المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحث مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ١١

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في مؤاخاته صلى الله عليه وآله وسلم بين الصحابة

- ‌بحث في المتحابين في الله

- ‌تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل

- ‌زهرة النسرين الفائح بفضائل المعمرين

- ‌بحث في جواب سؤال عن الصبر والحلم هل هما متلازمان أم لا

- ‌بحث في الإضرار بالجار

- ‌نثر الجوهر على حديث أبي ذر

- ‌سؤال وجواب في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة من سائر الجهات ومكثهم في المسجد الحرام

- ‌رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة

- ‌رسالة في حكم القيام لمجرد التعظيم

- ‌العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي

- ‌هذه مناقشة للبحث السابق لبعض الهنود الساكنين في تهامةتحقيق الرباني للعالم الصمداني على رسالة الشوكاني[العرف الندي في جواز لفظ سيدي]

- ‌ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة

- ‌جواب سؤالات وصلت من كوكبان

- ‌الدواء العاجل لدفع العدو الصائل

- ‌القول الحسن في فضائل أهل اليمن

- ‌مجموعة من الحكم لبعض الحكماء المتقدمين

- ‌بحث مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال

الفصل: ‌بحث مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال

(191)

28 - /5

‌بحث مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال

؟

وكذلك على ما يدور بينهم من قولهم:

" لا خير في السرف ولا سرف في الخير "

تأليف محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

ص: 5805

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: بحث: مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال؟ وكذلك على ما يدور بينهم من قولهم: " لا خير في السرف ولا سرف في الخير ".

2 -

موضوع الرسالة: آداب.

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وأفضل صلاة وأكمل سلام.

4 -

آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية، لمن له هداية، وحسبي الله ونعم الوكيل.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

عدد الصفحات: 11 صفحة ما عدا صفحة العنوان.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطراً.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.

9 -

الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 5807

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك، وآله أفضل صلاة وأكمل سلام.

وبعد:

فإنه كثيراً ما يجري على ألسن الناس ويتساءلون عنه قولهم: هل الأدب خير من الامتثال، أو الامتثال خير من الأدب؟ فأردت كشف الكلام عن هذا المرام بمعونة ذي الجلال والإكرام.

فأقول: هذا الأدب المذكور في هذا السؤال لا بد أن يحمل على ما لم يدل عليه دليل، لأنه لو دل عليه دليل بخصوصية أو عموم يندرج تحته لم يصح السؤال من أصله، لأن الأدب الذي دل الدليل عموماً أو خصوصاً مطلوب بدليله، ففعله من الامتثال فلا يصح أن يقابل به الامتثال في هذه العبارة، فتقرر لك بهذا أن الأدب المسئول عنه هو الذي لم يدل عليه دليل، ولكن فعله فيه تأدب من الفاعل تستحسنه العقول، وتقبله الطباع. وإذا كان الأمر هكذا فالسؤال طائح من أصله، مندفع بجملته، لأن امتثال أمر الشارع هو الشرع الذي أمرنا الله - سبحانه - باتباعه، ونهانا عن مخالفته كما قال - سبحانه -:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1)، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2)، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3){إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (4)، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5)

(1)[الحشر: 7].

(2)

[آل عمران: 31].

(3)

[النساء: 59].

(4)

[النور: 51].

(5)

[النساء: 65].

ص: 5811

فما ثبت الأمر به في الكتاب والسنة وجوباً أو ندباً فهو الحسن الجميل، والأدب [1أ] الصالح، والعمل المقبول، وما خالف ذلك فهو على العكس من هذا كائناً ما كان، وعلى أي صفة وقع، وبأي صورة وجد.

إذا عرفت هذا فما ذكره هذا السائل في سؤاله، وجعله معادلاً للامتثال لا يصلح لذكره في مقابلة الأدلة التي يجب امتثالها إن كانت مفيدة للوجوب، أو يندب فعله إن كانت مفيدة للندب، وذلك الذي ظن الظان أنه أدب ليس بأدب شرعي، إنما هو أدب شيطاني عورض به الدليل الشرعي.

ومعلوم أنه لو قال قائل: أيهما أفضل عملي بالدليل أو تركي له، وعدولي إلى ما لا دليل عليه؟ لقال كل سامع يسمعه: ليس هذا السؤال من سؤل من له فهم، فإن كون التمسك بالدليل أولى من مخالفته، وأحسن من فعل غيره لا يخفى على مقصر ولا على كامل، ولكنه لما أورد السائل سؤاله بهذه العبارة المجملة، ثم يتيقظ المسئولون لما هو المراد منهما، وكثيراً ما قد سمعنا إيراده في مجامع أهل العلم فلا يظفر السائل بغير الحيرة وعدم الفائدة، والأمر أظهر من أن يتوقف فيه متوقف، أو يتردد عنده متردد، لأنه لا يشكل على من لديه أدنى علم بأن ما دل عليه الدليل أولى مما لا دليل عليه فضلاً عن فعل ما يخالف ذلك الدليل نفسه، وهذا من الظهور والجلاء بمنزلة لا تخفى إلا على غريق في العامية، مترد بثياب الجهل.

ومن أعظم أسباب التحير في جواب هذا السؤال أنهم يمثلونه بأمثلة عند المحاورة يتعاظم المسئول مخالفتها، ولو تأملها المسئول حق التأمل لوجدها مما دل عليه دليل بعمومه أو بخصوصه، وما كان كذلك، فليس مما يدخل تحت هذا السؤال، ولا مما يندرج في جملته، والجواب عنه ظاهر واضح، لأن الدليل [1ب] الذي دل عليه إن كان أعم من مقابله خصص به، وإن كان أخص من مقابله كان هذا الدليل الخاص تخصيصاً

ص: 5812

لمقابله، وإن كانا عمومين شمل كل واحد منهما واحد من المتقابلين رجعنا إلى الترجيح، ووجوه الترجيح (1) معروفة، وإن كان بينهما عموم وخصوص من وجه فلا تعارض بينهما في مادة الاجتماع، لأنها متناولة لهما، ويتعارضان في مادتي الافتراق فيرجع إلى الترجيح بينهما.

أما في نفس ذينك الدليلين أو بدليل خارج عنهما، وإن كانا خاصين يتناول دليل كل واحد منهما ذلك المدلول عليه على الخصوص، ويدفع مقابله، فهذا من تعارض الأدلة الخاصة، والواجب الرجوع إلى وجوه الترجيح، وهي لا تخفى على المحققين، ولكن هذا كله خارج عن مسألة السؤال لا جامع بينه وبينها بوجه من الوجوه، لأنه من تعارض الأدلة، لا من باب تعارض الامتثال والأدب، لأن فعل كل واحد منهما من باب امتثال ما ورد عن الشرع، فإن ترجح في نفسه سقط مخالفه، وإن ترجح مخالفه سقط هو. ولا يصح إن بعد فعل المرجوح من باب الأدب، ولا مدخل للأدب في ذلك، لأن الاعتبار بأدب الشرع، وهو ما دل عليه الكتاب أو السنة قولا، أو فعلا، أو تقريرا، لا بالأدب الذي تقبله العقول، وتستحسنه الأنفس، فإن ذلك خارج عن الشرع.

والتجاوز في هذه المسألة والتساؤل عنها إنما هو فيما يدل عليه الشرع، ولو علم المسئول بادئ بدء أن سؤال السائل إنما هو عن أمر ورد الشرع به، وعن أمر يخالفه لما اشتغل بجوابه، ولا تحير عند إيراده؛ لأن هذا السؤال هو في وزان قول لقائل: هل الحق خير من الباطل، أو الباطل خير من الحق؟ أو قول القائل: هل اتباع [2أ] الشرع أولى من اتباع غيره، أو اتباع غير الشرع أولى من اتباعه؟ وأنت تعلم أنه عند أن يقرع الأسماع هذا الكلام الزائف، والسؤال المائل عن سنن الصواب لا يجاب السائل إلا بالسخرية منه، والضحك من قوله، والتعجب من جهله.

فإن قلت: قد مثل هؤلاء المتحاورون في هذه المسألة، المتنازعون فيها بمثال معروف

(1) انظر وجوه الترجيح في " إرشاد الفحول "(ص 892 - 918)، " البحر المحيط "(4/ 253 - 260)" تيسير التحرير "(3/ 166)

ص: 5813

هو أن الأدلة الواردة في تعليمه صلى الله عليه وآله وسلم كيف يصلون عليه وردت كلها بلفظ: اللهم صل على محمد، فزادوا لفظ سيدنا وقالوا: اللهم صل على سيدنا محمد، وقالوا: هذه الصلاة مشتملة على الأدب الحسن، والأدلة دلت على عدم ثبوت هذه الزيادة، فأيهما أفضل الإتيان بها تأدبا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو تركها امتثالا لأوامره التي لم تشتمل على هذا اللفظ؟

قلت: وهذا المثال أيضًا ليس مما يصدق عليه معنى ذلك السؤال، ويندرج في معنى ذلك الإشكال، لأنه قد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم صحة وقع الإجماع عليها أنه قال:" أنا سيد ولد آدم "(1) فدخل في ذلك جميع الأنبياء الصالحين، وكل المؤمنين والمسلمين على اختلاف أنواعهم، وتباين طبقاتهم، فهو صلى الله عليه وآله وسلم سيد كل فرد من أفراد العباد كائنا من كان، وعلى كل إنسان أن يعتقد ذلك، ويدين به، ولكنه لم يرد في الصلوات المنصوصات هذا اللفظ، بل وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم الاقتصار على ذلك المقدار، ولو كان لذلك مدخل في الصلوات لعلمه صلى الله عليه وآله وسلم الناس كما علمهم سائر ألفاظ الصلوات.

ولا يصح أن يقال: إنه صلى الله عليه وآله وسلم ترك التصريح بهذا اللفظ تواضعا، أو نحو ذلك، فإن ما شرعه الله لعباده لا يترك بمجرد ذلك، ولا يصح نسبته إليه، ولو كان للتواضع ونحوه مدخل في التشريع لم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:" أنا سيد ولد آدم " فإن هذا الحديث قد شمل أمته، وشمل غيرهم [2ب] من سائر الملل المختلفة، والطوائف المتباينة، منذ عصر أبينا آدم، عليه السلام إلى هذه الغاية، وما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من النهي عن تفضيله على موسى عليه السلام (2) - ذاكرا

(1) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (183).

(2)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2411) ومسلم في صحيحه رقم (160/ 2373) عن أبي هريرة رضي الله عنه: استب رجلان رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، قال المسلم: والذي اصطفى محمدا عن العالمين فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم. فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة. فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش فلا أدري، أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله ".

ص: 5814

لتلك العلة المذكورة في كتب الحديث عند البعثة، وكذلك ما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من النهي عن تفضيله على يونس بن متى (1)، فقد اختلف أهل العلم في تأويله، وكيفية الجمع بينه وبين حديث:" أنا سيد ولد آدم " فمنهم من جعل ذلك من باب التواضع (2)، وله مدخل في مثل هذا بخلاف ما قدمنا، ومنهم من جزم بأنه قال ذلك قبل أن يعلم أنه سيد الكل، وصاحب الرئاسة الدينية على الجميع (3)، ومنهم من

(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3416) ومسلم رقم (2376) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى ".

(2)

قال القرطبي في " المفهم "(6/ 229): قال بعض العلماء: إنما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التواضع، والأدب مع الأنبياء وهذا فيه بعد، لأن السبب الذي خرج عليه هذا النهي يقتضي خلاف ذلك، فإنه إنما قال ذلك ردعاً وزجراً للذي فضل.

ألا ترى أنه قد غضب عليه حتى أحمر وجهه - يشير إلى ما أخرجه البخاري رقم (3414) ومسلم رقم (159/ 2373) - وفيه ". . . فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه. ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله. . " - ونهى عن ذلك فدل على أن التفضيل يحرم. ولو كان من باب الأدب والتواضع لما صدر منه ذلك.

(3)

انظر " فتح الباري "(6/ 452).

قال القرطبي في " المفهم "(6/ 230): يحمل الحديث على ظاهره من منع إطلاق لفظ التفضيل بين الأنبياء، فلا يجوز في المعين فيهم. ولا غيرهم، ولا يقال: فلان النبي أفضل من الأنبياء كلهم، ولا خير من فلان، ولا خير من فلان كما هو ظاهر هذا النهي. لما ذكر من توهم النقص في المفضول وإن كان غير معين، ولأن النبوة خصلة واحدة لا تفاضل فيها. . . وإنما تفاضلوا فيما بينهم بما خص به بعضهم دون بعض، فإن منهم من اتخذه الله خليلاً، ومنهم من اتخذه حبيباً. ومنهم أولو العزم، ومنهم من كلم الله على ما هو المعروف من أحوالهم، وقد قال تعالى:(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)[البقرة: 243]، فإن قيل: إذا كانوا متفاضلين في أنفسهم فكيف ينهى عن التفضيل؟ وكيف لا يقول من هو في درجة عليا: أنا خير من فلان، لمن هو دونه على جهة الإخبار عن المعنى الصحيح؟

فالجواب: أن مقتضى هذا الحديث المنع من إطلاق ذلك اللفظ لا المنع من اعتقاد معناه أدباً مع يونس، وتحذيراً من أن يفهم في يونس نقص من إطلاق ذلك اللفظ.

ص: 5815

يقول إن حديث: " أنا سيد ولد آدم " عام مخصص بموسى ويونس بن متى، وهذا بعيد جداً، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان سيداً لمثل إدريس وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وسائر أنبياء بني إسرائيل الذين آخرهم عيسى - صلوات الله عليهم جميعاً وسلامه وهم بين الجلالة والفضيلة بمنزلة يتقاصر عنها الوصف، فكيف ينهى عن تفضيله على موسى ويونس! مع أنه قد ثبت عنه أنه لو بعث موسى في زمانه لتمسك بشريعته، وتحقق باتباعه - فبالأولى يونس مع أن يونس بن متى عليه السلام هو من أنبياء إسرائيل المقتدين بشريعة موسى عليه السلام، المقتدين بالعمل بالتوراة كما يعرف ذلك من له اطلاع على كتاب نبوته، فإنه كتاب مفرد من جملة كتب أنبياء إسرائيل المشتملة على ما أوحاه الله إليهم في أيام نبوتهم، وما وقع بينهم وبين قومهم.

ومع هذا فقد ثبت النهي عن المفاضلة بين الأنبياء على العموم (1)، وإن كان الله - سبحانه - قد فضل بعضهم على بعض كما نطق به القرآن الكريم، لأن علمه - سبحانه - محيط بكل شيء، فهو يعلم المفاضلة بين عباده فضلاً عن أنبيائه، بل يعلم ما تضمره القلوب، وتنطوي عليه الجوانح، وتوسوس به النفوس (2)

وقال سبحانه وتعالى: (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون)[التغابن: 4].

وقال تعالى: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)[غافر: 19].

وقال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه)[ق: 16].

(1) قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)[البقرة: 253] قال القاضي عياض في الشفاء (1/ 309): قال بعض أهل العلم: والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا. وذلك بثلاثة أحوال:

1 -

أن تكون آياته ومعجزاته أبهر وأشهر.

2 -

أن تكون أمته أزكى وأكثر.

3 -

أن يكون في ذاته أفضل وأطهر وفضله راجع إلى ما خصه الله به من كرامته واختصاصه من كلام أو خلة أو رؤية.

(2)

قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ)[التوبة: 78].

ص: 5816

وأما العباد فهم بمعزل عن ذلك، وأنى لهم العلم بالمفاضلة [3أ] بين أنبياء الله وصفوته من خلقه، وخيرته من عباده!.

فإن قلت: فما يقول في مثل هذا النهي العام؟

قلت: إن كان التاريخ معلوماً غير مجهول فقد يقال: إنه إذا كان المتأخر النهي؛ فينبغي التورع عن التفضيل بينهم على العموم (1)، وقد يقال: إنه يحمل هذا العموم على النهي عن التفضيل لبعض الأنبياء على بعض، وأما نبينا الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم فقد أخرج نفسه من ذلك العموم بقوله:" أنا سيد ولد آدم "(2). وقد تقرر أنه يبنى العموم على الخصوص إذا شمله العموم على طريقة الظهور كما في هذا المقام، فإنه لما صرح أنه سيد ولد آدم بهذه الصفة الخاصة به، الشاملة لجميع بني آدم، ثم جاء بعدها النهي الشامل له بطريق الظهور لا بطريق الخصوصية كان خارجاً من ذلك العموم بهذا الخصوص، وأما إذا كان إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بأنه سيد ولد آدم متأخراً عن النهي؛ فخروجه من النهي ظاهر واضح، ويحمل ما تقدم من النهي على أنه لم يعلم بهذه السيادة العاملة الشاملة الثابتة له على جميع ولد آدم إلا بعد صدور ذلك النهي (3)، وأما إذا كان التاريخ مجهولاً؛ فبناء العام على الخاص متعين، حتى قيل: إنه إجماع كما وقع

(1) قال القرطبي في " المفهم "(6/ 228 - 229). ويتضمن هذا الكلام أن الحديث معارض - لا تخيروا بين الأنبياء - لقوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)[البقرة: 253]. ولما في معنى ذلك من الأحاديث وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وهذا لا يصح حتى تتحقق المعارضة حيث لا يمكن الجمع بوجه ومتى يعرف التاريخ، وكل ذلك غير صحيح.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

انظر: " فتح الباري "(6/ 452).

ص: 5817

في بعض كتب الأصول (1). هذا ما خطر بالبال عند التكلم على هذا السؤال من غير مراجعة لكتب الحديث وشروحها، فمن وجد ما هو أولى مما ذكرناه، وأحق مما قررناه فليرجع إليه، وإن لم يجد فهذا غاية ما يمكن التكلم به في مثل هذه الأحاديث المتعارضة في الظاهر. وقد تقرر أن الجمع أولى من الترجيح بلا خلاف.

فإن قلت: لو فرضنا فرضاً، وقدرنا تقديراً أنه يجب في حديث:" أنا سيد ولد آدم " زيادة على مجرد الاعتقاد والإذعان، وأنه ينبغي التلفظ بهذه السيادة المحمدية.

قلت: لو فرضنا ذلك فرضاً، وقدرناه تقديراً لم تدخل في ذلك الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم لأنه قد علمنا كيف نقول، وبين لنا ما نتكلم به (2). وغاية ما هناك أنه ينبغي التكلم بذلك في غير تلك الحال، ولو فرضنا أبعد من هذا الفرض، وقدرنا أخفى من هذا التقدير، وقلنا بالتعبد بذلك على حد يشمل الصلاة؛ كانت الأدلة الصحيحة الثابتة من طرق متواترة مخصصة لذلك العموم، ولكن أين هذا من تعارض [3ب] العموم والخصوص! فإنه ليس في حديث:" أنا سيد ولد آدم " ما يدل على غير الاعتقاد لذلك، والإيمان بمعناه، والإذعان لمدلوله، ولم يرد في شيء من الأدلة أنه يجب التلفظ بذلك فضلاً عن كون التلفظ به يعم الأشخاص والأوقات والأحوال؛ فضلاً عن أن مثل ذلك يقال في الصلاة، ويخالف به ما ورد من التعميمات (3).

(1) انظر: " إرشاد الفحول "(ص 536). وقد تقدم توضيحه.

" البحر المحيط "(3/ 405).

(2)

من استقرأ صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الواردة لم يجد فيها لفظ " السيادة " لا داخل الصلاة ولا خارجها وكذلك أحاديث الأذان لم يجدها في ذكر " الشهادة بأن محمد رسول الله. والمحدثون كافة، في كتب السنة لا يذكرون لفظ السيادة عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

انظر: " البيان والتحصيل "(18/ 430)" الدرر السنية "(4/ 415 - 416).

(3)

من استقرأ صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الواردة لم يجد فيها لفظ " السيادة " لا داخل الصلاة ولا خارجها وكذلك أحاديث الأذان لم يجدها في ذكر " الشهادة بأن محمد رسول الله. والمحدثون كافة، في كتب السنة لا يذكرون لفظ السيادة عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

انظر: " البيان والتحصيل "(18/ 430)" الدرر السنية "(4/ 415 - 416).

وانظر الرسالة رقم (183).

ص: 5818

فإن قلت: إذا كان الأمر كما ذكرت كان هذا المثال الذي مثلوا به صحيحاً، لأنه لم يدل دليل على أن مثل ذلك يقال في الصلاة، فليس فيه إلا مجرد الأدب الذي زعموه.

قلت: إذا قد علمت أن مثل هذا من المعارضة بين الامتثال الذي لا يكون إلا بما دل عليه دليل، وبين مجرد الأدب المخالف لما دل عليه دليل.

فقد انقطع الإشكال بعروقه، واجتث من أصله، ولم يبق في المقام ما يقتضي دوران مثل هذا السؤال بين حملة العلم، والتكلم به في مجامعهم كما عرفت، وإنما عرفناك فيما سبق أنه مثال غير صحيح في المقام لما قدمنا من قيام الدليل عليه، وإن كان في غير محل النزاع.

فإن قلت: لو قدرنا أنه ثبت في رواية صحيحة، وحديث يصلح للحجية في تعليمه صلى الله عليه وآله وسلم للأمة لألفاظ الصلاة عليه لفظ سيدنا (1)!

(1) قال القاسمي في " الفضل المبين على عقد الجوهر الثمين "(70 - 71): للعلماء اختلاف في زيادة لفظ (سيدنا) في الصلاة على النبي، وقد وقفت على سؤال رفع لأبي الفضل الحافظ ابن حجر في ذلك؛ فأجاب عنه، وأجاد وهاكه بنصه:" سئل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى عن صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أو خارج الصلاة سواء قيل بوجوبها أو بندبها: هل يشترط فيها أن يصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة بأن يقول مثلاً: اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى سيد الخلق أو سيد ولد آدم أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد، وأيهما أفضل: الإتيان بلفظ السيادة لكونها صفة ثابتة له صلى الله عليه وسلم أو عدم الإتيان لعدم ورود ذلك في الآثار؟ فأجاب رضي الله عنه: نعم اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم كما لم يكن يقول عند ذكره صلى الله عليه وسلم: صلى الله على عليه وسلم وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر لأنا نقول: لو كان ذلك راجحاً لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين، ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه قال ذلك مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك، وهذا الإمام الشافعي أعلى الله درجته - وهو من أكثر الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه: اللهم صل على محمد إلى آخر ما أداه إليه اجتهاده وهو قوله: كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون. وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه " سبحان الله عدد خلقه " (أ).

(أ): أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2426) والترمذي رقم (3555) وابن ماجه رقم (3808) عن ابن عباس عن جويرية، أن النبي خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة. فقال:" ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ".

وانظر " الشفاء " للقاضي عياض (2/ 640 - 648).

ص: 5819

قلت: إن ثبت ذلك فهو زيادة مقبولة، غير معارضة للمزيد، فيؤخذ بها وتزاد في ألفاظ الصلاة عند أن يصلي عليه المصلون، فمن وجد مثل ذلك فليهده إلينا مثاباً مأجوراً، فإنا عند تحرير هذا لم نبحث مطولات كتب السنة، بل اتكلنا على أنه لم يكن فيما نحفظه زيادة هذا اللفظ.

واعلم أنه خطر على البال عند التكلم على هذا البحث ببحث آخر يشابهه مشابهة قوية، ويضارعه مضارعة تامة، وهو ما يدور على ألسن أهل العلم من قولهم: لا خير في السرف، ولا سرف في الخير؛ فإنا قد سمعنا كثيراً ممن يتكلم بما يفيد أنه لا خير في السرف قد يتبع ذلك بقوله: ولا سرف في الخير، وقد يتكلم به من يسمعه؛ يقول ذلك فيذعن له، ولا يتعرض للجواب عليه، مع كون هذا القول باطلاً مخالفاً لكليات الشريعة، ولجزئياتها، وللمناهي الثابتة في الكتاب والسنة، وما يفيد التشدد في ذلك، والزجر عنه مثل قوله - سبحانه -:{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (1) ومثل ذم المسرفين في غير آية (2)، وورد في السنة [4أ] المطهرة النهي عن ذلك في غير موضع، مثل نهي من أراد أن يتصدق بجميع ماله، وقصره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الثلث، وقال:" الثلث والثلث كثير "(3) ومعلوم أن الصدقة خير كبير، ولكن لما كانت

(1)[الإسراء: 27].

(2)

منها قوله تعالى: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأنعام: 141].

وقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31].

(3)

تقدم تخريجه.

انظر الرسالة رقم (160).

ص: 5820

على صفة منع الشرع منها، وهي السرف بإخراج جميع المال لم يكن خيراً من هذه الحيثية، وهكذا أمر من أراد أن ينخلع عن جميع ماله أن يمسك عليه بعضه، وهكذا ورد النهي عن التصدق بجميع المال، ومن ذلك حديث:" المتصدق بالبيضة الذهب التي لا يملك غيرها "(1).

وبالجملة فالأدلة على كثرتها تدل على أنه لا خير في السرف على أي صفة كان، ولو قدرنا ورود ما يفيد ثبوت الثواب لمن أسرف في تصرفه فلا ينافي في ذلك ذم السرف، ولكونه غير خير لأنه إذا ثبت له الأجر بالصدقة مثلاً بجميع ماله؛ فقد لزمه الإثم بالسرف الذي ارتكبه، وقد يكون الشيء حسناً من وجه، قبيحاً من وجه آخر، فالسرف لا يكون إلا قبحاً، ولا يكون خيراً قط، وليس من ذلك تأثير الإنسان لمن هو أحوج منه بطعامه، أو بشرابه، أو بثوب من ثيابه التي تدعو حاجته إليها، فإن مثل ذلك لا يصدق عليه معنى السرف لغة ولا شرعاً، أما اللغة فقال في الصحاح (2): السرف ضد القصد، ثم قال: والإسراف في النفقة التبذير، فهذا معنى السرف، وهو لا يصدق إلا على من

(1) أخرجه أبو داود رقم (1674) وابن خزيمة رقم (2441) وابن حبان في صحيحه رقم (3372) وأبو يعلى في " المسند " رقم (2084) والحاكم (1/ 413) والبيهقي في " السنن الكبرى "(4/ 181) من طرق عن جابر بن عبد الله قال: إني لعند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب قد أصابها من بعض المغازي، فقال: يا رسول الله. خذ هذه مني صدقة، فوالله ما أصبح لي مال غيرها، قال: فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه من شقه الآخر، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم. ثم جاءه من قبل وجهه، فأخذها منه فحذفه بها حذفة لو أصابه عقره، أو أوجعه، ثم قال:" يأتي أحدكم إلى جميع ما يملك، فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس! إنما الصدقة عن ظهر غنى، خذ عنا مالك. لا حاجة لنا به ".

وهو حديث ضعيف دون جملة " خير الصدقة عن ظهر غنى. . ".

فقد أخرج البخاري في صحيحه رقم (5356) وأبو داود رقم (1676) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول. "

(2)

(4/ 1373).

ص: 5821

أخرج ماله إخراجا يعد به مبذرا لا من آثر غيره بأكله أو شربه أو نحو ذلك.

فإن قلت: قد قال صاحب القاموس (1): إن الإسراف التبذير، أو ما أنفق في غير طاعة. وقال في النهاية (2) إن النفقة لغير حاجة، أو في غير طاعة الله.

قلت: هذا خلط للمعنى الشرعي بالمعنى اللغوي، لأن ملاحظة الطاعة لله من المعاني الشرعية، لا من المعاني اللغوية، والعرب لا تلاحظ ذلك ولا تراه.

ومعنى السرف ثابت معروف عندهم، ولهذا يقول جرير (3):

أعطوا الهنيدة يجدوها ثمانية

ما في عطائهم من ولا سرف

فانظر كيف أثبت السرف فيما هو خير عندهم محض، وهو التكرم بالعطاء، وإنما لم يكن المائة الناقة [4ب] التي معها ثمانية من العبيد يقومون بما تحتاج إليه سرفا، لأنها عطاء ملك من كبار الملوك، ولو كانت عطاء رجل لا يملك غيرها، ولا يجد سواها؛ لكان ذلك سرفا عند العرب كما يفيده كلامهم، ويدل عليه نظمهم ونثرهم، ولم يصب من حمل السرف في هذا البيت على معنى الإغفال، أو على إخطاء موضع العطاء.

فإن قلت: ما ذكره صاحب النهاية (4)، وصاحب القاموس (5)، وإن كان فيه خلط المعنى اللغوي بالمعنى الشرعي فهل يدل على أنه لا سرف في الخير كما يقوله من يسمعهم يتجاوزون بذلك؟

قلت: لا، بل معناه أن الإنفاق في غير طاعة الله معدود من السرف، وذلك مسلم، وليس فيه أن الإنفاق في طاعة الله لا يكون سرفا أصلا، فإن هذه العبارة على تسليم أنها معنى شرعي، إنما تناولت الإنفاق في غير الطاعة، ولا تعرض فيه للإنفاق في الطاعة، لا

(1)(ص 1058).

(2)

(2/ 361 - 362).

(3)

انظر: شرح ديوان ابن جرير (ص389) شرح محمد إسماعيل عبد الله الصاوي.

(4)

ابن الأثير (2/ 361 - 362).

(5)

الفيروزآبادي (ص 1058).

ص: 5822

بإثبات، ولا بنفي. ولو قدرنا أن ذكر غير الطاعة يدل بمفهوم اللقب (1) على أن الإنفاق في الطاعة لا يكون سرفا، فهذا المفهوم لم يأخذ بمثله أهل العلم، ولا التفتوا إليه، وإنما أخذ به الدقاق (2) وخالفه جميع أهل العلم، كما هو معروف في كتب الأصول وغيرها دفع ذلك، فالأدلة التي قدمنا ذكر بعضها تدل على ثبوت السرف بما هو خير. وإن قلت: قد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض المتصدقين بجميع ماله، أو ببعضه معللا ذلك بأنه من بعد ذلك يتكفف الناس (3).

قلت: لا تزاحم بين المقتضيات، فقد يكون وجه النهي هذه العلة كما يكون وجه النهي التعليل بالسرف، وقد يجتمعان جميعا، فيسرف بالتصدق بجميع ماله، ثم يتكفف

(1) مفهوم اللقب: وهو تعليق الحكم بالاسم العلم نحو قام زيد، أو اسم النوع نحو: في الغنم زكاة، ولم يعمل به أحد إلا أبو بكر الدقاق.

وحكى ابن برهان في الوجيز التفصيل عن بعض الشافعية وهو أنه يعمل به في أسماء الأنواع لا في أسماء الأشخاص.

وحكى ابن حمدان وأبو يعلى من الحنابلة تفصيلا آخر وهو العمل بما دلت عليه القرينة دون غيره.

قال الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص602): والحاصل أن القائل به كلا أو بعضا لم يأت بحجة لغوية ولا شرعية ولا عقلية، ومعلوم من لسان العرب أن من قال: رأيت زيدا لم يقتض أنه لم ير غيره قطعا. وأما إذا دلت القرينة على العمل به فذلك ليس إلا للقرينة فهو خارج عن محل النزاع.

وانظر: " البحر المحيط "(4/ 25).

(2)

انظر: " تيسير التحرير "(1/ 101)، " الكوكب المنير "(3/ 509).

(3)

منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5355) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" خير الصدقة ما أبقت غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول ".

ومنها ما أخرجه أبو داود رقم (1677) وابن خزيمة رقم (2451) والحاكم (1/ 414) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: " جهد المقل، وابدأ بمن تعول ".

وهو حديث صحيح.

ومنها ما أخرجه البخاري رقم (1472) ومسلم رقم (1034) والنسائي (5/ 69) من حديث حكيم بن حزام.

ص: 5823

الناس، فيجمع بين الأمرين.

فإن قلت: قد ورد تفضيل قليل الصدقة على كثيرها باعتبار الأشخاص كما في حديث: " سبق درهم ألف درهم "(1)، وذلك في من يكون له درهم فيتصدق به،

(1) أخرجه أحمد (2/ 379) وابن ماجه رقم (3684) والنسائي (5/ 59) وابن خزيمة رقم (2443) وابن حبان رقم (3336) والحاكم (1/ 416) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" سبق درهم مائة ألف درهم " فقال رجل، وكيف ذاك يا رسول الله قال:" رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به ".

وهو حديث صحيح.

قال القرطبي في " المفهم "(3/ 80 - 81) قوله: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " أي: ما كان من الصدقة بعد القيام بحقوق النفس وحقوق العيال. وقال الخطابي: أي متبرعا أو عن غنى يعتمده ويستظهر به على النوائب، والتأويل الأول أولى غير أنه يبقى علينا النظر في درجة الإيثار التي أثنى الله بها على الأنصار، إذ قال:(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة)[الحشر: 9].

وقد روي: أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار ضافه ضيف فنوم صبيته وأطفأ السراج.

وآثر الضيف بقوتهم، وكذلك قوله تعالى:(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ)[الإنسان: 8].

أي: على شدة الحاجة إليه والشهوة له، ولا شك أن صدقة من هذه حاله أفضل. وفي حديث أبي ذر:" أفضل الصدقة جهد من مقل " وفي حديث أبي هريرة: " سبق درهم مائة ألف " قالوا: وكيف؟ قال: " رجل له درهمان، فتصدق بأحدهما، ورجل له مال كثير فأخذ من عرض ماله مئة ألف فتصدق بها ".

فقد أفاد مجموع ما ذكرنا: أن صدقة المؤثر والمقل أفضل، وحينئذ يثبت التعارض بين هذا المعنى وبين قوله:" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " على تأويل الخطابي فأما على ما أولنا به الغنى فيرتفع التعارض.

وبيان: أن الغنى يعني به في الحديث: حصول ما تدفع به الحاجات الضرورية، كالأكل عند الجوع والمشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى. وما هذا سبيله، فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدق، بل يحرم. وذلك: أنه إن آثر غيره بذلك أدى إلى هلاك نفسه أو الإضرار بها، أو كشف عورته فمراعاة حقه أولى على كل حال. فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضل. لأجل ما يحمله من مضض الحاجة وشدة المشقة.

وانظر " فتح الباري "(3/ 296).

وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (7/ 124 - 125): معناه أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنيا بما بقي معه، وتقديره أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يعتمده صاحبها ويستظهر به على مصالحه وحوائجه وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بخلاف من بقي بعدها مستغنيا، فإنه لا يندم عليها بل يسر بها، وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله؛ فمذهبنا أنه مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون؛ بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة والفقر فإن لم تجتمع هذه الشروط؛ فهو مكروه.

وقال القاضي: جوز العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله، وقيل: يرد جميعها وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: ينفذ في الثلث هو مذهب أهل الشام، وقيل: إن زاد على النصف ردت الزيادة وهو محكي عن مكحول قال أبو جعفر الطبري: ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله وأن يقتصر على الثلث.

وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "(7/ 110): قال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا. وفي هذا المعنى قيل لحاتم: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.

قلت: - القرطبي - وهذا ضعيف. يرده ما روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا فنزلت: " ولا تسرفوا " أي لا تعطوا كله. . .

قال السدي: " ولا تسرفوا " أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء.

ص: 5824

ومن يعمد إلى ماله الكثير فيخرج من عرضه مائة ألف درهم.

قلت: ليس في هذا أن ذلك الدرهم هو جميع مال ذلك الرجل، وأنه لا يجد غيره، ولا يملك سواه. ثم قد قدمنا أن التأثير بالقليل لا يعد من السرف لا لغة ولا شرعا، ومما يؤيد ما ذكرناه [5أ] في معنى السرف لغة ما ذكروه في معنى التبذير، فإنه يلاقيه.

قال في الصحاح (1) وتبذير المال تفريقه إسرافا. أبو زيد يقال: رجل تبذارة؛ الذي يبذر ماله ويفسده. انتهى.

(1)(2/ 587).

ص: 5825

وقال في النهاية (1) المبذر المسرف في النفقة.

وقال في القاموس (2) وبذره تبذيرا أخربه وفرقه إسرافا. انتهى.

وقد عرفت أن معنى التبذير كمعنى الإسراف في اللغة والشرع، والعجب أن صاحب النهاية، وصاحب القاموس ذكرا في مادة الإسراف أن منه الإنفاق في غير الطاعة، ولم يقيدا التبذير بمثل، وما ذلك إلا لكون ذكر الإنفاق في غير طاعة في معنى السرف من خلط المعاني اللغوية بالمعاني الشرعية.

فإن قلت: تقد كانت العرب تتمادح بإخراج المال دفعة واحدة، والتكرم بما يجده الإنسان، وإن لم يجد بعد ما يسد رمقه فضلا عن أن يجد غيره، كالواقعات من العرب المشهورين بالكرم مثل: حاتم، وكعب بن مامه، وأمثالهم. قلت: لا شك في تمادحهم بذلك، مع أنهم يسمونه سرفا وتبذيرا، وهم إذ ذاك على جاهليتهم لم يعلموا بقبح ذلك في الشرع، والمقصود الذي تقوم به الحجة هنا أنهم يسمونه سرفا، فوجب حمل الأدلة الواردة في النهي عن السرف على هذا المعنى العربي، ولا ينافي ذلك وقوع التمادح به، فإنه لم يكن البحث في كون السرف مما يتمادح به من لم يتقيد بالشرع، بل في صدق اسم السرف عليه، والرجوع إلى بيان حكمه شرعا.

ومعلوم أن العرب قد تمدح من جاد بكل ماله على جهة السرف مدحا زائدا على من جاد ببعضه، لأن الكرم محبب إلى النفوس، لا سيما النفوس العربية، بل قد تجد أهل الإسلام يغفلون عن قبح ذلك شرعا، ويبالغون في مدح من أسرف بإخراج ماله، وبذر به لتلك العلة، وبسبب تلك الطبيعة كما قال الشاعر:

وكل يرى طرق الشجاعة والندى

ولكن طبع النفس للنفس قائد

بل قد يبالغون في الثناء على من جاد بنفسه، ولو جاد بها في باطل كما في قول

(1)(1/ 110).

(2)

(ص444).

ص: 5826

الشاعر [5ب]

ولو لم يكن في كفه غير نفسه

لجاد بها فليتق الله سائله

وقول الآخر:

يجود بالنفس إن ضن الجبان بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

ولسنا بصدد ما تستحسنه الطباع العربية، وتتمادح به، فإن كلامنا في حكمه شرعا، لا في حكمه عرفا، فإن ذلك لا يفيد شيئا، ولا يصح الاستدلال به لمن قال: لا سرف في الخير. وهذا ظاهر واضح، على أن في بيت جرير السابق ما يدل على أن عدم السرف مما تتمادح به العرب، وشعره تقوم به الحجة في إثبات المعاني اللغوية بالإجماع.

والحاصل: أن من زعم أن نوعا من أنواع السرف محمود شرعا، أو مباح فهو قد أثبت حكما وادعى على الشرع أمرا، وعليه الدليل الصالح لاتباع دعواه، وهذا مما لا خلاف به بين أهل علم المناظرة. . . الجدل، فإن جاء به صحيحا سليما عن شوب ما يبطله، أو يقدح فيه فليأت به، هذا على تقدير أنه لم يرد في ذلك شيء لا من كتاب ولا سنة، فكيف وهو مذموم كتابا وسنة! وأجمع على ذمة المتشرعون، ولم يخالف فيه أحد منهم من السلف ولا من الخلف.

وفي هذا المقدار كفاية، لمن له هداية، وحسبي الله ونعم الوكيل. [6أ].

ص: 5827