى وراء ظهره أحد مطارديه مسرعا وقد بسط ذراعيه، ومد ساقيه الطويلتين، وهو حريص على أن يدركه لأن له ثأرا عنده، وأبو خراش حريص على أن ينجو منه لأنه شخص فاتك جريء أثيم:

بأسرع مني2 إذ عرفت عديهم

كأني لأولاهم من القرب توءم

وأجود مني يوم وافيت ساعيا

وأخطأني خلف الثنية أسهم

أوائل بالشد الذليق وحثني

لدى المتن مشبوح الذراعين خلجم

تذكر ذحلا عندنا وهو فاتك

من القوم يعروه اجتراء ومأثم3

ومن أطرف الأشياء أن يحدثنا الأعلم عن كراهيته لمطارده، لا لشيء إلا لأنه عداء سريع لا يألو جهدا في مطاردته:

كرهت جذيمة العبدي لما

رأيت المرء يجهد غير آلي4

وأكثر ما يتحدث الصعاليك العداءون عن شدة عدوهم مقرونة بموازنة بينهم وبين الطير أو بعض حيوان الصحراء المشهور بسرعة العدو.

ويتردد ذكر حمار الوحش عند صعاليك هذيل، ولا نعثر به عند غيرهم

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 55، 56. وحماسة البحتري / 66 - العماء: أرفع السحاب في السماء. يراح: تصيبه الريح. القارب: طالب الماء ليلا. أبو وهب صاحبه، وجذيمة عدوه.

2 متعلقة بوصفه ظبيا يطارده الصيادون يشبه به نفسه في شدة عدوه.

3 ديوان الهذليين 2/ 147. وحماسة البحتري / 64. والأغاني 21/ 56 - واءل: طلب النجاة. مشبوح الذراعين: عريضهما. الخلجم: الطويل.

4 شرح أشعار الهذليين 1/ 60.

ص: 219

من الشعراء الصعاليك فيما بين أيدينا من شعرهم، فيما عدا مقطوعة تروى لأبي خراش أو للأعلم أو لتأبط شرا، وهي تلك البائية التي أشرنا إليها1، حتى ليصبح أن نقول إن ذكر حمار الوحش في صدد الحديث عن العدو خاصة هذلية.

يصف صخر الغي صاحبا له بشدة العدو فيشبهه بحمار وحش ضامر تعضه الحمر فيفر منها هاربا:

معي صاحب داجن بالغزا

ة لم يك في القوم وغلا ضعيفا

ترى عدوه صبح إقوائه

إذا رفع المأبضان الحشيفا

كعدو أقب رباع ترى

بفائله ونساه نسوفا2

أما الأعلم فالصورة التي يرسمها لحمار الوحش أكثر خطوطا وألوانا، فهو عنده ضامر البطن ولكن في غير هزال كأنه عرق السدر في حمرته، وهو سريع يسبق الإبل والخيل النجيبة، خرج ليلا في طلب الماء، فلاحت له أتان سمينة مكتنزة اللحم، فهو حريص على إدراكها:

يغرَى جذيمة والردا

ء كأنه بأقب قارب

خاظ كعرق السدر يسـ

ـبق غارة الخوص النجائب

عنت له سفعاء لكـ

ـت بالبضيع لها الخبائب3

وأما الظليم، وهو من أسرع حيوان الصحراء عدوا4، فقد ورد ذكره عند تأبط شرا والأعلم، كما ورد ذكر النعامة عند أبي خراش. أما تأبط شرا

1 انظر: ص216 الهامش 3.

2 شرح أشعار الهذليين 1/ 48 - داجن: معاود مرة بعد مرة، أو متعود للغزو.

الوغل: النذل. الإقواء هنا: النزول في الفقر من الأرض. المأبضان: باطن الركبة وباطن المرفق. الحشيف: الثوب الخلق. الرباع: الذي ألقى رباعيته وهي السن التي بين التثنية والناب. الفائل والنسا: عرقان. النسوف: آثار العض.

3 شرح أشعار الهذليين 1/ 56 - خاظ أي مكتنز ممتلئ لحما. سفعاء: سوداء الوجه في حمرة. لكت: قذفت باللحم. البضيع: اللحم. الخبائب: طرائق اللحم. لها هنا بمعنى منها.

4 في أمثال العرب "أعدى من الظليم""الميداني: مجمع الأمثال 1/ 429".

ص: 220

فالظليم عنده مذعور يقطع الصحراء وقد مد جناحيه، وكل ما يحرص عليه تأبط شرا وصفه بالسرعة، ومن هنا كثرت في أبياته تلك المترادفات التي تدل على السرعة، ولكنه لا يكتفي بهذا بل يعقد بين هذا الظليم وبين الخيل السريعة مباراة، فإذا هو أسرع منها:

وحثحثت مشعوف النجاء كأنني

هجف رأى قصرا سمالا وداجنا

من الحص هزروف كأن عفاءه

إذا استدرج الفيفا ومد المغابنا

أزج زلوج هذرفي زفازف

هزف يبذ الناجيات الصوافنا1

وأما الأعلم فالصورة عنده أكثر خطوطا وألوانا، فالظليم عنده سريع يعترض فراخه في وقت العشية، وهو غليظ الساقين طويلهما، وقد تساقط ريشه، وهو مذعور قد اختبأ بين الأشجار طويلة، فإذا عدا خفق جناحاه خفقان ريح جنوبية بثياب جديدة غير ممزقة:

كأن ملاءتي على هزف

يعن مع العشية للرئال

على حث البراية زمخري الـ

أسواعد ظل في شري طوال

كأن جناحه خفقان ريح

يمانية بريط غير بالي2

وأما أبو خراش فهو يشير للنعامة في صدد حديثه عن شدة عدوه إشارة سريعة3، كما يفعل مع حمار الوحش، وهو لا يقف طويلا عندهما لأنه مشغول بحيوان آخر سريع هو الظبي.

1 الأغاني 18/ 213 - الهزروف: الظليم السريع الخفيف. الحص: جمع أحص هو القليل شعر الرأس. المغابن: جمع مغبن وهو الأبط. الأزج من النعام. البعيد الخطو. الزلوج: الناجي من الغمرات. الهذرفي: نسبة إلى الهذرفة وهي السرعة. زفازف: من الزفزفة وهي رمي الطائر بنفسه أو بسط جناحيه. هزف: سريع.

2 ديوان الهذليين 2/ 83، 84. وحماسة البحتري/ 66. وروي البيت الأول في لسان العرب مادة "خرق" وفيه "هجف" مكان "هزف"، وروي البيت الثاني في مادة "شري" ومادة "حت" - الرئال: جمع رأل وهو ولد النعام أو حوليه. الزمخري: الأجوف، وكان العرب يظنون أن النعام لا مخ بساقيه. وقوله "على حت البراية" يريد به أنه سريع حتى لا يبقى منه إلا براية. والشري: شجر.

3 ديوان الهذليين 2/ 145 - البيت الأول.

ص: 221

والمنظر الذي يتخيره أبو خراش للظبي حين يخرج الصيادون لصيده، وقد بثوا حبالهم في مسارحه ليعلق فيها، ولكنه ينجو منها، فلا يجد الصيادون مفرا من رمية بسهامهم وإطلاق كلابهم خلفه، ولكنه يفوتها، ومع ذلك يظل مذعورا غير مطمئن يصغي إلى ناحيتهم وقد نصب أذنيه كأنهما قطعتا لعدم تحركهما، فإذا ما سمع صوت ذباب يطوف حوله ذعر وخيل إليه أنه صوت سهام الرماة، فانطلق كما ينطلق السهم مخلفا وراءه غبارا مختلفا ألوانه كأنه الملاء:

فو الله ما ربداء أو علج عانة

أقب وما إن تيس ربل مصمم

وبثت حبال في مراد يروده

فأخطأه منها كفاف مخزم

يطيح إذا الشعراء صاتت بجنبه

كما طاح قدح المستفيض الموشم

كأن الملأ المحض خلف ذراعه

صراحيه والآخني المتحم

تراه وقد فات الرماة كأنه

أمام الكلاب مصغي الخد أصلم

بأسرع مني إذ عرفت عديهم

كأني لأولاهم من القرب توءم1

ويتردد ذكر الظبي أيضا في شعر حاجز، وهو حينا يتخير منظر الظبي المذعور الهارب من جوارح الطير بعد أن كاد يلقى الموت في أظفارها، كما رأينا في أبياته الرائية من قبل، وهو حينا آخر يذكره مع حيوانين آخرين من حيوان الصحراء السريع: الأرنب، والوعل، وهو لهذا يكتفي بأن يذكر أنه ظبي في منطقة جبلية، فهو خفيف نشيط قوي، أما الأرنب فهو يمر بها مرا سريعا، أما الوعل فيتخير له منظرا يكون فيه في أقصى سرعته، حين يحس الصيادين خلفه ومعهم كلابهم المدربة:

1 المصدر السابق / 145، 146. والأغاني 21/ 56 - الربداء: النعامة السوداء إلى غبرة. والتيس هنا الذكر من الظباء. والربل: نبت ينبت في أول الشتاء. وقوله: في مراد يروده أي في مسارح يسرح فيها. والكفاف: الحبالة يصيدون بها الظباء تجعل كالطوق. والمخزم: المنظم. يطيح: يسرع. والشعراء: ذباب يلسع. والمستفيض: الذي يفيض بالقداح يضرب بها. والموشم: الذي به علامات. وصراحيه: أبيضه. والآخنى: نوع من الثياب. والمتحم: الذي به خطوط خضر وحمر. والأصلم: المستأصل الأذن.

ص: 222

وكأنما ابتعث الفوارس أرنبا

أو ظبي رابية خفاقا أشعبا

وكأنما طردوا بجنبي عاقل

صدعا من الأروى أحس مكلبا1

وهذان البيتان هما الموضع الوحيد فيما بين أيدينا من شعر الصعاليك الذي ورد فيه ذكر للأرنب والوعل في صدد الحديث عن العدو.

وإذا كان حاجز يشبه نفسه بالظبي الهارب من جوارح الطير فإن أبا خراش يعكس هذه الصورة فيشبه نفسه بالعقاب تطارد صيدا، فهو يقدم لنا في بعض قصائده صورة رائعة قوية لتلك المطاردة، فهي عقاب كاسرة منقضة تطلب الصيد، ولها فرخ في رأس جبل، تحمل له طعامه مما تصيد حتى امتلأ وكرها بعظامه، وقد رأت على بعد صيدا فتحفزت له ثم انقضت فوقه في أرض فضاء ليس فيه ما يستره:

كأني إذ عدوا ضمنت بزي

من العقبان خائتة طلوبا

جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا

رأت قنصا على فوت فضمت

إلى حيزومها ريشا رطيبا

فلاقته ببلقعة براز

فصادم بين عينيها الجبوبا2

وهذ أيضا الموضع الوحيد فيما بين أيدينا من شعر الصعاليك الذي ورد فيه ذكر العقاب في صدد الحديث عن شدة العدو.

ويشبه أبو خراش ابنه، والقوم يطاردونه بعد غارة له عليهم، بطائر خفيف العظم، قليل اللحم، عائد إلى وكره، وقد دنا الليل، فهو جاد في طيرانه يبسط جناحيه ويقبضهما في شدة وقوة:

1 حماسة البحتري/ 65 - الخفاف: الخفيف القلب المتوقد. الأشعب: ما كان بين قرنيه بعيدا جدا. الصدع بتحريك الدال وتسكينها: الفتى الشاب القوي. المكلب: معلم الكلب الصيد. وانظر البيتين أيضا في الأغاني 12/ 52 "بولاق" مع اختلاف لفظي.

2 ديوان الهذليين 2/ 133، 134 - الخائتة: العقاب تنقض على الصيد. الناهض هنا المراد به فرخها، وقوله "جريمة ناهض" يريد به أنها تكسبه، وجريمة القوم: كاسبهم. النيق: الشمراخ في الجبل. الصليب: الودك وهو الدسم، يقال: صلب العظام إذا استخرج ودكها على فوت أي على سبق. البراز: الفضاء البارز. الجبوب: الأرض.

ص: 223

كأنهم يشبثون بطائر

خفيف المشاش عظمه غير ذي نحض

يبادر قرب الليل فهو مهابذ

يحث الجناح بالتبسط والقبض1

وقد نتساءل: أين الخيل بين هذه الفصائل المختلفة من الحيوان السريع؟ ولماذا لم يذكرها الصعاليك العداءون في مجال حديثهم عن العدو كما ذكروا هذه الفصائل؟

يبدو لي أن سبب ذلك أن الصعاليك العدائين كانوا ينظرون إلى الخيل على أنها أقل منهم سرعة، وهي نظرة يؤيدها واقع حياتهم، وقد رأينا في الفصل الأول من الباب الأول أن رواة الأدب العربي يذكرون عنهم أنهم كانوا يسبقون الخيل، ويروون عنهم قصصا في هذا الصدد، ومهما يكن من مبالغة في هذه القصص فإنها تصور أصداء حقيقة واقعية، وقد فسرنا هذه الظاهرة في حياة الصعاليك العدائين عند تفسيرنا الجغرافي لظاهرة التصعلك، وانتهينا إلى أنها -على ما فيها من غرابة- ليست بالمستحيلة في الحياة الواقعية. فإذا أضفنا إلى هذا أن الصعاليك العدائين لم يكونوا على صلة دائمة بالخيل، وإنما كنت صلتهم بها صلة عداوة، وهي تلك الصلة بين المطارد والطريد مما جعل نفوسهم مشبعة بالسخط على ذلك الحيوان السريع الذي يستغله أعداؤهم في مطاردتهم، استطعنا أن نجد تعليلا آخر لهذه المسألة.

ولهذا نلاحظ أن الصعاليك العدائين لا يذكرون الخيل في صدد الحديث عن عدوهم إلا مقترنة بأنهم أسرع منها، أو على الأقل بأنها ليست أسرع منهم، كما نرى عند تأبط شرا الذي يصرح بأنه يسبق الخيل عدوا على قدميه، ويكسو طلائعها المتقدمة الغبار الثائر من عدوه:

يفوت الجياد بتقريبه

ويكسو هواديها القسطلا2

1 ديوان الهذليين 2/ 159. ولسان العرب: مادة "هبذ" ومادة "هذب" - المشاش: جمع مشاشة وهي رأس العظم الممكن المضغ. النخض: اللحم أو المكتنز منه، المهابذ: الذي يسرع في طيرانه، من المهابذة وهي الإسراع في الطيران.

2 ابن قتيبة: الشعر والشعراء / 176. وحماسة ابن الشجري/ 47 - التقريب: ضرب من العدو. القسطل: الغبار.

ص: 224

ويحرص الصعاليك العداءون على تسجيل ظاهرة طريفة في حديثهم عن العدو، وهي حركة ثيابهم عند عدوهم، وما يفعلونه أو تفعله الرياح بها، وهي ظاهرة تستمد طرافتها من صدقها وبساطتها وواقعيتها، ومن أطرف الأشياء في هذا الصدد أنهم أكثر ما يذكرون ثيابهم يذكرون أنها بالية ممزقة.

يصف صخر الغي صاحب له بأنه يعدو فيرفع باطن ركبتيه ثوبه الخلق:

ترى عدوه صبح إقوائه

إذا رفع المأبضان الحشيفا

كعدو أقب رباع ترى

بفائله ونساه نسوفا1

أما أبو خراش فثوبه الخلق البالي يهتز في أثناء عدوه كأنه ينتفض من حمى تلازمه:

فعديت شيئا والدريس كأنما

يزعزعه ورد من الموم مردم2

وهو أحيانا يضيق بثيابه لأنها تعوقه عن سرعة العدو فيطرحها عنه:

ورفعت ساقا لا يُخاف عثارها

وطرحت عني بالعراء ثيابي3

وفي قصيدة أخرى يصف جماعة من العدائين وقد ألقوا ثيابهم عنهم من شدة عدوهم:

وعادية تُلقي الثياب وزعتها

كرجل الجراد ينتحي شرف الحزم4

ويتحدث تأبط شرا عن مطاردة حاجز الأزدي وأصحابه له، ويصفهم بأنهم قد ألقوا عن أجسادهم ثيابهم البالية، وشمروا عن سيقانهم ليسهل عليهم إدراكه:

فتعتعت حضني حاجز وصحابه

وقد نبذوا خلقانهم وتشنعوا5

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 48. وانظر: ص220 من هذا البحث.

2 ديوان الهذليين 2/ 144. والأغاني 21/ 56. وحماسة البحتري / 63 - الدريس: الثوب الخلق. الموم: الحمى. المردم: الملازم.

3 ديوان الهذليين 2/ 168، وتُروى للأعلم ولتأبط شرا، وهذا الاختلاف لا يضيرنا في شيء فهم جميعا صعاليك.

4 المصدر السابق/ 132 - الرجل بالكسر: القطعة العظيمة من الجراد. الحزم: المكان المرتفع كالحزن.

5 الأعاني 18/ 218، وفيه "تتعتعت" وواضح أنه تحريف - تعتعه: حركه بعنف. تشنعوا: تهيئوا للقتال.

ص: 225

ومما يتصل بهذا حديثهم عن نعالهم، ووصفها بأنها بالية ممزقة، لكثرة سيرهم وعدوهم. يتحدث تأبط ششرا عن صعوده إلى المرقبة بنعل بالية ممزقة قد شدها بسيور بع أن جعل تحتها نعلا أخرى:

بشرثة خلق يُوقى البنان بها

شددت فيها سريحا بعد إطراق1

ويصف الشنفرى نعليه بأنهما ممزقتان كأنهما أشلاء السماني، وبأنه خلعهما في بعض طريقه إما ليسهل عليه عدوه، وإما لأنهما لم تعودا صالحتين للاستعمال لتمزقهما الشديد:

ونعل كأشلاء السماني تركتها

على جنب مور كالنحيزة أغبرا2

وهي صورة نجدها عند أبي خراش أيضا:

ونعل كأشلاء السماني نبذتها

خلاف ندى من آخر الليل أورهم3

ومن الطريف أننا نجد لأبي خراش قصيدة نظمها في مدح رجل حذاه نعلين جديدتين4، وهو فيها مقدر له هذا الصنيع تقديرا كبير، معجب بنعليه الجديدتين، يصفهما، ويصف صنعهما، ويتحدث عن قيمتهما في حياته؛ إذ يروح بهما متأنقا للهوه، ويستخدمهما في سيره وعدوه، ومن يدري فلعل له فيهما مآرب أخرى!!

وهنا نقف لنتساءل: أين شعر السليك في العدو، وهو الصعلوك العداء الرجلي الذي يضرب به المثل في سرعة العدو، والذي تحدث عن سرعته رواة

1 المفضليات/ 17 - الشرثة: النعل البالية. والسريح: القد أو السيور التي تشد بها النعال. والإطراق: أن يجعل تحت النعل مثلها.

2 ديوانه المطبوع / 35. وديوانه المصور: لوحة رقم 10، وفيه "وأشلاء نعل كالسماني" المور: الطريق الموطوء المستوي. والنحيزة: لعل أقرب معانيها إلى معنى البيت أنها نسيجة شبه الحزام تكون على الفسطاط.

3 ديوان الهذليين 2/ 131 - الرهم: المطر الضعيف الساكن اللين.

4 انظرها في المصدر السابق / 140، 141. وفي الأغاني 21/ 57، 58.

ص: 226

أخباره والشعراء المعاصرون له، والذي اتخذه الشعراء من بعد مادة طريفة لأحاديثهم عن السرعة؟

الحق يقال إنها مسألة غريبة ألا نجد للسليك شعرا يتحدث فيه عن سرعة عدوه، ولكن يبدو أن أقرب الفروض لتعليل هذه المسألة هو أن شعر السليك في عدوه وسرعته قد فقد. وليس من شك عندي في أن جانبا كبيرا من شعر السليك قد فقد، فليس من المعقول أن كل ما نظمه السليك من شعر لا يعدو تلك الأبيات القليلة المتفرقة في مصادر الأدب العربي المختلفة. وإذا كنا قد لاحظنا أن مجموعة السليك الفنية لا تضم حديثا عن هذا الجانب من حياته، فإننا نلاحظ أيضا أنها لا تصور جوانب حياته الأخرى تصويرا كاملا أو شبه كامل، وإنما هي مقطوعات قليلة لا تكاد تصور حياة صاحبها. أما صورة حياة السليك فمصدرها الأول أخبار الرواة وأقاصيصهم عنه. ومع ذلك فشعر السليك -كما يبدو مما وصل إلينا- ليس من الجودة بحيث نأسف على ضياعه، وقديما سئل الأصمعي عنه فقال "ليس من الفحول"1.

الغزوات على الخيل:

ويتحدث الشعراء الصعاليك أيضا عن عزواتهم على الخيل. وليس هناك ما يمنع الصعاليك من استخدام الخيل في غزواتهم إذا وجدت، وليس في هذا ما يطعن في مقدرتهم على العدو، فهي مقدرة معترف لهم بها. هذا إلى أن بعض الصعاليك لم يكونوا عدائين.

وقد عرفت أسماء خيل بعض الصعاليك، فقرمل فرس عروة بن الورد2، والنحام فرس السليك3، واليحموم فرس الشنفرى4.

1 فحولة الشعراء "مخطوطة" ورقة رقم 15.

2 ديوانه/ 120. ولسان العرب: مادة "قرمل".

3 القالي: النوادر / 185. ولسان العرب: مادة "نحم".

4 ديوانه المطبوع /40. وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة رقم 400.

ص: 227

ويتحدث الصعاليك أحيانا عن غزواتهم على الخيل مقترنة بغزواتهم على الأقدام، على نحو ما رأينا في الفصل الأول من الباب الأول من أبيات تأبط شرا وعروة. ويتحدثون أحيانا أخرى عن غزواتهم على الخيل حديثا مستقلا. وهي ظاهرة أكثر ما نجدها في شعر عروة.

فهو يتوعد حينا أولئك الأغنياء المطمئنين الذين حسبوا أن لن يجرؤ على غزوهم أحد، وينذرهم بأنه سوف يفزعهم بخيل نشطة تطرد أمامها إبلهم المنفرة طردا عنيفا:

سيفرع بعد اليأس من لا يخافنا

كواسع في أخرى السوام المنفر1

وحينا آخر يصرح بأنه لن يكف عن المغامرة في سبيل الغنى ومعه جماعة من الصعاليك الفرسان حتى يحقق أهدافه أو يعذر نفسه:

فإني لمستاف البلاد بسربة

فمبلغ نفسي عذرها أو مطوف2

ويشير أحيانا أخرى إلى نجاته من مأزق حرج على ظهر جواده "قرمل"، وهو يعد ذلك منة لهذا الجواد لا تنسى:

كليلة شيباء التي لست ناسيا

وليلتنا إذ من ما من قرمل3

ويصرح السليك، ذلك الرجلي الذي يُضرب به المثل في سرعة العدو، بشدة حاجته إلى فرسه في أثناء غارات أصحابه الفرسان على أهدافهم:

وما يدريك ما فقري إليه

إذا ما الركب في نهب أغاروا4

وكذلك الشنفرى، ذلك الرجلي الآخر الذي يُضرب به المثل أيضا في سرعة العدو، يتحدث عن فرسه طريفا، ففرسه لا عيب فيه سوى هزاله، ولكنه جريء مقدام، تطغى جرأته وإقدامه في أثناء القتال على هزاله، بل إن الخيل السمينة لا تستطيع الوقوف أمامه:

1 ديوانه/ 83.

2 ديوانه/ 93.

3 ديوانه/ 120.

4 لسان العرب: مادة "ركب".

ص: 228

ولا عيب في اليحموم غير هزاله

على أنه يوم الهياج سمين

وكم من عظيم الخلق عبل موثق

حواه وفيه بعد ذاك جنون1

وطرافة الصورة تأتي من أن الشنفرى يضفي صفات التصعلك على جواده، فهو جواد هزيل كصاحبه، جنى عليهما الفقر والجوع، ولكنه كصاحبه أيضا جريء مقدام، كأنما يشعر كما يشعر صاحبه بأن الحق للقوة، وأن الرزق في الشجاعة، وأن الجواد الخامل كالصعلوك الخامل. وتأتي طرافة الصورة أيضا من أن الشنفرى يلون صورة جواده بألوان مغامراته هو، فإذا جواده صورة منه، كم حوى من خيل سمينة قوية موثقة، كشأنه هو مع أفراد مجتمع الأغنياء، وهكذا يقدم لنا الشنفرى جواده على أنه "جواد صعلوك".

فإذا ما قتل الشنفرى، وفزع صديقه الحميم وأستاذه تأبط شرا لأحزانه عليه يستمد منها رثاءه له، لم ينس ذلك "الجواد الصعلوك" فخصه ببيتين رائعين من مرثيته، عند حديثه عن الوسائل التي كان يعتمد عليها الشنفرى في قتاله، عزمه، وقوسه، وسيفه، وفرسه:

وأشقر غيداق الجراء كأنه

عقاب تدلى بين نيقين كاسر

يجم جموم البحر طال عبابه

إذ فاض منه أول جاش آخر2

الآراء الاجتماعية والاقتصادية:

من الطبيعي أن يعلل الشعراء الصعاليك لمغامراتهم الدامية التي وهبوا لها حياتهم، وأن يفسروا الدوافع التي دفعتهم إلى تلك الثورة التي أشعلوها في وجه مجتمعهم، حتى تكون حركتهم التي وصفها مجتمعهم بالشذوذ قائمة على أساس معلل مسبب، وحتى تكون إجاباتهم حاضرة لكل من يسألهم:

1 ديوانه المطبوع / 40. وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة رقم 400.

2 ديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية / 28. وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة رقم 417 - الغيداق: الطويل. والجراء: لجري. والنيق: أرفع موضع في الجبل. وجم الماء: كثر واجتمع.

ص: 229

تلك المقطوعة التي أشار فيها الشنفرى إلى أنه هجين1 لا نكاد نعثر فيما بين أيدينا من شعر الصعاليك الأغربة على إشارة إلى هذه الظاهرة ذات الأثر البعيد في حياتهم.

والذي يبدو لي تعليلا لهذا هو أن الصعاليك الأغربة كانوا يجدون غضاضة في الحديث عن هذه الظاهرة التي كانت مصدر احتقار المجتمع الجاهلي لهم، حتى إن إشارة الشنفرى إليها في تلك المقطوعة السابقة كانت إشارة ملتوية تبدو عليها محاولة التنصل منها، أو على الأقل الدفاع عنها. كما أن حديثهم عنها لا يفيدهم شيئا في قضيتهم؛ لأنها ظاهرة خلقية لا بد لهم فيها، ولا قدرة لهم على تغييرها، وهذا عكس الفقر الذي كثر حديثهم عنه، فهو ظاهرة يستطيعون دفعها وتغييرها، والمقصر في هذا من الصعاليك الخاملين عليه وزره، وعليه لعنة الصعاليك العاملين، وهذا -بطبيعة الحال- إذا لم يكن فيما فُقد من شعر الصعاليك الأغربة حديث عنها.

أما عقدة العقد التي اشترك فيها جميع الصعاليك، وتحدث عنها جميع شعرائهم فهي الفقر، تلك الظاهرة الاجتماعية والاقتصادية التي كانت السبب الأقوى في تصعلكهم.

ويتحدث الشعراء الصعاليك في أكثر من موضع من شعرهم عن فقرهم، وأسبابه، وتأثيره في أجسامهم، وأثره في حياتهم الاجتماعية، والوسائل التي يسلكونها للتخلص منه، والأسباب التي يحرصون من أجلها على التخلص منه، إلى غير ذلك من ألوان الحديث.

يصورالأعلم الهذلي فقره في صورة بدوية ساذجة، ولكنها طريفة:

زعمت خناز بأن برمتنا

تغلي بلحم غير ذي شحم2

والشاعر الصعلوك هنا قد سجل على نفسه الفقر. ولن تجديه شيئا هذه

1 ديوانه المطبوع/ 40 قصيدة حرف "أك"، وديوانه المصور لوحة رقم 2.

2 شرح أشعار الهذليين 1/ 65، ولسان العرب مادة "خنز" وفيه "تجري" مكان "تغلي" - وخناز: لقب امرأة، والخناز في اللغة: المنتنة.

ص: 232

المحاولة "المكشوفة" لمدارة فقره حين ادعى أنه زعم من هذه المرأة التي يسبها، ومع ذلك فهو يرد عليها في آخر مقطوعته بأنه يفخر بأكل هذا اللحم الهزيل، ما دامت نفسه لم يمسسها عار ولا إثم:

إنا لنأكل لحمنا، فاستيقني

في غير منقصة ولا إثم1

وفي قصيدته البائية المشهورة يرسم صورة إنسانية مؤثرة له، وهو يفر من أعدائه بعد مغامرة من مغامراته في سبيل العيش، وقد ذكر أهله الفقراء في صحرائهم المجدبة، وحاجة أولاده الصغار الشعث الذين خلفهم وراءه في العراء ولا شيء لهم سوى تلك الذلة التي تبدو عليهم كلما نظروا لمحا إلى أقاربهم في انتظار شيء يجودون به عليهم:

وذكرت أهلي بالعرا

ء وحاجة الشعث التوالب

المصرمين من التلا

د اللامحين إلى الأقارب2

ويتحدث الشعراء الصعاليك عن أسباب فقرهم، وهم يردونه عادة إلى كرمهم وإسرافهم. فعروة أبو الصعاليك يرد فقره إلى بذله ماله للفقراء المحتاجين الذين يأتون إليه يشكون فقرهم وعوزهم وكثرة أولادهم:

إذا قلت قد جاء الغنى حال دونه

أبو صبية يشكو المفاقر أعجف

له خلة لا يدخل الحق دونها

كريم أصابته خطوب تجرف3

ويسجل تأبط شرا في قافيته المفضلية حوارا بينه وبين شخص يعذله على كرمه وإسرافه، يصور نفسه فيه كريما لا يُبقي على شيء عنده، مغامرا في سبيل الحصول على مزيد من المال ليرضي به مطالب كرمه، وماذا في الحياة يدفعه إلى الحرص ما دام كل ما فيها فانيا مهما يحرص الإنسان عليه:

بل من لعذالة خذالة أشب

حرق باللوم جلدي أي تحراق

يقول أهلكت مالا لو قنعت به

من ثوب صدق ومن بز وأعلاق

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 66.

2 المصدر السابق / 58. وانظر ص213 من هذا البحث.

3 ديوانه/ 92. وحماسة أبي تمام 4/ 122.

ص: 233

عاذلتي إن بعض اللوم معنفة

وهل متاع وإن أبقيته باق1

ويذكر أبو خراش أنه كريم يدعو امرأته دائما إلى ألا تدخر شيئا، ولا تبقي لغد شيئا، فإذا لم يجدا في غد بعض زادهما فسيحاول أن يحصل لها على زاد غيره، أو فلتمسك فمها عن الطعام:

لقد علمت أم الأديبر أنني

أقول لها: هدي ولا تذخري لحمي

فإن غدا إلا نجد بعض زادنا

نُفئ لك زادا أو نُعدك بالأزم2

ويتحدث الشعراء الصعاليك أيضا عن أثر الفقر في أجسامهم، وما يحمله لهم من جوع وهزال. وقد مر بنا3 حديث السليك عن فعل الجوع به في أشهر الصيف المحرقة، وما كان يصيبه من إغماء ودوار، حتى لقد أوشك أن يفقد حياته صريع الفقر والجوع والهزال، أو -بعبارة أخرى- صريع الصعلكة:

وما نلتها حتى تصعلكت حقبة

وكدت لأسباب المنية أعرف

وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني

إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف

ويرسم تأبط شرا في بعض شعره صورة لجسمه دقيقة كل الدقة، صورة الشخص الذي لا يبقي من الزاد إلا ما يتعلل به، حتى لقد نشزت أضلاعه، والتصق معاه:

قليل ادخار الزاد إلا تعلة

فقد نشز الشرسوف والتصق المعي4

وينظر بعض الشعراء الصعاليك إلى المسألة من زاوية أخرى، فيتحدثون عن صبرهم على الجوع واحتمالهم له، متخذين من هذا الحديث مجالا للفخر

1 المفضليات/ 18 - الخذالة: الذي يخذله في إرادته ويخالفه فيها. والأشب: المختلط عليه المعترض. والبيت الثاني معناه أنه يأمره أن يبخل ويمسك عليه ماله حتى يستغني عن الغزو ولا يحتاج إلى طلب المال "انظر شرح ابن الأنباري".

2 ديوان الهذليين 2/ 125 - هدي: أي اقسمي هديتك وما عندك. الأزم: الإمساك وترك الأكل.

3 انظر الباب الأول: الفصل الأول "التعريف بالصعلكة" ص30.

4 حماسة أبي تمام 2/ 27، والأغاني 18/ 217.

ص: 234

بقوة نفوسهم وصدق عزائمهم، ولكننا نلاحظ أن بين النظرتين فرقا في المجال: فأما الذين يشكون من الجوع فإنهم يتحدثون عن ذلك في مجال حديثهم عن مغامراتهم المتمردة، وأما الذين يتحدثون عن صبرهم عليه فإنهم يتحدثون عن ذلك في مجال حديثهم عن قوة نفوسهم.

ويقدم لنا أبو خراش صورة نبيلة لذلك الجوع. الذي يطيل حبسه حتى يمله فيمضي عنه دون أن يلحقه من عار، وهو يكتفي بالماء القراح في حين يستمتع البخلاء الأشجاء بزادهم، فإذا ما تلظى الجوع في بطنه فإنه يرده ويغلبه على أمره، وهو يؤثر عياله على نفسه بالطعام، وهو يفعل ذلك كله حتى يعيش حياة كريمة مترفعة لا تسقط إلى مهاوي المذلة والهوان والعار حيث يكون الموت خيرا من الحياة:

وإني لأثوي الجوع حتى يملني

فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي

وأغتبق الماء القراح فأنتهي

إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم

أرد شجاع البطن قد تعلمينه

وأوثر غيري من عيالك بالطعم

مخافة أن أحيا برغم وذلة

وللموت خير من حياة على رغم1

ومن الطبيعي أن يتحدث الشعراء الصعاليك عن تلك السياط النفسية التي يصبها الفقر على نفوسهم، والتي تحدثنا عنها في الفصل الأول من الباب الأول.

وفي شعر عروة أحاديث طويلة عن هوان منزلة الصعاليك الاجتماعية، ومقامهم خلف أدبار البيوت، وسوء منظرهم في هذا المقام الذليل، وعن تلك الغضاضة التي يراها عليهم، وكيف يتوارون عن الناس، فلا يقيمون إلا حيث لا يراهم أحد، وعن ضيق أقاربهم حتى ليوشكوا أن ينكروا قرابتهم لهم:

رأيت بني لبني عليهم غضاضة

بيوتهم وسط الحلول التكنف2

ذريتي أطوف في البلاد لعلني

أخليك أو أغنيك عن سوء محضر

فإن فاز سهم للمنية لم أكن

جزوعا، وهل عن ذاك من متأخر

1 ديوان الهذليين 2/ 127، 128، والأغاني 21/ 60 - المزلج: البخيل.

2 ديوانه/ 94.

ص: 235

وإن فاز سهمي كفكم عن مقاعد

لكم خلف أدبار البيوت ومنظر1

إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه

شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا

وصار على الأذنين كلا، وأوشكت

صلات ذوي القربى له أن تنكرا2

ويرسم السليك صورة إنسنية مؤثرة لما تلاقيه خالاته الإماء السود من الضيم والهوان، وهو عاجز لفقره عن أن يفعل من أجلهن شيئا حتى ليشيب رأسه مما يقاسيه نفسيا من أجلهن:

أشاب الرأس أنى كل يوم

أرى لي خالة وسط الرحال

يشق علي أن يلقين ضيما

ويعجز عن تخلصهن مالي3

والسليك في هذين البيتين لا يقصد خالاته القريبات شقيقات أمه بالذات، ولكنه يقصد بهن عامة الجنس، فهو يصور فيهما هوان الجنس الأسود الذي تنتمي إليه خالاته، ويقول المبرد "وإنما توجع لخالاته لأنهن كن إماء"4.

ومن الطبيعي أن يتحدث الشعراء الصعاليك، بعد أن عرضوا لمشكلة الفقر وأثرها وأسبابها، عن آرائهم فيها، وكيف يكون السبيل إلى حلها. والسبيل الوحيد إلى ذلك عندهم، كما أسلفنا، الثورة على المجتمع، أو بالذات على طبقة المالة فيه، واغتصاب حقوقهم منها، متعمدين على قوتهم، مهما يكلفهم ذلك من ثمن.

وقد صور الشعراء الصعاليك هذا كله في شعرهم، فكما تحدثوا عن مغامراتهم وهي الناحية العملية من حلهم للمشكلة، تحدثوا عن الناحية النظرية فيها، فسجلوا آراءهم الاجتماعية والاقتصادية تسجيلا صادقا بارعا.

فهم يحتقرون تلك الطائفة الخاملة من الصعاليك الذين قبلوا وضعهم الاجتماعي الذليل وقنعوا به، فعاشوا على هامش المجتمع ينتظرون من فضلات

1 ديوانه/ 67.

2 ديوانه/ 190.

3 المبرد: الكامل / 299. والبغدادي: خزانة الأدب 3/ 128 وفيهما "يعز" مكان "يشق".

4 الكامل / 229.

ص: 236

الأغنياء ما يسدون به رمقهم، ويعدون ذلك الغنى كل الغنى، لا يفكرون إلا في أنفسهم يلتمسون لها ذلك الزاد القليل الذليل، أما التفكير في أن يكون لهم من الثراء ما يطعمون به غيرهم، ويسجلون به لأنفسهم أحاديث خالدة تتناقلها الأجيال من بعدهم، فهذا أبعد الأشياء عن محيط نفوسهم الضعيفة التي تحيا حياة خاملة متكاسلة أقصى ما فيها من عمل خدمة النساء "الأرستقراطيات" إذا احتجن إليهم.

أما الصورة التي يريدون أن يكون عليها أفراد جماعة الصعاليك فهي صورة الصعلوك المغامر القوي النفس الجسد، الذي يشرق وجهه في أوقات الشدة، والذي يهب حياته للمغامرة، ويبث الرعب في قلوب أعدائه حتى ليخشونه في وجوده وفي غيابه، فإذا استغنى فإنه جدير بهذا الغنى لأنه حصل عليه بقوته، وإذا جاءه أجله في ميدان كفاحه فليمض إلى ربه حميدا مبرأ من العار والذم1.

وهم حريصون كل الحرص على أن يفرق المجتمع بين هاتين الطائفتين، وكم يتمنون لو عرف لكل طائفة قيمتها، فاحتقر الأولى، وقدر الأخرى حق قدرها. وهذا السليك يوضح ذلك الفرق لصاحبته حتى تكون على بينة من أمرها فلا تخلط بينه وبين صعاليك الطائفة الأولى الخامدة الضعيفة، لعلها إن أدركت هذا لفرق كفت عن هجرة ونال إعجابها:

ألا عتبت علي فصارمتني

وأعجبها ذو اللمم الطوال

فإني يابنة الأقوام أربى

على فضل الوضيء من الرجال

فلا تصلي بصعلوك نئوم

إذا أمسى يعد من العيال

ولكن كل صعلوك ضروب

بنصل السيف هامات الرجال2

1 انظر الحديث عن هاتين الصورتين: صورتي الصعلوك الخامل والصعلوك العامل في رائية عروة في ديوانه/ 73-82 والأصعميات/ 29، 30 وجمهرة أشعار العرب/ 115، وحماسة أبي تمام 1/ 219، 220. وانظر ص329 من هذا البحث.

2 المبرد: الكامل / 298.

ص: 237

وما دام الأمر كذلك فليرسموا لأولئك الذين آمنوا بدعوتهم خطة العمل، وليحببوها إلى قلوبهم، وليدافعوا عنها وعنهم كما دفعوهم إليها. وقد ترددت هذه المعاني كثيرا في شعرهم، ووقف عروة بن الورد بالذات -كما يقف صاحب المذهب- يدعو إلى مذهبه ويحببه إلى قلوب الناس، ويدافع عنه. وليس في هذا غرابة، فلم يكن عروة يعد نفسه صعلوكا من الصعاليك، وإنما كان يعد نفسه زعيما للصعاليك، أو داعية لفلسفة التصعلك، إن صحت العبارة. وبهذه النظرية نظر إليه رفاقه، وبحق سموه أبا الصعاليك1.

والخطة العملية في فلسفتهم الغزو والإغارة، وكما كثر في شعرهم الحديث عن الجانب التنفيذي من هذه الخطة، كثر أيضا حديثهم عن الجانب التشريعي منها، أو بعبارة أخرى كثرت دعوتهم إليها. وأكثر من ظهر عنده هذا الجانب التشريعي عروة بحكم وضعه داعية لفلسفة الصعلكة. وأساس دعوتهم أن هذه الخطة هي السبيل الوحيدة للغنى لمن هو في مثل حالتهم:

متى تطلب المال الممنع بالقنا

تعش ماجدا أو تخترمك المخارم2

ويتحدث الشعراء الصعاليك أيضا عن الأهداف التي يقصدونها بغزواتهم، فيحددون تلك الطوائف من مجتمعهم التي يرون أن يوجهوا إليها رءوس حرابهم، ومن الطبيعي أن تكون طبقة المالة أكثر طبقات مجتمعهم تعرضا لغزواتهم؛ لأنها الهدف الدسم الذي يسيل له لعابهم. ويتحدث تأبط شرا عن ثلاث طوائف من هؤلاء المالة كان يوجه إليهم غزواته: أصحاب المواشي، وأصحاب المزارع الخصبة، وأصحاب النوق الحوامل:

فيوما على أهل المواشي وتارة

لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل3

ولكن أرباب المخاض يشفهم

إذا اقتفروه واحدا أو مشيعا4

1 الأغاني 3/ 81.

2 عمرو بن براقة في الأمالي للقالي 2/ 122.

3 لسان العرب: مادة "ركب" ومادة "ثمل" - الركيب: المزرعة. والثميل: الحب.

4 حماسة أبي تمام 2/ 28، والأغاني 18/ 217 - يشفهم: يهزلهم، ويكد عيشهم. واقتفروه: تتبعوا أثره.

ص: 238

أما الأعلم فإنه يقصد أولئك السمان المترفين ضعاف القلوب، وهو يرسم في مقطوعة له صورة ساخرة طريفة نموذج من أولئك الذي يجعل منهم أهدافا لغزواته، فهو رجل غني سمين مترف، يعيش بين الستائر والحظائر، وجهت امرأته إليه برها وعنايتها حتى سمنته فأصبح من صنعها، ولكنه مع ذلك ضعيف القلب لو اخترق صحراء لفزعته شخوصها، ولحسب كل شخص فيها فارسا؛ لأنه خائف من أولئك الصعاليك المتربصين به وبأمثاله في أرجائها، الذين إذا رأوه انصبوا عليه كما تتفجر المياه من حوض متهدم يحاول صاحبه إصلاحه دون جدوى، وعندئذ تضطرب نفسه، وينهار كيانه، ويفر هاربا، ويذهب صنع امرأته فيه سدى:

أيسخط غزونا رجل سمين

تكننه الستارة والكنيف

ولو رفعت ثوبك في خروق

تروعك في مهالكها الشدوف

تخاف لزام عادية ثعول

كما يتفجر الحوض اللقيف

إذن لذكرت حالك غير عصر

وأفسد صنعها فيك الوجيف1

أما أولئك الصعاليك الذين خلعتهم قبائلهم، أو خلعوا هم أنفسهم منها، فكما يشاركون غيرهم من الصعاليك في غزوهم أولئك الأغنياء، يحرصون -إلى جانب ذلك- على الانتقام من أولئك الذين كانوا سببا في صعلكتهم. ومن هنا نجد أن لهم أهدافا أخرى غير هؤلاء الأغنياء. كما كان يفعل الشنفرى مع بني سلامان.

ويتحدث الشعراء الصعاليك أيضا عن الغاية التي يريدون أن يصلوا إليها من وراء هذه الخطة الدامية التي يسلكونها في حياتهم، وهي -بطبيعة الحال- الغنى. ويسجل الأعلم في أبيات له الأسباب التي يحرص على الغنى من أجلها

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 68، 69 - الخروق: جمع خرق وهو القفر والأرض الواسعة تتخرق فيها الرياح. والشدوف: جمع شدف "بالتحريك" وهو الشخص. واللزام: العذاب. والثعول: التي لها زيادات بمنزلة الضرع. واللقيف: الذي أصلحه صاحبه فطينه وسواء من نواحيه. والوجيف: ضرب من السير، أو هو الاضطراب.

ص: 239

في ثلاثة: فأمواله تغنيه عن الناس من ناحية، وهو يعين بها الدعين إذا حلت بهم عظيمة من ناحية ثانية، ثم هو -من ناحية ثالثة- يعدها للأضياف والمعوزين في أيام الجدب والشدة التي لا يجد الناس فيها ما يطعمون به من بكرت بغلام، ولا تجد الأم شيئا تسكت به فطيمها عن البكاء والصراخ جوعا:

أحبشي إنا قد يُمتعنا الغنى

بأموالنا نريحها ونسيمها

ونحبسها على العظائم نتقي

بها دعوة الداعين، إنا نقيمها

إذا النفساء لم تخرس ببكرها

غلاما، ولم يسكت بحتر فطيمها1

ويذكر صخر الغي أنه قتل رجلا من مزينة وسلبه ماله، ليقوي به مال رجل فقير كريم لا يكاد يثبت له مال:

في المزنى الذي حششت به

مال ضريك تلاده نكد2

أحاديث التشرد:

قلنا إن هذه الحياة الواقفة في وجه المجتمع المتمردة عليه الخارجة على نظمه، كان من أثرها أن فقد المجتمع اطمئنانه إلى أصحابها، كما فقد هؤلاء طمأنينتهم فيه، وقلنا إن النتيجة الطبيعية لهذا كانت هي التشرد.

وقد تحدث الشعراء الصعاليك عن تشردهم في أرجاء الصحراء الموحشة، ووديانها المخيفة، وافتخروا باهتدائهم فيها دون دليل، أو قيامهم بمهمة الدليل لجماعة من رفاقهم، واتخذوا من هذا مادة للفخر بأنفسهم، أو لمدح رفاقهم الصعاليك. يفتخر تأبط شرا -في حديثه إلى امرأة خطبها فامتنعت عليه- بأنه لطول تشرده ألفته وحش الصحراء واطمأنت إليه، حتى لتوشك أن تصافحه لو أن وحشا تصافح إنسا:

يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه

ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا

1 شرح أشعار الهذليين 1/ 67. و"بها" في البيت الثاني ساقطة، ولا يستقيم الوزن بدونها. لخرسة: طعام الولادة. والحتر: الشيء القليل.

2 المصدر السابق/ 13 - حششت به: قويت به. ضربك: فقير.

ص: 240

رأين فتى لا صيد وحش يهمه

فلو صافحت إنسا لصافحته معا1

ويفتخر في قافيته المشهورة بكرمه وتشرده، ويتوعد عاذليه إن لم يكفوا عن عذله بترك ديارهم والمضي متشردا في الآفاق البعيدة حتى يختفي عنهم وما هم بقادرين على معرفة مكانه مهما يجدوا في السؤال عنه:

إني زعيم لئن لم تتركوا عذلي

أن يسأل الحي عني أهل آفاق

أن يسأل القوم عني أهل معرفة

فلا يخبرهم عن ثابت لاق2

ويمدح صديقا له من الصعاليك، فلا يجد خيرا من أن يبدأ مدحه بذكر تشرده:

قليل التشكي للمهم يصيبه

كثير الهوى شتى النوى والمسالك

يظل بموماة ويمسي بغيرها

جحيشا ويعروري ظهور المهالك3

ثم يمدحه بطائفة من المعاني الأخرى، ولكنه لا ينسى أن يختم مقطوعته بذكر تشرده مرة أخرى، كأنما هو حريص على أن يؤكد هذه الميزة لصاحبه الذي بلغ به تشرده أن أصبحت الوحشة أنسه الأنيس، والصحراء الغامضة المجهولة كتابا مفتوحا يهتدي فيه كما تهتدي الشمس في فلكها:

يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي

بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك4

ويفتخر عروة بمقدرته على الاهتداء في الفلاة الغامضة المخوفة التي يعرض سالكها نفسه للمهالك من غير أن يستشير أحدا أو يستعين بأحد:

وغبراء مخشي رداه مخوفة

أخوها بأسباب المنايا مغرر

قطعت بها شك الخلاج ولم أقل

لخيابة هبابة كيف تأمر5

1 الأغاني 18/ 217.

2 المفضليات/ 18. وابن قتيبة: الشعر والشعراء / 175، 176.

3 حماسة أبي تمام 1/ 47 - جحيشا: متفردا. يعروري: يركب.

4 المصدر السابق / 49.

5 ديوانه/ 130 - غبراء: مظلمة ليست بمفردة الطرق. وشك الخلاج: ما يخالجه ويشككه.

ص: 241

وتأخذ الصورة عند أبي خراش وضعا آخر، فهو لا يقنع باهتدائه في مجاهل الصحراء، بل يذكر في مجال فخره أنه يهدي رفاقه في الليالي المظلمة:

وإني لأهدى القوم في ليلة الدجى

وأرمي إذا ما قيل هل من فتى يرمي1

ويتحدث الشعراء الصعاليك عن أماكن تشردهم في قلب الصحراء، وبعدها عن المناطق المأنوسة، وما يحيط بها من أهوال، وما يكتنف الطريق إليها من مخاوف.

يتحدث تأبط شرا عن شعب من شعاب الصحراء، في جهة نائية مهجورة، ضربت حوله الجبال نطاقا، حتى غدا الطريق إليه وعرا، وملأته الصخور، وتجمعت فيه آثار من مياه قديمة لا تُعرف مصادرها، ويفتخر بأنه اهتدى إليه دون دليل، ودون أن يسأل أحدا عنه:

وشعب كشل الثوب شكس طريقه

مجامع صوحيه نطاق محاصر

به من سيول الصيف بيض أقرها

جبار، لصم الصخر فيه قراقر

تبطنته بالقوم، لم يهدني له

دليل، ولم يثبت لي النعت خابر

به سملات من مياه قديمة

مواردها ما إن لهم مصادر2

ويتحدث الشنفرى عن واد بعيد في أعماق الصحراء ملتف الشجر، قد ألفته الجن والآساد، حتى بات يخشاه المغامرون الشجعان، وكيف أقدم في جرأة وشجاعة على السير فيه في وقت مبكر قبل أن يتطاير الندى عن أشجاره:

وواد بعيد العمق ضنك جماعه

بواطنه للجن والأسد مألف

تعسفت منه بعد ما سقط الندى

غماليل يخشى غيلها المتعسف3

وقد قلنا إنه نتيجة لهذا التشرد وردت في أشعار الصعاليك أحاديث كثيرة

1 ديوان الهذليين 2/ 131.

2 الأصمعيات 1/ 35. ويُروى البيت الثاني في لسان العرب مادة "جبر" "به من نجاء الصيف" - الشل: أن يصيب الثوب سواد ولا يذهب بغسله. الصوح: حائظ الوادي وأسفل الجبل أو وجهه القائم كأنه حائط. الجبار: السيل. السملة: الماء القليل.

3 الأغاني 21/ 141 - الغماليل: الروابي. والغيل: الشجر الكثير الملتف.

ص: 242

عن حيوان الصحراء ووحشها وطيرها وحشراتها وما يخيل للساري فيها من أشباح.

وحين نستعرض مجموعة شعر الصعاليك التي بين أيدينا نجد أنهم تعرضوا بالذكر لسبعة وعشرين نوعا من هذه الفصائل السابقة: الذئب، والضبع، والسمع، والنمر، والأسد، والثعلب، والضب، ثم حمار الوحش، والنعام، والوعول، والظباء، والأرانب، ثم الحيات، والعظايا، ثم النسر، والصقر، والعقاب، والغراب، والبوم، والسماني، والقمري، والقطاة، والهدهد، ثم النحل، والجراد، ثم الجن، والغيلان.

ومن الطبيعي ألا يتحدث الشعراء الصعاليك عن هذه الأنواع جميعا بدرجة واحدة، فإن بعضها أقرب إلى طبيعة حياتهم، وأدل على تصويرها، وأصلح للانتفاع به في فنهم من بعضها. ومن هنا تفاوت اهتمام الشعراء الصعاليك بهذه لأنواع تفاوتا كبيرا.

وقد رأينا كيف استغل العداءون منهم تلك المجموعة من الحيوان السريع العدو في حديثهم عن سرعة عدوهم استغلالا رائعا ممتازا، ورأينا تأبط شرا يذكر في بعض شعره أن وحش الصحراء قد ألفته ولم تعد تشخاه أو تنفر منه، كما رأينا الشنفرى، وهو يصف الوادي البعيد الذي اعتسفه، يذكر أنه موطن للجن والآساد.

ولكن الأمر لا يقف بالشعراء الصعاليك عند هذا الحد، بل يتجاوز ذلك أحيانا إلى تعرضهم لبعض هذه الأنواع بالوصف الدقيق المفصل، الأمر الذي لا يتهيأ إلا لمن اتصل بها اتصالا قريبا عرف منه طبائعها وعاداتها.

ففي شعر عروة وصف للأسد، فهو عريض الساعدين عريض الصدر، رابض فوق أجمة يتساقط قصبها فوق ظهره، ولكن إذا بدت له فريسة فما هي إلا وثبة واحدة حتى يقتنصها، أما زئيره فيشبه صوت الرعد:

تبغاني الأعداء إما إلى دم

وإما عراض الساعدين مصدرا

بظل الأباء ساقطا فوق متنه

له العدوة الأولى إذا القرن أصحرا

ص: 243

كأن خوات الرعد رز زئيره

من اللاء يسكن الغريف بعثرا1

وتستأثر الضباع بجزء كبير من شعر الأعلم، وهو يصفها وصفا دقيقا، ويصف جراءها، وفعلهن بفريسنهن، فالضبع غليظة لها ثماني جواعر خلف أظلافها شعرات مجتمعة، وفويق هذه الشعرات دوائر مثل الخلاخيل يخالف لونها سائر لون الأرجل:

عشنزرة جواعرها ثمان

فويق زماعها خدم حجول2

ويصف جراءها، وانتفاخ بطونهن، وسواد جلودهن كأنما ارتدين ثياب رهبان، وقصر آذانهن العريضة التي تشبه المغارف، وما يفعلنه بالفريسة المسكينة التي تجر أمهن إليهن لحمها، وكيف ينتزعن جلدها كما ينزع القيون بطائن الجفون البالية:

وتجر مجرية لها

لحمي إلى أجر حواشب

سود سحاليل كأن

جلودهن ثياب راهب

آذانهن إذا احتضر

ن فريسة مثل المذانب

ينزعن جلد المرء نز

ع القين أخلاق المذاهب3

وهي صورة يخشاها تأبط شرا أيضا، ويصورها في بعض قصائده، فالضبع تنبش الأرض عن الجيف المدفونة، ثم تنشب فيها أنيابها وبراثنها، ثم تدعو رفيقاتها وبناتها، فيسارعن إليها ليشاركنها نهشها:

1 ديوانه/ 55، 56 - العراض: العريض. والمصدر: العريض الصدر. والأباء: القصب. وأصحر: برز إليه. وخوات الرعد: صوته. والرز: الصوت تسمعه من بعيد ولا ترى صاحبه. والغريف: الشجر الملتف. وعثر: أرض قبل تبالة تسكنها الأسود، وتبالة بلدة من أرض تهامة جنوبي الطائف.

2 شرح أشعار الهذليين 1/ 64 - العشنزرة: الغليظة المسنة. والزماع: جمع زمعة، وهي شعرات خلف ظلف الشاة فضربه مثلا. والخدم جمع خدمة وهي لون يخالف سائر لون رجلها مثل الخلخال.

3 المصدر السابق 1/ 57، 58 - مجرية: أي ضبع ذات جراء. والحواشب: المنتفخات الجنوب. والسحاليل: العظام البطون. والمذانب: المغارف التي يغرف بها. والمذاهب: بطائن مذهبه تغشى بها أجفان السيوف.

ص: 244

فزحزحت عنهم أو تجئني منبتي

بغبراء أو عرفاء تفري الدفائنا

كأني أراها الموت لادر درها

إذا أمكنت أنيابها والبراثنا

وقالت الأخرى خلفها وبناتها:

حتوف تنقي مخ من كان واهنا

أخاليج وراد على ذي محافل

إذا نزعوا مدوا الدلا والشواطنا1

أما الشنفرى فلا يخشى على جسده الضبع، بل يحرص على أن يهيئ لها منه وليمة شهية، وهو لهذا يبشرها بمقتله، ويطلب إلى قاتليه ألا يدفنوه:

لا تقبروني إن قبري محرم

عليكم ولكن أبشري أم عامر2

ويرسم أبو خراش في قصيدة له صورة طبيعية صادقة لحمار الوحش وأتنه التي استبان حملها، وما يدور بينه وبينها، فهي تتأبى عليه، وهو يصاولها ويتبعها. ولكن هذا ليس كل شيء في حياة هذا الحيوان، وإنما هناك جانب نفسي آخر في حياته، هو ذلك الذعر الذي يملأ نفسه همًّا من خشية الصيادين، ويعبر الشاعر عن هذا الذعر بمنظر الحمار وقد اعتلى مرتفعا من الأرض يشرف منه على الآفاق حوله، وقد امتلأت نفسه خوفا وهما، حتى إذا آذنت الشمس بالمغيب بعد يوم طويل شديد الحر تذكر إناثه، فأخذ يطاردها مرة أخرى وهي تعدو أمامه فتثير غبارا ممتدا كأنه خيوط لم تبرم:

أرى الدهر لا يُبقي على حدثانه

أقب تباريه جدائد حول

أبن عقاقا ثم يرمحن ظلمه

إباء وفيه صولة وذميل

يظل على البز اليفاع كأنه

من الغار والخوف المحم وبيل

وظل لها يوم كأن أواره

ذكا النار من فيح الفروغ طويل

فلما رأين الشمس صارت كأنها

فويق البضيع في الشعاع خميل

1 الأغاني 18/ 213 - الضمير في "عنهم" يعود على أعدائه الذين يطاردونه وهو يفر منهم. والأخاليج: جمع إخليج وهو السريع، أو من خليج بمعنى جذب وانتزع. الدلال: هي الدلاء جمع دلو. والشواطن: الحبال.

2 ديوانه في الطرائف الأدبية/ 36. والشعر والشعراء/ 19 - وأم عامر: الضبع.

ص: 245

فهيجها وانشام نقعا كأنه

إذا لفها ثم استمر سحيل1

ويرسم أيضا صورة طبيعية صادقة للون من ألوان الصراع الذي يدور في تلك الصحراء المقفرة بين كائناتها الحية، والصراع هنا بين صقر وأرنب، فالصقر فوق مرتفع مشرف على الآفاق، رأى على بعد أرنبا بين شقوق الأرض، فهوى إليها، ولكنها تسرع لتنجو منه، فيزيد هو من سرعته حتى انقض عليها فانتظم قلبها:

ولا أمعر الساقين ظل كأنه

على محزئلات الإكام نصيل

رأى أرنبا من دونها غول أشرج

بعيد عليهن السراب يزول

فضم جناحيه ومن دون ما يرى

بلاد وحوش أمرع ومحول

توائل منه بالضراء كأنها

سفاة لها فوق التراب زليل

يقربه النهض النجيح لما يرى

ومنه بدو تارة ومثول

فأهوى لها في الجو فاختل قلبها

صيود لحيات القلوب قتول2

ولعل أطرف ما في شعر الصعاليك من هذا الباب أحاديث الجن والغيلان.

1 ديوان الهذليين 2/ 117-119. أقب: حمار ضامر البطن، جدائد: جمع جدود وهي التي لا لبن لها، وحول: جمل حائل وهي التي لم تحمل من عامها. والعقاق: الحمل. والظلم: طلب السفاد في غير موضعه. والذميل: سير لين من سرعة. والبرز: ما يبرز للشمس. واليفاع: المرتفع من الأرض. وقوله الخوف المحم يريد به الخوف الذي يأخذه معه هم وحديث نفس. والوبيل: العصا الغليظة الشديدة، يريد أنه من الخوف ضمر حتى صار كالعصا. ذكا النار: اشتعالها. من فيح الفروغ: أي يفور ويهتاج من مجراه الذي يجري منه كمثل فرغ الدلو. البضيع: الجزيرة في البحر. والخميل: القطيفة لها أهداب، يقول: صارت الشمس حين دنت للغروب فوق جزر البحر كأنها قطيفة لها أهداب يشبه بها أشعتها. وقوله: انشام نقعا أي دخل فيه، والنقع: الغبار. والسحيل: خيط لم يبرم يشبه به الغبار، أي أن الحمار دخل في غبار كأنه هذا النسيج قبل أن ينسج.

2 ديوان الهذليين 2/ 121-123. أمعر الساقين: لا ريش عليهما، يريد به صقرا. المحزئل: المرتفع. النصيل: حجر طويل أملس يجعل في البئر. الأشرج: شقوق تكون في الأرض بعيدة طوال. غول: أي ذات بعد. يزول: أي يتحرك. بلاد وحوش: أي بلاد واسعة تسكنها الوحوش. توائل: أي تتوارى لتنجو منه. الضراء: ما واراك من الشجر. السفاة: الشوكة. وقوله لها فوق التراب زليل: أي من خفتها تزل فوق الأرض. اختل قلبها: أي انتظمه.

ص: 246

وأكثر ما يرد ذلك في شعر تأبط شرا، وهي صورة -وإن تكن محاطة بإطار أسطوري- تصور ما كان يخيله الوهم لذلك الصعلوك المغامر المتشرد البعيد الآفاق في الليالي المظلمة بين أرجاء الصحراء الموحشة، حيث تتجسم الرؤى أشباحا مخيفة، وتختلط الأصوات في لحن غامض رهيب. ومع ذلك فقد يكون ما يقصده تأبط شرا من الغيلان تلك الفصيلة من الحيوان المعروفة باسم "الغورلا"1، ولكن هذا لا ينفي أن صورتها عنده محاطة بإطار أسطوري. وهو يصور لقاءه لها، بعد أن يمهد لذلك بالحديث عن الليل، ثم يصفها، ويسجل ما دار بينه وبينها، وتنتهي القصيدة بينهما دائما بقتلها:

وأدهم قد جبت جلبابه

كما اجتابت الكاعب الخيعلا

إلى أن حدا الصبح أثناءه

ومزق جلبابه الأليلا

على شيم نار تنورتها

فبت لها مدبرا مقبلا

فأصبحت والغول لي جارة

فيا جارتا أنت ما أهولا

وطالبتها بضعها فالتوت

بوجه تغول فاستغولا

فقلت لها يا انظري كي ترى

فولت فكنت لها أغولا

فطار بقحف ابنة الجن ذو

سفاسق قد أخلق المحملا

إذا كل أمهيته بالصفا

فحد ولم أره صيقلا

عظاية قفر لها حلتا

ن من ورق الطلح لم تغزلا

فمن سال أين ثوت جارتي

فإن لها باللوى منزلا2

وهناك مقطوعتان أخريان تصوران قصتين أخريين مع الغول والجن3، ولكن الشك يحيط بنسبتهما إلى تأبط شرا؛ إذ إنهما كما تنسبان له تنسبان لغيره من الشعراء، ولكن هذا لا يدل دلالة واضحة على شهرة تأبط شرا بحديثه عن الجن والغيلان، حتى ليختلط الأمر على الرواة فيما يروى من هذا الحديث أهو له أم لغيره من الشعراء.

1 في القاموس المحيط: من معاني الغول والسعلاة، والحية، وساحرة الجن، "أو دابة رأتها العرب وعرفتها، وقتلها تأبط شرا""مادة غول".

2 الشعر والشعراء / 176، 177. والأغاني 18/ 210 - الخيعل: ثوب تلبسه المرأة كالقميص، أو قميص لا كمين له. العظاية: دويبة كسام أبرص.

3 انظر الأغاني 18/ 210، 212، 213 والبغدادي: خزانة الأدب 3/ 108. والبكري: معجم ما استعجم 1/ 257. ولسان العرب: مادة "حد".

ص: 247