المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ١١

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في مؤاخاته صلى الله عليه وآله وسلم بين الصحابة

- ‌بحث في المتحابين في الله

- ‌تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل

- ‌زهرة النسرين الفائح بفضائل المعمرين

- ‌بحث في جواب سؤال عن الصبر والحلم هل هما متلازمان أم لا

- ‌بحث في الإضرار بالجار

- ‌نثر الجوهر على حديث أبي ذر

- ‌سؤال وجواب في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة من سائر الجهات ومكثهم في المسجد الحرام

- ‌رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة

- ‌رسالة في حكم القيام لمجرد التعظيم

- ‌العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي

- ‌هذه مناقشة للبحث السابق لبعض الهنود الساكنين في تهامةتحقيق الرباني للعالم الصمداني على رسالة الشوكاني[العرف الندي في جواز لفظ سيدي]

- ‌ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة

- ‌جواب سؤالات وصلت من كوكبان

- ‌الدواء العاجل لدفع العدو الصائل

- ‌القول الحسن في فضائل أهل اليمن

- ‌مجموعة من الحكم لبعض الحكماء المتقدمين

- ‌بحث مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال

الفصل: ‌ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة

(186)

18/ 3

‌ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

ص: 5677

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة.

2 -

موضوع الرسالة: آداب.

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد، وإياك نستعين، يا من لك الحمد كله، دقه وجله.

4 -

آخر الرسالة: المؤثرين لهما على تقليد الرجال وزايفات الأقوال. . . والحمد لله أولا وآخرا. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية إن شاء الله.

5 -

نوع الخط: خط نسخي مقبول.

6 -

عدد الصفحات: 15 صفحة.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة.

9 -

الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 5679

بسم الله الرحمن الرحيم

إياك نعبد، وإياك نستعين، يا من لك الحمد كله، دقه وجله، نسألك أن تصلي وتسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.

وبعد: فإني لما حررت بحثا في أيام قد تصرمت، وسنين قد تقدمت، حاصله: أنه يجوز في المكاتبات ونحوها إطلاق لفظ سيدي ونحوه. وقفت بعد أيام طويلة على مناقشات لبعض ما اشتمل عليه ذلك البحث من بعض أهل العلم والفهم - كثر الله في عباده الحاملين للعلم من أمثاله - ورأيت بعض ما اشتملت عليه تلك المناقشات، قد اشتمل على أمور من حق ما يجب على المسلم للمسلم من النصيحة والمحبة التنبيه عليها.

وها أنا قبل الشروع في تعقب تلك المناقشات أوضح لك محل النزاع الذي حررت لأجله ذلك البحث.

فأقول - وبالله الثقة -: إن محل النزاع هو: هل من كتب في رسالة إلى أحد من إخوانه: يا سيدي، أو أيها السيد، أو نحو ذلك قد فعل بهذا محرما عظيما، وارتكب محظورا جسيما أم لا؟ بل لم يحصل منه إلا مجرد المخالفة لما كان الغالب في مكاتبات السلف الصالح من قولهم: من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان.

وقد أوضحت هذا في ذلك البحث الذي ناقشه المناقش - عافاه الله - إيضاحا بليغا فقلت: ولا شك ولا ريب أن هذا العنوان أعني من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان هو الذي كان عليه السلف الصالح.

ثم قلت: فهو من هذه الحيثية سنة حسنة، وخصلة مستحسنة. ثم قلت بعد هذا أن من عنون كتابه بما جرت عليه عادات المتأخرين من لفظ سيدي فلان، ونحو ذلك هل ارتكب عظيما، وفعل جسيما، وتلبس بغير شعار الإسلام، وارتطم في أعظم مهاوي الآثام؟ إلى آخر كلامي في عنوان ذلك البحث، فهذا تصريح بأن محل النزاع ليس هو في كون هذا سنة، فإن الاعتراف بذلك كائن قد أوضحته في عنوان البحث، ولكن محل

ص: 5683

النزاع هل يكون المخالف لما كان عليه السلف من قولهم من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان فاعلا لمحرم، ومرتكبا لأمر معظم [1] بل هو يكون متلبسا بغير شعار الإسلام، ومرتطما في أعظم مهاوي الآثام كما صرحت بذلك تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب؟.

وإذا قد تقرر أن هذا هو محل النزاع عرفت أنه لا نزاع في كون ذلك هو عمل السلف الصالح، أعني: قولهم من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، فأني قد اعترفت بهذا وصرحت به في عنوان البحث، وصرحت بأنه العنوان الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله في مكاتباته، وهذا الاعتراف لا يستلزم أن تكون المخالفة لذلك محرمة فضلا عن كونها موجبة للخروج من الإسلام، والوقوع في أعظم الآثام.

وقد تقرر عند جميع أهل الملة الإسلامية سابقهم ولاحقهم أن ترك السنن التي ليست بواجبة لا توجب كفرا ولا فسقا، ولا يقال لذلك التارك أنه بتركه قد فعل محرما، وارتكب معظما، بل غاية ما يلزم من ذاك أن التارك حرم نفسه الثواب الذي كان سيحصل له بفعل تلك السنة، لا أنه قد صار بذلك مستحقا للعقاب؛ فإن الشيء الذي يمدح فاعله، ويذم تاركه إنما هو الواجب المفترض على العباد من الله - سبحانه - كما قرر ذلك علماء الأصول على اختلاف مذاهبهم، ولم يقل أحد منهم أن تارك ما ليس بواجب يأثم أو يذم (1).

هذا على فرض أنه لم يرد ما يجوز ترك ذلك الفعل الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم. أما لو ورد ما يجوز تركه من أقواله أو تقريراته فلا نزاع ولا خلاف في جواز الترك لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك الترك كان بدليل هو القول أو التقرير كما كان فعل ذلك الفاعل الموافق لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بدليل هو الفعل، وإلا لزم أن تكون هذه الشريعة المطهرة منحصرة في أفعاله صلى الله عليه وسلم

(1) انظر الرسالة رقم (67). "الكوكب المنير"(1/ 333)، و"المستصفى"(1/ 137)، "الإبهاج"(1/ 43)

ص: 5684

دون أقواله وتقريراته، بل ودون القرآن الكريم، وهذا خرق لإجماع أهل الملة الإسلامية، وإهدار لأكثرها، فإن الأحكام الثابتة بالقرآن وبأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتقريراته أضعاف [2] أضعاف الأحكام الثابتة بمجرد الأفعال، بل غالب هذه الشريعة المطهرة، بل كلها إلا النادر الشاذ ثابت بالكتاب العزيز، وبأقواله صلى الله عليه وسلم وتقريراته. وأما مجرد الأفعال فغالبها بيان لما في القرآن، أو موافق للأقوال (1).

فمن زعم أن ما خلف أفعاله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله - سبحانه -، أو من أقوال رسوله صلى الله عليه وسلم وتقريراته ليس بشرع فقد ارتكب أمرا عظيما، وقال قولا وخيما وأبطل الشريعة بأسرها إلا القليل النادر، وخالف كل أهل الملة الإسلامية سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم.

وإذا عرفت هذا وفهمته كما ينبغي فاعلم أني لم أقل في ذلك البحث أن من قال في عنوان كتابه: من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان مخالف للسنة، ولا قلت أن من قال في عنوان كتابه: يا سيدي أو نحوه فقد فعل ما هو أفضل، بل قلت ما حاصله أن من قال يا سيدي أو نحوه فهو لم يفعل محرما، ولا خرج من الإسلام، ولا استحق أعظم الآثام مع اعترافي بأن الذي كان عليه السلف الصالح هو ذلك العنوان، وأنه سنة حسنة، وخصلة مستحسنة. ولكني أنكرت على من يقول أن في خلاف ذلك ما يوجب أعظم الآثام، والتلبس بغير شعار الإسلام، والدخول في المحرمات العظام.

وقلت: أن هذه المخالفة جائزة، وأوردت أدلة تدل على ذلك حسبما أوضحته في ذلك البحث إيضاحا لا يبقى بعده ريب. وأنت خبير بأن المناقشة لهذا الذي قلته في ذلك البحث إنما تكون بإيراد الأدلة الدالة على أن من عدل في عنوان كتابه من ذلك العنوان الذي كان عليه السلف الصالح إلى عنوان آخر يخالفه فقد فعل محرما عظيما، وخرج من

(1) تقدم توضيحه. انظر: "البحر المحيط"(4/ 177)

ص: 5685

الإسلام، واستحق أعظم الآثام.

وأما المناقشة بأن ذلك العنوان هو السنة [3]، أو أنه الذي كان عليه السلف الصالح، فإن ذلك لا يجدي نفعا، ولا يرد علي، فإني قد اعترفت به اعترافا صريحا في أول بحثي، والمناقشة بما يعترف به الإنسان هي من تحصيل الحاصل، وإيجاد الموجود، بل لو صح للمناقش القدح في جميع ما أوردته من الأدلة التي ذكرتها لم يأت ذلك بفائدة، فإنه لم يتم للمناقش بمجرد ذلك القدح أن مخالفة ذلك العنوان محرمة ومخرجة من الإسلام، وهو الذي نفيته وأنكرته على قائله، وهو يكفيني الوقوف في موقف المنع قائلا: أنا أمنع كون مخالفة ذلك العنوان موجبة للتحريم فضلَا عن الكفر، فلا ينفع المناقش إلا إيراد الأدلة الصحيحة الموجبة لدفع ذلك المنع، إن كان ناقلا فعليه تصحيح النقل، وإن كان مدعيا فعليه الدليل كما تقرر في علم المناظرة والجدل.

وأما مجرد القدح في سند المنع فهو لا يوجب أن يكون الحق بيد ذلك القادح، وهذا معلوم عند المحققين، معروف عند جميع المحصلين لا يختلفون فيه، فكيف والقدح في تلك الأدلة التي أوردتها لم يصح شيء منه كما سيأتيك بيانه إن شاء الله. فهذا يزيد محل النزاع، وقد كررته لقصد الإيضاح وللفرار من الوهم الذي قد وقع للمطلع - عافاه الله -.

قوله: دال على أنها من البدعة القبيحة.

أقول: اعلم أن الأدلة الدالة على جواز إطلاق لفظ السيد وسيدي على فرد من أفراد البشر، كما وقع منه صلى الله عليه وسلم في غير موضع، وكما وقع من جماعة السلف الصالح يرفع ما ذكره من كون ذلك بدعة، بل لقائل أن يقول: إنه لا يخرج عن كونه سنة، فإن القائل لمن له سيادة يا سيد بني فلان، أو يا سيدي قد اقتدى بمثل قوله صلى الله عليه وسلم:" قوموا إلى سيدكم "(1)، وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم:" إن ابني هذا سيد "(2)، وبمثل قوله: " هذا سيد أهل

(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح

(2)

تقدم تخريجه وهو حديث صحيح

ص: 5686

الوبر " (1) ونحو ذلك مما سيأتي بيانه.

على أن هاهنا [4] أمرا آخر، وهو أن البدعة القبيحة إنما هي البدعة في الدين، لا في مثل ما يقع به التحاور في المخاطبة والمكاتبة، فإن ذلك ليس من البدعة التي يقول فيها صلى الله عليه وسلم:" وكل بدعة ضلالة"(2). وبيانه أنه لو كان التخاطب بالقلم أو اللسان المخالف للتخاطب الذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم هو وأهل عصره بدعة لكان التخاطب والتكاتب بغير اللسان العربي بدعة، ولكان رسم الحروف الكتابية على غير الرسم الذي كان يفعله أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم بدعة، ولكان اللبس للثياب التي لم يلبسها النبي صلى الله عليه وسلم مما هو حلال للابسه بدعة، ولكان أكل الطعام الحلال الذي لم يأكله النبي صلى الله عليه وسلم بدعة. ثم يسري الأمر إلى الأزمنة والأمكنة والأحوال، فيقال إنه لا يكون متسننا إلا إذا فعل فعلا موافقا للفعل الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في الزمان والمكان والأحوال، وذلك محال، والتكليف به تكليف بما لا يطاق، ومعلوم أن أكثر أهل الملة الإسلامية، بل أكثر أهل الربع المسكون ليست ألسنتهم بعربية، وهم يتخاطبون ويتكاتبون بغير اللسان العربي، وبغير القلم العربي، فإن كانوا بذلك مبتدعين كان ذلك خرقا للإجماع.

ولا فرق بين من يخالف وصفا من أوصاف ما كانت عليه مكاتباته صلى الله عليه وسلم كالعنوان الذي فيه من فلان بن فلان إلى العنوان الذي فيه سيدي ونحوه، وبين من يخالف وصفا آخر مثل كون الألفاظ عربية، أو كونها على رسم كذا، أو مثل هذا اختصاص أهل كل بقعة من بقاع الأرض بلبسة مخصوصة، على هيئة مخصوصة، وثياب مخصوصة،

(1) تقدم تخريجه

(2)

أخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح.

وابن ماجه رقم (43) و (44) والدارمي (1/ 44 - 45) وابن حبان في صحيحه رقم (5) من حديث العرباض بن سارية. وهو حديث صحيح

ص: 5687

وكذلك ما يأكلونه من الأطعمة، ومثل هذا [5] لا يقال له بدعة قبيحة، ولا يندرج تحت مسمى الابتداع في الدين (1)، ولا يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم:" وكل بدعة ضلالة"(2).

(1) البدعة: قد اختلف العلماء في تحديد معناها شرعا.

فمنهم: من جعلها في مقابل السنة.

ومنهم: من جعلها عامة تشمل كل ما أحدث بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان محمودا أو مذموما ولعل أفضلها وأجمعها: " هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بها التقرب إلى الله تعالى ولم يقم على صحتها دليل شرعي صحيح أصلا أو وصفا ".

"الاعتصام" للشاطبي.

قوله بقصد التقرب إلى الله خرجت البدع الدنيوية: كتصنيف الكتب في علم النحو، وأصول الفقه ومفردات اللغة، وسائر العلوم الخادمة للشريعة كالسيارات، والأسلحة والآلات الزراعية والصناعية.

فكلها وسائل مشروعة، لأنها تؤدي إلى ما هو مشروع بالنص. وهي التي تقبل التقسيم إلى الأحكام الخمسة.

1 -

واجبة 2 - ومندوبة 3 - مباحة 4 - مكروهة 5 - محرمة

والبدعة الدينية لا تنقسم إلى الأحكام الخمسة للأدلة الواضحة:

1 -

): قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره. ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله الله. ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف، كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] أي: صدقا في الإخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} .

انظر "عمدة التفسير"(4/ 75).

(2)

الحديث المتقدم: " كل بدعة ضلالة".

قال ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم"(ص274): ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله الكلية، وهي قوله:" كل بدعة ضلالة" بسلب عمومها. وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة. فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل.

قال ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم"(ص 252): قوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد" فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلاله والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة. وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية. . "

ص: 5688

وبهذا يتقرر لك صحة ما ذكره كثير من أهل العلم من تخصيص البدعة القبيحة بما كان من الابتداع في الدين، فحينئذ لا يصح الاستدلال على ما نحن بصدده بمثل حديث:" كل بدعة ضلالة"(1)، ولا بمثل حديث:" كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد"(2)، لأن هذه الأمور مختصة بما كان من أمر الدين، لا بمثل التحاور والتكاتب ونحو ذلك.

ولو سلمنا اندراج المكاتبة تحت الأمور الدينية اندراجا مشتملا على جميع الأوضاع التي كانت في عصر النبوة لكان ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من إطلاق لفظ السيد على فرد من أفراد العباد مخصصا للعمومات، والخاص مقدم على العام باتفاق أهل الأصول، بل بإجماع كل من يعتد به من أهل العلم. .

قوله: فهي غير شعار الإسلام.

أقول: هذا اللفظ يراد به من خلع جلباب الإسلام، وخرج منه إلى غيره، فإن كان المعترض - عافاه الله - يريد هذا المعنى، وأن من لم يكتب في صدر كتابه من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان فقد خرج عن الإسلام إلى الكفر، فهذا أمر لا يقوله مسلم، ولا يستجيزه أحد من أهل هذه الملة؛ فإن التكفير إنما يكون بأمور معروفة، قد ذكرها أهل العلم، ومنها رد ما كان قطعيا من قطعيات الشرع لا مجرد تركه من دون رد ولا إنكار

(1) تقدم تخريجه

(2)

تقدم تخريجه

ص: 5689

ولا استحقار.

وأما مجرد ترك شيء غاية أمره، ومبلغ وصفه أن يكون سنة غير واجبة، بل مندوبا، بل في صدق أحد هذين المفهومين عليه إشكال قد قدمنا تقريره، فكيف يكون من ترك هذا المسنون، أو المندوب، أو الذي لا يصلح لكونه مسنونا أو مندوبا كافرا! وكيف يجري بمثل هذا قلم، أو ينطق به فم وإن لم يرد هذا المعنى، بل أراد أن من لم يكتب [6] في عنوان كتابه من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، بل كتب سيدي ونحوه قد فعل خصلة من خصال الجاهلية، وتلبس بها، ولم يكفر ولا فسق فهو غير صحيح، فإن هذه الخصلة - أعني قول الناس في مكاتباتهم: سيدي ونحوه - لم يكن من خصال الجاهلية، ولا كانت الجاهلية تفعلها في المكاتبة، فكيف يقال أن هذا من شعائر الجاهلية!.

نعم قد كانوا يقولون لفرد من أفرادهم السيد وسيدنا حسبما يوجد في كلامهم المنثور والمنظوم، وهذه بمجردها قد قالها الشارع، واستعملها غير مرة، فهي من هذه الحيثية خصلة إسلامية محمدية، فقد سوغ النبي صلى الله عليه وسلم إطلاقها فجاز لنا استعمالها في المخاطبة والمكاتبة، ومن ادعى أنه يجوز استعمالها في البعض دون البعض فهو محتاج إلى الدليل.

وهكذا من زعم أنه يراد بلفظ السيد وسيدي في اصطلاح المتأخرين غير ما يريده المتقدمون فهو أيضًا محتاج إلى دليل كما سيأتيك بيانه.

نعم ظهر من آخر كلام المعترض - عافاه الله - في هذا الاعتراض أنه يريد الجاهلية التي حدثت من عباد القبور المعتقدين في الأموات اعتقادا يخرجون به عن الإسلام، كما كان يقع كثيرا من أهل القطر التهامي، وبعض القطر اليمني، بل ويقع في كثير من البلاد الإسلامية.

ولكن إذا قد تقرر أن الشيء مباح في الشريعة المطهرة فلا يصير باستعمال بعض الطوائف الكفرية له حراما أو مكروها. .

قوله: فيه إيهام باستصغار المعصية. .

أقول: هذا إنما يتم بعد تسليم أن ذلك معصية كبيرة أو صغيرة، وذلك غير مسلم،

ص: 5690

بل نحن نقول أن ذلك مباح باعتبارين:

الأول: البراءة الأصلية (1).

الثاني: استعمال الشارع له استعمالا يدل على جوازه كما سيأتي.

فقول المعترض بأن ذلك فيه إيهام استصغار المعصية استدلالا بالمقدمة المتنازع فيها، وهو مصادرة على المطلوب في اصطلاح المحققين. .

قوله: ولعمري أن العلامة خلط الحديثين. .

أقول: حديث عبد الله بن الشخير أخرجه أبو داود في كتاب الأدب (2) من سننه (3) عن مسدد بن مسرهد، عن بشر بن المفضل، عن أبي سلمة سعيد بن زيد، عن أبي نضرة بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه [7]، فذكره. وأخرجه النسائي في اليوم والليلة (4) عن حميد بن مسعدة عن بشر بن المفضل، وعن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة، عن قتادة (5)، وعن حرمي بن يونس بن محمد عن أبيه، عن مهدي بن ميمون بن غيلان بن جرير، كلاهما عن مطرف عن أبيه (6). فحديث عبد الله الشخير روي من هذه الطرق بألفاظ فيها اختلاف (7) أوردنا منها في البحث الذي حررناه بعض الألفاظ، لا

(1) تقدم توضيح معناها.

(2)

رقم (35) باب: في كراهية التمادح

(3)

رقم (4806). وهو حديث صحيح

(4)

في "عمل اليوم والليلة" رقم (248، 251)

(5)

رقم (245)

(6)

رقم (246)

(7)

منها: حديث رقم (245) ولفظه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنت سيد قريش فقال: " السيد الله " قال: أنت (أفضلنا) قولا، وأعظمنا فيها طولا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ليقل أحدكم بقوله ولا يستجره الشيطان أو الشياطين".

ومنها حديث رقم (246) وفيه: " فقالوا: أنت والدنا، وأنت سيدنا وأنت أفضلنا علينا فضلا، وأنت أطولنا علينا طولا. فقال: " قولوا بقولكم لا تستهوينكم الشياطين".

ص: 5691

يقدح في ذلك اتفاق بعض حديث عبد الله بن الشخير وحديث غيره، وليس ذلك من الخلط، وليس المقصود إلا إيراد المتن الذي استدلوا به، سواء كان مرويا من طريق واحد من الصحابة أو أكثر.

قوله: بل الإنكار لم يبرح من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. .

أقول: المطلوب من المعترض - عافاه الله - تصحيح النقل عن هؤلاء الذين أنكروا ذلك من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فهذا أقل ما يجب على الناقل. ثم ليعلم أن الذي نفينا إنما هو قول القائل لآخر في مكاتباته أو مخاطبته: يا سيدي أو يا سيد، أو نحو ذلك يوصف بالتحريم، ويوجب الإثم العظيم، فإن ظفر المعترض بمن يقول بأن ذلك محرم من علماء الإسلام فليهده إلينا، فإنه يقول إنه ما زال الإنكار من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فإن كان الذي وقع منهم إنما هو مجرد الإنكار من دون جزم منهم بالتحريم فذلك لا ينفعه ولا يضرنا، فإنما قصدنا في بحثنا إرشاد من يقول أن ذلك محرم، ومع هذا فإنا نطلب منه أن يصحح النقل عن المنكرين، سواء قالوا بالتحريم أم لا، فتلك فائدة تستفاد، فإنا لم نجد في شروح الحديث المعتبرة للمتكلمين على هذا الحديث إلا ما هو من قبيل التأويل.

وقد ذكر بعض علماء القرن الثامن كلاما في هذا الحديث، وهو صحيح، ونحن نوافقه في ذلك. ولكن المطلوب من المعترض - عافاه الله - تصحيح النقل باستمرار الإنكار من عصر النبوة إلى الآن، وإن كان مستنده على استمرار هذا الإنكار هو حديث "لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين"(1)، فهذا لا ينفعه ولا يضرنا، فإنا نقول: إن الطائفة التي هي على الحق ظاهرة لا تقول في شيء ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه محرم عظيم، وموجب لخروج فاعله من الإسلام، فإن قال إنهم يقولون بذلك فعليه البيان

(1) تقدم تخريجه

ص: 5692

فإنا واقفون في موقف المنع، فمن كان ناقلا فعليه تصحيح النقل، ومن كان مدعيا فعليه الاستدلال على دعواه [8] كما هو دأب المتناظرين (1)، فإن يكن له على ذلك إلا مجرد الدعوى بأن الفرقة الظاهرة على الحق تنكر ذلك فهذه مصادرة على المطلوب، وهي غير مقبولة عند المحققين. .

قوله: فإن السيد في موضع التخاطب والتكاتب يراد به المالك. .

أقول: اعلم أن المعترض - عافاه الله - قد ادعى هاهنا على أهل الاصطلاح - أعني المتكاتبين أو المتخاطبين بلفظ سيدي أو السيد - أنهم يريدون به المالك، وهذا مجرد دعوى، فإن المتكاتبين بذلك، والمتخاطبين به لا يريدون إلا المعنى اللغوي، وهو من ثبتت له الرئاسة حقيقة أو ادعاء على فرد أو أفراد.

أما الحقيقة فظاهر، وذلك بأن يكون رئيسا على فرد أو أفراد. وأما الادعاء فبأن لا تكون له رئاسة لكنه يدعيها له من كاتبه أو خاطبه تأدبا. ومن خاطب أو كاتب بذلك مقتديا برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول لقيس بن عاصم:" هذا سيد أهل الوبر"(2)، ويقول في امرئ القيس:" إنه سيد الشعراء "، ويقول في سعد بن معاذ:" إنه سيد الأنصار "، ونحو ذلك، فما عليه من حرج، وماذا يلزمه من إثم.

ولا نعرف أحدا يكاتب أو يخاطب بلفظ السيد مريدا به المالك، ولا قد سمعنا هذا من أحد من أهل العلم، ولا من رجل من أهل الاصطلاح، فإن كان المعترض يقول هذا بدليل على أنهم يريدون بالسيد وسيدي المالك فما هو؟ وإن كان ينقله عن أحد من أهل العلم أو الاصطلاح فمن هو؟ وإن كان يقول من جهة نفسه فما بمثل هذا يؤكل الكتف.

ولا يحل لرجل مسلم أن يقدم على تأويل كلام إلا بسبب يتعين معه التأويل، وإلا كان ذلك مجازفة، وتعسفا، وخروجا عن دائرة الإنصاف. فيا لله العجب حيث يدعي

(1) تقدم ذكرها

(2)

تقدم تخريجه

ص: 5693

من هو من أهل العلم، وفي عداد حملته أن لفظا من لغة العرب قرره الشرع يحرم استعماله ويوجب ضلال قائله لمجرد دعوى أن المستعمل يريد به معنى هو في الحقيقة لم يرده، ولا خطر بباله! فعلى المعترض - عافاه الله - أن يرجع إلى الإنصاف، فهو أولى من التمادي في الباطل، فإنه ما تم له دفع ما ذكرناه من الأدلة إلا بزعمه أن المستعملين [9] للفظ السيد يريدون منه في المكاتبة والمخاطبة معنى المالك، ولولا هذا الزعم الفاسد لم يتمكن من دفع شيء من الأدلة.

وها نحن نقول له: هؤلاء الذين يتكاتبون ويتخاطبون بهذا اللفظ هم على ظهر البسيطة، فعليك أن تسأل من كان منهم يفهم ما يقول وما يقال له: هل يريدون بلفظ السيد وسيدي هو المالك كما قلته أنت أولا يريدون ذلك؟ فإن أبيت فانظر إلى كتبهم التي يتكاتبون بها في هذه الديار، فإنك تجدهم يجمعون بين لفظ سيدي ومالكي في غالبها، وهذا من أعظم الأدلة، على أنهم لا يريدون بلفظ السيد معنى المالك. وعند هذا تعرف أنه لم يندفع بما قاله شيء من الأدلة التي ذكرناها. . .

قوله: فهذه تسع حجج مخصصة للعموم المستفاد مما ذكره. . .

أقول: أما حديث عبد الله بن الشخير، وما ورد في معناه فقد عرفت في البحث الذي حررناه أنهم أرادوا بلفظ السيد معنى لا يجوز إطلاقه على البشر، وذلك هو سبب النهي (1). وأما كونه من أمور الجاهلية، وكونه بدعة فقد عرفت اندفاعهما مما أسلفنا في هذا الجواب.

وأما الاستلال بقوله تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (2) فلا نسلم أن هذا من الغلو في الدين، ولا يندرج تحت معنى الآية، على أنه لو سلمنا تنزلا اندراجه لم يصح استدلال المعترض - عافاه الله - بهذه الآية، لأنها أعم مطلقا من الأدلة الدالة على جواز إطلاق

(1) تقدم ذكره

(2)

[النساء: 171، المائدة: 77]

ص: 5694

السيد وسيدي على البشر، ولا يسوغ عند علماء المعقول والمنقول تقديم العام على الخاص، بل الخاص مقدم على العام بالاتفاق.

فنقول: هذا اللفظ أعني: لفظ السيد ونحوه قد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مخصصا لما هو أعم منه مطلقا بلا شك ولا شبهة. والمعترض يسلم هذا العموم والخصوص، فإنه يزعم أن الآية المذكورة تشمل هذا اللفظ وغيره، فكيف جعلها مقدمة على ما هو أخص منها مطلقا! فإن هذه لا يطابق عمل أهل الأصول، ولا صنيع علماء المعقول، ولعله لا يخفى عليه مثل هذا، ومثل هذا قوله:"هلك المتنطعون"(1). .

قوله: وأما إذا قال: من فلان إلى السيد الشريف، أو يا سيد بني فلان، أو يا سيد ائت من غير إضافة فلا بأس به.

أقول: قد قرب لنا - المعترض عافاه الله - المسافة، وقلل الاختلاف، وأشار إلى الوفاق. وبيانه أنه لم يبق منه خلاف إلا في إطلاق السيد مضافًا [10] نحو سيدي أو سيدنا، ولم يمنع من كل مضاف، بل خصص ذلك بالمضاف إلى الضمير فقط، ولهذا جوز سيد بني فلان لكونه مضافًا إلى غير الضمير، وحينئذ فالمنع عنده إنما هو من لفظ سيد إذا كان مضافًا إلى الضمير، معللا ذلك بأنه يراد به المالك كما سلف. وقد عرفناك أن ذلك غلط منه على من يتكاتب أو يتخاطب بذلك، ومعلوم أنه إذا أنصف عرف صحة ما ذكرناه من أنهم لا يريدون ذلك المعنى، وإذا ذهب هذا الوهم جاز عنده وعندنا إطلاق لفظ سيدي وسيدنا، لأنه لا يراد عند التكاتب والتخاطب إلا إثبات الرئاسة حقيقة أو ادعاء، ولم يبق حينئذ بيننا وبينه خلاف إن رجع إلى الإنصاف.

ثم اعلم أنه هاهنا قد جوز إطلاق السيد إذا قامت قرينة على أنه يراد به البشر، كما قال بأنه يجوز أن يقال إلى السيد الشريف، وهذا فيه موافقة لنا أيضا؛ فإنا ذكرنا في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم:" السيد الله" أنه عرف من مقصدهم أن السيد عندهم هو الله،

(1) تقدم تخريجه. وهو حديث صحيح

ص: 5695

وذكرنا أنه يجوز إطلاقه على البشر إذا لم يوجد ذلك المقصد. وهكذا المعترض قد جوزه إذا قامت قرينة تدل على أنه لم يرد الرب - سبحانه - بلفظ السيد. ولهذا جوز السيد الشريف، لأن الشريف قرينة دالة على أنه لم يرد بالسيد الله - سبحانه -، فوافقنا من هذه الحيثية، واعترف بصحة التأويل الذي ذكرناه في ذلك البحث. والحمد لله.

ثم نقول: ليت شعري أي فرق بين قول القائل يا سيد بني فلان، ويا سيدنا، مع كون الخطاب مع فرد من أفراد بني آدم؟ فإن في قوله سيد بني فلان إثبات الرئاسة له على طائفة هم بنو فلان، وفي قول القائل: سيدنا إثبات الرئاسة له على طائفة هم المتكلمون بهذا اللفظ، المخاطبون به، أو المكاتبون لغيرهم. وفي قول القائل: يا سيدي إثبات الرئاسة له على فرد هو المتكلم.

ولا شك ولا ريب أن إثبات الرئاسة لرجل على بطن أو قبيلة أكثر مدحا، وأوسع تعظيما من إثبات الرئاسة له على المتكلم الواحد، أو الاثنين، أو الجماعة. فيا عجبا من تجويز ما هو أمدح وأوسع، ومنع ما هو دون ذلك! فإن كان في الإضافة إلى خصوص الضمير مزيد معنى يوجب المنع فيا ليت شعري ما هو؟! إن قال: هو احتمال كون المتكلم أراد [11] بقوله: يا سيدي أو سيدنا معنى الربوبية فكان قال يا ربي، أو يا ربنا، فهذا الاحتمال كائن في قوله السيد أو سيد بني فلان، فإنه يحتمل أنه أراد الرب أو رب بني فلان.

فإن قال المعترض أنه لم يبق هذا الاحتمال في لفظ السيد أو سيد بني فلان، فنقول له: ما وجه ارتفاع هذا الاحتمال؟ إن قال هو كون الخطاب مع فرد أو أفراد من بني آدم فهكذا نقول: إن الخطاب في قول القائل سيدنا أو سيدي مع فرد أو أفراد من بني آدم، وإن قال إن القرينة هي كونه قد أضيف إلى ضمير فرد أو أفراد من بني آدم، فنقول: وكذلك سيدنا وسيدي قد أضيف إلى ضمير فرد أو أفراد من بني آدم، وإن قال إن لفظ سيد بني فلان مسوغ غير ما ذكرناه فما هو؟ ومع هذا فقد تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بالمضاف إلى الضمير، فقال للأنصار: " قوموا إلى ................

ص: 5696

سيدكم " (1) وقال للأوس: " انظروا ما يقول سيدكم" (2) يعني سعد بن عبادة، وهو في الصحيح. فهل ثم فرق بين ضمير وضمير؟ يا لله العجب!. .

وبالجملة. . فالمعترض - عافاه الله - إن كان يرجع إلى صواب الصواب، ويعترف بالحق، ويذعن للإنصاف فهو لا يخفى عليه بعد هذا أن التشديد في هذه المسألة لم يكن عن بصيرة ثاقبة، ولا رأي صائب، ولا أعني بهذا قوما مخصوصين كما وهم المعترض، فإنما عنيت عالما من علماء اليمن، كاتبني مكاتبة ظهر منها أنه يتشدد في ذلك، فكتبت ذلك البحث جوابا عليه، وعلى من يذهب إلى ما يقوله من التشدد، فليعلم هذا المطلع عليه ويتيقنه، ويعرف أنه لا إرب لي إلا الإرشاد إلى الحق، ودعاء الناس إلى العمل بالكتاب والسنة من غير تعصب لمذهب معين، ولا مجادلة عن طائفة مخصوصة.

قوله: مع قيام القرينة بأنهم أرادوا المالك الذي كانوا يقصدون ذلك عند الإطلاق لآلهتهم.

أقول: قد تقرر بهذا أنه لا منع عند المعترض إلا إذا أراد من أطلق السيد على المالك فقط، وحينئذ فلا فرق بين السيد، وسيد بني فلان، وسيدنا، وسيدي، فإنها ممنوعة إن أراد المتكلم بها المالك، وجائزة إن لم يرد بها المالك. ونحن نقول أن أهل العصور المتأخرة لا يريدون بشيء من تلك الألفاظ المالك كما قدمنا تحقيقه فجاز لهم إطلاق ذلك في المخاطبة والمكاتبة، وحصل الوفاق وارتفع الخلاف. وهذا بناء على صحة ما ذكره من أن مراد أولئك القوم الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: أنت سيدنا معنى: أنت مالكنا ولكن الظاهر أنهم ما أرادوا [12] إلا معنى: أنت ربنا كما أوضحنا ذلك سابقا.

وقد اعترف المعترض بأنهم كانوا يقصدون بلفظ السيد ما يقصدونه عند إطلاقه على آلهتم. ومعلوم أنهم لا يقصدون عند خطاب الآلهة بالسيد وسيدنا إلا الرب، فإنهما أرباب عندهم، كما صرح بذلك القرآن. فالقرينة التي جعلها دالة على أنهم أرادوا المالك

(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح

(2)

تقدم تخريجه وهو حديث صحيح

ص: 5697

هي دالة على أنهم أرادوا الرب. فهي على المعترض لا له.

قوله: بل (اللام) في قوله صلى الله عليه وسلم للحصة المشخصة في الخارج التي هي الأصل في وضعها.

أقول: قد اختلف علماء العربية (1) والبيان والأصول (2) في المعنى الحقيقي للام التعريف فذهب جمع إلى أن المعنى الحقيقي هو العهد. وإلي هذا ذهب جماعة من محققيهم. وذهب آخرون إلي أن المعنى الحقيقي هو الحقيقية من حيث هي هي. وذهب قوم إلى المعنى الحقيقي هو الجنس. وقد استدلت كل طائفة على قولها بأدلة. والحق عندي أن الأصل هو الحقيقة من حيث هي هي. من غير نظر إلى الأفراد. ثم قد يقصد باللام حصة مشخصة توجد الحقيقة في ضمنها. وقد يقصد بها حصة غير معينة توجد الحقيقة في ضمنها أيضا. وقد يقصد بها كل فرد فرد. والحقيقة موجودة في ضمنها أيضا. فكانت (لام) الحقيقة هي الأصل من هذه الحيثية. وهذه هو أولى مما ذهب إليه صدر الشريعة. وجماعة من أهل الأصول والبيان. ومن أهل العربية (الرضي)(3) وغيره. .

قوله: وهي ملكة الاستنباط. .

أقول: الملكة التي يتمكن بها من عرف علوم الاجتهاد من استنباط المسائل الفرعية عن أدلتها التفصيلية هي الأمر الحاصل لمن جمع تلك العلوم. فلا يصح جعلها معدودة من علوم الاجتهاد. لأنها صادرة عنها. إلا إنها جزء منها. هذا إن أراد بالملكة ما أراده علماء الظن من كونها تحصل لمن جمع تلك العلوم مع سلامة الفطرة. وإن أراد أمرا خلقيا فلا أعرف قائلا من أهل الأصول جعل أمرا من الأمور الخلقية الجبلية جزءا من أجزاء العلوم الاجتهادية. ولا أظن محققا يقول بمثل هذا؛ فإن ذلك مادة من الله - سبحانه-

(1) انظر "شرح الكافية"(1/ 331 - 332).

(2)

انظر "اللمع"(ص15). "البحر المحيط"(3 - 87).

(3)

انظر: "شرح الكافية"(1 - 87).

ص: 5698

يجعلها فيمن يشاء من عباده. وليست مما يكسبه العبد من العلوم. ولسنا بصدد تعداد ما يخلقه الله في عباده من الاستعداد والفهم. بل بصدد ما يصير به العالم مجتهدا من العلوم المدونة فما معنى قول المعترض أنه ذهل العلامة [13] عن خصلة أخرى هي أحرى؟ ثم إن ما ذكرناه من قولنا: ولهذا كانت هذه العلوم هي المقدمة في العلوم الاجتهادية تصريح واضح بأن تلك العلوم التي ذكرناها هي المقدمة في علوم الاجتهاد (1). لا أنها جميع علوم الاجتهاد. ولو كان في كلامنا يفيد أنها جميع علوم الاجتهاد لكان الاستدراك بعلمي الكتاب والسنة واردا ورودا صحيحا. لا ما ليس من العلم في شيء. بل هو أمر خلقي يضعه الله فيمن يشاء من عباده. ويقذفه في قلبه. فما معنى هذا الاستدراك الذي جاء به المعترض في هذا الموضوع؟.

قوله: لا بطريق المغالطة التي ارتكبها. بل بوجه الإنصاف.

أقول: قد فوضت المعترض - عافاه الله - بأن يعرض هذا البحث على من يوثق بعلمه وتحقيقه. ممن بقي من أهل العلم في تلك المدينة. لينظروا فيما حررته أولا. وفيما حرره من الاعتراض. وفيما حررته في هذه الورقات. حتى يعلموه من هو الذي ارتكب في بحثه الغلاط والغلط. وجاء في تأويله للأدلة بأعظم الشطط. فالمسلم أخو المسلم. والمؤمن مرآه أخيه. ونحن أعوان على الحق. .

قوله: هذا موضوع اقشعرار جلود العارفين. فإنه جرأة عظيمة.

أقول: هذا ليس موضوع الاقشعرار. فإنه لم ينهدم ركن من أركان الإسلام، ولا هتكت حرمة من محارمه. ولا تعدي حد من حدود الله. بل قال قائل لمن يخاطبه أو يكاتبه: يا سيدي وسيدنا. وهذا لفظ عربي ورد الإذن به عن الشارع، وجرى على لسانه بقوله:"سيد أهل الوبر". "سيد الشعراء". "سيد الأوس". "سيد الخزرج". "إن ابني هذا سيد". "أنا سيد ولد آدم". وقد عرفناك ما في الفرق بين

(1) تقدم ذكر علوم الاجتهاد.

ص: 5699

غير المضاف من ألفاظ السيد. وبين المضاف. وبين ما كان مضافًا إلى المضمر. وما كان مضافًا إلى المظهر. وأوضحنا لك أن الاغترار بذلك والاحتجاج به والوقوف عنده من ضيق الفطن (1). .

وإني أظن أن المعترض - ثبته الله - بعد اطلاعه على هذا الجواب يذهب الله عنه تلك القشعريرة. ويفرج روعه. ويتيقن أن ما حصل عنده [14] من استعظام هذا الأمر، وما خالجه من الخوف والوجل لم يكن عن سبب يوجب ذلك. ولا لمقتض يقتضيه. بل لمجرد تقليد بحت. واعتقاد لم يكن عن بصيرة - فتح الله علينا وعليه أبواب معارفه. وألهمنا وإياه رشدنا، وجعلنا من فريق الحق وجماعة الرشد، وكشف عن قلوبنا عمى التقليد وعشى الريب، وعمش الشك. وغشاوة التعصب، وجعلنا من العاملين بكتابه وسنة نبيه، الواقفين على حدودهما، المؤثرين لهما على تقليد الرجال وزايفات الأقوال -. . .

والحمد لله أولا وآخرا.

وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية - إن شاء الله -. .

حرره مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. . .

(1) تقدم ذكره. انظر"فتح الباري"(5/ 178 - 179).

ص: 5700