الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(187)
(41/ 4)
جواب سؤالات وصلت من كوكبان
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: جواب سؤالات وصلت من كوكبان.
2 -
موضوع الرسالة: آداب.
3 -
أول الأسئلة: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله المطهرين وبعد: فإن قصير الباع يسيء الاطلاع المتطفل.
آخر الأسئلة: التوهمات المخلة وشرعنا بحمد الله لا ضيق فيه. أمتع الله بحياتك المسلمين آمين.
4 -
أول الأجوبة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين. وصحبه الأكرمين. وبعد: فإنه ورد هذا السؤال. . .
5 -
آخر الأجوبة: والحمد لله أولا وآخرا. وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على خير الأنام وآله الكرام. حرره المجيب غفر الله له في شعبان سنة 1230.
6 -
نوع الخط: خط نسخي رديء للأسئلة. وخط نسخي جيد للأجوبة.
7 -
عدد الصفحات: 3 صفحات للأسئلة و (7) صفحات للأجوبة.
8 -
عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 4 أسطر.
9 -
عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
10 -
الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله المطهرين.
وبعد:
فإن قصير الباع يسيء الاطلاع المتطفل على مشاركة أهل العلم في الأخذ عنهم، لا أنه متجهم لم يزل في نفسه مسألة من منحه الله من علم الشريعة ما يهدي به الضال. ويزيل عنه بتحقيقه عنهم الإشكال. فصيرت في خاطري علماء العصر الذين يحويهم الحصر؛ إذ هم النجوم النيرة في داجي الظلام وملاح سفن النجاة عند اضطراب أمواج البدع في الأنام. منهم العالم الرباني محمد بن علي الشوكاني الصنعاني فهو في عصره الشهير. فاستجديته غرفة من ثم بقلمة النهير. وإن كان هو إلي حري بالإهمال [خلا إن](1) لطلب [نفعه](2) فؤاد سقيم من الداء العضال.
أول مسألة عن الأعراف الجارية في إقليم اليمن وتهامة مشى عليها الخلف بعد السلف أحسب ذلك من قرون متعددة. فمن الأعراف ما تفعله العامة عند الأعراس، والختان، وقدوم الآيب من سفر الحج، واجتماع أهل الميت في مسجد أو مسكن لمواجهة من يصل إليهم للعزاء. فالعرف عند العرس أن يدعو صاحب العرس أقاربه، ومن أحب من أهل بلده، ويقري المدعوين وهم يدفعون إليه من الغنم والشمع كل على قدر يساره، ويحضر في هذه المواقف العلماء ومن دونهم، ويقع في ذلك الموقف إنشاد القصائد من أشعار العرب والمولدين والممادح والغزليات، وغير ذلك بأصوات محسنة لسماع الشعر من غير شائبة مذمومة في تلك المواقف. بل قد يقع في ذلك الموقف مباحث علمية، ومراجعات في معرفة معاني ألفاظ القصائد، وعند الختان يقع مثل هذا، ولكل جهة عرف يعملون عليه، فجهتنا المخلاف السليماني (3) يميزون الختان عن أعراف الأعراس باجتماع أهل الخيل
(1) غير واضحة في المخطوط.
(2)
غير واضحة في المخطوط.
(3)
المخلاف في التاريخ مصطلح كان يطلق على وحدة إدارية، قد تكون مقاطعة أو إقليما أو محافظة بمصطلح اليوم وقد يتألف المخلاف من عدد من المقاطعات إذ كان واسعا. وكان للوحدة الإدارية أو المخلاف مركز يضم الدواوين الرئيسية التي تنظم أمور الإقليم.
وتشير المصادر العربية إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمن ثلاثة مخاليف: مخلاف الجند ومركزه مدينة الجند، ومخلاف صنعاء ومركزه مدينة صنعاء، ومخلاف حضرموت ومركزه مدينة حضرموت.
وقد ذكر ياقوت الحموي وغيره أن أكثر ما يقع في كلام أهل اليمن - مخلاف - والمخلاف السليماني: هو المنطقة الممتدة من (حلي ابن يعقوب) شمال تهامة اليمن إلى (الشرجة) جنوبا. نسب إلى سليمان بن طرف الحكمي الذي كان عاملا (لبني زياد) عليها ثم استقل بحكم هذا المخلاف بتدهور الإمارة الزيادية أواخر حكم أبي الجيش إسحاق بن إبراهيم (ت 371هـ - 981م) واتخذ من (عثر) عاصمة لحكمه الذي استمر عشرين عاما وحد فيه تلك المنطقة كمخلاف نسب فيما بعد إليه.
"الموسوعة اليمنية"(2 - 846).
يسرجون عليها ويرتقون في ميادين معدة لذلك. والرماة يرمون بالبندق. هكذا مدة أسبوع أو أقل. ويحصل الختان بعد هذه المدة. ثم من عرف جهتنا أن الجعل الذي يدفعه المدعو لوليمة العرس أو الختان يسمح به صاحب الدعوة للمزين الذي يتولى الخدمة ويعد ويروح للمدعو للضيافة، وأهل القادم من سفر الحج يتلقونه في أطراف البلد، ويحصل من الاجتماع والضيافة والإنشاد ما يقع في الأعراس والختان.
وأما أهل الميت فإنهم يجتمعون في مسجد أو مسكن من بيوتهم لمواجهة من يصل إليهم ويتلون من كتاب الله ما قدر لهم، ويختمون التلاوة لموعظة فيها ذكر البرزخ والاستغفار والدعاء للميت وسائر المؤمنين، يفعلون هذا ثلاث أيام، هكذا جرت الأعراف والعمل بها من وجود العلماء ذوي الورع الشحيح، والنسك الصحيح، ولم يقع منهم إنكار مع التمكن من ذلك لو لم يكن إلا على أهل بيته وأقاربه [1أ].
ولما قامت الدعوة النجدية في عصرنا القريب، واقترب يد سلطانها على التهائم والحجاز حصل الإنكار من أمير كل بلد على هجر تلك الأعراف، وبالغ ولاحق أشد ملاحقة، وعاقب فيها عقوبة تلحق بعقوبة مرتكب معظم الذنب، وجعلوا هذه الأعراف
من بدع الضلالة، وحصل الغلو في أمور الحق فيها لله أنه لم يجر في تركها، وشرعنا - ولله الحمد - محفوظ، وما زال الخاطر مشغولا من طريق التأول لغالب الأعصر المتقادمة في عدم النكير منهم، بل كونهم ممن يباشر الدخول في هذه الأعراف، وهي من البدع المحذر منها المنهي عنها في هذه الدعوة بأقرب ما باذلته لهم مع قصوري وجهلي بحقائق الشريعة أنه لم يثبت عندهم بدعية هذه الأعراف، وإن هي لم تؤثر عن أهل القرون الممدوحة بالخيرية على لسان خير البرية، فعلها أقل أن تكون من الفعل المباح لا يعاقب فاعله، ولا يثاب تاركه، وأن البدعة المحذر منها، المنهي عنها هو أن يقع من المبتدع زيادة في الدين، أو نقص منه كنفي ما ذكره الله ورسوله، أو إثبات ما لم يذكره الله ورسوله؛ لأن الشرع قد ورد بحصر الواجبات والمحرمات والبدعة التي هي الضلالة المخالفة لما جاء به الكتاب والسنة في العقائد، وتفاصيل الفرائض، وسائر أركان الإسلام فالزيادة في الدين كتفاسير أهل الغلو، وبدع المشبهة، والنقص كرد النص الظاهر.
فهذه البدع ذات الخطر العظيم؛ لأن معرفة البدعة غامض، فما لم يرد في بدعيته الموبقة لفظ مأثور ينبغي التوقف عن الجزم ببدعيته المحذر منها المنهي عنها، وقد يكون من البدع الصلوات التي لم يرد فيها أثر صحيح، ويجعلونها سنة كصلاة النصف من شعبان (1)
(1) قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في "لطائف المعارف"(ص144): كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها.
وقيل: أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز، ومنهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقال: ذلك كله بدعة.
واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:
1 -
): أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن الثياب ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد جماعة:"ليس ذلك ببدعة" نقله عنه حرب الكرماني في "مسائلة".
2 -
): أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي - إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم - وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى".
وهناك أحاديث ولكنها موضوعة في إحياء ليلة النصف من شعبان.
قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتاب " ما جاء في شهر شعبان ".
قال أهل التعديل والتجريح: ليس في حديث ليلة النصف من شعبان حديث يصح.
انظر "الباعث على إنكار البدع والحوادث "(ص52).
وقد ذهب المحدث الألباني إلى تصحيح الحديث الوارد في فضل ليلة النصف من شعبان بمجموع طرقه، ولفظه:" يطلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن".
انظر: "الصحيحة" رقم (1144).
سموها العامة في أرض الشام ليلة الوقيد؛ لأنهم يكثرون فيها وقيد النيران، ويتوجهون في صلاتهم إليها، فأشبهوا عباد النار، وهي حدثت في زمن البرامكة، وأما الأعراف التي ذكرنا فأحسب لها أصل في الشريعة.
أما الأعراس فورد في الأثر ندبية الإشاعة بطبل أو دف، والحكمة في ذلك المعاكسة للنكاح المحرم؛ لأن صاحبه يطلبه في الخفاء، فوقعت الإشاعة للحلال عكسه، وإنشاد القصائد من شعر العرب والمولدين، فقد سمع صلى الله عليه وآله وسلم الشعر من كعب (1)، والنابغة، والعباس، وأجاز علي ذلك، وكان عمر يروي الشعر ويسترويه،
(1) انظر "فتح الباري"(1/ 548).
قال كعب بن مالك ردا على ضرار بن الخطاب بن مرداس يوم الخندق:
وكان لنا النبي وزير صدق
…
به نعلو البرية أجمعينا
ثم قال:
بباب الخندقين كأن أسدا
…
شوابكهن يحمين القرينا
فوارسنا إذا بكروا وراحوا
…
على الأعداء شوسا معلمينا
لننصر أحمدا والله حتى
…
نكون عباد صدق مخلصينا
ويعلم أهل مكة حين ساروا
…
وأحزاب أتوا متحزبينا
بأن الله ليس له شريك
…
وأن الله مولى المؤمنينا
"السيرة النبوية" لابن هشام (3/ 354 - 355).
واستنشد متمم بن نويرة مراثيه في أخيه (1)، ويقربه لأجل ذلك، وهو فضيلة لا رذيلة؛ لأن أول من قاله أبونا آدم يوم رثى ولده قابيل (2) ويبالغ عليه أشراف ولده وملوكهم من
(1) أن عمر بن الخطاب استنشد متمم بن نويرة قوله في أخيه فأنشده:
لعمري وما دهري بتأبين مالك
…
ولا جزع مما أصاب فأوجعا
لقد كفن المنهال تحت ثيابه
…
فتى غير مبطان العشيات أروعا
حتى بلغ إلى قوله:
وكنا كندماني جديمة حقبة
…
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا
…
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فقال عمر: هذا والله التأبين. . . .
"الشعر والشعراء" لابن قتيبة (1/ 345)، "الإصابة"(5/ 566 - 567)
(2)
أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره (4\ج6/ 190) وابن كثير في تفسيره (3/ 91) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها
…
فلون الأرض مغبر قبيح
تغيرت البلاد ومن عليها
…
وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه السلام:
أبا هابيل قد قتلا جميعا
…
وصار الحي كالميت الذبيح
وجاء بشرة قد كان منها
…
على خوف فجاء بها يصيح
*وقد طعن في نسبة هذه الأشعار إلى نبي الله آدم الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال، وقال الآفة فيه من المحزمي وشيخه، وما الشعر الذي ذكروه إلا منحول مختلق، والأنبياء لا يقولون الشعر.
وقال الزمخشري: " روي أن آدم مكث بعد قتل ابنه مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر.
قال تعالى (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ).
انظر: "الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير"(ص183).
بني عدنان، ويعرب بن قحطان إلى الخلفاء الأربعة، وأكثر الصحابة.
ولا يعني من ذكرنا بما فيه رد له، ومنعه صلى الله عليه وآله وسلم عن الشعر ليس هو لرد البتة، بل لئلا يتهم إلى أن ما جاء به من القرآن شعر، كما منع من الكتابة، وهي فضلة للعلة التي منع عن الشعر [فعلها] (1) قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (2) فإن سلب الشعر والكتابة عن منصب النبوة لنقصهما بل لفضيلتهما، فإنشاؤه في مجامع المسرة والأفراح ما تهش له الأفئدة الصحاح، وليس في المجامع شائبة مذمومة [1ب]، وربما تدور مراجعة علمية عند سماع الإنشاد، والبحث عن معاني بعض ألفاظ الشعر.
وأما ركوب الخيل، والسباق عليها، واللهو بها فقد وردت الآثار بذلك (3) كما عرفتم ما جاء فيها (الخيل الفر أسيرات أبيكم إسماعيل فاغتنموها واركبوها، فإنها ميامن (4).
(1) غير واضحة في المخطوط، ولعله ما أثبتناه.
(2)
[العنكبوت: 48].
(3)
أخرج البخاري في صحيحه رقم (2849) ومسلم رقم (1871) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله " الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2870) ومسلم رقم (1870) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "سابق رسول الله بين الخيل التي قد ضمرت، فأرسلها من الحفياء كان أمدها ثنية الوداع، فقلت لموسى - بن عقبة بن نافع - فكم كان بين ذلك؟ قال: ستة أميال أو سبعة، وسابق بين الخيل التي لم تضمر، فأرسلها من ثنية الوداع، وكان أمدها مسجد بني زريق، قلت: فكم بين ذلك؟ قال: ميل أو نحوه، وكان ابن عمر ممن سابق فيها".
قال القرطبي: " لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام، واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدريب على الحرب. . . ".
"فتح الباري"(6/ 71 - 72).
(4)
غير واضحة في المخطوط، ولعله ما أثبتناه.
روى الطبراني (1) من حديث صالح بن كيسان مرفوعًا (ستفتح لكم الأرض وتملكونها فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه).
وأما تلقي الآيب من سفر الحج أو غيره وقدومه إلى أهله فقد كان أهل المدينة يتلقون معلم الشريعة إذا أقبل من بعض مغازيه ويهنونه، لا سيما تلقى الحاج، فإنه زيادة في إكرام المحل الذي أقبل منه، هو من التعظيم، وطلب الدعاء منه، وغبار النسك عليه، وأما اجتماع أهل الميت في بيت من بيوت الله، أو مسكن لهم فسنية التعزية لأهل الميت وردت بها السنة من [. . . . . . . . . .](2) إنما الاجتماع هو ما أحدثه المتأخرون، ولم يكن في الاجتماع غير تلاوة القرآن، والموعظة عند ختم الدرس، والدعاء للميت وعامة المؤمنين، ورأيت نقلا عن ابن الجوزي وهو من أئمة الحديث قال: أصبت بولدي فخرجت إلى المسجد إكراما لمن قصدني من الناس والصدور، فجعل قارئ يقرأ:{يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} (3) فبكى الناس فقلت: يا هذا إن كان قصدك تهييج الأحزان فهذه نياحة بالقرآن، وهذه عن ابن الجوزي في عصره أحسبه في السادس أو قبل، ولو عرف أن الاجتماع للعزاء من البدع المضللة الدافعة لمرتكبها إلى النار لم يقع منه هذا الخروج إلى المسجد، ثم يرويه لمن بعده، والتطويل في هذا البحث محبة لتأول الماضين
(1) في الكبير" (17/ 330 رقم 913).
* أخرج مسلم في صحيحه رقم (168/ 1918) والترمذي رقم (3083) وأبو يعلى رقم (1742) وسعيد بن منصور في "السنن"(2449) وأبو عوانة (5/ 102) وابن حبان رقم (4697) والبيهقي (10/ 13) والطبراني في "الكبير"(ج 17/ 913) من طرق بإسناد حسن عن عقبة بن عامر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه".
وهو حديث صحيح.
(2)
غير واضحة في المخطوط.
(3)
[يوسف: 78].
من أهل العلم لئلا يقع الاعتقاد فيهم، فإنهم فارقوا الدنيا على بدعة مهلكة.
وأما الموجود في عصرنا فهو يستعمل - إن شاء الله - بما يحصل من الإرشاد على هذه المسائل، فمن وجهت إليه البحث فالمطلوب منك أيها العالم النحرير الإمداد بجواب يشفي العلة، ويزيل التوهمات المخلة، وشرعنا - بحمد الله - لا ضيق فيه - أمتع الله بحياتك المسلمين - آمين. [2أ].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الطاهرين، وصحبه الأكرمين.
وبعد:
فإنه ورد هذا السؤال من ذلك العلامة المفضال، بقية الأعلام أحمد بن الحسن البهكلي (1) - كثر الله فوائده، وغفر لي وله وللمؤمنين من عباده -.
وأقول - مستعينا بالله عز وجل، ومتكلا عليه -: إن حديث: " الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات"(2) و" المؤمنون وقافون عند الشبهات " وفي لفظ: " فمن تركها - أعني الشبهات - فقد استبرأ لعرضه ودينه " وفي لفظ: " ألا وإن حمى الله محارمه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه (3).
وهذا الحديث بجميع ألفاظه متفق على صحته، ثابت في دواوين الإسلام ثبوتا لا ينكره عارف بالسنة المطهرة، وكذا حديث:" كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد "(4) فإنه حديث متفق على صحته.
وبهذين الحديثين، وما ورد في معناهما كالوعيد لمن تعدى حدود الله كما ثبت ذلك في الكتاب العزيز، وفي السنة المطهرة، والذم لمن غلا في الدين، كما ثبت أيضًا في السنة وكذا حديث:" تركتم على الواضحة، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا جاحد" وهو صحيح (5)، وإن لم يكن في الصحيحين.
(1) تقدمت ترجمته.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (52) ومسلم رقم (1599) وأبو داود رقم (3329) و (3330) والترمذي رقم (1205) والنسائي (7/ 241) وابن ماجه رقم (3984) من حديث النعمان بن بشير.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (52) ومسلم رقم (1599) وأبو داود رقم (3329) و (3330) والترمذي رقم (1205) والنسائي (7/ 241) وابن ماجه رقم (3984) من حديث النعمان بن بشير.
(4)
تقدم مرارا وهو حديث صحيح.
(5)
تقدم تخريجه وهو حديث صحيح [حديث العرباض بن سارية].
وكذلك ما أفاد هذا المعنى، وشهد لمضمونه كقوله عز وجل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1)، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2)، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) وما ورد هذا المورد ثم آيات كثيرة، وأحاديث شهيرة، والكل يدل على أنه يجب على كل فرد من أفراد العباد أن يمشي على الطريقة التي مشى عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه رضي الله عنهم، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
كما ثبت هذا في حديث حسن معروف مشهور (4)، فما وجدناه في كتاب الله عز وجل، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما استبان أمره، واتضح حكمه فهو كما هو من كونه حلالا بحتا، أو حراما بحتا.
ويدخل في الحلال المباح بجميع أقسامه، ولا يخرج عنه بعض أنواعه بمجرد تقييده بقيد كونه مكروها كراهة تنزيه، أو بكونه خلاف الأولى على اختلاف العبارات في ذلك [2ب].
كما لا يخرج عنه بعض أنواعه بمجرد تقييده بقيد كونه واجبا، أو مسنونا، أو مندوبا أو مرغبا فيه على اختلاف العبارات في ذلك، فالكل حلال، ولا يجري في مثل هذا الخلاف المحرر في الأصول في جنسية المباح لأقسامه؛ إذ المقصود هنا هو الحكم عليه بالحكم الشامل لأقسامه، وهو كونها حلالا، لا كونه جنسا لها، وهي أنواع له، ولا خلاف بين أهل العلم في كون جميع تلك الأقسام حلالا، وإن تقيد بعضها بقيد عدم
(1)[آل عمران: 31]
(2)
[الحشر: 7]
(3)
[الأحزاب: 21]
(4)
تقدم وهو حديث صحيح
جواز الترك، وبعضها بأولوية الفعل، وبعضها بأولوية الترك، فإنه قد جمعها كلها أنه لا يعاقب فاعلها، وذلك شأن الحلال. ويقابل ذلك ما يعاقب فاعله وهو الحرام البحت، ومنه المكروه كراهة حظر وكراهة تحريم على اختلاف العبارات في ذلك، فإن حكم الجميع التحريم، لكونه يعاقب فاعله، وبهذا تعرف معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم:" الحلال بين، والحرام بين"، أن الأمور المشتبهة هي التي لم يتضح الدليل على حرمتها أو حلها مع ورود دليل يدل في الجملة على ذلك لا على وجه الإيضاح والبيان.
وأما المسكوت عنه بالمرة فهو عفو كما ثبت ذلك عن الشارع صلى الله عليه وآله وسلم، فإن اتضح الدليل على اتصافها بأحد الوصفين فقد ذهب الاشتباه، وتبين الأمر واتضح الحكم، ومن قسم المشتبه ما تعارضت أدلته، فدل بعضها على جواز الفعل، وبعضها على المنع منه، ولم يأت دليل يدل على ترجيح أحد المتعارضين على الآخر، كما يفيد ذلك ما ورد في بعض ألفاظ الحديث المذكور بعد ذكر الشبهات، ففي لفظ للبخاري (1)"لا يعلمها كثير من الناس"، وفي لفظ للترمذي (2) " لا يدري كثير
(1) رقم (52)
(2)
في "السنن" رقم (2105).
قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم"(11/ 27) أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده أنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة هو ثلث الإسلام، وأن الإسلام يدور عليه وعلى حديث "إنما الأعمال بالنية" وحديث:" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقال أبو داود السختياني يدور على أربعة أحاديث هذه الثلاثة وحديث: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقيل حديث ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس.
قال العلماء وسبب عظم - حديث النعمان - أنه صلى الله عليه وسلم نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها وأنه ينبغي ترك المشتبهات فإنه سبب لحماية دينه وعرضه وحذر من موافقة الشبهات وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى. . .
وقوله صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين، أن الأشياء ثلاثة أقسام حلال بين واضح لا يخفى حله كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن. . . وغير ذلك من المطعومات وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات فهي حلال بين واضح لا شك في حله.
وأما الحرام البين: كالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة.
وأما المشتبهات: فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة فلهذا لا يعرفها كثير من الناس لا يعلمون حكمها وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيها نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي فإذا ألحقه به صار حلالا وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال البين فيكون الورع تركه ويكون داخلا في قوله صلى الله عليه وسلم فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. .
انظر: "فتح الباري"(1/ 127)
من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام "، ويستفاد من لفظ كثير أن القليل من الناس يعرف حكمها، وهم المجتهدون، أو البعض منهم.
وقد قيل: إن الشبهات هي ما اختلف فيه العلماء، وقيل: هي قسم المكروه، وقيل: هي المباح المطلق، وكل ذلك مدفوع، وقد أوضحت الدفع له وترجيح ما ذكرته من تفسير الشبهات في مؤلف مستقل جمعته في الكلام على هذا الحديث، وسميته:" تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام"(1).
وإذا عرفت أن المشتبهات هي ما لم يتضح الدليل على حله، أو حرمته أو تعارض دليل الحل والحرمة، فأعلم أن هذا القسم قد بين الشارع صلى الله عليه وآله وسلم [3أ]- أن شأن المؤمنين التوقف عنده، وعدم مجاوزته، وترك التلبس به كما يفيد ذلك قوله:" والمؤمنين وقافون عند الشبهات" وفي لفظ للبخاري (2) ومسلم: " فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله تعالى،
(1) وهي الرسالة رقم (58) من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني"
(2)
رقم (2051)
من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه"، وفي لفظ لابن حبان (1) " اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه" وكما يدل هذا الحديث على اجتناب الشبهات كذلك يدل على الاجتناب حديث:" كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد"(2)، فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الترك للشبهات، والتوقف عندها، وكذلك يدل على اجتنابها حديث:" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"(3) أخرجه الترمذي والحاكم، وابن حبان وصححوه جميعا، وكذلك حديث "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون" أخرجه أحمد (4)، وأبو يعلى (5)، والطبراني (6)، وأبو نعيم (7)، وحديث:" الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس "(8) وهو حديث معروف.
(1) في صحيحه رقم (5569)
(2)
تقدم تخريجه
(3)
أخرجه الترمذي رقم (2518) والحاكم (2/ 13) و (4/ 99) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وابن حبان رقم (722) وأبو داود رقم (1178) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " دع ما يريبك إلا ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة".
وأخرجه أحمد (3/ 112) والدارمي (2/ 245) والبيهقي (5/ 335) من حديث أنس.
وهو حديث صحيح بشواهده.
(4)
في "المسند"(4/ 227 - 228)
(5)
في مسنده رقم (1586، 1587)
(6)
، في "الكبير"(22\ رقم 403)
(7)
في "الحلية"(2/ 24) و (9/ 44) من حديث وابصة مرفوعًا وقد تقدم وله شواهد.
وهو حديث حسن
(8)
أخرجه مسلم رقم (2553) وأحمد (4/ 182) والدارمي (2/ 322) والبخاري في "الأدب المفرد"(1/ 110 - 113) والحاكم (2/ 14) من حديث النواس بن سمعان قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس".
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - مما يقع في بعض الولائم، وعند قدوم من كان غائبا في حج أو نحوه إن كان هو الذي يقع في زمن النبوة على الصفة الثابتة إذ ذاك، فهذا من الحلال البين، وإن كان على صفة غير تلك الصفة، فإن تبين حكم حل ذلك الواقع من دليل آخر كركض الخيل، والرمي بالبنادق، والمذاكرة في المسائل العلمية والأدبية، والاجتماع في مجلس من المجالس، أو مسجد لذكر الله، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وذكر ما لا بأس به من أخبار القرون الأولى، وتناشد أشعارهم، ووصف مجرياتهم فهذا ونحوه [3ب] قد جاءت الأدلة الصحيحة المأخوذة من كليات الشريعة وجزئياتها بأنه حلال، وأنه لا بأس به.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يجتمعون في مجالسهم، وفي مساجدهم ويتذاكرون العلم، ويتواعظون بمواعظ الأئمة ويذكرون في بعض الأوقات ما كان يجري بين أسلافهم من العرب من الحروب، والتكرمات، والخطب، والمقاولات، وينشدون ما قالوه من الأشعار في ذلك.
بل وقع مثل هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث أم زرع الثابت في الصحيحين (1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة رضي الله عنها:"أنا لك كأبي زرع لأم زرع" وكذلك ثبت اجتماع أمهات المؤمنين، واجتماع كثير من النساء إليهن، وذكرهن للحوادث والوقائع، كما في حديث المرأة التي كانت تدخل عليهن وتكرر هذا البيت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا
…
ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
وتذكر قصتها في ذلك كما في ...................................................
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5189) ومسلم رقم (2448) عن عائشة رضي الله عنها قالت وفيه: " جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا. . . قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت لك كأبي زرع لأم زرع"
الصحيح (1)، وكذلك حسان رضي الله عنه كان ينشد الصحابة أشعاره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لما أنكر عليه عمر رضي الله عنه:" قد كنت أنشده وفيه من هو خير منك"(2)، والأمر في مثل هذا كثير يطول تحريره، ويكثر بسطه، وكل عالم يعلمه، فما كان من هذا الجنس مما علم حله بأدلته فهو من الحلال البين، فلا يحل لمسلم إنكاره، ولا يجوز القول بأنه من البدع التي هي ضلالة، وإنما إذا كان ذلك الاجتماع يصحبه فيه شيء من منكرات الشرع، كالتغني بالأشعار بالأصوات المطربة، والتوقيعات المختلفة، وذكر ما لا يحل ذكره من التشوق إلى معاصي الله عز وجل، والتنشيط إلى مواقعة محارمه [4أ]، والترغيب إلى تعدي حدوده، وهتك الأعراض بالمقاولات السخيفة، وثلب أعراض المسلمين بالغيبة، والسعي بينهم بالنميمة، وعلى الجملة فإذا اشتملت تلك المجالس والمجامع على شيء مما ورد الشرع بتحريمه فحضورها حرام، والقعود فيها معصية، لأنها من قسم الحرام البين.
ويجب على المسلمين الإنكار على من تلبس بشيء منها، وإن كان ما يقع في تلك المجالس والاجتماعات التي يسمونها ولائم وأعراسا وتعزية لميت، وتسلية لمحزون، وملاقاة لقادم من غيبة، وزيارة لمن يحق له عندهم الزيارة مما لم يتبين كونه حلالا، ولا لكونه حراما، فهو من الأمور المشتبهة، والمؤمنون وقافون عند الشبهات، فاجتناب هذه المجالس هو شأن المؤمنين، ودأب المتمسكين بالدين، فمن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن لابسها وجالس أهلها فقد حام حول الحمى، ورتع في جوانبه، فيوشك أن يواقعه، وهو أيضًا لم يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، وهو أيضًا دخل في أمر ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعله رد عليه فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الوقوف عند الشبهات، واجتناب ملابستها وهو أيضًا لم يترك ما يشتبه عليه من الإثم، فيوشك أن
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (439) وقد تقدم ذكر القصة.
(2)
انظر "فتح الباري"(1/ 548).
يواقع ما استبان من الحرام.
وإذا عرفت هذه الأقسام، وتقرر لك حكم كل واحد منها ارتفع الإشكال، واتضح الأمر، وتبين لك ما هو الذي يجوز لك ملابسته من تلك المجامع [4ب] والمجالس، وما هو الذي لا يجوز لك ملابسته منها وما هو الذي ينكر على فاعله وما هو الذي لا ينكر على فاعله، وما هو من البدعة التي هي ضلالة، وما هو من البدعة المشتبهة، وذلك يغنيك عن النظر إلى ما وقع من ذلك في البلد الفلاني، أو في الجيل الفلاني، أو في العصر الذي قبل عصرك، أو في العصور التي قبله بكثير، فإن ذلك مما لا يصح الاحتجاج به، ولا إيراده في موارد الاستدلال، فقد وقع من ذلك في كل عصر من العصور الغث والسمين، والجاري على منهج الشرع والجاري على غيره، وصار كثير من الأشياء المنكرة، والبدع التي هي من قسم الضلالة باستعمال كثير من الناس لها غير مستنكر ولا معدود من الأمور المخالفة للشرع، ولا من الشبهة التي يتوقف المؤمنون عندها.
ومن اطلع على كتب التاريخ وقف من ذلك على العجب العجيب، والنبأ الغريب، فإن كثيرا من المنكرات المعلوم تحريمها بضرورة الشرع قد صارت عند قوم من الأقوام، وفي جيل من الأجيال من المعروف لا من المنكر، حتى إن من أنكر ذلك عد إنكاره منكرا ولا يقوى على القيام في مثل هذه المقامات الصعبة إلا من كان متصلبا في دين الله، شديد الشكيمة على أعداء الله، نافذ البصيرة في الحق، صحيح التصور لما أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب من البيان، قوي الفهم بمعنى قوله عز وجل:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (1)، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (2).
(1)[آل عمران: 187]
(2)
[البقرة: 159]
نسأل الله - سبحانه - أن يبصرنا بطرق الهداية [5أ] ويعصمنا عن مزالق الغواية، فلا خير إلا خيره، ولا إله غيره، والحمد أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، والصلاة والسلام على خير الأنام وآله الكرام.
حرره المجيب - غفر الله له - في شهر شعبان سنة 1230.