المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدواء العاجل لدفع العدو الصائل - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ١١

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في مؤاخاته صلى الله عليه وآله وسلم بين الصحابة

- ‌بحث في المتحابين في الله

- ‌تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل

- ‌زهرة النسرين الفائح بفضائل المعمرين

- ‌بحث في جواب سؤال عن الصبر والحلم هل هما متلازمان أم لا

- ‌بحث في الإضرار بالجار

- ‌نثر الجوهر على حديث أبي ذر

- ‌سؤال وجواب في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة من سائر الجهات ومكثهم في المسجد الحرام

- ‌رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة

- ‌رسالة في حكم القيام لمجرد التعظيم

- ‌العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي

- ‌هذه مناقشة للبحث السابق لبعض الهنود الساكنين في تهامةتحقيق الرباني للعالم الصمداني على رسالة الشوكاني[العرف الندي في جواز لفظ سيدي]

- ‌ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة

- ‌جواب سؤالات وصلت من كوكبان

- ‌الدواء العاجل لدفع العدو الصائل

- ‌القول الحسن في فضائل أهل اليمن

- ‌مجموعة من الحكم لبعض الحكماء المتقدمين

- ‌بحث مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال

الفصل: ‌الدواء العاجل لدفع العدو الصائل

(188)

17/ 4

‌الدواء العاجل لدفع العدو الصائل

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه

محفوظة بنت علي شرف الدين

أم الحسن

ص: 5727

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: الدواء العاجل لدفع العدو الصائل.

2 -

موضوع الرسالة: آداب.

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، ونصلي ونسلم على رسولك الأمين.

4 -

آخر الرسالة: بهذا جاءت الشريعة المطهرة ونطقت كلياتها وجزئياتها، وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي التوفيق.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

عدد الصفحات: 27 صفحة ما عدا صفحة العنوان.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 16 سطرا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.

9 -

الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 5729

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، ونصلي ونسلم على رسولك الأمين، وآله الطاهرين، وصحبه الراشدين.

وبعد:

فإنها قد دلت الأدلة القرآنية، والأحاديث الصحيحة النبوية أن العقوبات العامة لا تكون إلا بأسباب، أعظمها: التهاون بالواجبات، وعدم اجتناب المحرمات، فإن انضم إلى ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المكلفين به، لا سيما أهل العلم، وأهل الأمر القادرين على إنفاذ الحق، ودفع الباطل كانت العقوبة قريبة الحدوث، ولا حاجة بنا هاهنا إلى إيراد الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، فهي معروفة عند المقصر والكامل.

وإذا عرفت هذا فاعلم أنه يجب على كل فرد لا تعلق له بغيره أن ينظر في أحوال نفسه، وما يصدر عنه من أفعال الخير والشر، فإن غلب شره خيره، ومعاصيه على حسناته، ولم يرجع إلى ربه، ويتخلص من ذنبه فليعلم أنه بين مخالب العقوبة، وتحت أنيابها وأنها واردة عليه، وواصلة عن قريب إليه [1أ].

وهكذا من كان له تعلق بأمر غيره من العباد، إما عموما أو خصوصا، فعليه أن يتفقد أحوالهم، ويتأمل ما هم فيه من خير وشر، فإن وجدهم منهمكين في الشر، واقعين في ظلمة المعاصي، غير مستنيرين بنور الحق، فهم واقعون في عقوبة الله لهم، وتسليطه عليهم، ولا سيما إذا كانوا لا يأتمرون لمن يأمرهم بالمعروف، ولا ينتهون لمن ينهاهم عن المنكر.

هذا على فرض أن داعي الخير لا يزال يدعوهم إليه، والناهي عن الشر لا يزال ينهاهم عنه، وهم مصممون على غيهم، سادرون في جهلهم، فإن كان من يتأهل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معرضا عن ذلك، غير قائم بحجة الله، ولا مبلغ لها إلى

ص: 5733

عباده، فهو شريكهم في جميع ما اقترفوه من معاصي الله - سبحانه -، مستحق للعقوبة المؤجلة والمعجلة قبلهم كما صح في قصته من تعدى في السبت من أتباع موسى عليه السلام (1) -؛ فإن الله سبحانه وتعالى ضرب من ترك الأمر بالمعروف

(1) اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأمم السابقة قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78 - 79].

وقال تعالى: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[آل عمران: 63].

قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(4/ 47) دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة.

* ولقد أثنى سبحانه وتعالى على طائفة من أهل الكتاب فقال: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)[آل عمران: 114].

* وجاء في وصية لقمان لابنه: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[لقمان: 17].

لذلك يعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات وأجلها وأفضلها، وقد دل على وجوبه الكتاب والسنة، ونقل الإجماع على ذلك النووي في "شرحه لصحيح مسلم "(1/ 22)،

وإذا تأملت نصوص الكتاب والسنة وجدت ذلك قد ورد باستفاضة كبيرة وأساليب متنوعة (منها):

1 -

) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)[آل عمران: 104].

2 -

) جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات اللازمة للمؤمنين.

قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)[التوبة: 71].

3 -

) جعله سببا للخيرية في هذه الأمة.

قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)[آل عمران: 110].

4 -

) جعل تركه سببا لوقوع اللعن والإبعاد.

قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا

) [المائدة: 78].

5 -

) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنجاة.

قال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ

) [هود: 116].

6 -

) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أسباب النصر.

قال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ. .)[الحج: 41].

انظر: "الآداب الشرعية"(1/ 171 - 173)، "تنبيه الغافلين"(ص 185)، "إحياء علوم الدين"(2/ 303 - 308)

ص: 5734

والنهي عن المنكر بسوط عذابه، ومسخهم قردة وخنازير، مع أنهم لم يفعلوا ما فعله المعتدون من الذنب، بل سكتوا عن إبلاغ حجة الله، والقيام بما أمر به، من الأمر بالمعروف [1ب] والنهي عن المنكر (1).

والحاصل: أنه لا فرق بين فاعل المعصية، وبين من رضي بها ولم يفعلها، وبين من لم يرض بها لكن ترك النهي عنها مع عدم

(1) يشير إلى الآيات من سورة الأعراف (163 - 167).

قال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

ص: 5735

المسقط (1) لذلك عنه، ومن كان أقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذنبه

(1) متى يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

الإنكار بالقلب لا يسقط بحال من الأحوال لكن الإنكار باليد واللسان قد يسقط:

1 -

): إذا تكاثرت الفتن والمنكرات، وهذا على نوعين:

1 -

ما يكون في آخر الزمان وهذا النوع هو الذي تحمل عليه كثير من الأحاديث الواردة في العزلة والتي منها:

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه: " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن".

أخرجه البخاري رقم (19و3300 و3600 و6495).

وأخرج أحمد (2/ 212) وأبو داود رقم (4343) والحاكم (4/ 282) بإسناد حسن، عن عبد الله بن عمرو قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: " إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا - وشبك بين أصابعه - قال: فقمت إليه، فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟! قال: " الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة".

وفي رواية: " تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم".

وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود رقم (4342) والبخاري تعليقا رقم (479) وابن ماجه رقم (3957).

وانظر: " الإبانة الكبرى" رقم (725 - 774).

النوع الثاني: ما يقع من الفتن في بعض الأوقات دون التي تقع آخر الزمان.

قال الحافظ في "الفتح"(13/ 40) والخبر دال على فضيلة العزلة - حديث أبي سعيد الخدري وقد تقدم - لمن خاف على دينه، وقد اختلف السلف في أصل العزلة.

فقال الجمهور: الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعبادة غير ذلك.

وقال قوم: العزلة أولى لتحقق السلامة، بشرط معرفة ما يتعين.

قال النووي: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية، فإذا أشكل الأمر فالعزلة أولى.

انظر: "فتح الباري"(11/ 331 - 333)، (باب العزلة راحة من خلاط السوء).

* فمن أشكلت عليه الأمور تعينت عليه العزلة وعليه يحمل اعتزال من ذكر من الصحابة: سعد بن أبي وقاص، محمد بن مسلمة، سلمة بن الأكوع، عبد الله بن عمر، أسامة بن زيد وغيرهم.

وأما من أمكنه معرفة الحق، ولم يتمكن من العمل به، أو أدت مخالطته للناس إلى تكثير سواد أهل الفتنة، أو حملهم له على المشاركة فيلزمه أن يعتزل، ومن عرف الحق ولم يخش تفويت العمل به ولا حملهم إياه في فتنهم ولا إعانتهم عليها، ولم يكثر لهم سوادا، لكنه لو أمر ونهى لم يكن ذلك مؤثرا في حالهم ولا مغيرا لها فالأفضل في حقه العزلة.

أما إذا كان لا يخشى من المخالطة وقوع محظور مما سبق وبقاؤه ينفع الناس فهذا يتعين عليه البقاء وترك العزلة، قال صلى الله عليه وسلم:" المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".

أخرجه أحمد (2/ 43)(5/ 365) وابن ماجه رقم (1338 - 4032) والترمذي رقم (2035، 2507)، وهو حديث صحيح.

وأما الفتن التي لا يعرف الحق فيها من الباطل حيث يلتبس فيها الأمور وهذا الالتباس ناتج عن طبيعة الفتنة وتلونها. . . أو ناتج عن عدم قدرة المعاصر لها من تمييز الحق فيها من الباطل، وأكثر هذا في آخر الزمان، وعلى هذا ننزل كثير من الأحاديث التي. . تحث على العزلة. .

2 -

): يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حالة العجز الحسي فإن من عجز عن القيام بعمل (طولب به) عجزا حسيا لم يكلف به كمن عجز عن الجهاد لمرضه أو عرجه أو لذهاب بصره أو غير ذلك.

3 -

): يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما كان في معنى العجز الحسي.

أ): إذا كان يلحقه من جرأته مكروه معتبر في إسقاط الوجوب عنه، يشير إلى ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا:" إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإن لقن الله عبدا حجته قال: يا رب! رجوتك وفرقت من الناس".

أخرجه ابن ماجه رقم (4017) وهو حديث صحيح.

وحديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعا: " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه".

أخرجه ابن ماجه رقم (4016) وهو حديث حسن.

ص: 5736

أشد، وعقوبته أعظم، ومعصيته أفظع، بهذا جاءت حجج الله وقامت براهينه، ونطقت

ص: 5737

بها كتبه، وأبلغتها إلى عباده رسله.

ولما كان الأمر هكذا بلا شك ولا شبهة عند كل من له تعلق بالعلم وملابسة المطهرة، وكان ذلك من قطعيات الشريعة وضروريات الدين - فكرت في ليلة من الليالي في هذه الفتن، التي قد نزلت بأطراف هذا القطر اليمني، وتأججت نارها، وطار شررها، حتى أصاب كل فرد من ساكنيه منها شواظ، وأقل ما قد نال من هو بعيد عنها ما صار مشاهدا معلوما، من ضيق المعاش، وتقطع كثير من أسباب الرزق، وتحقر المكاسب، حتى ضعفت أحوال الناس، وذهبت تجارتهم ومكاسبهم، وأفضى ذلك إلى كساد كثير من الأملاك، وعدم نفاق نفائس الأموال، وحبائس الذخائر.

ومن شك في هذا، فلينظر [2أ] فيه بعين البصيرة، حتى ترتفع عنه ريب الشك بطمأنينة اليقين، هذا حال من هو بعيد عنها لم تطحنه بكلكلها، ولا وطئته بأخفافها.

وأما من قد وفدت عليه وقدمت إليه، وخبطته بأسواطها، وضغمته بأنيابها، وأناخت بساحته، كالقطر التهامي وما جاوره، فيالله! كم من بحار دم أراقت، ومن نفوس أزهقت، ومن محارم هتكت، ومن أموال أباحت، ومن قرى ومدائن طاحت بها الطوائح، وصاحت عليها، بعد أن تعطلت الصوائح، وناحت بعرصاتها المقفرة النوائح.

فلما تصورت هذه الفتنة أكمل تصور - وإن كان متقررة عند كل أحد أكمل تقرر - ضاق ذهني عن تصورها، فانتقلت إلى النظر في الأسباب الموجبة لنزول المحن، وحلول النقم من ساكني هذا القطر اليمني على العموم من غير نظر إلى مكان خاص أو طائفة معينة، فوجدت أهله - ما بين صعدة وعدن - ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: رعايا يأتمرون بأمر الدولة، وينتهون بنهيها، لا يقدرون على الخروج عن كل ما يرد عليهم من أمر أو نهي، كائنا ما كان.

القسم الثاني: طوائف خارجون عن أوامر الدولة متغلبون [2ب] في بلادهم.

الطائفة الثالثة: أهل المدن، كصنعاء وذمار، وهم داخلون تحت أوامر الدولة، ومن جملة من يصدق على غالبهم اسم الرعية، ولكنهم يتميزون عن سائر الرعايا بما سيأتي

ص: 5738

ذكره.

فأما القسم الأول:

وهم الرعايا، فأكثرهم - بل كلهم إلا النادر الشاذ - لا يحسنون الصلاة، ولا يعرفون ما لا تصح إلا به ولا تتم بدونه، من أذكارها، وأركانها، وشرائطها، وفرائضها، بل لا يوجد من يتلو منهم سورة الفاتحة تلاوة مجزئة إلا في أندر الأحوال.

ومع هذا فالإخلال بها والتساهل فيها قد صار دأبهم وديدنهم، فحصل من هذا أن غالبهم لا يحسن الصلاة ولا يصلي.

وطائفة منهم لا تحسن الصلاة، وإنما تصلي صلاة غير مجزئة، فلا فرق بينها وبين من يتركها.

وأما من يحسنها ويواظب عليها: فهو أقل قليل، بل هو الغراب الأبقع (1)، والكبريت الأحمر (2)، وقد صح عن معلم الشرائع: أنه لم يكن: " بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة "(3)، فالتارك للصلاة من الرعايا: كافر، وفي حكمه من فعلها وهو لا يحسن

(1) الغراب الأبقع.

قيل: ما خالط بياضه لون آخر، وغراب أبقع فيه سواد وبياض.

وقيل: الغراب الأسود في صدره بياض.

"لسان العرب"(1/ 461)

(2)

الكبريت الأحمر هو من الجوهر ومعدنه خلف بلاد التبت، وادي النمل الذي مر به سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويقال في كل شيء كبريت وهو يبسه ما خلا الذهب والفضة فإنه لا ينكسر فإذا صعد أي أذيب ذهب كبريته، والكبريت: الياقوت الأحمر، وهو نادر الوجود.

"لسان العرب"(12/ 16).

قال في "تاج العروس"(3/ 114): عن الليث: الكبريت: عين تجري فإذا جمد ماؤها صار كبريتا أبيض وأصفر وأكدر، وقال شيخنا وقد شاهدته في مواضع، منها هذا الذي قريب من الملاليح ما بين فاس ومكناسة يتداوى بالعوم فيه من الحب الإفرنجي وغيره. . .

(3)

أخرجه مسلم رقم (134) وأبو داود رقم (4678) والترمذي رقم (2618) وابن ماجه رقم (1078) وأحمد في "المسند"(3/ 370، 389) من حديث جابر.

قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم "(2/ 70): وأما تارك الصلاة فإن كان منكرا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين خارج من ملة الإسلام إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه.

وإن تركها تكاسلا مع اعتقاده وجوبها كما هو حال كثير من الناس فقد اختلف العلماء فيه: فذهب مالك والشافعي رحمهما الله والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن ولكنه يقتل بالسيف، وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر وهو مروي عن علي بن أبي طالب وهو أحد الروايتين عن أحمد وبه قال عبد الله وإسحاق بن راهويه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي.

وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي.

انظر تفصيل ذلك في "نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 291 - 292)

ص: 5739

من أذكارها وأركانها ما لا تتم إلا به، لأنه أخل بفرض عليه، من أهم الفروض، وواجب من آكد الواجبات، وهو تعلم ما لا تصح الصلاة إلا به، مع إمكان ذلك، ووجود من يعرفه، فهذه الصلاة هي أهم أركان الإسلام الخمسة (1)، وآكدها، وقد صار الأمر فيها عند الرعايا هكذا.

ثم يتلوها الصيام، وغالب الرعايا لا يصومون، وإن صاموا في النادر من الأوقات، وفي بعض الأحوال فربما لا يكمل شهر رمضان صوما إلا القليل من ذلك القليل، ولا شك أن تارك الصيام على الوجه الذي يتركونه كافر، وكم يعد العاد من واجبات يخلون بها، وفرائض لا يقيمونها، ومنكرات لا يجتنبونها وكثيرا ما يأتي هؤلاء الرعايا بألفاظ كفرية (2) فيقول: هو يهودي ليفعلن كذا، أو لأفعلن كذا، ويرتد تارة بالقول،

(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (8) ومسلم رقم (21) من حديث عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت "

(2)

عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف بملة غير الإسلام كذبا فهو كما قال. . ".

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6652) ومسلم رقم (177/ 110)

ص: 5740

وتارة بالفعل، وهو لا يشعر، ويطلق امرأته حتى تبين منه بألفاظ يديم التكلم بها، كقوله: امرأته طالق ما فعل كذا، أو: لقد فعل كذا (1) أو كثير منهم يستغيث بغير الله تعالى من نبي، أو رجل من الأموات، أو صحابي، أو نحو ذلك (2).

ومع هذا البلايا التي تصدر منهم، والرزايا التي هم مصرون عليها لا يجدون من يأمرهم بمعروف، ولا من ينهاهم [3ب] عن منكر، وقد صار الأمر والنهي في كل ولاية منحصرا في ثلاثة أشخاص: عامل، وكاتب، وحاكم.

فأما العامل:

فلا عمل له، ولا يسعى إلا في استخراج الأموال من يد الرعايا من حلها ومن غير حلها، وبالحق وبالباطل، وقد استعان على ذلك بالمشايخ الذين هم العرفاء المنصوص من معلم الشرائع على أنهم في النار، فيتسلط كل واحد منهم على من تحت يده من المستضعفين، ويصنع به ما أراد وكيف أحب، وهو مفوض في أموالهم من طريق العامل فيأخذ ما شاء، ويدع ما شاء، وليس الأمر والنهي من العامل إلا في هذه الخصلة على الخصوص، ولم نسمع على تطاول الأيام، وتعاقب السنين، أن فردا من أفراد العمال أمر الرعايا بما أوجبه الله من الفرائض التي لا فسحة فيها؛ كالصلاة والصيام، أو نهاهم عن شيء من المنكرات التي يرتكبونها، بل قد جرت عادة كثير من العمال أن يأخذ إلى مقابل ترك الصلاة والصيام شيئا من السحت.

(1) أخرج أبو داود رقم (2194) والترمذي رقم (1184) وابن ماجه رقم (2039) والحاكم في "المستدرك"(2/ 197 - 198) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث جدهن جد وهزلن جد: النكاح والطلاق والرجعة".

وهو حديث حسن.

(2)

انظر الرسالة رقم (24، 25، 26)

ص: 5741

وهكذا في الأشياء التي هي منكرات مجمع على تحريمها كالزنا، والسرقة، وشرب المسكرات، إذا وقع بعض الرعية في شيء منها، كانت العقوبة من العامل على ذلك أن يأخذ شيئا من مال من فعل ذلك، بل وقوع [4أ] الرعايا في هذه المعاصي هو أحب الأشياء إلى العامل؛ لأنه يفتح له عند ذلك باب أخذ الأموال.

ويتكاثر عنده السحت، ويتوفر له المقبوض، فانظر أي فاقرة في الدين كانت ولاية مثل هذا العامل! وأي بلاء صب على دين الله، رجل لا يأمر بفعل ما أوجب الله، ولا ينهى عن فعل ما حرم الله، بل يود ذلك ويفرح به لينال حظا من السحت، ويصل إلى شيء من الحرام.

فهل أقلت الأرض، أو أظلت السماء أفسد لدين الله، وأجرا على معاصيه منه؟! وهل مشى على رجلين أخسر صفقة منه، وأخبث سعياً؟! وناهيك برجل لو كفر من تحت ولايته من الرعايا كفر فرعون، لكان يرضيه من ذلك نزر حقير من السحت، بل ذلك أحب إليه من صلاح الرعايا وتمسكهم بدين الإسلام، وقبولهم الشريعة، لأنه لا ينفق سوق ظلمه، ويدر عليه ثدي سحته، إلا بوقوع الرعايا في مخالفة الشرع، وخروجهم عن سبيل الرشاد.

وقد ينضم إلى هذه المخازي منه والفضائح له، أن يرابي على رؤوس الأشهاد ربا مجمعا على تحريمه [4ب]، ويستصحب معه جماعة من المعاملين بالربا، فيأخذ منهم عند الحاجة بزيادة من الربا ويضعها على الرعية ويسلط هؤلاء العاملين بالربا على الضعفاء.

وهل أقبح من هذا الذنب وأشد منه؟! فإنه الذنب الذي توعد الله عليه بالحرب لفاعله منه كما في كتابه العزيز (1)، وليس الحرب من الله نزول الحجارة من السماء، بل تسليط

(1) يشير إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)[البقرة: 278 - 279]

ص: 5742

بعض عباده على بعض حتى يسحتهم بعذابه، ونزل بهم غضبه، ويسلط عليهم من يسفك دماءهم، وينهب أموالهم، ويهتك محارمهم.

وقد يضم عامل السوء إلى هذه المخازي مخازي أخرى فيظهر بين الرعايا بمحرمات يرتكبها، ومحارم ينتهكها جراءة على الله، فيسن للرعايا سنن الشر، ويفتح لهم أبواب الفجور (1).

(1) لذلك على الحاكم المسلم أو الملك حسن اختيار أعوانه.

وأصل ما يبني عليه قاعدة أمره في اختيار أعوانه وكفاته: أن يختبر أهل مملكته، ويسير لجميع حاشيته، يتصفح عقولهم وآرائهم، ومعرفته همهم وأخلاقهم حتى يعرف باطن سرائرهم وما يلائم كامن شيمهم، فإنه سيجد طباعهم مختلفة، وهمهم متباينة ومنتهم متفاضلة.

* فلا يعطي أحدهم منزلة لا يستحقها لنقص أو خلل، ولا يستكفيه أمر ولايته ولا ينهض بها، لعجز أو فشل، فإنهم آلات الملك، فإذا اختلت كان تأثيرها مختلا وفعلها معتلا.

وقد قيل: من استعان بأصاغر رجاله على أكابر أعماله فقد ضيع العمل وأوقع الخلل.

وقيل: من استوزر غير كفء، خاطر بملكه، ومن استشار غير أمين أعان على هلكه ومن أسر إلى غير ثقة ضيع سره، ومن استعان بغير مستقل أفسد أمره ومن ضيع عاقلا دل على ضعف عقله، ومن اصطنع جاهلا أعرب عن فرط جهله.

انظر: " تسهيل النظر وتعجيل الظفر "الماوردي (ص 194 - 195).

وقال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".

أخرجه البخاري رقم (2278، 2416) ومسلم رقم (1829).

قال البغوي في "شرح السنة"(10/ 62): معنى الراعي: الحافظ المؤتمن على ما يليه، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنصيحة فيما يلونه، وحذرهم الخيانة فيه بأخباره أنهم مسؤولون عنه.

فالرعاية: حفظ الشيء، وحسن التعهد، فقد استوى هؤلاء في الاسم ولكن معانيهم مختلفة، رعاية الإمام، وولاية أمر الرعية والحياطة من ورائهم، وإقامة الحدود والأحكام فيهم، ورعاية الرجل أهله بالقيام عليهم بالحق في النفقة وحسن العشرة ورعاية المرأة في بيت زوجها بحسن التدبير في أمر بيته والتعهد لخدمة أضيافه، ورعاية الخادم حفظ ما في يده من مال سيده والقيام بشغله.

وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: " إن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته، وأشقاهم في الدارين من شقوا به " وإنك وإن ترتع عمالك فيكون مثلك مثل البهيمة، رأت أرضا خضرة ونباتا حسنا فرتعت تلتمس السمن، وإنما حتفها في سمنها".

انظر: "الخراج" لأبي يوسف (ص17)، "عيون الأخبار"(1/ 11)

ص: 5743

وأما الكاتب:

فليس له من الأمر إلا جمع ديوان يكتب فيه المظالم التي يأخذها العامل من الرعايا، وليس جمعه لهذا الديوان لقد الإنصاف للرعايا، ولا للتخفيف عليهم، بل المقصود من وضعه أن لا يكتم العامل من تلك الأموال التي اجتاحها [5أ] والمظالم التي احتجنها حتى يشاركه فيها غيره، ويواسيه بدينه من نال منها نصيبا ممن يده فوق يده.

وأما ثالث الثلاثة، وهو القاضي:

فهو عبارة عن رجل جاهل للشرائع، إما جهلا بسيطا، أو جهلا مركبا، وإن اشتغل بشيء من الفقه، فغاية ما يظفر به منه هو ما يظفر وكيل الخصومة، ومن يمارس الحضور في مواقف الخصومات من مسائل تدور في الدعوى والإجابة، وطلب اليمين والبينة، وليس له من العلم غير هذا لا يعرف حقا ولا باطلا، ولا معقولا ولا منقولا، ولا دليلا ولا مدلولا، ولا يعقل شيئا من علوم الشرع، فضلا عن غيرها من علوم العقل، ولكنه اشتاق إلى أن يدعى قاضيا، ويشتهر اسمه في الناس، ويرتفع بين معارفه وأهله، فعمد إلى الثياب الجيدة فلبسها، وجعل على رأسه عمامة كالبرج، وأطال ذيل كمه حتى صار كالخرج، ولزم السكينة والوقار واستكثر من قوله:" نعم" و"يعني"، وجعل له سبحة طويلة يديرها في يده.

ثم جمع له من الحطام قدرا واسعا، وذهب به يدور في الأبواب ويتردد في السكك واستعان بالشفعاء [5ب] بعد أن أرشاهم ببعض من ذلك المال ليشتروا له هذا المنصب الجليل (1) الذي هو مقعد النبوة، ومكانا فيه يترجم عن كتاب الله وسنة رسوله، ويفصل

(1) وليحذر أمثال هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة".

أخرجه البخاري رقم (7148) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم:" من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين" من حديث أبي هريرة.

أخرجه أحمد (2/ 230، 365) وأبو داود رقم (3571، 3572) وابن ماجه رقم (2308) والترمذي رقم (1325) وقال \ حديث حسن غريب، وهو حديث صحيح.

وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1825) من حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: " إنك ضعيف، وإنها أمانة، إنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ".

قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم "(12/ 210، 211) هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية لا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط فيه إذا جوزي بالجزاء يوم القيامة وأما من كان أهلا لها وعدل فيها فأجره عظيم كما تضافرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم ولذلك امتنع الأكابر منها، فامتنع الشافعي لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب، وامتنع منه أبو حنيفة لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه. . . ".

وأخرج البخاري في صحيحه رقم (7149) ومسلم رقم (4/ 1733) من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله لا نولي هذا الأمر أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه ".

وانظر شروط القاضي العادل في "تبصرة الحكام"(1/ 24 - 25)، " الأحكام السلطانية"(ص62)"المجموع" للنووي (18/ 363)

ص: 5744

الخصومات عن عباد الله بما أنزله في كتابه المبين، وبينه رسوله الأمين (1)، ثم يذهب هذا الجاهل البائس إلى قطر من الأقطار الوسيعة، فيأتي إليه وأهل الخصومات أفواجا، فيحكم بينهم بحكم الطاغوت في الحقيقة، وهو في الصورة حكم الشرع، وليس بشرع، لأن هذا القاضي المخذول لا يعرف من الشرع إلا اسمه، ولا يدري من العلم بشيء، بل يجهل حده ورسمه، فينتشر عنه في ذلك القطر الواسع من الطواغيت ما تبكي له عيون الإسلام، وتتصاعد عنده زفرات الأعلام.

وكيف يهتدي إلى فصل الخصومات بالحق جاهل اشترى هذا المنصب كما يشتري ما يباع في الأسواق من المتاع؟! فولاية مثل هذا المخذول وتحكمه في الشريعة المطهرة هي جناية على الله، وعلى رسوله، وعلى كتابه، وعلى سنة رسوله، وعلى العلم وأهله،

(1) انظر التعليقة السابقة.

ص: 5745

وعلى الدين والدنيا [6أ].

ولا فرق بين بعث مثله ليحكم بجهله، وبين بعث رجل من أهل الطاغوت العارفين بالمسالك الطاغوتية كابن فرج، وفصيله، والغزي، ونحوهم من حكام الطاغوت، بل بعث هذا القاضي أعظم عند الله ذنبا، وأشد معصية، لأنه لما كان في الصورة قاضيا من قضاة الشرع الشريف، وحاكما من حكامه مولى ممن إليه الولاية العامة، كان في ذلك تغرير على الناس، ومخادعة لهم، فانجذبوا إليه ليحكم بينهم بشرع الله، فحكم بالطاغوت، فقبلوه بناء منهم على أنه حكم الشرع، بخلاف بعث حاكم من حكام الطاغوت، فإنه وإن كان من المعصية والجراءة على الله بالمكان الذي لا يخفى، ولكنه لا تغرير في بعثة على العباد، ولا مخادعة، فربما يجتنبه من يجتنبه إن لم يجتنبوه جميعا، وينفروا عنه ويأبوا منه، وكفى بهذا موعظة وعبرة يقشعر لها جلد من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان، وترتجف منه قلوب قوم يعقلون:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1).

هذا حال هذا القاضي الذي هو من قضاة النار (2) ومن عصاة الملك الجبار [6ب] فيما يتولاه من الخصومات.

وما سائر ما هو موكول إلى قضاة الشرع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم، وإرشاد الضال، وتعليم الجاهل، والدفع عن الرعية من ظلم من

(1)[الذاريات: 55]

(2)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3573) والترمذي رقم (1322) وابن ماجه رقم (2315) والحاكم (4/ 90).

عن ابن بريدة، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"القضاة ثلاثة واحد في الجنة، واثنان في النار فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضي به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار".

وهو حديث صحيح.

ص: 5746

يظلمها، والمكاتبة لإمام المسلمين بما يحدث في القطر الذي هو فيه مما يخالف الشريعة المطهرة - فلا يقدر هذا القاضي الشقي على شيء من هذه الأمور، سواء أكان حقيرا أو كثيرا، بل غاية أمره، ونهاية حاله أن يبقى في ذلك القطر يشاهد المظالم بعينه، وقد ينفذها بقلمه، وقد يعين عليها بفمه، وهو تارك لما أوجبه الله عليه، وعلى أمثاله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو في الحقيقة ضال مضل، شيطان مريد، بل أضر على عباد الله من الشيطان، ومن أين للشيطان، وأنى له أن يظهر للناس في صورة قاض ثم يفوض في قطر من الأقطار فيه ألوف مؤلفة من عباد الله، فيحكم بينهم بالطاغوت بصورة الشرع [7أ]، ثم يكون شهيدا على ما يحدث بذلك القطر من المظالم، ومعينا عليها، وموسعا لدائرتها من دون أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، بل لا يجري قلمه قط بما فيه جلب خير للرعية أو دفع شر عنهم.

بل هو ما دام في هذا المنصب لا هم له ولا مطلب إلا جمع الحطام من الخصوم، تارة بالرشوة (1) وتارة بالهدية (2)، وتارة بما هو شبيه بالتلصص، ثم يدافع عن المنصب الذي هو فيه ببعض هذا السحت الذي صار يجمعه، ويتوسع في دنياه بالبعض الآخر، فهو أمر لا يقدر عليه الشيطان، ولا يتمكن منه، ولا يبلغ كيده لبني آدم إليه، وفي هذا ما يكفي من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم".

أخرجه أحمد (2/ 387، 388) والترمذي في "السنن"(1337) وقال: حديث حسن صحيح، وهو حديث صحيح.

(2)

أخرج أبو داود رقم (2963) بإسناد صحيح عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول".

وانظر: "فتح الباري"(6/ 624) رقم الباب 24 - باب هدايا العمال)، و"إعلام الموقعين" لابن القيم (4/ 232).

ص: 5747

وإذا كان حال الرعية وما هم عليه، هو ما قدمنا الإشارة إليه، وحال عاملهم وقاضيهم هو هذا الحال، وصفتهم هذه الصفة.

فانظر بعقلك، وأعمل صافي فكرك، هل مثل هؤلاء متعرضون لسخط الله وعقوبته وحلول نقمته، أم مستحقون للطفه وتوفيقه، وصرف العقوبة عنهم [7ب]، ودفع الفتن الذاهبة بالأنفس والأموال منهم؟! {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1)، {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (2){وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} (3).

وإذا قد تقرر لك حال هذا القسم الأول من الثلاثة الأقسام التي قدمنا لك ذكرها، فلنبين لك حال القسم الثاني، وهم أهل البلاد الخارجة عن أوامر الدولة ونواهيها، كبلاد القبلة والمشرق ونحو ذلك.

(1)[الكهف: 49]

(2)

[الأنعام: 148]

(3)

[يس: 45]

ص: 5748

[القسم الثاني]

اعلم - أرشدك الله - أن جميع ما ذكرنا لك في القسم الأول - وهم الرعايا - من ترك الصلاة، وسائر الفرائض الشرعية إلا الشاذ النادر على تلك الصفة، فهو أيضًا كائن في البلاد الخارجة عن أوامر الدولة ونواهيها، بل الأمر فيهم أشد وأفظع، فإنهم جميعا لا يحسنون الصلاة، ولا القراءة، ومن كان يقرأ منهم فقراءته غير صحيحة، ولسانه غير صالحة، وبالجملة فالفرائض الشرعية بأسرها من غير فرق بين أركان الإسلام الخمسة وغيرها مهجورة عندهم، متروكة، بل كلمة الشهادة التي هي مفتاح الإسلام لا ينطق بها الناطق منهم إلا على [8أ] عوج.

ومع هذا ففيهم من المصائب العظيمة، والقبائح الوخيمة، والبلايا الجسيمة أمور غير موجودة في القسم الأول:

(منها): أنهم يحكمون بالطاغوت (1)، ويتحاكمون إلى من يعرف الأحكام الطاغوتية منهم، في جميع الأمور التي تنوبهم وتعرض لهم، من غير إنكار ولا حياء من الله ولا من عباده، ولا مخافة من أحد، بل قد يحكمون بذلك بين من يقدرون على الوصول إليه من الرعايا، ومن كان قريبا منهم، وهذا الأمر معلوم لكل أحد من الناس، لا يقدر أحد على إنكاره ودفعه، وهو أشهر من نار على علم.

ولا شك ولا ريب أن هذا كفر بالله - سبحانه - وبشريعته التي أنزلها على رسوله، واختارها لعباده في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بل كفروا

(1) الطاغوت عبارة عن كل متعبد، وكل معبود من دون الله ويستعمل في الواحد والجمع قال تعالى:(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ)[البقرة: 256] وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ)[لزمر: 17](أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)[البقرة: 257] وقوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)[النساء: 60].

انظر: "مفردات ألفاظ القرآن"(ص 520 - 521) للراغب الأصفهاني.

ص: 5749

بجميع الشرائع من عند آدم عليه السلام إلى الآن، وهؤلاء جهادهم واجب، وقتالهم متعين، حتى يقبلوا أحكام الإسلام ويذعنوا لها، ويحكموا بينهم بالشريعة المطهرة.

ويخرجوا من جميع ما هم فيه من الطواغيت الشيطانية [8ب] ومع هذا فهم مصرون على أمور غير الحكم بالطاغوت والتحاكم إليه، وكل واحد منهم على انفراده يوجب كفر فاعله، وخروجه من الإسلام وذلك مثل إطباقهم على قطع ميراث النساء، وإصرارهم عليه، وتعاضدهم على فعله.

وقد تقرر في القواعد الإسلامية أن منكر القطعي، وجاحده (1) والعامل على خلافه، تمردا، أو عنادا، أو استحلالا، أو استخفافا كافر بالله وبالشريعة المطهرة التي اختارها لعباده، ومع هذا فغالبهم يستحل دماء المسلمين وأموالهم، ولا يحترمها، ولا يتورع عن شيء منها، وهذا مشاهد معلوم لكل أحد، لا ينكره عاقل ولا جاهل، ولا مقصر ولا كامل، ومع هذا ففيهم من آثار الجاهلية الجهلاء أشياء كثيرة يعرفها من تتبعها.

ومن ذلك إقسامهم بالأوثان كما تسمع كثيرا يقول قائلهم: أي وثن؟، إذا أراد أن يحلف، والمراد بهذا الوثن: هو الوثن الذي كانت الجاهلية تعبده، وقد ثبت عن الشارع [9أ] أن:" من حلف بملة غير ملة الإسلام فهو كافر"(2).

وبالجملة: فكم يعد العاد من فضائح هؤلاء الطاغوتية وبلاياهم!! وفي هذا المقدار كفاية.

ولا شك ولا ريب أن ارتكاب هؤلاء لمثل هذه الأمور الكفرية من أعظم الأسباب الموجبة للكفر، السالبة للإيمان، التي يتعين على كل فرد من أفراد المسلمين إنكارها، ويجب على كل قادر أن يقاتل أهلها حتى يعودوا إلى دين الإسلام.

ومعلوم من قواعد الشريعة المطهرة ونصوصها أن من جرد نفسه لجهاد هؤلاء،

(1) انظر: "المغني"(12/ 275 وما بعدها).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 5750

واستعان بالله، وأخلص له النية فهو منصور، وله العاقبة، فقد وعد الله بهذا في كتابه العزيز:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (1){إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2){وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (3){فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (4) و {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} (5){فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (6). فإن ترك من هو قادر على ذلك، جهادهم فهو [9ب] متعرض لنزول العقوبة به وبهم، مستحق لما أصابه، فقد سلط الله - سبحانه - على أهل الإسلام طوائف كفرية لهم، حيث لم يتناهوا عن المنكرات، ولم يحرصوا على العمل بالشريعة المطهرة، كما وقع تسليط الخوارج (7)، انظر "المغني"(12/ 275) فيه تفصيل في أول الإسلام، ثم تسليط القرامطة (8) والباطنية (9) بعدهم، ثم من تسليط التتر (10)، حتى

(1)[الحج: 40]

(2)

[محمد: 7]

(3)

[الأعراف: 128]، [القصص: 83]

(4)

[المائدة: 56]

(5)

[الصافات: 172]

(6)

[البقرة: 193]

(7)

تقدم التعريف بهم (ص 153)

(8)

تقدم التعريف بهم (ص1025)

(9)

هم الذين جعلوا لكل ظاهر من الكتاب باطنا، ولكل تنزيل تأويلا وظهرت دعوتهم في أيام المأمون من (حمدان قرمط) ومن (عبد الله بن ميمون القداح) وليس الباطنية من فرق ملة الإسلام بل هي من فرق المجوس الخارجة عن حلة الإسلام.

"الفرق بين الفرق" لعبد القاهرة البغدادي (ص 22).

ولهم ألقاب كثيرة: في العراق يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية بخراسان: يسمون التعليمية والملحدة.

وقيل: الباطنية والإمامية والغلاة مختلطة بعضها ببعض، فالكل متشيع غال وخارج عن نهج المسلمين، نشأ مذهبهم في منتصف القرن الثالث، وضعه قوم أشرب في قلوبهم بغض الدين وكراهية النبي صلى الله عليه وسلم من الفلاسفة والملاحدة والمجوس واليهود ليصرفوا الناس عن دين الله وكانوا يبعثون دعاتهم إلى الآفاق لدعوة الناس إلى مذهبهم المشؤوم، ومن دعاتهم ميمون بن ديصان القداح الثنوي فظاهر مذهبهم الرفض وباطنهم الكفر. . . ".

"التبصرة "(ص86)، "الملل والنحل"(1/ 228 - 235)

(10)

تقدم التعريف بهم (ص1025)

ص: 5751

كادوا يطمسون أمم الإسلام، وكما يقع كثيرا من تسليط الفرنج ونحوهم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (1){إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (2).

والحاصل: أنه لا خروج لمن كان قادرا على إصلاح هذا القسم والقسم الأول، وهم الرعايا - إلا ببذل الوسع في قتال هؤلاء، وبذل الوسع في إصلاح الرعايا وتعليمهم فرائض الإسلام، وإلزامهم بها، والأخذ على الولاة في الأقطار أن يكون معظم سعيهم، وغاية همهم هو دعاء من يتولون [10أ] عليه من الرعايا إلى ما أوجبه الله عليهم، ونهيهم عما نهاهم الله عنه، وانتخاب القضاة في كل قطر، فيكونون أولا ممن جمع الله لهم بين العلم والعمل، والزهد والورع، ويكونون ثانيا من الباذلين أنفسهم لإصلاح الرعايا وتعليمهم فرائض الله، ودفع المظالم الواردة عليهم، التي لا سبيل لها في الشريعة المطهرة، ويقبضون منهم ما أوجبه الله عليهم، ويدفعونه إلى إمام المسلمين، فإن في ذلك ما هو أنفع من الأشياء التي تؤخذ على وجه الظلم، وعلى طريقة الجور، والخير كل الخير في موافقة الأمور الشرعية، والشر كل الشر في مخالفتها.

ومن جملة ما يأخذون عليهم إصلاح عقائدهم، ويبينون لهم أن الله هو الضار النافع، القابض الباسط، وأنه لا ينفع ولا يضر غيره.

ويزجرونهم عن الاعتقادات الباطلة، ويجعلون في كل قرية معلما صالحا، يعلم أهلها

(1)[الحشر: 2]

(2)

[ق: 37]

ص: 5752

الصلاة على الوجه الشرعي، ويأمرونهم [10بٍ] بالمواظبة على الصلوات في أوقاتها، ويلزمون لك المعلم بأن يعلمهم سائر الفرائض التي أوجبها الله عليهم، ويلزمونهم ويحبسون من لم يأت بما فرض الله عليه، أو لم يجتنب ما نهاه الله عنه، ويكون ذلك عزيمة صحيحة مستمرة، وأمرا ضابطا دائما، ولا يكون هذا مثل ما تقع من الأوامر التي تبطل في أسرع وقت كما وقع في الأيام القريبة من الأمر لأهل صنعاء بالمواظبة على الصلاة، ثم بطل قبل مضي أسبوع، فإن الأمور الشرعية، والفرائض الدينية هي التي شرع الله نصب الأئمة والسلاطين والقضاة لها، ولم يشرع نصب هؤلاء لجمع الأموال من غير وجهها، ومصادرة الرعايا في أموالهم بأضعاف ما أوجبه الله عليهم، وترك إلزامهم بفرائض الله، التي من جملتها الصلاة والصوم والحج والزكاة، وإخلاص التوحيد لله، وترك نهيهم عما نهاهم الله عنه، من المعاصي التي صاروا يفعلونها، ويصرون عليها مما هو معلوم [11أ] لكل أحد.

وليس على إمام المسلمين ووزرائه إلا انتخاب العمال والقضاة في الأقطار، وإلزامهم بأن يكون معظم اشتغالهم بتدبير الرعايا بما شرعه الله لعباده في الأموال والأبدان، وفي الدين والدنيا، ثم بعد إلزامهم بذلك ينظرون من قام به من العمال والقضاة، ومن تركه، فيحسنون إلى من قام بهذا الأمر منهم، وبذل فيه وسعه، ويقرونه على ولايته، ويعزلون من لم يقم به، ويبذل فيه وسعه، فبهذا يدفع الله الشرور عن العباد والبلاد، ويحول بينهم وبين من قد صار في أطراف البلاد من الطوائف التي صارت تعامل عباد الله معاملة أهل الشرك المحقق، بل يتجاوزون ذلك إلى ما لا يبيحه الشرع في أهل الشرك، كما بلغ أنهم يقتلون النساء والصبيان، ويشقون بطون الحوامل؛ فإن الشارع نهى عن مثل هذا، وزجر عنه، ولم يحل للمسلمين أن يقتلوا صبيان المشركين ولا نساءهم (1).

(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (3/ 1731) والترمذي رقم (1408، 1617) وأبو داود رقم (2612، 2613) عن سليمان بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال:" اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله واغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا. . . ".

وأخرج البخاري في صحيحه (3014، 3015) ومسلم رقم (24، 25/ 1744) من حديث ابن عمر قال: " وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان"

ص: 5753

وأما العمال والقضاة الذين صاروا يتولون البلاد في هذه الأعصار، فهم من أعظم الأسباب الموجبة لنزول العقوبة، وتسليط الأعداء، وذهاب البلاد والعباد، وسفك الدماء واستحلال الحرام، وكيف لا يقع هذا التسليط وعامل [11ب] البلاد على الصفة التي قدمنا ذكرها؟! ومن أول مساوئه، ومعاصيه، ومعاندته لله، وتعرضه لغضبه وسخطه أنه يطلب تلك الولاية بأموال، يقدمها من أموال المرابين، فيقع في الربا الذي هو من أعظم المعاصي الموجبة للحرب من الله، قبل أن يخرج من بيته، ويقبض مرسوم ولايته، وقد يكون الذي ولاه عالما بأن ذلك المال هو عين الربا، فيقعان جميعا في غضب الله ولعنته، قبل المباشرة للولاية.

وإذا كان هذا أول ما تفتتح به هذه الولاية الملعونة، فما ظنك بما يحدث بعد ذلك من الظلم والجور والعسف، وإهمال ما أخذه الله على الولاة، من إرشاد الضال من الرعايا، وهداية الجاهل؟! وهكذا ولاية القاضي الشيطان في هذه الأزمان، فإنها تفتتح بشيء من السحت يدفعه هذا القاضي الذي هو من قضاة النار (1) إلى من ولاه بعد أن يستعين بالشفعاء، فكيف يفلح قاض جاهل للشرائع اشترى هذا المنصب الديني بماله، وقام في حصوله له وقعد، مع أن الشارع نهى عن يتولى القضاء من طلبه فضلا عمن اشتراه [12أ] بماله (2)!.

(1) تقدم ذكر الحديث

(2)

تقدم توضيحه.

قال ابن تيمية في "السياسة الشرعية"(ص 174): متى اهتم الولاة بإصلاح دين الناس، صلح للطائفتين دينهم ودنياهم، وإلا اضطربت الأمور عليهم، وملاك ذلك كله حسن النية للرعية، وإخلاص الدين كله لله، والتوكل عليه، فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة: 5] فإن هاتين الكلمتين قد قيل إنهما يجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان مرة في بعض مغازيه، فقال:"يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين" فجعلت الرءوس تندر عن كواهلها وقد ذكر ذلك في غير موضع من كتابه كقوله: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) وقوله تعالى: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) وكان صلى الله عليه وسلم إذا ذبح أضحيته - يقول: "اللهم منك ولك" - وأعظم عون لولي الأمر خاصة، ولغيره عامة ثلاثة أمور أحدها.

أحدها: الإخلاص لله، والتوكل عليه بالدعاء وغيره وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن.

الثاني: الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة.

الثالث: الصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب، ولهذا جمع الله بين الصلاة والصبر، كقوله تعالى في موضعين:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) وكقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين)[هود: 114 - 115].

فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو يسبق في الطلب بل ذلك سبب المنع.

كما قال صلى الله عليه وسلم: "أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه" تقدم وهو حديث صحيح.

فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس. . . أو لرشوة يأخذها من مال أو منفعة أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما فقد خان الله ورسوله قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال: 27].

فمثلا: القوة في كل ولاية بحسبها فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال. . . ".

القوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة تنفيذ الأحكام.

والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس وهذه الخصال الثلاث التي أتخذها الله على كل حكم على الناس.

قال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].

وإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد، قدم الأمين فأما استخراجها وحفظها، فلا بد فيه من قوة وأمانة فيولي عليها شاد قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها وأمانته، وكذلك في إمارة الحرب إذا أمر الأمير بمشاورة أولي العلم والدين جمع بين المصلحتين، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد، جمع بين عدد، فلابد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام.

ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى الأورع، وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه: الأعلم.

وانظر مزيد التفصيل: " السياسة الشرعية " لابن تيمية. "تسهيل النظر وتعجيل الظفر "الماوردي "درر السلوك في سياسة الملوك".

ص: 5754

وكيف يفلح من ولى هذا القاضي؟! وكيف يفلح الرعايا؟! كلا والله، بل هو بلاء صبه الله عليهم، ومحنة امتحنهم الله بها، وسبب من أسباب تعجيل العقوبة لهم وله، ولمن ولاه عليهم من أهل الأمر.

ص: 5756

[القسم الثالث]

وأما القسم الثالث من الأقسام التي ذكرناها، وهم الساكنون في المدن، فهم وإن كانوا أبعد الناس عن الشر، وأقربهم إلى الخير، لكن غالبهم وجمهورهم عامة وجهال يهملون كثيرا مما أوجبه الله عليهم من الفرائض جهلا وتساهلا.

فمن ذلك: أنهم يصلون أغلب الصلوات في غير أوقاتها، فيأتون بصلاة الفجر حال طلوع الشمس وبعدها، وبصلاة العصرين قريب غروب الشمس، وبصلاة العشاءين إما جمعا في وقت الأولى، أو في وقت الأخرى.

ومع هذا فهم لا يحسنون أركان الصلاة، ولا أذكارها إلا الشاذ النادر منهم، ويتعاملون في بيعهم وشرائهم معاملات تخالف المسلك الشرعي، وكثيرا ما يقع الربا ويتكلمون [12ب] بالألفاظ الكفرية، وينهمك كثير منهم في معاص صغيرة وكبيرة، وهم أقرب الناس إلى الخير، وأسرعهم قبولا للتعليم، إذا وجدوا من يعزم عليهم عزيمة مستمرة دائمة، غير منقوصة في أقرب وقت، كما يقع في ذلك كثير.

ومن عدا العامة: فمن لم يكن له اشتغال بالعلم، ولا مجالسة لأهله حكمه حكم العامة في دينه، بل هو واحد منهم، وإن كان له نسب شريف وبيت رفيع.

وربما كان هذا الذي يظن في نفسه أنه خارج من العامة، وداخل في الخاصة متعلقا بشيء من الولايات الدينية أو الدنيوية، وهو يخبط خبط عشواء، ويظلم العباد والبلاد، جهلا منه أو تجاهلا وجرأة على الله.

والواجب على إمام المسلمين - حفظه الله - وعلى أعوانه، افتقاد هؤلاء، والبحث عن مباشراتهم، وعن كيفية معاملاتهم لمن يتولون عليه، أو يتوسطون [13] له، وقد يكون بعض هؤلاء المتولين للأعمال، أو المتوسطين على شيء من أهل العلم، وليس كونه من أهل العلم موجبا لترك البحث عن أحواله، والتفتيش عن معاملته لمن هو متول عليهم، أو متوسط لهم، فإن كونه عالما أو متعلما لا يوجب له العصمة، ولا يسد عنه

ص: 5757

باب الاختيار والبحث، فإن كثيرا من أهل العلم من يكون علمه حجة عليه، ووبالا له، والدنيا مؤثرة، وحبها رأس كل خطيئة.

والله المسئول أن يلهم إمام المسلمين - أقام الله به أركان الدين - إلى القيام بما أرشدنا إليه في هذه الرسالة، وإبلاغ الجهد في أحوال هذه الثلاثة الأقسام التي ذكرناها، فإنه إذا فعل ذلك صلحت له أحوال الدين والدنيا، ودفع الله عن رعاياه كل محنة، ولم يسلط عليهم غيرهم قط، كائنا من كان [13 ب]، وليس في هذا مشقة عليه، ولا نقص في دنياه، بل هو الدواء المجرب لتوفر الخير، وتضاعف المدد، وصفو العيش، وراحة القلب، وطول العمر، واتساع البلاد وإذعان العباد.

بهذا جاءت الشريعة المطهرة، ونطقت كلياتها وجزئياتها، وفي هذا المقدار كفاية.

والله ولي التوفيق [14أ].

ص: 5758