الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(182)
10/ 4
رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن
وصف المخطوط: (أ)
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: رفع الريبة في بيان ما يجوز وما لا يجوز من الغيبة.
2 -
موضوع الرسالة: آداب.
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم وبعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله وآله فإنه قد اتفق أهل العلم على تحريم الغيبة.
4 -
آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق، كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له.
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
عدد الصفحات: 14 صفحة عدا صفحة العنوان.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 9 أسطر.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 -
الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 -
الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
وصف المخطوط: (ب)
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: رفع الريبة في بيان ما يجوز وما لا يجوز من الغيبة.
2 -
موضوع الرسالة: آداب.
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم وبعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله وآله فإنه قد اتفق أهل العلم على تحريم الغيبة.
4 -
آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق، كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له، انتهى نقل هذه الرسالة العظيمة في يوم الثلاثاء سابع شهر شوال سنة أربع وثلاث عشر مائة بعد الألف سنة 1304 ختمت وما بعدها بخير آمين، صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم آمين.
5 -
نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 -
عدد الصفحات: 9 صفحات.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة:29 سطرا.
8 -
عد الكلمات في السطر:15 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد حمد الله، والصلاة والسلام على رسوله وآله.
فإنه اتفق أهل العلم أجمع على تحريم الغيبة للمسلم، وذلك لنص الكتاب العزيز، والسنة المطهرة.
أما الكتاب [قوله](1){وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (2) فهذا نهي قرآني عن الغيبة مع إيراد مثل لذلك يزيده شدة وتغليظا، ويوقع
(1) في (ب) فقوله تعالى.
(2)
[الحجرات:12].
قال الألوسي في "روح المعاني"(26/ 158) تمثيل لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى، الاستفهام التقريري من حيث أنه لا يقع إلا في كلام هو مسلم عن كل سامع حقيقة أو ادعاء، وإسناد الفعل إلى أحد - إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وجعل المأكول أخا للآكل وميتا، وتعقيب ذلك بقوله:(فَكَرِهْتُمُوهُ) حملا على الإقرار وتحقيقا لعدم محبة ذلك أو لمحبته التي لا ينبغي مثلها.
وكنى عن الغيبة بأكل الإنسان للحم مثله؛ لأنها ذكرت المثالب وتمزيق الأعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه في استكراه العقل والشرع له.
وجعله ميتا؛ لأن المغتاب لا يشعر بغيبته. ووصله بالمحبة لما جبلت عليه النفوس من الميل إليها مع العلم بقبحها.
قال أبو زيد السهيلي: ضرب المثل لأخذ العرض بأكل اللحم؛ لأن اللحم ستر على العظم، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه
انظر:" الجامع لأحكام القرآن"(16/ 337 - 339).
قال محيي الدين الدرويش في "إعراب القرآن الكريم"(9/ 275): الاستعارة التمثيلية الرائعة في قوله تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ).
فقد شبه من يغتاب غيره بمن يأكل لحم أخيه ميتا وفيها من المبالغات:
1 -
الاستفهام الذي معناه التقرير كأنه أمر مفروغ منه مبتوت فيه.
2 -
جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة.
3 -
إسناد الفعل إلى كل أحد للإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك.
4 -
أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان وهو أكره اللحوم وأبعثها على التقزز حتى جعل الإنسان أخا.
5 -
أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتا.
إن الغيبة على ثلاث أضرب:
1 -
):أن تغتاب وتقول لست أغتاب؛ لأني أذكر ما فيه فهذا كفر، ذكره الفقيه أبو الليث في "التنبيه" لأنه استحلال للحرام القطعي.
2 -
): أن تغتاب وتبلغ غيبة المغتاب فهذه معصية لا تتم التوبة عنها إلا بالاستحلال؛ لأنه أذاه فكان فيه حق العبد أيضا، وهذا محمل قوله عليه الصلاة والسلام:" الغيبة أشد من الزنا" قيل: وكيف؟ قال: "الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه".
3 -
): إن لم يبلغ الغيبة فيكفيه التوبة والاستغفار له ولمن اغتابه.
في النفوس من الكراهة له والاستقذار لما فيه ما لا يقادر قدره؛ فإن أكل لحم الإنسان من أعظم ما يستقذره بنو آدم جبلة وطبعا، ولو كان كافرا أو عدوا مكافحا، فكيف إذا كان أخا في النسب أو في الدين؟! فإن الكراهة تتضاعف بذلك، ويزداد الاستقذار، فكيف إذا كان ميتا؟! فإن لحم ما يستطاب ويحل أكله يصير مستقذرا بالموت، لا يشتهيه الطبع، ولا تقبله النفس. وبهذا [يعرف](1) ما في هذه الآية من المبالغة في تحريم الغيبة، بعد النهي الصريح [عن ذلك](2).
وأما السنة فلأحاديث النهي عن الغيبة، وهي ثابتة في الصحيحين وفي غيرهما من دواوين الإسلام، وما يلتحق بها، مع اشتمالها على بيان ماهية الغيبة، وإيضاح معناها؛ فإنه لما سأله صلى الله عليه وآله وسلم سائل عن الغيبة فقال:" ذكرك أخاك بما يكره " قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال:" إن كان فيه ما تقول فقد
(1) زيادة من (أ).
(2)
في (ب) تعرف.
اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته " وهذا ثابت في الصحيح (1).
فعرفت تحريم الغيبة (2) كتابا وسنة وإجماعا، ولكنه قد وقع في كلام جماعة من العلماء الاستثناء لصور صرحوا بأنه يجوز فيها الغيبة، وكلماتهم في ذلك متفاوتة، وما ذكروه من الأعداد المستثناة مختلف.
فلنقتصر هاهنا على ذكر ما أورده النووي في شرح .............................................
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2589) وأبو داود رقم (4874) والترمذي رقم (1934) وقال: حديث حسن صحيح.
وأحمد (2/ 384، 386) والدارمي (2/ 297) والبغوي في "شرح السنة" رقم (3560) والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 247) من طرق. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهو حديث صحيح.
(2)
الغيبة: قال ابن الأثير في "النهاية"(3/ 399) هو أن يذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه، فإذا ذكرته بما ليس فيه فهو البهت والبهتان، وقال صاحب "تاج العروس" (2/ 297): الغيبة من الغيبوبة، والغيبة من الاغتياب. يقال: اغتاب الرجل صاحبه اغتيابا إذا وقع فيه: وهو أن يتكلم خلف إنسان مستور بسوء أو بما يغمه [لو سمعه] وإن كان فيه، فإن كان فيه صدقا فهو غيبة، وإن كان كذبا فهو البهت.
وقال ابن فارس في "مقاييس اللغة"(4/ 403). غيب الغين والياء والباء أصل صحيح يدل على تستر الشيء عن العيون، ثم يقاس. من ذلك الغيب: ما غاب مما لا يعلمه إلا الله. ويقال غابت الشمس تغيب غيبة وغيوبا وغيبا، وغاب الرجل عن بلده. وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب بعلها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطة من الأرض يغاب فيها، قال تعالى في قصة يوسف عليه السلام:(وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ).
والغيبة: الوقيعة في الناس من هذا؛ لأنها لا تقال إلا في غيبة.
* البهت: الباء والهاء والتاء أصل واحد، وهو كالدهش والحيرة، يقول: بهت الرجل يبهت بهتا، والبهتة الحيرة. فأما البهتان فالكذب، يقول العرب: يا للبهيتة. أي الكذب.
"مقاييس اللغة"(1/ 307).
وقيل: البهتان: الباطل الذي يتحير من بطلانه والكذب.
"لسان العرب"(1/ 513). وانظر:" تاج العروس"(3/ 19).
مسلم (1) له، ثم نذكر بعد ذلك تصحيح ما هو صحيح من كلامه، ونتعقب ما هو محل للتعقب، ونستدل على ما لم يذكر الدليل عليه، حتى يكون هذا البحث تاما وافيا شاملا كاملا، فإنه من المهمات الدينية [1أ]؛ لعظم خطر الوقوع فيه، مع تساهل كثير من الناس في شأنه، ووقوعهم في خطره، إلا من عصمه الله من عباده.
[بيان ما يباح من الغيبة].
قال النووي في شرح مسلم (2)[له](3) عند ذكر ما ورد في تحريم الغيبة ما لفظه:" لكن تباح الغيبة لغرض شرعي، وذلك لستة أسباب:
أحدها: التظلم؛ فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، ويقول: ظلمني فلان، أو فعل بي فلان كذا (4).
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب. فيقول لمن يرجو قدرته: فلان يعمل كذا، فازجره. أو نحو ذلك.
الثالث: الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان، أو أبي، أو أخي، أو زوجي بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص [منه](5)، ودفع ظلمه عني؟ ونحو ذلك؛ فهذا جائز للحاجة، والأحوط أن يقول: ما تقول في رجل، أو زوج، [أو والد، أو ولد](6) كان من أمره كذا؟ ولا يعين ذلك، والتعيين جائز؛ لحديث هند وقولها: إن أبا سفيان رجل شحيح (7).
(1)(16/ 142)
(2)
(16/ 142)
(3)
زيادة من (أ)
(4)
انظر"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (28/ 225)." الجامع لأحكام القرآن"(16/ 339)
(5)
في (ب) معه
(6)
في (ب) أو ولد أو والد.
(7)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5364) ومسلم رقم (1714) وقد تقدم.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر، وذلك من وجوه:
منها: جرح المجروحين من الرواة [1] والشهود والمصنفين، وذلك جائز بالإجماع بل واجب، صونا للشريعة.
ومنها: الإخبار بغيبة عند المشاورة في مواصلته.
ومنها: إذا رأيت من يشتري شيئا معيبا، أو عبدا سارقا، أو شاربا، أو زانيا، أو نحو ذلك؛ [تذكرة](1) للمشتري إذا لم يعلمه، نصيحة لا لقصد الإيذاء والإفساد.
ومنها: إذا رأيت متفقها يتردد إلى فاسق، أو مبتدع يأخذ عنه علما، وخفت عليه ضرره؛ فعليك نصيحته ببيان حاله، قاصدا للنصيحة.
ومنها: أن يكون له ولاية؛ ليستبدل أو يعرف حاله، ولا يغتر به، أو يلزمه الاستقامة.
الخامس: أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته؛ كالخمر والمصادرة للناس، وجباية المكوس، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ولا يجوز بغيره إلا بسبب آخر.
السادس: التعريف؛ فإن كان معروفا بلقب، كالأعمش، والأعرج، والأزرق، والقصير، والأعمى، والأقطع، ونحوها، جاز تعريفه، ويحرم ذكره بها تنقصا، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى ". انتهى كلامه بحروفه (2).
وأقول - مستعينا بالله ومتكلا عليه -: قبل التكلم على هذه الصور: اعلم أنا قد قدمنا أن تحريم الغيبة (3) ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، والصيغة الواردة في الكتاب والثابتة [1ب] في السنة عامة عموما شموليا يقتضي تحريم الغيبة من كل فرد من أفراد
(1) في (ب) تذكر.
(2)
النووي في " شرحه لصحيح مسلم "(16/ 142).
(3)
قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(16/ 377). لا خلاف أن الغيبة من الكبائر.
المسلمين لكل فرد من أفرادهم، فلا يجوز القول بتحليل ذلك في موضع من المواضع لفرد أو أفراد إلا بدليل يخصص هذا العموم، فإن قام الدليل على ذلك فبها ونعمت، وإن لم يقم فهو من التقول على الله بما لم يقل، ومن تحليل ما حرمه الله بغير برهان من الله عز وجل.
[الصورة الأولى: التظلم].
إذا عرفت هذا فاعلم أن الصورة الأولى - من الصور التي ذكرها، وهي جواز اغتياب المظلوم لظالمه - قد دل على جوازها قول الله عز وجل:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (1) فهذا الاستثناء قد أفاد جواز ذكر المظلوم للظالم بما يبين للناس وقوع الظلم له من ذلك الظالم، ورفع صوته بذلك، والجهر به في المواطن التي يجتمع الناس بها. أما إذا كان يرجو منهم نصرته، ودفع ظلامته، ودفع ما نزل به من ذلك الظالم، كمن له منهم قدرة على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من الولاة والقضاة وغيرهم؛ فالأمر ظاهر، وأما إذا كان لا يرجو منهم ذلك، وإنما أراد كشف مظلمته وإشهارها في الناس فظاهر الآية الكريمة يدل على جوازه؛ لأنه لم يقيدها بقيد يدل على أنه لا يجوز الجهر بالسوء من القول إلا لمن يرجو منه النصرة، ودفع المظلمة.
وإن كان ما قدمنا من كلام النووي يفيد قصر الجواز على من يقدر على دفع الظلم لكن الآية لا تدل على ذلك [فقط](2) ولا تمنع مما عداه.
[جواز الجهر بالسوء لمن ظلم].
وهاهنا بحثان:
البحث الأول: لا يخفاك أن الأدلة الدالة على تحريم الغيبة تشمل المظلوم وغيره،
(1)[النساء: 148]
(2)
زيادة من (أ).
والآية الدالة على جواز الجهر بالسوء لمن ظلم تفيد جواز ذلك في وجه الظالم وفي غيبته.
فأدلة تحريم الغيبة أعم من وجه وهو شمولها لغير المظلوم، وأخص من وجه، وهو أعم من تناولها لما يقال في وجه من يراد ذكره بشيء من قبيح فعله.
وآية جواز ذكر المظلوم للظالم أعم من وجه وهو جواز ذكر ذلك في وجه الظالم وفي غيبته، وأخص من وجه وهو عدم تناولها لغير المظلوم وظالمه.
ولا تعارض في مادتين: وهما دلالة أدلة تحريم الغيبة على عدم جوازها لغائب غير ظالم، ودلالة آية جواز الجهر بالسوء على أنه يجوز للمظلوم في وجه الظالم، وإنما التعارض في مادة واحدة، [وهي](1) ذكر المظلوم للظالم بظلمه له في غيبته.
فأدلة تحريم الغيبة قاضية بالمنع من ذلك، والآية قاضية بالجواز، ولا يخفاك أن أدلة [2أ] تحريم الغيبة أقوى؛ لصراحة دلالة الآية على تحريمها، مع اعتضادها بالأدلة من قطيعة السنة، واشتداد عضدها بوقوع الإجماع عليها. وآية جواز ذكر المظلوم للظالم وإن كانت قطعية المتن فهي ظنية الدلالة، وقد عارضها ما هو مثلها من الكتاب العزيز في قطعية متنه وظنية دلالته، وانضم إلى ذلك المعارض ما شد [من](2) عضده، وشال بضبعه من السنة والإجماع، [فتقصر](3) دلالة آية جواز ذكر المظلوم للظالم على ذكره بالسوء الذي فعله من الظلم الذي أوقعه على المظلوم في وجهه، ولا يجوز له [2] ذكره في غيبته، ترجيحا للدليل القوي، ومشيا على الطريق السوي، فلا تكون هذه الصورة - التي جعلها النووي عنوانا للصور المستثناة - صحيحة؛ لعدم قيام مخصص صحيح صالح للتخصيص يخرجها من ذلك العموم.
البحث الثاني: هل جهر المظلوم بالسوء الذي أصابه من ظالمه جائز فقط، أم له رتبة
(1) في (ب) وهو.
(2)
زيادة من (ب).
(3)
في (ب) فتصير.
أرفع من رتبة الجواز؟ لأن الاستثناء من قوله: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} (1) يدل على أن جهر المظلوم بالسوء الذي وقع عليه محبوب لله، وإذا كان محبوبا لله كان فعله من فاعله يختص بمزية زائدة على الجواز، ورتبة أرفع منه، وهذا على تقدير أن الاستثناء متصل، حتى يثبت للمستثنى ما نفي عن المستثنى منه (2).
وأما إذا كان منقطعا فلا دلالة في الآية على أنه مما يحبه الله، بل لا يدل على [سوء](3) جوازه، لكن على تقرير الاتصال؛ هاهنا مانع من أن يكون لذكر المظلوم لظالمه بالسوء رتبة زائدة على رتبة الجواز، وهو أن الله - سبحانه - قد رغب عباده في
(1)[النساء: 148].
(2)
قال الطبري في "جامع البيان"(4\جـ6/ 4) فالصواب في تأويل ذلك:" لا يحب الله أيها الناس أن يجهر أحد لأحد بالسوء من القول (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بمعنى: إلا من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء إليه
…
وإذا كان ذلك معناه: دخل فيه إخبار من لم يقر أو أسيء قراه، أو نيل بظلم في نفسه أو ماله عنوة من سائر الناس، وكذلك دعاءه على من ناله بظلم أن ينصره الله عليه. لأن في دعائه عليه إعلاما منه لمن سمع دعاءه بالسوء له، وإذا كان ذلك كذلك، "فمن" في موضع نصب، لأنه منقطع عما قبله. وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها فهو نظير قوله:(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ).
وقال الرازي في تفسيره (11/ 90 - 91): أن هذا الاستثناء منقطع والمعنى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول. لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته.
وللمظلوم أمور منها:
1 -
قال قتادة وابن عباس: لا يحب الله رفع الصوت بما يسوء غيره إلا المظلوم فإن له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه.
2 -
قال مجاهد: إلا أن يخبر بظلم ظالمه له.
3 -
لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكتومة، لأن ذلك يصير سببا لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الإنسان في الريبة لكن من ظلم فيجوز إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب وهذا قول الأصم.
4 -
قال الحسن: إلا أن ينتصر من ظالمه.
(3)
في (ب) سواء
العفو (1)، وندبهم إلى ترك الانتصاف، والتجاوز عن المسيء، حتى ورد الإرشاد للمظلوم إلى ترك الدعاء على ظالمه، وأنه إذا فعل ذلك انحط عليه من أجر ظلامته ما هو مذكور في الأحاديث، وقد صرح الكتاب العزيز في غير موضع بالأمر بالعفو، والترغيب فيه، وعظم أجر العافين عن الناس (2)، وهكذا وقع في السنة المطهرة ما هو الكثير الطيب من ذلك (3).
ومجموع هذا لا يفيد أن الانتصاف وترك العفو غايته أن يكون جائزا، وهكذا ما في هذه الآية من جواز ذكر المظلوم للظالم بالسوء الذي ناله ..........................................
(1) انظر الرسالة رقم (31).
(2)
منها قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 133 - 134].
ومنها: قوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النور: 22].
ومنها: قوله تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[الشورى: 43].
(3)
منها: ما أخرجه مسلم رقم (2588) والترمذي (2029) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما نقصت صدقة من مال ". وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه عز وجل ". وهو حديث صحيح.
ومنها: ما أخرجه أحمد (4/ 231) والترمذي رقم (235) وابن ماجه رقم (4228) من حديث أبي كبيشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه.
قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر
…
" واللفظ للترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح.
ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3477) ومسلم رقم (1792) عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:" اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
منه (1)، للقطع بأن الله يحب العفو عن الناس، وذلك معلوم بالكتاب والسنة والإجماع، والأدلة عليه من كليات الشريعة وجزئياتها تحتاج إلى طول بسط [2ب](2).
[الصورة الثانية: الاستعانة على تغيير المنكر].
وأما الصورة الثانية: التي ذكرها النووي (3) فيما قدمنا - وهي الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب - فاعلم أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هما من أعظم عمد الدين (4)؛ لأن بهما حصول مصالح الأولى والأخرى، فإن كانا قائمين قام بقيامها سائر الأعمدة الدينية، والمصالح الدنيوية، وإن كانا غير قائمين لم يكثر الانتفاع بقيام غيرهما من الأمور الدينية والدنيوية، وبيان ذلك، أن أهل الإسلام إذا كان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فيهم ثابت الأساس، والقيام به هو شأن الكل أو الأكثر من الناس، فالمعروف بينهم معروف، وهم يد واحدة على إقامة من زاغ عنه، ورد غواية
(1) قال الشوكاني في "فتح القدير"(1/ 623 - 624): اختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم، فقيل هو أن يدعوا على من ظلمه وقيل: لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول: فلان ظلمني أو هو ظالم أو نحو ذلك.
وقيل: معناه: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه فهو مباح له.
والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته ". تقدم تخريجه.
وأما على القراءة - إلا من على البناء للمعلوم - فالاستثناء متقطع أي إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له.
وقال الألوسي في "روح المعاني (26/ 161): وقد تجب الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها وتنحصر في ستة أسباب. الأول التظلم فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن له قدرة على إزالة ظلمه أو تخفيفه
…
(2)
تقدم ذكره.
(3)
في شرحه لصحيح مسلم (16/ 142)
(4)
تقدم مرارا
من فارقه، والمنكر لديهم منكر، وجماعتهم متعاضدة عليه، متداعية إليه - متناصرة على الأخذ بيد فاعله وإرجاعه إلى الحق، والحيلولة بينه وبين ما قارفه من الأمر المنكر.
فعند ذلك لا يبقى أحد من العباد في ظاهر الأمر تاركا لما هو معروف، ولا فاعلا لما هو منكر، لا في عبادة، ولا في معاملة؛ فتظهر أنوار الشرع، وتسطع شموس العدل، وتهب رياح الدين، وتستعلن كلمة الله في عباده وترتفع أوامره ونواهيه، وتقوم دواعي الحق، وتسقط دواعي الباطل، وتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو المرجوع إليه [والمعمول](1) به، وكتابه الكريم، وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هما المعيار الذي توزن به أعمال العباد، ونرجع إليهما في دقيق الأمور وجليلها؛ وبذلك تنجلي ظلمات البدع، وتنقصم ظهور أهل الظلم، وتنكسر نفوس أهل معاصي الله، وتخفق رايات الشرع في أقطار الأرض، وتضمحل جولات الباطل في جميع بلاد الله عز وجل.
[أضرار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر].
وأما إذا كان هذان الركنان العظيمان غير قائمين، أو كانا قائمين قياما صوريا لا حقيقيا فيالك من بدع تظهر، ومن منكرات تستعلن، ومن معروفات تستخفي، ومن جولات للعصاة وأهل البدع تقوى وترتفع، ومن ظلمات بعضها فوق بعض تظهر في الناس، ومن هرج و [مرج](2) في العباد يبرز للعيان، وتقر به عين الشيطان؛ وعند ذلك يكون المؤمن كالشاة العائرة، والعاصي كالذئب المفترس، وهذا بلا شك ولا ريب [3أ] هو [المحيي](3) رسوم الدين، وذهاب نور الهدى، وانطماس معالم الحق. وعلى تقدير وجود أفراد من العباد يقومون بفرائض الله، ويدعون مناهيه، ولا يقدرون على أمر
(1) في (ب) والمعول
(2)
في (ب) ترج
(3)
في (ب) المحمي
بمعروف، ولا نهي عن المنكر؛ فما أقل النفع بهم! وأحقر الفائدة على الدين منهم!؛ فإنهم وإن كانوا ناجين بأعمالهم، فائزين بتمسكهم بعروة الحق الوثقى، لكنهم في زمان غربة الدين، وانطماس معالمه، وظهور المنكر، وذهاب المنكر بين أهل السواد [3] الأعظم، وفيما يتظاهر به الناس؛ وحينئذ يصير المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ويعود الدين غريبا كما بدأ.
وإذا تقرر لك هذا، وعرفت ما في قيام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في الناس من مصالح المعاش والمعاد، وفوائد الدنيا والدين (1) - فاعلم أن هذا الذي رأي منكراً، إن كان قادرا على تغييره بنفسه (2)، أو بالاستنصار بمن يمكن .............................
(1) قال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
وقال سبحانه وتعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
قال ابن كثير في تفسيره (2/ 396) فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في المدح كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها رأي من الناس دعة فقرأ هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ثم قال من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم بقوله: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
(2)
قال صلى الله عليه وسلم:" من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". من حديث أبي سعيد الخدري.
أخرجه مسلم رقم (49) وأبو داود رقم (1140و 4340) والترمذي رقم (2173) والنسائي (8/ 111) وابن ماجه رقم (4013).
قال القرطبي في "المفهم"(1/ 233): هذا الأمر على الوجوب لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان ودعائم الإسلام، بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ولوجوبه شرطان:
1 -
العلم بكون ذلك منكرا أو معروفا.
2 -
القدرة على التغيير.
الاستنصار به (1)، بأن يقول لجماعة من المسلمين: في المكان الفلاني من يرتكب المنكر، فهلموا إلي، وقوموا معي حتى ننكره ونغيره، فليس به إلى الغيبة- التي هي جهد من لا
(1) قال القرطبي في " المفهم"(1/ 334): إذا كان المنكر مما يحتاج في تغييره إلى اليد. مثل كسر أواني الخمر، وآلات اللهو كالمزامير والأوتاد والكبر-الطبل- وكمنع الظالم من الضرب والقتل وغير ذلك. فإن لم يقدر بنفسه استعان بغيره، فإن خاف من ذلك ثوران فتنة، وإشهار سلاح، تعين رفع ذلك. فإن لم يقدر بنفسه على ذلك غير بالقول المرتجى نفعه من لين أو إغلاظ حسب ما يكون أنفع، وقد يبلغ بالرفق والسياسة ما لم يبلغ بالسيف والرياسة، فإن خاف من القول القتل أو الأذى، غير بقلبه، ومعناه أن يكره ذلك الفعل بقلبه، ويعزم أن لو قدر على التغيير لغيره
…
".
وقال صلى الله عليه وسلم:" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان أو أمير جائر". من حديث أبي سعيد الخدري.
أخرجه أبو داود رقم (4344) والترمذي رقم (2174) وابن ماجه رقم (4011). وهو حديث حسن.
وقد ورد الخطاب- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- للأمة عامة ولكن المسؤولية تتأثر على صنفين من الناس وهما العلماء والأمراء أما العلماء فلأنهم يعرفون من شرع الله تعالى ما لا يعرفه غيرهم من الأمة ولما لهم من هيبة في النفوس واحترام في القلوب مما يجعل أمرهم ونهيهم أقرب إلى الامتثال وأدعى إلى القبول.
وأما الأمراء والحكام فإن مسئوليتهم أعظم وخطرهم إن قصروا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكبر لأن الحكام لهم ولاية وسلطان ولديهم قدرة على تنفيذ ما يأمرون به وينهون وحمل الناس على الامتثال ولا يخشى من إنكارهم مفسدة لأن القوة والسلاح في أيديهم والناس ما زالوا يحسبون حسابا لأمر الحاكم ونهيه فإن قصر الحاكم في الأمر والنهي طمع أهل المعاصي والفجور ونشطوا لنشر الشر والفساد دون أن يراعوا حرمة أو يقدسوا شرعا ولذا كان من الصفات الأساسية للحاكم الذي يتولى الله تأييده، ونصرته، ويثبت ملكه ويسدد خطئه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
" الوافي في شرح الأربعين النووية"(ص 263).
له جهد- حاجة، لأن وازع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إذا كان موجودا في عباد الله، فلا يحتاجون إلى تعيين فاعل المنكر، وبيان أنه فلان ابن فلان، وإن لم يكن فيهم ذلك الوازع الديني، والغيرة الإسلامية؛ فهم لا ينشطون إلى إجابته بمجرد التسمية والتعيين، إذ لا فرق في مثل هذا بين الإجمال والتعيين، اللهم إلا أن يكون سيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كليلا. وعضده ضعيفا عليلا ضئيلا، فإنهم قد ينظرون مع التسمية والتعيين في فاعل المنكر؛ فإن كان قويا جليلا [تركوه](1)، وإن كان ضعيفا حقيرا قاموا إليه وغيروا ما هو عليه. وهذا هو غربة الدين العظيمة، ولكن في الشر خيار وبعضه أهون من بعض.
فإذا كانوا بمنزلة من ضعف العزيمة، بحيث لا يقدرون إلا على الإنكار على المستضعفين المستذلين؛ فذلك فرضهم، وليس عليهم سواه [3ب]. وحينئذ لا بأس بالتعيين، والغيبة التي هي غاية ما يقدر عليه المستضعفون، ونهاية ما يتمكن منه العاجزون والله ناصر دينه، ولو بعد حين.
وجواز هذه الغيبة في مثل هذا المقام، هو بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الثابتة بالضرورة الدينية، التي لا يقوم بجنبها دليل لا صحيح ولا عليل.
[الجمع بين أدلة المسألة]:
فإن قلت: هاهنا دليلان بينهما عموم وخصوص من وجه، هما أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأدلة تحريم الغيبة، فكيف لم تعمل هاهنا كما عملت في الصورة الأولى؟.
قلت: قد عملت هاهنا كما عملت في الصورة الأولى، فرجحت العمل بالراجح، كما رجحت في الصورة الأولى العلم الراجح، وإن اختلف موضعا الترجيح، ففي
(1) زيادة من (ب)
الصورة الأولى رجحت أدلة الغيبة؛ لما تقرر من أن العمومين الواردين على هذه الصورة إن رجح أحدهما على الآخر باعتبار ذاته، وجب المصير إليه، وإن لم يرجح باعتبار ذاته وأمكن الترجيح باعتبار أمر خارج؛ وجب الرجوع إليه.
وقد وجد المرجح هنالك باعتبار الأمر الخارجي، وهو أدلة السنة والإجماع؛ فإنها أوجبت ترجيح أدلة تحريم الغيبة في تلك الصورة التي وقع فيها التعارض، على جواز الجهر بالسوء للمظلوم على طريقة [الاغتياب](1)، وهاهنا كان الترجيح في صورة التعارض بكون أحد الدليلين ثابتا بالضرورة الدينية دون الآخر، ولهذا قدمنا لك [ما قدمنا](2) في فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعرفناك أنه لا شيء من الأمور الدينية يقوم مقامهما، ولا يغني غناهما.
[الصورة الثالثة: جواز الغيبة للمستفتي].
وأما الصورة الثالثة: وهي جواز الغيبة للمستفتي:
فأقول: لا يخفاك أن أدلة تحريم الغيبة ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع كما قدمنا، فصار تحريمهما من هذه الحيثية من قطعيات الشريعة، وليس في تسويغها للمستفتي إلا سكوته- صلى الله عليه وآله وسلم عن الإنكار على هند لما قالت له:" إن أبا سفيان رجح شحيح"(3)، وهذا السكوت الواقع منه صلى الله عليه وآله وسلم عند سماع الغيبة من امرأة [حديثة](4) عهد بجاهلية لرجل حديث عهد بجاهلية، مع كونه في
(1) في (ب) الاعتبار
(2)
زيادة من (أ).
(3)
تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
قال الحافظ في "الفتح"(9/ 509) واستدل بهذا الحديث على جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة.
(4)
في (ب) حديث.
تلك الحال لم يكن قد ظهر منه يدل على خلوص إسلامه، واستقامة طريقه، وإنما ظهر منه ذلك بعد موته- صلى الله عليه وآله وسلم فهذا التقرير بالسكوت الكائن على هذه الصفة في مثل هذه الحالة بعد ثبوت تحريم الغيبة في القرآن الكريم [4أ]، وفي السنة المطهرة، وعلم الصحابة به وإجماعهم عليه- لا ينبغي التمسك بمثله، ولا يحل القول بصلاحيته للتخصيص؛ لأن السامعين من المسلمين في تلك الحالة قد علموا تحريم الغيبة، وتقرر عندهم حكمها، فلو لم يكن السكوت إلا لكون حكم الغيبة قد صار معلوما واضحا مشتهرا عندهم، لكان ذلك بمجرده قادحا في الاستدلال به، وتخصيص الأدلة القطعية بمثله، وهذا على تقدير أن أبا سفيان لم يكن حاضرا في ذلك الموقف، فإن كان حاضرا- كما قيل- اندفع التعلق بسكوته- صلى الله عليه وآله وسلم من الأصل، ومع هذا فلا ضرورة ملجئة للمستفتي إلى التعيين، حتى يقال: إنه لا يتم مطلوبة من الاستفتاء إلا بالتعين؛ فإنه يحصل مطلوبة بالإجمال؛ لأن المقصود استفادة الحكم الشرعي، و [هي](1) حاصلة بمعرفة ما يقوله المفتي مع الإجمال كما يحصل معرفته [4] بما يقوله مع التفصيل والتعيين، وهذا مما لا شك فيه ولا شبهة.
وبهذا تعرف أن هذه الصورة ليست من صور تخصيص تحريم الغيبة (2)؛ لعدم انتهاض دليلها، يعرف ذلك كل عارف بكيفية الاستدلال.
[الصورة الرابعة: جواز الغيبة لتحذير المسلمين من الشر].
وأما الصورة الرابعة: وقد جعلها النووي (3) رحمه الله في كلامه السابق على أقسام خمسة:
القسم الأول: الجرح والتعديل للرواة والمصنفين والشهود: واستدل على جواز ذلك
(1) في (ب) وهو.
(2)
انظر "روح المعاني" للألوسي (26/ 161)،"فتح الباري"(9/ 509).
(3)
في شرحه لصحيح مسلم (16/ 143).
- بل على وجوبه - بالإجماع، وكلامه صحيح، واستدلاله بالإجماع واضح؛ فإنه ما زال سلف هذه الأمة وخلفها يجرحون من يستحق الجرح من رواة الشريعة، ومن الشهود على دماء العباد وأموالهم وأعراضهم، ويعدلون من يستحق التعديل. ولولا هذا لتلاعب بالسنة المطهرة الكذابون، واختلط المعروف بالمنكر، ولم يتبين ما هو صحيح مما هو باطل وما هو ثابت مما هو موضوع، وما هو قوي مما هو ضعيف؛ للقطع بأنه ما زال الكذابون يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد حذر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " إنه سيكون في هذه الأمة دجالون كذابون، فإياكم وإياهم ". وهذا ثابت في الصحيح (1)، وثبت في الصحيح (2) أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:" إنه سيكذب علي، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " وثبت عنه في الصحيح (3) أيضًا أنه قال: " إن كذبا علي ليس ككذب على أحدكم ". الحديث.
وثبت عنه في الصحيح (4) أيضًا أنه قال [4ب]: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم
(1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (7/ 7) وأحمد في " المسند "(2/ 349) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، ولا يضلونكم ولا يفتنونكم ".
(2)
أخرج البخاري في صحيحه رقم (110، 6197) ومسلم رقم (3) في المقدمة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (107) وأبو داود رقم (3651) وابن ماجه رقم (36) وابن أبي شيبة في " المصنف "(8/ 360) وأحمد (1/ 165، 167) من حديث الزبير بن العوام، ولفظه:" من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ".
(3)
أخرج البخاري في صحيحه رقم (1291) ومسلم رقم (4) في المقدمة من حديث المغيرة بن شعبة بلفظ: " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد ".
(4)
تقدم تخريجه مرارا من حديث عمران بن الحصين، وابن مسعود، والنعمان بن بشير.
انظر " الصحيحة " رقم (700).
ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب ". ففيه دليل على أن الكذب قد كان قبل انقراض القرن الثالث، ولكن من غير فشو، ثم فشا بعده.
وبهذا [يعرف](1) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد [أخبر](2) بأنه سيكذب عليه خصوصا، ويفشوا الكذب عموما، ثم وقع في الخارج ما أخبر به الصادق المصدوق، فإنه لم يزل في كل قرن من القرون كذابون يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويضعون الأكاذيب المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثون بها. فلولا تعرض جماعة من حملة الحجة لجرح المجروحين، وتعديل العدول، وذبهم عن السنة المطهرة، وتبيينهم لكذب الكذابين، لبقيت تلك الأحاديث المكذوبة من جملة الشريعة، وعمت بها البلوى. فكان قيام الأئمة - في كل عصر - بهذه العهدة من أعظم ما أوجبه الله على العباد، ومن أهم واجبات الدين، ومن الحماية للسنة المطهرة، فجزاهم الله خيرا وضاعف لهم المثوبة؛ فلقد قاموا قياما مرضيا، وخلصوا عباد الله من التكاليف بالكذب، وصفوا الشريعة المطهرة، وأماطوا عنها الكدر والقذر، وأخرسوا الكذابين، وقطعوا ألسنتهم وغلغلوا رقابهم، والحمد لله على ذلك (3).
وهكذا جرح الشهود وتعديلهم، فإنه لو لم يقع ذلك لأريقت الدماء وهتكت الحرم، واستبيحت الأموال بشهادات الزور، التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أكبر الكبائر، وحذر منها.
والحاصل: أن كليات الشريعة وجزئياتها وقواعدها وإجماع أهلها، تدل أوضح دلالة
(1) في (ب) تعرف.
(2)
في (ب) أخبرنا.
(3)
قال الإمام الحافظ ابن الصلاح في " علوم الحديث "(ص389 - 390): " الكلام في الرجال جرحا وتعديلا جوز؛ صونا للشريعة ونفيا للخطأ والكذب عنها، وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة ".
ثم إن على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى، ويتثبت ويتوقى التساهل؛ كيلا يجرح سليما أو يسم بريئا بسمة سوء يبقى عليه الدهر عارها، ويلحق المتساهل من تساهله العقاب والمؤاخذة.
على أن هذا القسم لا شك ولا ريب في جوازه، بل في وجوب بعض صورة؛ صونا للشريعة، وذبا عنها، ودفعا لما ليس منها، وحفظا [لدماء العباد وأموالهم](1) وأعراضهم. وهذا كله هو داخل في [الضرورات](2) الخمس المذكورة في علم الأصول (3)، ومما يدل على ذلك دلالة بينة ما ورد في النصيحة لله، ولكتابة، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم وخاصتهم (4)؛ فإن بيان كذب الكذابين من أعظم النصيحة الواجبة لله ولرسوله، ولجميع المسلمين. وأدلة وجوب النصيحة متواترة، وكذلك جرح (5) من شهد في مال أو دم أو عرض بشهادة زور (6)؛ فإنه من النصيحة التي أوجبها الله على عباده، وأخذهم بتأديتها، وأوجب عليهم القيام بها.
القسم الثاني: الإخبار بالعيب عند المشاورة:
أقول: الوجه في تجويز الغيبة في هذه [5أ] الصورة، أنه قد ثبت مشروعية المشاورة، ثم مشروعية المناصحة الثابتة بالتواتر، وهي من جملة حقوق المسلم على المسلم، كما ثبت في الصحيح (7) .................................................
(1) في (ب) لأموال العباد ودمائهم.
(2)
في (أ) الضروريات.
(3)
انظر " إرشاد الفحول "(ص 790 - 791) تقدم ذكرها مفصلة.
[حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال].
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
انظر " المغني "(14/ 123، 178).
(6)
والتي هي من أكبر الكبائر، قال صلى الله عليه وسلم:" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: " الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور! " فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
(7)
أخرج مسلم في صحيحه رقم (5/ 2162) والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (925) والبيهقي في " السنن الكبرى "(5/ 347)(10/ 108) والبغوي في " شرح السنة " رقم (1405) وأحمد (2/ 32) عن حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " حق المسلم على المسلم ست " قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: " إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه ".
[وفيه](1)" وإذا استنصحك فانصحه "، ولكن [ليس](2) في هذا القسم من الضرورة الملجئة إلى التعيين ما في القسم الأول، فإنه يمكن القيام بواجب النصيحة بأن يقول الناصح: لا أشير عليك بهذا، أو: لا تفعل كذا، أو نحو ذلك، وليس عليه من النصيحة زيادة على هذا، فالتعيين والدخول فيما هو من الغيبة فضول من الناصح، لم يوجبه الله عليه، ولا تعبده به، ولا ضرورة تلجئه إليه كما في القسم الأول. فليس هذا القسم من الأقسام المستثناة من أدلة تحريم الغيبة، وبهذا تستريح عن الكلام في تعارض الدليلين اللذين بينهما عموم وخصوص من وجه.
القسم الثالث: قوله: ومنها إذا رأيت من يشتري شيئا معيبا أو عبدا سارقا. . . إلخ.
أقول: وهذا القسم أيضًا كالقسم الذي قبله، لا يصح جعله من الصور المستثناة من تحريم الغيبة؛ لأن القيام بواجب النصيحة يحصل بمجرد قوله: لا أشير عليك بشراء هذا، أو نحو هذه العبارة، فله عن الدخول في خطر الغيبة [5] مندوحة، وعن الوقوع في مضيقها سعة.
القسم الرابع: قوله: ومنها إذا رأيت متفقها يتردد إلى فاسق. . . إلخ.
أقول: وهذا القسم أيضًا كالذي قبله، لا يصح جعله من الصور المستثناة من تحريم الغيبة؛ لأن القيام بواجب النصيحة يحصل بالإجمال، ولم يتعبده الله بالتفصيل، وذكر المعائب والمثالب، بل يكفيه أن يقول: لا أشير عليك بمواصلة هذا، أو: لا أرى الأخذ عنه، أو نحو هذه العبارة، فالتصريح بما هو غيبة فضول، لم يوجبه الله عليه ولا طلبه منه.
القسم الخامس: قوله: ومنها أن يكون له ولاية. . . إلخ.
(1) في (ب) ففيه.
(2)
زيادة من (أ).
أقول: وهذا القسم أيضًا كالأقسام التي قبله، لا يصح جعله من الصور المستثناة من تحريم الغيبة؛ لأنه إذا قال له: لا تستعمل هذا، أو لا أرى لك الركون عليه، فقد فعل ما أوجبه الله عليه من النصيحة، والزيادة على هذا المقدار فضول، ليس لله فيه حاجة، ولا للمنصوح، ولا للناصح [5ب].
[الصورة الخامسة: ذكر المجاهر بالفسق]:
وأما الصورة الخامسة: وهي ذكر المجاهر بالفسق بما جاهر به.
فأقول: إن كان المقصود بجواز ذكره بما جاهر به هو التحذير للناس، فقد دخل ذلك في الصورة الرابعة، وقد أوضحنا ما فيها فلا نعيده، ومع هذا فحصول المطلوب من التحذير يمكن بدون ذكر ما جاهر به، بأن يقول لمن ينصحه: لا تعاشر فلانا، أو: لا تداخله، أو: لا تذهب إليه؛ فإن هذا الناصح المشير يقوم بواجب النصيحة بهذا المقدار، من دون أن يذكر نفس المعصية التي صار العاصي يجاهر بها، وما أقل فائدة التعرض لذلك وأخطره! فإنه لم يأت دليل يدل على جواز ذكره بما جاهر به، بل ذلك غيبة محضة.
وأما ما يروى من حديث: " اذكروا الفاسق بما فيه؛ كيما يحذره الناس "(1) فلم
(1) وهو حديث موضوع.
أخرجه العقيلي في " الضعفاء "(1/ 202) وابن عدي في " الكامل "(2/ 595) و (3/ 1137)(5/ 1784) و (5/ 1863) والبيهقي في " السنن الكبرى "(10/ 214 - 215) والخطيب في " تاريخ بغداد "(1/ 382) و (3/ 188) و (7/ 262) وغيرهم من طريق الجارود بن يزيد، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعا.
قال العقيلي: ليس له من حديث بهز أصل، ولا من حديث غيره، ولا يتابع عليه من طريق يثبت.
وقال البيهقي: هذا يعرف بالجارود بن يزيد النيسابوري وأنكره عليه أهل العلم بالحديث، سمعت أبا عبد الله الحافظ الحاكم يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ غير مرة يقول: كان أبو بكر الجارودي إذا مر بقبر جده يقول: يا أبت لو لم تحدث بحديث بهز بن حكيم لزرتك.
قال ابن عدي والبيهقي: وقد سرق عنه جماعة من الضعفاء فرووه عن بهز بن حكيم، ولم يصح فيه شيء.
والخلاصة أن الحديث موضوع، والله أعلم.
يصح ذلك بوجه من الوجوه، على أنه إنما [سمي](1) مجاهرا بمجاهرته بتلك المعصية والاستظهار بها بين الناس، وإيقاعها علانية، وعند ذلك يعلم الناس منه ذلك ويعرفونه بمشاهدته، فلا يبقى لذكره به كثير فائدة، وإن كان المقصود بجواز ذكره بما جاهر به استعانة الذاكر على الإنكار عليه لمن يذكر له ذلك الذنب، فهذه الصورة داخلة في الصورة الثانية التي قدم النووي ذكرها، وقدمنا الكلام عليها، فلا فائدة لجعلها صورة مستقلة.
فإن استدل مستدل على جواز مثل هذا بما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: " بئس أخو العشيرة "(2). فيقال له: أولاً: إن هذا القول الواقع منه - صلى
(1) في (ب) سمى.
(2)
أخرجه البخاري رقم (6054) ومسلم رقم (73/ 2591) عن عائشة قالت: أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ائذنوا له، فلبئس ابن العشيرة، أو بئس رجل العشيرة ". فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله قلت له الذي قلت، ثم ألنت له القول؟ فقال:" يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه ".
قال الخطابي: " جمع هذا الحديث علما ودبا، وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق، أظهر له البشاشة ولم يجبه بالمكروه؛ لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله وفي مداراته؛ ليسلموا من شره وغائلته.
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح "(10/ 454) تعليقا على كلام الخطابي: وظاهر كلامه - الخطابي - أن يكون هذا من جملة الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته، وإنما الذي يختص النبي صلى الله عليه وسلم أن يكشف له عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطلعه المغتر على حاله، فيذم الشخص بحضرته ليتجنبه المغتر ليكون نصيحة، بخلاف غير النبي صلى الله عليه وسلم فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه.
قال القرطبي في " المفهم "(6/ 573): جواز الغيبة: المعلن بفسقه ونفاقه، والأمير الجائر والكافر، وصاحب بدعة، وجواز مداراتهم اتقاء شرهم، ولكن يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى.
وقال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم "(8/ 63 - 63): هذا من المداراة وهو بذل الدنيا لصلاح الدنيا والدين، وهي مباحة مستحسنة في بعض الأحوال، خلاف المداهنة المذمومة المحرمة، وهو بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا بذل له من دنياه حسن عشرته، ولا سيما كلمته وطلاقة وجهه، ولم يمدحه بقول ولا روي ذلك في حديث، فيكون خلاف قوله فيه لعائشة.
وانظر: " فتح الباري "(10/ 453).
وقال القاضي عياض في " إكمال المعلم "(8/ 62): وهذا الرجل هو عيينة بن حصن، وكان حينئذ لم يسلم - والله أعلم - فلم يكن القول فيه غيبة، أو أراد عليه الصلاة والسلام إن كان قد أظهر الإسلام أن يبين حاله؛ لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كان منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده من هذه الأمور ما دلت على ضعف إيمانه.
قال الحافظ في " الفتح "(10/ 471 - 472) وقد نوزع في كون ما وقع من ذلك غيبة، وإنما هو نصيحة ليحذر السامع، وإنما لم يواجهه المقول فيه بذلك لحسن خلقه صلى الله عليه وسلم، ولو واجه المقول فيه بذلك لكان حسنا، ولكن حصل القصد بدون مواجهة.
والجواب: أن المراد أن صورة الغيبة موجودة فيه وإن لم يتناول الغيبة المذمومة شرعا، وغايته أن تعريف الغيبة المذكور أولا هو اللغوي، إذا استثني منه ذكر كان ذلك تعريفها الشرعي. وقوله في الحديث:" إن شر الناس " استئناف كلام كالتعليل لتركه مواجهته بما ذكره في غيبته.
ويستنبط منه - الحديث - أن المجاهر بالفسق والشر لا يكون ما يذكر عنه في ذلك من ورائه من الغيبة المذمومة. قال العلماء: تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا حيث يتعين طريقا إلى الوصول إليه بها: كالتظلم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، والمحاكمة، والتحذير من الشر، ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود، وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده، وجواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود، وكذا من رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق ويخاف عليه الاقتداء به، وممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق أو الظلم أو البدعة. . . ".
الله عليه آله وسلم - لا يجوز لنا الاقتداء به فيه؛ لأن الله - سبحانه - قد حرم علينا الغيبة في كتابه العزيز، وحرمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علينا بما تقدم ذكره من قوله الصحيح، وبإجماع المسلمين.
فعلى تقدير أن هذا القول مما يصدق عليه اسم الغيبة، يكون وقوعه منه صلى الله عليه وآله وسلم في حكم المخصص له من ذلك العموم (1)، لكن على هذه الصورة الإجمالية وبهذه الصفة الصادرة منه صلى الله عليه وآله وسلم وأيضا فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم ما لم نعلم، ويأتيه الوحي بما لم يأتنا، ويبين الله له ما لم يبين لنا، فلا يجوز لنا أن نقتدي به في قول صادر منه على هذه الصفة؛ لجهلنا بالحقائق، وعدم اطلاعنا على ما في باطن الأمر؛ ولهذا رد صلى الله عليه وآله وسلم على من وصف رجلا في مقامه بأنه مؤمن، فقال:" أو مسلم هو "(2).
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2)
أخرج البخاري في صحيحه رقم (27) ومسلم رقم (237/ 150) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا - وسعد جالس - فترك رسول الله رجلا هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا. فقال: " أو مسلما " فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي فقلت: مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال:" أو مسلما " ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:" يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار ".
قال الحافظ في " الفتح "(1/ 80 - 81): أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمرين:
1 -
إعلامه بالحكمة في إعطاء أولئك وحرمان (جعيل) مع كونه أحب إليه ممن أعطى؛ لأنه لو ترك إعطاء المؤلف لم يؤمن إرتداده فيكون من أهل النار.
2 -
إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر، فوضع بهذا رد الرسول صلى الله عليه وسلم على سعد، وأنه لا يستلزم محض الإنكار عليه، بل كان الجوابين على طريق المشورة بالأولى والآخر عن طريق الاعتذار. وفي الحديث فوائد منها:
(أ): التفرقة بين حقيقتي الإيمان والإسلام وترك القطع بالإيمان الكامل عن ما لم ينص عليه.
(ب): جواز تصرف الإمام في مال المصالح وتقديم الأهم فالأهم، وإن خفي ذلك وجهه على بعض الرعية.
(جـ): مراجعة المشفوع إليه في الأمر إذ لم يؤد إلى مفسدة.
(د): الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان، فقد جاء في رواية:" فقمت إليه فساررته ".
(هـ): الاعتذار إلى الشافع إذا كانت المصلحة في ترك إجابته.
(و): أن لا عيب على الشافع إذا ردت شفاعته.
(ز): استحباب ترك الإلحاح في السؤال.
(ي): أنه لا يقطع لأحد بالجنة على التعيين إلا من ثبت فيه نص كالعشرة وأشباههم، وهذا مجمع عليه عند أهل السنة.
وانظر: " شرح صحيح مسلم " للنووي (2/ 181).
ورد على آخرين بما وصفوا رجلا بالنفاق فقال: " أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ " وهذا كله ثابت في الصحيح (1)، وأيضا فذلك الرجل الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم:" بئس أخو العشيرة "(2)، لم يكن إذ ذاك قد صلح إسلامه (3)، بل هو من جملة من كان يتبع الإسلام ظاهرا مع اضطراب حاله. وبقي أثر الجاهلية عليه [6أ]. وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يتألف أمثال هذا، ويعاملهم معاملة المسلمين الخالصي الإسلام، مع علمه وعلم أصحابه بما هم عليه، وكان يقول لمن يأتيه منهم:" هذا سيد بني فلان، هذا سيد قومه، هذا سيد الوبر "(4) ونحو ذلك، بل كان يتآلفهم
(1) أخرجه مسلم رقم (54/ 33) عن أنس بن مالك، قال: حدثني محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك قال: قدمت المدينة، فلقيت عتبان، فقلت: حديث بلغني عنك، قال: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذ مصلى. قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله من أصحابه، فدخل وهو يصلي في منزلي، وأصحابه يتحدثون بينهم، ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك بن دخشم، قالوا: ودوا أنه دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة. وقال:" أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ " قالوا: إنه يقول ذلك، وما هو في قلبه. قال:" لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فيدخل النار أو تطعمه ".
قال النووي في " شرحه لصحيح مسلم "(1/ 244): وفي هذا دليل على جواز تمني هلاك أهل النفاق والشقاق ووقوع المكروه بهم.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
أخرج الطبراني في " الكبير "(18/ 239) رقم (870) والحاكم في " المستدرك "(3/ 612) والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (953) عن قيس بن عاصم المنقري، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:" هذا سيد الوبر ".
وأخرج الحاكم في " المستدرك "(3/ 611) عن قيس بن عاصم المنقري، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:" هذا سيد الوبر ". وهو حديث حسن لغيره.
بالكثير من المال والنصيب الوافر من المغانم، ويكل خلص المؤمنين من المهاجرين والأنصار إلى إيمانهم ويقينهم، هذا معلوم لا يشك فيه عارف، ولا يخالف فيه مخالف، فلا يحل لأحدنا أن يعمد إلى من يعلم أنه خالص الإسلام، صحيح النية فيه، مؤمن بالله وبرسوله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فيغتابه بمعصية فعلها أو خطيئة جاهر بها، مستدلا على ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:" بئس أخو العشيرة "(1)؛ لما أوضحنا لك، وليس الخطر هاهنا بيسير، ولا الخطب بقليل؛ فإن الإقدام على الغيبة المحرمة بالكتاب والسنة والإجماع إذا لم يكن فيه برهان من الله - سبحانه - كان الوقوع فيه وقوعا فيما حرمه الله ونهى عنه، والقول بجوازه بدون برهان من التقول على الله بما لم يقل، وهو أشد من ذلك وأعظم وأخطر، والهداية بيد الله عز وجل.
[الصورة السادسة: التعريف بالألقاب]
وأما الصورة السادسة: وهي التعريف بالألقاب.
فأقول: قد نهى عن ذلك القرآن الكريم، قال الله عز وجل:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} (2).
وهذا النهي [6] يدل على تحريم التلقيب، ولا يجوز شيء منه إلا بدليل يخصص هذا العموم، فقد اجتمع على المنع من هذا دليلان قويان سويان:
أحدهما: أدلة تحريم الغيبة.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
[الحجرات: 11].
والثاني: دليل تحريم التلقيب.
فإن كان ذكر ذي اللقب بلقبه في غيبته، كان الذاكر جامعا بين تحريم الغيبة، وتحريم التلقيب، وإن كان ذكر ذي اللقب في وجهه كان الذاكر واقعا في التلقيب [المحرم](1).
فإن قلت: إذا علمنا أن المذكور بلقبه لا يكره ذكره به.
قلت: إذا علمنا ذلك لم يكن غيبة محرمة؛ لأن الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره، ولكن الذاكر له بذلك اللقب واقع في مخالفة النهي القرآني المصرح بالنهي عن التنابز بالألقاب كما لا يخفى.
فإن قلت: إذا كان [6ب] ذكره باللقب أقرب إلى تعريفه، كمن يشتهر بالأعرج والأعمش والأعور، ونحو ذلك.
قلت: هذه الأقربية لا تحلل ما حرمه الله، فينبغي ذكره [بالأوصاف](2) التي لا تلقيب فيها، وإن طالت المسافة وبعدت، وانظر ما في مثل هذا من الخطر العظيم، وهو الوقوع في النهي القرآني، ومما يزيدك [عن] (3) هذا وأمثاله بعدا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن سمعها تذكر امرأة أخرى بأنها قصيرة فقال:" لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته "(4) والحديث صحيح.
(1) زيادة من (أ).
(2)
في (ب): بأوصافه.
(3)
في (ب): على.
(4)
أخرجه أبو داود رقم (4875) والترمذي رقم (2503) وأحمد (6/ 189) من طريق أبي حذيفة عن عائشة. قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح.
قال الحافظ في " الفتح "(10/ 468 - 469) أن اللقب إن كان مما يعحب الملقب ولا إطراء فيه مما يدخل في نهي الشرع، فهو جائز أو مستحب، وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا إن تعين طريقا إلى التعريف به حيث يشتهر به ولا يتميز عن غيره إلا بذكره.
ومن ثم أكثر الرواة من ذكر الأعمش والأعرج ونحوهما، وعارم وغندر وغيرهم، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم في ركعتين من صلاة الظهر فقال: أكما يقول ذو اليدين. . . وساق بعض ألفاظ الرواية.
ثم قال ابن حجر: وكأن البخاري لمح بذلك حيث ذكر قصة ذي اليدين وفيها: " وفي القوم رجل في يديه طول. قال ابن المنير: أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا إن كان للبيان والتمييز فهو جائز، وإن كان للتنقيص لم يجز. قال: وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها فأشارت بيدها أنها قصيرة. فقال صلى الله عليه وسلم: " اغتبتها " وذلك أنها لم تفعل هذا بيانا، وإنما قصدت الإخبار عن صفتها، فكان كالاغتياب ".
فإن قلت: هذه دواوين الإسلام، ومسانيدها، ومعاجمها، وسائر المصنفات في السنة مشحونة بذكر الألقاب؛ كالأعمش، والأعرج، والأعور، ونحوها.
قلت: [لا يصلح](1) إيراد مثل هذا في مقابلة النهي القرآني المصرح بتحريم التنابز بالألقاب، وإنما يقتدي الناس بأهل العلم في الخير، فإذا جاءوا بما يخالف الكتاب والسنة فالقدوة الكتاب والسنة، مع إحسان الظن بهم، وحملهم على محامل حسنة مقبولة.
فإن قلت: فإن كان صاحب اللقب لا يعرف إلا به، ولا يعرف بغيره أصلا؟
قلت: إذا بلغ الأمر إلى هذه النهاية، ووصل البحث إلى هذه الغاية، لم يكن ذلك اللقب لقبا، بل هو الاسم الذي يعرف به صاحبه؛ إذ لا يعرف باسم سواه قط. والتسمية للإنسان باسم يعرف به، لا سيما من كان رواة العلم الحاملين له المبلغين ما عندهم منه إلى الناس، أمر تدعو [الحاجة إليه](2) وإلا بطل ما يرويه من العلم، خصوصا ما كان قد تفرد به ولم يشاركه فيه غيره، وعلى هذا يحمل ما وقع في المصنفات من ذكر الألقاب؛ فإنها أهلها وإن كانت لهم أسماء، ولآبائهم ولأجدادهم، فغيرهم يشاركهم فيها، فقد يتفق اسم الرجل مع الرجل، واسم أبيه مع أبيه، واسم جده، فلا يمتاز أحدهما عن الآخر [7أ] في كثير من الحالات إلا بذكر الألقاب ونحوها.
(1) في (ب): لا يصح.
(2)
في (ب): إليه الحاجة.
وحينئذ لم يبق لتلك الأسماء فائدة؛ لأن المقصود منها أن يتميز بها صاحبها عن غيره، ولم يحصل هذا الذي هو المقصود بها. بل إنما حصل من اللقب، فكان هو الاسم المميز في الحقيقة، فلم يكن ذلك من التنابز بالألقاب.
[خاتمة الرسالة]
فاعرف هذا وتدبره، فإنه نفيس، وبه يندفع ما تقدم من إيراد ما جرى عليه [عمل](1) أئمة الرواية.
وهكذا يرتفع الإشكال عن القارئ لتلك الكتب، ولا يقال له: إنه يروي [الألقاب](2)، ويغتاب أهلها بقراءتها في كتب السنة.
(1) زيادة من (أ).
(2)
في (ب): بالألقاب.
قال الغزالي في " الإحياء "(3/ 144): اعلم أن الذكر باللسان إنما حرم؛ لأن فيه تفهيم نقصان أخيك وتعريفه بما يكره، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام.
اعرف الأسباب الباعثة على الغيبة تصفو نفسك وتطهر:
1 -
أن يشفي الغيظ، وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه، فإنه إذا هاج غضبه يشتفي بذكر مساويه، فيسبق إليه بالطبع إن لم يكن دين وازع، وقد يمتنع من تشفي الغيظ عند الغضب، فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقدا ثابتا، فيكون سببا دائما لذكر المساوي، فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.
2 -
موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض غير أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه، فيساعدهم ويرى في ذلك المعاشرة، ويظن أنه مجاملة في الصحبة.
3 -
أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده ويطول لسانه عليه، أو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة، فيبادر قبل أن يقبح هو حاله ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته، أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقا ليكذب عليه بعده، فيروج كذبه بالصدق الأول، ويستشهد ويقول: ما من عادتي الكذب، فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله، فكان كما قلت.
4 -
أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فبذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل، فلا ينسب غيره إليه، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركا له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.
5 -
إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره.
6 -
الحسد، وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلا إليه إلا بالقدح فيه.
7 -
اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة، ومنشؤه النكير والعجب.
8 -
السخرية والاستهزاء استحقارا له، فإن ذلك قد يجري في الحضور، ويجري أيضًا في الغيبة، ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزئ به، وهناك أسباب خاصة فهي أغمض وأدق تلك الأسباب؛ لأنها شرور خبأها الشيطان في معرض الخيرات وفيها خير، ولكن شاب الشيطان بها الشر.
1 -
): أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين، فيقول: ما أعجب ما رأيت من فلان، فإنه قد يكون صادقا ويكون تعجبه من المنكر، ولكن كان في حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه، فيسهل عمل الشيطان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه، فصار به مغتابا وآثما من حيث لا يدري.
2 -
): الرحمة، وهو أن يغتم بسبب ما يبتلى به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره وما ابتلي به، فيكون صادقا في دعوى الاغتمام، ويلهيه الغم عن الحذر من ذكر اسمه فيذكره، فيصير به مغتابا، فيكون غمه ورحمته خيرا، وكذا تعجبه، ولكن ساقه الشيطان إلى شر من حيث لا يدري، والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل ثواب الاغتمام وترحمه.
3 -
): الغضب لله تعالى، فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه، فيظهر غضبه أو يذكر اسمه، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يظهر على غيره أو يستر اسمه ولا يذكره بالسوء.
انظر مزيد تفصيل: " إحياء علوم الدين "(3/ 108 - 161) كتاب آفات اللسان.
واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله ". أخرجه مسلم رقم (2564) من حديث أبي هريرة.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (67) ومسلم رقم (1679) عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: " إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (11) ومسلم رقم (42) عن أبي موسى الأشعري قال: قلت: يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6474) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه، أضمن له الجنة ". وقد ذكر قوله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق [كتبه المجيب محمد الشوكاني - غفر الله له -](1).
[انتهى نقل هذه الرسالة العظيمة في يوم الثلاثاء سابع شهر شوال سنة أربع وثلاث عشر مائة بعد الألف سنة 1304 ختمت وما بعدها بخير آمين - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم آمين][7](2).
(1) زيادة من (أ).
(2)
زيادة من (ب).