المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٥

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌ الفقه وأصوله

- ‌التشكيك على التفكيك لعقود التفكيك

- ‌القول المفيد في حكم التقليد

- ‌بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد

- ‌بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق

- ‌رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام

- ‌بحث في العمل بقول المفتي صحّ عندي

- ‌بحث في الكلام على أمناء الشريعة

- ‌بَحْثٌ في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده

- ‌رفع الجناح عن نافي المباح

- ‌جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله

- ‌بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي

- ‌الدرر البهية في المسائل الفقهية

- ‌بحث في دم الخيل ودم بني آدم هل هو طاهر أن نجس

- ‌جواب سؤال في نجاسة الميتة

- ‌جواب في حكم احتلام النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح

- ‌ بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود

- ‌بحث في أن السجودَ بمجرّده من غير انضمامه إلى صلاةٍ عبادةٌ مستقلةٌ يأجر اللهُ عبده عليها

- ‌كشف الرين في حديث ذي اليدين

الفصل: ‌بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي

‌بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 2441

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة: (بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي).

2 -

موضوع الرسالة في الأصول.

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين. وبعد:

فاعلم أن داعية التفرق الكبرى، وسبب الاختلاف الأعظم هو دخول الرأي في هذه الشريعة المطهرة

4 -

آخر الرسالة:

فالحاصل أن الرأي هو الذي غير الشرائع بعد أن كانت صحيحة مستقيمة لا عوج بها. والمهدي من هداه الله عز وجل.

وفي هذا المقدار كفاية. قاله كاتبه- غفر الله له-.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

عدد الصفحات: (5) صفحات.

7 -

المسطرة: الأولى: 7 أسطر. الثانية والثالثة: 30 سطرًا. الرابعة: 3سطرًا.

الخامسة: 29 سطرًا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.

9 -

الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

ص: 2443

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين. وبعد:

فاعلم أن داعية التفرق الكبرى، وسبب الاختلاف الأعظم هو دخول الرأي في هذه الشريعة المطهرة، فإن كل عارف يعلم أن الناس ما زلوا متفقين في الجملة قبل ظهور علم الرأي (1) قال ابن تيمية في «الغيث المسجم» (1/ 79):«ما أظن أن اله يغفل عن المأمون، ولا بد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها» .%بعد الصحابة والتابعين تفرقوا فرقًا، وصاروا منتسبين إلى أهل المذاهب إلا من عصمه الله، وقليل ما هم.

وقد أوضحت هذا في كثير من مؤلفاتي كالكتاب الذي سميته «أدي الطلب في منتهى الأرب» (2) تم بحمد الله تحقيقها وطبعها.% والكتاب الذي سميته «قطر الولي على حديث الولي» (3) تم تحقيقها ضمن الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني هذا.% وأنا هاهنا أوضح لك أن هذا الداء قديم، وأنه كان في الشرائع المتقدمة كما وقع في هذه الشريعة، حتى يكون ذلك موعظة لك، فإنه الداء الذي هلكت به الأمم،

(1) تقدم التعريف به في المجلد الأول.%؛ وذلك لأنهم عاملون بنصوص الكتاب والسنة كما كان في زمن الصحابة والتابعين، فإنها كانت الكلمة [1 أ] واحدة، والدين متفق، والنسبة إلى مطلق الإيمان والإيمان إلى الشريعة المطهرة، لا إلى فرد من أفراد العباد الذين هم من جملة المحكوم عليهم بالشريعة الإسلامية التي هي كتاب الله- سبحانه-، وسنة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم. فلما ظهر علم الرأي.

(2)

تم بحمد الله تحقيقها وطبعها في مكتبة ابن تيمية- القاهرة.% والرسالة التي سميتها «القول المفيد في حكم التقليد» .

(3)

تم تحقيقه ولله الحمد.% والكتاب الذي سميته «نثر الجواهر على حديث أبي ذر» .

ص: 2447

واضطربت فيه الشرائع، وصارت الشرائع بين أهل الرأي كالكرة يتلاعب بها أهل الرأي بينهم كما يتلاعب بها الصبيان. فاسمع ما أمليه عليك من أخبار الملة اليهودية، والملة النصرانية حتى يتضح لك الأمر إيضاح الشمس، ويتبين الصواب تبين النهار.

لما أرسل الله- سبحانه- رسوله موسى- عليه السلام إلى بني إسرائيل، وإلى القبط الذين هم جند فرعون أنزل عليه التوراة، فجعل لها شرحًا سماه «المشنا» (1) التوراة كلمة عبرية معناها الشريعة، وتسمى الناموس أي القانون، كما تسمى أيضًا (البانتاتيك)، وهي كلمة يونانية تعني الأسفار الخمسة وهي: سفر التكوين، سفر الخروج، سفر اللاويين، سفر العدد، سفر التثنية.

النظر شرحها في القسم الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني (العقيدة).% التي هي كتاب الله- عز وجل

(1) يوشع بن نون عليه السلام: كان اسمه في الأصل، (هوشع، يهوشوع) ثم دعه موسى يوشع معناه (يهود خلاص) وهو خليفة موسى الذي قاد بني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة ومحاربة أهلها وأن أمر الشمس بالوقوف والتأخير في المغيب ليتم له فتح الأرض والنصر على أعدائه.

انظر «الكتاب المقدس سفر يوشع» . «تلخيص البيان في ذكر فرق أهل الأديان» (ص 202).

- أما في القرآن الكريم لم يصرح باسمه في قصة الخضر {وإذ قال موسى لفتاه} [الكهف: 60]، وقد ورد النص على نبوته وأنه خليفة موسى في بني إسرائيل فيما رواه مسلم في صحيحه رقم (3/ 1366) وأحمد (3/ 318) والبخاري مختصرًا في «الفتح» (9/ 223) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن، ولا آخر قد بنى بنيانًا ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنمًا أو خلفات وهو ينتظر أولادها. قال: فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئًا فحبست عليه حتى فتح الله عليه

».

ويتبين لنا اسم هذا النبي الذي حبست له الشمس من الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 325) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس» . وهو حديث صحيح.

انظر: «تفسير ابن كثير» (3/ 97 - 101)، «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (1/ 347 - 351 رقم 202).% بفتح الميم وسكون الشين المعجمة، وبعدها نون، فكانت التوراة

ص: 2448

وكلامه نفسره بتفسير نبي الله موسى- عليه السلام، ومعنى المشنا باللسان العبرانية استخراج الأحكام من النص الإلهي، فاستمر على هذا أهل الشريعة اليهودية بلا خلاف بينهم في حياة موسى- عليه السلام، وأيام من قام بالنبوة بعده، وهو يوشع بن نون (1) [البقرة: 79].% ووضعوا لكتابهم هذا- الذي حرفوا فيه وبدلو وخلطوا ما في التوراة بالرأي، وأخفوا منها ما أخفوه، وحرفوا ما حرفوا- اسمًا فسموه التلموذ بفتح المثناة من فوق، وسكون اللام، وضم الميم، وسكون الواو بعده ذال معجمة. فعند ذلك ظهر اختلافهم في الدين، وتفرقهم في تلك الشريعة،

(1) يشوشع بن نون: من أنبياء بني إسرائيل بعثه الله نبيًّا فدعا بني إسرائيل وأخبرهم أنه نبي وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين فبايعوه وصدقوه وخرج في الناس يقاتل الجبارين وهزمهم تاريخ الطبري (1/ 117).%، ومازالوا كذلك بعد يوشع، وكلهم يتمسك بما في التوراة وما فسرها به موسى في ذلك الكتاب، ولم يظهر بينهم خلاف قط في الجملة كما كان عليه المسلمون في أيام الصحابة والتابعين، مع تمسكهم بالكتاب والسنة [1 ب].

ثم بعد ذلك كان رجلان من اليهود يقال لأحدهما هلال، وللآخر شماي، فكتبا المشنا الموسوي، وخلطاه بكثير من آرائهم وآراء أمثالهم من أكابر اليهود، فجاء من بعدهم فكتبوا ما كتبوه من المشنا المختلط بالرأي، وضموا إلى ذلك كثيرًا من الرأي، وأخفوا كثيرًا مما كان في المشنا الموسوي، ونسبوا الجميع إلى الله- عز وجل.

وكذا قال الله- عز وجل ناعيًا لصنعهم عليهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}

ص: 2449

فتملك كثير منهم بهذا الكتاب، وتمسك آخرون بالمشنا المنقول من المشنا الموسوي، وكانت الطائفة الأولى لا تعمل بما في التوراة، وما في المشنا إلا إذا وافق ما في التلموذ، وما خالف ذلك منه ردوه أو تأولوه.

وتفرقوا أربع فرق: الفرقة الأولى: الربانيون (1) العنانية (القراءون): نسبة إلى عنان بن داود أحد كبار الأحبار في القرن الثامن الميلادي (كان موجودًا سنة 136 هـ في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وحيث أنه هذه الطائفة تتمسك بأسفار العهد القديم وحده- التي كانت تسمى عند اليهود (المقرا) أي المقروء- وتكفر بالتلموذ، فقد سمي اتباع هذه الطائفة (بالقرائين) في القرن التاسع الميلادي ويرى بعض المؤرخين القرائين بـ (مينيم) أي الزنادقة و (أبيقوريم) أي الأبيقوريين نسبة إلى المدرسة الفلسفية اليونانية الوثنية، العداء مستحكم بين الطائفتين إلى حد أن كلاً منها تكفر الأخرى وتنجسها وتحرم التعامل والزواج من أتباعها، ومن أبرز مبادئهم ما يأتي:

1 -

تأثروا بالصدوقيين والعيسوية في التمسك بأسفار العهد القديم فقط وإنكار التلموذ.

2 -

تأثروا بالإسلام فقالوا بأن عيسى عليه السلام ليس زنديقًا وإنما كان رجلاً من بني إسرائيل تقيًّا صالحًا ومصلحًا. وبان محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي حق إلا أنهم زعموا بأن عيسى لم يكن نبيًّا وبأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم ينسخ شريعة التوراة، وقالوا: بنفي التجسيم والتشبيه عن الله عز وجل.

3 -

يخالفون سائر اليهود في أحكام السبت والأعياد، وينهون عن أكل الطيور والظباء والسمك والجراد، ويذبحون الحيوان على القفا.

4 -

يعتبرون مؤسس فرقتهم عنان قديسًا ويجعلون له دعاءً خاصًّا في صلواتهم.

5 -

يعادون الحركة الصهيونية وينفرون منها؛ لأنهم يرون أن استيلاء الكفرة الربانيين على مقدسات إسرائيل خطر يهددهم.

وقد كان أكثر القرائين يقيمون في مصر والشام وتركيا والعراق وإيران وبعض أجزاء من روسيا وأوربا الشرقية والأندلس، وعددهم بالنسبة إلى اليهود عمومًا، حاليًا يوجد منهم حوالي عشرة آلاف يتركزون حول الرملة وعددهم معابدهم تسعة.

انظر: «اليهودية» (ص 231) أحمد شلبي، «الملل والنحل» (2/ 215)، «الفصل» (1/ 178).%، والفرقة الرابعة

(1) ويقال لهم: بنو مشتو ومعنى مشتو (الثاني) لأنهم يعتبرون أمر البيت الذي بني ثانيًا بعد عودهم من الجلاية وخربة طيطش، وينزلونه في الاحترام والإكرام والتعظيم منزلة البيت الأول الذي ابتدأ عمارته داود وأتمه ابنه سليمان عليهما السلام وخربه بختنصر فصار كأنه يقول لهم أصحاب الدعوة الثانية، وهذه الفرقة بعيدة عن العمل بالنصوص الإلهية ومن مذهبهم القول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم.

انظر: «الخطط» للمقريزي (4/ 368).%، والفرقة الثانية: القراءون، والفرقة الثالثة: العانانية

ص: 2450

: السمرة (1) انظر: «الفكر الديني» د. حسن ظاظا (ص 207).%

(1) السامريون: نسبة إلى مدينة السامرة القديمة التي يعيشون حولها قرب مدينة نابلس، وعرفوا أيضًا باسم (الشكمين) نسبة إلى مدينة شكيم (نابلس) ويسميهم أعداؤهم من الطوائف اليهودية الأخرى باسم (الكوتيين) أي المرتدين، ويزعم السامريون أنهم البقية على الدين الصحيح وينتسبون إلى هارون عليه السلام، ويسمون أنفسهم بـ (بني إسرائيل أو بني يوسف)، وأبرز مبادئهم الدينية:

1 -

الإيمان بإله واحد روماني، وأن موسى خاتم الرسل، وأن جبل جريزيم هو القبلة الصحيحة الوحيدة لبني إسرائيل.

2 -

يؤمنون بالتوراة وسفر يوشع- لأن التوراة نصت على أنه خليفة موسى من بعده- وسفر القضاة باعتباره سفرًا تاريخيًّا، وينكرون ما عدا ذلك من أسفار العهد القديم والتلمود.

ونسخة التوراة التي يؤمنون بها تخالف النسخة التي بأيدي سائر اليهود، وتسمى توراتهم (بالتوراة السامرية).

3 -

ينكرون كل الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى ويوشع عليهما السلام، إلا أنهم ينتظرون المسيح المخلص لهم الذي يعلن مولده ظهور نجم يستمر طوال الوقت في سماء جريزيم.

وقد تقلص عدد أفراد هذه الطائفة فأصبحوا لا يزيدون عن بضع مئات فقط يعيشون جوار مدينة نابلس ولا يستحلون الخروج منها.

- وذكر الشهرستاني أن السامرة افترقوا إلى فرقتين:

الأولى: الدوستانية ومعناه (الفرقة المتفرقة الكاذبة) وهو الألفانية أتباع رجل يقال له الألفان. ادعى النبوة وبأنه المسيح المنتظر، هذه الفرقة تنكر البعث وتزعم بأن الثواب والعقاب في الدنيا.

الثانية: الكوستانية، ومعناه (الجماعة الصادقة) وهم يقرون بالآخرة والثواب والعقاب فيها.

«الملل والنحل» (1/ 218، 219).

«الفصل» (1/ 177، 178).

- وتذكر بعض المصادر الإسلامية طائفة السامرية باسم (الإمساسية) نسبة إلى أنهم يرون تحريم أكل ما مسه غيرهم.

وقيل: نسبة إلى السامري الذي صنع العجل لبني إسرائيل وزين لهم عبادته في زمن موسى فعاقبه الله عز وجل: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} [طه: 97].

«الخطط» للمقريزي (3/ 508).

«صبح الأعشى» للقلقشندي (13/ 268).

ويزعم اليهود أن السامريين جاءوا من بابل، وأسكنهم ملك آشور مكان الأسباط العشرة من بني إسرائيل (في المملكة الشمالية) الذين أخذهم آشور سبيًا إلى بابل، فامتلك القادمون الجدد السامرة واستوطنوا بها ويعتمد أصحاب هذا الرأي على ما ورد في سفر الملوك الثاني الإصحاح (17) أما المعتدلون من اليهود فيرون أن أصل السامريين يرجع إلى من بقي من اليهود الضعفاء في فلسطين بعد السبي البابلي.

ص: 2451

ثم تفرقوا بعد ذلك تفرقًا آخر بعد أن كانوا أربع فرق في فروع دينهم، فتفرقوا في مسائل الاعتقاد إلى ثلاث فرق:

فرقة يقال لهم: الفروشيم (1) قال ابن حزم في «الفصل» (1/ 178): الصدوقية: ونسبوا إلى رجل يقال له (صدوق)، وهم يقولون: من أثر اليهود أن العزير هو ابن الله- تعالى الله عن ذلك- وكانوا بجهة اليمن.

وقال المقريزي في «الخطط» (3/ 511): وأما يهود فلسطين فزعموا أن العزير ابن الله تعالى. وأنكر اليهود هذا القول.

قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ 30 اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30 - 31].%، وهو الواقفون على نصوص التوراة.

(1) سيأتي التعريف بها قريبًا.%، وهم الذين يعملون بما قاله الحكماء منهم المحكمون للعقل، إن خالف ما في التوراة.

والفرقة الثانية يقال لها: الصدوقية

ص: 2452

والفرقة الثالثة: سلكوا مسلك الزهد والعبادة والأخذ بالأسلم والأفضل في مسائل الاعتقاد، واستمروا على ذلك إلى أن ظهر فيهم موسى بن ميمون القرطبي (1) بعد الخمس مائة من سني الهجرة النبوية فردهم إلى التعطيل، فصاروا في أصول دينهم أبعد الطوائف من الحق. وكان هذا اليهودي موسى بن ميمون متزندقًا كما صرح بذلك جماعة من أحبار اليهود وغيرهم، وقد كانوا تفرقوا قبل وجود موسى بن ميمون تفرقًا آخر بعد ذلك التفرق الأول إلى:

شمعونية (2)، وجالوتية (3)، وفيومية (4)، وسامرية (5)، وعكبرية (6)، وأصبهانية (7)

(1) موسى بن ميمون بن يوسف بن إسحاق، أبو عمران القرطبي يهودي، ولد وتعلم في قرطبة وتنقل مع أبيه في مدن الأندلس، وتظاهر بالإسلام. وقيل: أكره عليه. «الأعلام» للزركلي (7/ 329 - 330).

وقد تقدمت ترجمته في القسم الأول من «الفتح الرباني» (العقيدة)(ص 496).

(2)

الشمعونية: نسبة إلى شمعون الصديق (ت 135 ق. م) من بقايا رجال الكنيس الكبرى والمؤسس للدولة الأسمونية أو الحشمتية في أيام المكابيين، واشتهر إطلاق اسم (الفريسيون) بالعبرية (فروشيم) على هذه الطائفة، ومعنى هذا الاسم أنهم المفروزون أو المنعزلون الذين امتازوا عن العامة، وهم طائفة علماء الشريعة من الربانيين قديمًا، ويطلقون على أنفسهم اسم (حسيديم) أي الأتقياء و (حبيريم) أي الزملاء.

انظر: «الفصل» (1/ 178). «الملل والنحل» (1/ 212). «الخطط» (2/ 510) للمقريزي.

(3)

قال المقريزي في «الخطط» (2/ 478): الجالوتية تبالغ في التشبيه.

(4)

قال المقريزي في «الخطط» (2/ 478): الفيومية- بالفاء- فإنها تنسب إلى أبي سعيد الفيومي، وهم يفسرون التوراة على الحروف المقطعة.

(5)

تقدم ذكرها.

(6)

قال المقريزي في «الخطط» (2/ 478) العكبرية أصحاب أبي موسى البغدادي العكبري وإسماعيل العكبري، وهم يخالفون أشياء من السبت وتفسير التوراة.

(7)

الأصبهانية (العيسوية) أتباع إسحاق بن يعقوب (عويديا) المعروف بأبي عيسى الأصفهاني، من مواليد أصفهان ببلاد فارس، الذي ادعى النبوة وبأنه رسول المسيح المنتظر، ثم زعم بأنه هو المسيح المنتظر لليهود، وزعم بأن الله كلمه وأرسله ليخلص بني إسرائيل من السبي، فلذلك جمع جيشًا قوامه عشرة آلاف رجل لتحقيق أهدافه، إلا أنه انهزم في معركة الري وقتل فيها.

ويذكر الحبر القرائي القرقشاني أن أبا عيسى ظهر في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (685 - 705 م) ولكن الشهرستاني يقول: بأنه كان في زمن المنصور (750 - 754 م) وابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية مروان بن محمد (744 - 750 م) وقد رجحت دائرة المعارف اليهودية قول الشهرستاني على القرقشاني.

من أهم مبادئهم:

1 -

ادعى أتباع أبي عيسى له المعجزات، واعتقدوا بأنه حي لم يمت، وأنه اختفى في كهف وسيظهر ليتم رسالته بإنقاذ اليهود.

2 -

أنكر أبو عيسى التلمود، وأدخل تعديلات كثيرة على الأحكام اليهودية ضمنها كتابه (سفر همصغوت) أي كتاب الوصايا، ومنها: أنه حرم الذبائح كلها ونهى عن أكل كل ذي روح على الإطلاق، وأوجب عشر صلوات على أتباعه وألغى الطلاق وغير ذلك من التشريعات التي خالف بها أحكام التوراة.

3 -

يعترفون بنبوة عيسى عليه السلام ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، غير أنهم يقولون: بأنهما لم يؤمرا بنسخ شريعة موسى عليه السلام وبأن محمدًا لم يرسل إلا إلى العرب.

انظر: «الخطط» (3/ 510)، «الفصل» (1/ 179)، «الملل والنحل» (1/ 215 - 216).

ص: 2453

وعراقية (1)(المقاربة) البنيامينية: فرقة متشعبة من طائفة العنانية (القرائين) وهم أتباع بنيامين بن موسى النهاوندي الفارسي (830 - 860 م) الذي نادى بتعاليمه في أوائل القرن التاسع الميلادي، وهي في جملتها مستمدة من تعاليم (عنان) مع بعض المسائل التي خالفه بها متأثرًا بالمعتزلة والفلاسفة فقد قرر لأتباعه أن النصوص المتشابهات في التوراة كلها مؤولة، فجعل الله روحانيًّا، ومن النقص في حقه أن يتصل بالماديات إلى حد أنه أنكر أن يكون الله قد تولى عملية الخلق في صورة مباشرة، وبأن الله خلق الملائكة- وهم كائنات روحية- ليتولوا خلق هذا العالم المادي، كما قرر بنيامين بأن الله لا يوصف بأوصاف، ولا يشبه شيئًا من المخلوقات ولا يشيبه شيء منها، وبأن كل ما في التوراة وسائر الكتب من وصف الله تعالى بالكلام والاستواء ونحوه فإن المراد بذلك الوصف ملك عظيم خلقه الله وقدمه على جميع الخلائق واستخلفه عليهم.

ويبدو لنا أن بنيامين كان متأثرًا أيضًا بعقائد فرقة (المقاربة) أو أصحاب المغار وقد انضم إلى نحلة بنيامين عدد كبير من القرائين، وعظمت مكانته بين أتباعه حتى رفعوه إلى مرتبة عنان، وقد عرف أتباعه باسم (المقاربة أو المقاربت). -

أما أصحاب المغار أو الكهوف (المقاربة) هذه الطائفة قد انقرضت في القرن الأول الميلادي- نقلاً عن العالم القرائي القرقشاني- وبأنهم كانوا يحفظون كتبهم في كهوف التلال المحيطة بفلسطين، ومن أبرز الاختلافات العقائدية بينهم وبين بقية المجتمع اليهودي هو اعتقادهم بتنزيه الإله وعدم اختلاطه بالمادة، ورفضوا القول بأن العالم خلق مباشرة بواسطة الله، ولكنه خلق بواسطة وسيطة (وهو الملك) مسئول عن الخلق، وحل محله الإله في العالم المخلوق، ونسبوا الشريعة والاتصال الإلهي إلى الملك وليس إلى الله عز وجل ويرى بعض المؤرخين بأن هذه الطائفة هي الفرقة المعروفة باسم (الأسينيين) نظرًا لتشابه عقائدها وتاريخ انقراضها.

انظر: «الملل والنحل» (1/ 17 - 18)، «دائرة المعارف اليهودية» (14/ 1088).%،

(1) العراقية: تعمل رءوس الشهور بالأهلة وآخرون يعملون بالحساب.

«الخطط» للمقريزي (2/ 479).%، ومقاربة

ص: 2454

وسرشتانية (1)، وفلسطينية (2)، ومالكية (3) ...............................

(1) قال المقريزي في «الخطط» (2/ 479): أصحاب شرشتان زعم أنه ذهب من التوراة ثمانون سوقة أي آية وادعى أن للتوراة تأويلاً مخالفًا للظاهر.

(2)

وقال المقريزي في «الخطط» (2/ 479): أما يهود فلسطين فزعموا أن العزير ابن الله تعالى وأنكر أكثر اليهود هذا القول.

(3)

الملكية (الملكي الرملي): من الطرق المتشعبة عن طائفة القرائين (مالك الرملي) الذي كان منتصف القرن التاسع الميلادي، وكان متأثرًا في آرائه بالسامريين، إذ كان مالك يعتقد- مثل السامريين- بأن يد الحصاد أو عيد الأسابيع ويسمى عندهم بـ (شبوعوت) لا تكون بدايته إلا في يوم الأحد، وقد اندثرت طائفة الملكية في نهاية القرن التاسع، وذابت ضمن الفرق الكبيرة من طائفة القرائين.

قال المقريزي في «الخطط» (3/ 511) أن الملكية يزعمون أن الله تعالى لا يحيي يوم القيامة الموتى إلا من احتج عليه بالرسل والكتب.

وانظر: «دائرة المعارف اليهودية» (10/ 766)(11/ 826).

ص: 2455

وربانية [2 أ](1) انظر: «تخجيل من حروف التوراة والإنجيل» (1/ 244 - 146).% من يقول: الابن يعني المسيح من الأب- تعال الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة أخرى فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها (2) انظر: «تخجيل من حروف التوراة والإنجيل» (1/ 493 - 498). «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» (3/ 316).%، وهو الكلمة في الأزل كما خلق الملائكة

(1) الربانيون: هم امتداد للفريسيين في أفكارهم، ويمثلون جمهور اليهود قديمًا وحديثًا، وأطلق عليهم هذا اللقب لإيمانهم بأسفار التلمود التي ألفها الربانيون وهم الحاخاحيم أو الفقهاء لهذه الطائفة، ومن أبرز مبادئ هذه الطائفة:

1 -

أنها تعترف بجميع أسفار العهد القديم، وتذهب إلى تأويل النصوص.

2 -

تؤمن بأسفار التلمود.

3 -

تؤمن بالبعث، وتعتقد أن الصالحين من الأموات سينشرون في هذه الأرض ليشتركوا في ملك المسيح المنتظر، الذي يزعمون أنه سيأتي لينقذ الناس ويدخلهم في اليهودية.

4 -

أشد الطوائف اليهودية عداوة لغيرهم من الأمم، وينتظرون إلى من عدم بعين النقص والازدراء وبأنهم حيوانات خلقوا في صورة البشر لخدمة اليهود.

ومن هذه الطائفة نشأت الحركة الصهيونية والحركات الهدامة الأخرى التي تهدف إلى إخضاع العالم لليهود.

«الملل والنحل» (1/ 212)، «الفصل» (1/ 178)، «دائرة المعارف الإسرائيلية» (13/ 363).% هذا حاصل ما وقع من اختلافات ليهود واضطراب مذاهبهم.

وأما الملة النصرانية فكانت في أيام المسيح- عليه السلام وأيام الحواريين واحدة مؤتلفة غير مختلفة، واشتغل الحواريون بدعاء الناس إلى ملة المسيح، وذهبوا في الأرض يدعون الناس إلى ذلك، ولا خلافي بينهم. فلما انقرضوا وقع الاختلاف الطويل العريض. فمنهم

(2)

انظر: «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» لابن تيمية (3/ 165 - 168).%.

ومنهم من قال: المسيح وأمه إلهين من دون الله تعالى.

ومنهم من قال: بل الله خلق الابن

ص: 2456

روحًا طاهرة مقدسة بسيطة مجردة عن المادة، ثم خلق المسيح في آخر الزمان من أحشاء مريم البتول الطاهرة، فاتحد الابن المخلوق في الأزل بإنسان المسيح فصار واحدًا.

ومنهم من قال: إن مريم لم تحمل (1) بالمسيح تسعة أشهر بل مر بأحشائها كمرور الماء في الميزاب.

ومنهم من قال: المسيح بشر خلق، وأن ابتداء الابن من مريم ثم إنه اصطفي فصحبته النعمة الإلهية بالمحبة والمشيئة.

(1) قال ابن تيمية في «الجواب الصحيح» (3/ 316 - 317): والمسيح- عليه السلام لم يخلق من ماء رجل، بل لما نفخ روح القدس في أمه حبلت به، وقال الله كن فيكون، ولهذا شبهه الله بآدم في قوله:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].

فإن آدم- عليه السلام خلق من تراب وماء، فصار طينًا، ثم يبس الطين، ثم قال له: كن فكان، وهو حين نفخ الروح فيه صار بشرًا تامًّا، لم يحتج بعد ذلك إلى ما احتاج إليه أولاده بعد نفخ الروح، فإن الجنين بعد نفخ الروح يكمل خلق جسده في بطن أمه، فيبقى في بطنها نحو خمسة أشهر، ثم يخرج طفلاً يرتضع، ثم يكبر شيئًا بعد شيء. وآدم- عليه السلام حين خلق، خلق جسده، قيل له كن بشرًا تامًّّا بنفخ الروح فيه، ولكن ولم يسم كلمة الله؛ لأن جسده خلق من التراب والماء، وبقي مدة طويلة- يقال: أربعين سنة، فلم يكن خلق جسده إبداعيًّا في وقت واحد، بل خلق شيئًا فشيئًا، وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة.

وأما المسيح- عليه السلام فخلق جسده خلقًا إبداعيًّا بنفس روح القدس في أمه، قيل له: فيكون، فكان له من الاختصاص بكون خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر، ومن الأمر المعتاد في لغة العرب وغيرهم أن الاسم العام إذا كان له نوعان خصت أحد النوعيين باسم وأبقت الاسم العام مختصًّا بالنوع، كلفظ الدابة والحيوان فإنه عام في كل ما يدب، وكل حيوان، ثم لما كان للآدمي اسم يخصه بقي لفظ الحيوان يختص به البهيم، ولفظ الدابة يختص به الخيل أو هي والبغال والحمير ونحو ذلك، وكذلك لفظ الجائز والممكن وذوي الأرحام، وأمثال ذلك، فلما كان لغير المسيح ما يختص به أبقي اسم الكلمة العامة مختصًّا بالمسيح.

ص: 2457

ومنهم (1) من قال: الآلهة ثلاثة: فصالح، وطالح، وعدل بينهما.

ومنهم (2) من قال: الابن مولود من الأب قبل كل الدهور، غير مخلوق، وهو من جوهره ونوره، وأن الابن اتخذ بالإنسان المأخوذ من مريم فصارا واحدًا وهو المسيح. إلى ذلك من الاختلافات المنسوب كل واحد منها إلى طائفة منهم. ثم كان يحدث في كل عصر قول يقوله بعض أساقفتهم أو بطاركتهم، فيشبع ذلك فيهم، ثم يجتمعون لأجله من جميع الأمكنة التي بها النصارى، فيبعثون من فيهم من الأساقفة والبطاركة فعند الاجتماع يختلفون ويضلل بعضهم بعضًا. وقل أن يجتمعوا مجمعًا إلا ويتفرقون على خلاف بينهم من دون اتفاق.

وإذا نظر من يفهم إلى أقوالهم المتحددة ومذاهبهم المختلفة وجد ذلك مستندًا إلى قضايا عقلية تختلف فيها العقول غاية الاختلاف، ولم يكن ذلك [2 ب] مستندًا إلى ما في الإنجيل، ولا إلى ما قاله المسيح- عليه السلام، فما زالوا في تباين واختلاف يقتل بعضهم بعضًا، ويعادي بعضهم بعضًا. وكان من يتقرب منهم إلى ملوك النصارى يحسن له ما يذهب إليه فيحل بمن خالفه السيف، وينزل به الهلاك. ولا يخلو من ذلك عصر من العصور منذ وقع الخلاف بعد انقراض عصر الحواريين، وهكذا ما زالوا بعد ظهور الملة الإسلامية- كثر الله عدادها، ونصرها على من خالفها- وجملة مذاهبهم التي استقرت خمسة:

مذهب الملكانية (3) وهم يقولون: إن معبودهم ثلاثة أقانيم، وهي إقنيم الأب،

(1) ذكره أبو زهرة في محاضرات في النصرانية (ص 152).

(2)

انظر المصدر السابق.

(3)

قال الشهرستاني في «الملل والنحل» (1/ 266): هم أصحاب ملكا الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها.

وقيل أن ذلك خطأ

وإنما هي الملكية نسبة إلى المذهب الذي اعتنقه ملوك الرومان النصارى وهو: أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين في أقنوم واحد.

وقد مر هذا المذهب بعدة مراحل، حيث بدأ إقراره في مجمع نيقية سنة 325 م بتأييد الملك قسطنطين لمذهب تعدد الآلهة واعتبار المسيح ابنًا وإلهًا مستقلاً، ثم في مجمع القسطنطينية الأول سنة 381 م، تحددت هوية الثالوث النصراني بالأب والابن في المسيح طبيعتين- خلافًا لليعقوبية- وحيث إن الذي دعا إلى هذا المجمع هو الملك (الإمبراطور) الروماني وتأييده لمذهب ازدواج الطبيعتين فقد أطلق عليه المذهب الملكي أو الملكاني.

ثم أضيف إلى هذا المذهب القول بأن المسيح له طبيعتان ومشيئتان في مجمع القسطنطينية الثالث سنة 680 م خلافًا للمارونية القائلين بأن المسيح له طبيعتان ومشيئة واحدة.

وظلت الطوائف القائلة بمذهب الملكية (بالطبيعتين والمشيئتين) متفقة في آرائها إلى أن دب الخلاف بينها بشأن انبثاق روح القدس، أكان من الأب وحده؟ أم من الأب والابن معًا؟ ولأجل ذلك عقد مجمع القسطنطينية الرابع سنة 869 م ونتج عنه انفصال الكنيسة الشرقية رئاسة ومذهبًا واسمًا عن الكنيسة الغربية (مذهب الملكية) حيث أصبحت الكنيسة الشرقية تسمى بكنيسة الروم الأرثوذكسية أو اليونانية، وأتباعها يعتقدون بأن روح القدس منبثق عن الأب وحده، وأكثرهم في الشرق باليونان وتركيا وروسيا، وغيرها، ولهم بطاركة أربعة:

1 -

بطريرك القسطنطينية وهو كبيرهم.

2 -

بطريرك الإسكندرية للروم الأرثوذكس.

3 -

بطريرك أنطاكية.

4 -

بطريرك أورشليم- القدس-، كما تميزوا باعتقادهم أن الإله الأب أفضل من الإله الابن، وتحريم الدم والمنخنقة وإيجاب استخدام الخبز في العشاء الرباني وغير ذلك.

أما الكنيسة الغربية اللاتينية فتسمى بالكنيسة البطرسية- نسبة إلى بطرس رئيس الحواريين- الكاثوليكية (نسبة إلى كاثوليك وهي كلمة يونانية ومعناها العالمي أو العام، وهو اصطلاح استخدمته الكنيسة في القرن الثاني الميلادي) ويرأسها البابا بالفاتيكان في روما، ويعتقد أتباعها أن الروح القدس منبثق عن الأب معًا، وبالمساواة الكاملة بين الأب والابن، وإباحة الدم والمنخنقة واستخدام الفطير بدلاً من الخبز في العشاء الرباني، وتتميز الكنيسة الكاثوليكية بعدة سمات بارزة منها: استعمال اللغة اللاتينية، والبخور، واتخاذ الأيقونات والمصورات البارزة التقويم الخاص وغير ذلك، وينتشر أتباعها في معظم بلاد العالم لما لها من النفوذ والمال.

ثم حدث انشقاق آخر بداخل الكنيسة الكاثوليكية عندما ظهر دعاة الإصلاح الكنسي في أوائل القرن (16 م) بتخليص الكنيسة من مظاهر الفساد، ومن أبز هؤلاء الدعاة: مارتن لوثر الألماني سنة 1546 م، وزونجلي السويسري سنة 1531 م، وكلفن الفرنسي سنة 1564 م، الذين احتجوا على فساد الكنيسة، فسمي مذهبهم (بالبروتستانتية) أي المحتجين، وقد سموا أنفسهم (بالإنجليين) وعلى كنيستهم (الكنيسة الإنجيلية) لدعواهم أنهم يتبعون الإنجيل ويفهمونه بأنفسهم دون الحاجة إلى البابوات، ومن أبرز مبادئهم:

إبطال الرئاسة في الدين، وصكوك الغفران والرهبنة، وتحريم التماثيل والصور في الكنيسة، وأن الخبز والخمر في العشاء الربان لا يتحولان إلى لحم المسيح ودمه، وإنما هو وسيلة رمزية وينتشر أتباعهم في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا الشمالية وغيرها.

وعندما ظهرت الحاجة إلى توحيد صف النصارى وجمع كلمتهم عقد في سنة 1563 م، مجمع (مؤتمر) عالمي في الفاتيكان بدعوة من البابا يوحنا الثالث والعشرين لأجل تحقيق الوحدة الدينية بين المذاهب النصرانية المختلفة ، فتساهلت بذلك الكنائس والمذاهب النصرانية المختلفة في الاعتراف للكنيسة الكاثوليكية بالتقدم عليها في الرئاسة لا بالسلطان.

ويزعم أتباع هذا المذهب أن الآلهة ثلاثة متميزون ومنفصلون: الأب، والابن، والروح القدس، ومع ذلك فهم شيء واحد في الطبيعة والذات، ويزعمون أن الكلمة (وهي أقنوم العلم وهي الابن) قد اتحدت بجسد المسيح، وأن مريم قد ولدت الإله والإنسان وأنهما شيء واحد، وأن الموت والصلب وقع على اللاهوت والناسوت معًا، وإليهم أشار القرآن بقوله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73].

انظر مزيد تفصيل: «الملل والنحل» (1/ 222 - 224)، «النصرانية» (ص 130 - 134) الطهطاوي.

ص: 2458

وإقنيم الابن، وإقنيم روح القدس، وهذه الأقانيم الثلاثة وهو جوهر قديم.

والفرقة الثانية النسطورية (1)، وهم يوافقون الملكانية في الجملة، وإن اختلفوا في بعض

(1) النسطورية: نسبة إلى نسطوريوس الذي ولد بسوريا (380 م- ت451 م) - وقد أخطأ الشهرستاني في قوله: إن نسطور الملقب بالحكيم ظهر في زمان المأمون- وقد أصبح نسطور بطريكًا على القسطنطينية سنة 428 م، لمدة أربع سنين إلى أن أعلن مذهبه- الذي تأثر فيه بأستاذه ثيودور المبسوستيائي ت 428 م- بأن مريم العذراء أم المسيح الإنسان وليت والدة الإله، ولذلك كان إثبات أحدهما الإنسان الذي هو مولود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي يقول إنه المسيح بالمحبة متوحد مع ابن الإله، ويقال له: الإله وابن الإله، ليس على الحقيقة ولكن على المجاز.

ولما قال نسطور مقالته تلك كاتبه كيرس بطريرك الإسكندرية ويوحنا بطرير أنطاكية ليعدل عن رأيه ولكنه لم يستجب، فانعقد لذلك مجمع أفسدس وتقرر فيه: وضع مقدمة قانون الإيمان، وأن مريم العذراء والدة الله، وأن للمسيح طبيعتان لاهوتية وناسوتية في أقنوم واحد، وتقرر أيضًا خلع نسطور من الكنيسة ولعنه ونفيه إلى مصر.

ويذكر المؤرخ ابن البطريق في التاريخ (ص 152)، وأن مقالة نسطور قد اندثرت فأحياها من بعده بزمان طويل برصوما (ت 490 م) مطران نصيبين في عهد قباذ بن فيروز ملك فارس، وثبتها في الشرق وخاصة أهل فارس، فلذلك كثرت النسطورية بالمشرق وخاصة أرض أهل فارس بالعراق والموصل ونصيبين والفرات والجزيرة.

وهذا يفسر لنا سبب انحراف النسطوريين عن مقالة نسطور الأصلية فقد مالوا إلى القول بامتزاج اللاهوت (ابن الإله) في الناسوت، وبأن المسيح أقنومان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة، وإليهم أشار القرآن الكريم بقوله: قال تعالى: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30 - 31]. ولا تزال توجد منهم جماعات متفرقة في آسيا وخاصة في العراق وإيران والهند والصين ومع أن الكنيسة الكاثوليكية أدخلتهم في حظيرتها إلا أنهم لا يزالون ينكرون عبادة مريم.

- وكان لأتباع النسطورية تأثير بالغ في ظهور الفرق المنتسبة إلى الإسلام وخصوصًا الغلاة منها التي ظهرت في المشرق، فقد تأثر الشيعة بعقائدهم وخاصة حلول اللاهوت في الإمام أو أن الإمام له طبيعة إلهية.

وكان لهم شأن خطير في ترجمة كتب اليونان وخاصة كتب الفلسفة التي أفسدت عقائد المسلمين وسربت إليهم الأفكار المنحرفة التي تأثرت بها فرقة المعتزلة تأثرًا كبيرًا وخاصة في تحكيم العقل والقول بنفي القدر ....

انظر: «الفصل» (1/ 111)، «الملل والنحل» (1/ 244، 245)، «محاضرات في النصرانية» (ص 157 - 159) لأبي زهرة.

ص: 2460

التفاصيل.

والفرقة الثالثة اليعقوبية (1)، وهم يوافقون الملكانية فيما تقدم، ويخالفونهم في بعض

(1) اليعقوبية: أتباع المذهب القائل بأن المسيح طبيعة واحدة- من طبيعتين لاهوتية وناسوتية- ومشيئة واحدة. المونوفيزتية.

وأول من قال به أوطاخي (أوتكيس) وهو رئيس دير بالقرب من القسطنطينية، وقد أنكر هذا القول (فلافيان) بطريرك القسطنطينية وعقد مجمعًا محليًّا لإنكار هذه المقالة وحرمان قائلها أوتيكس من الكنيسة، إلا أن الراهب لجأ إلى بطريق الإسكنرية ديسقورس، الذي أقنع الإمبراطور ثودوسيوس الصغير بعقد مجمع أقسس الثاني سنة 449 م برئاسة ديسقورس، وصدر قرار المجمع بإعلان مذهب الطبيعة الواحدة ولعن من يخالفه، إلا أن هذا الأمر أغضب البابا (ليو الأول) الذي أطلق على المجمع السابق اسم (مجمع اللصوص) وعقد مجمعًا آخر من خلقيدونية سنة 451 م، قرر فيه تأييد ازدواج طبيعة المسيح وإبطال قرار المجمع السابق، ولعن ديسقورس ومن شايعه ونفيه إلى فلسطين، ومن هذا المجمع افترق النصارى إلى ملكية ممن تبعوا مذهب مرقيانوس- إمبراطور الروم الذي أمر بانعقاد المجمع- ويعقوبية على مذهب ديسقورس المنفي.

وقد اشتهر تسمية أتباع المذهب باليعقوبيين إلى يعقوب البرادعي الذي ظهر في القرن 6 م، فكان داعية لهذا المذهب بليغ الأثر، جزئيًّا في الجهر.

وقيل: نسبة إلى ديسقورس الذي كان اسمه قبل بطريكيته (يعقوب) فكان يكتب- وهو في منفاه- إلى أصحابه أن يثبتوا على أمانة المسكين المنفي يعقوب.

وقد أخذت بهذا المذهب ثلاث كنائس من الكنائس التي سمت نفسها (الأرثوذكسية) وهي كلمة يونانية معناه (الرأي الصحيح أو المستقيم) وقد استخدم القساوسة اليونانيون هذا الاصطلاح في القرن الرابع الميلادي- وهذه الكنائس الثلاث هي:

1 -

الكنيسة الأرثوذكسية في مصر والحبشة.

2 -

الكنيسة الأرثوذكسية السريانية ويتبعها كثير من مسيحي آسيا.

3 -

الكنيسة الأرثوذكسية والأرمنية موطنها أرمنيا. (من بلاد روسيا).

وأصحاب هذا المذهب يزعمون أن مريم ولدت الله- تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- وأنه صلب متجسدًا وسمر ومات ودفن ثم صعد إلى السماء، وإليهم أشار القرآن الكريم: قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17، 72].

«الخطط» للمقريزي (2/ 488)، «قصة الإيمان» لنديم الجسر (ص 12، 96، 102، 103، 233).

ص: 2461

المعتقدات، وهذه الثلاث الفرق يتفقون أن المسيح نزل من السماء فتذرع حسدًا وظهر

ص: 2462

للناس يحيى ويبرئ، ويزعمون أن صلب وقتل، وخرج من القبر لثلاث، وظهر تقدم من أصحابه فعرفوه حق المعرفة، ثم صعد إلى السماء. وعباراتهم مختلفة عن هذا المعنى الذي اتفقوا عليه اختلافًا كثيرًا.

والفرقة الرابعة البوذعانية، وافقوا الثلاث الفرق المتقدمة في بعض، وخالفوهم في بعض.

والفرقة الخامسة المرقولية (1) الثنوية: هؤلاء أصحاب الاثنين أزليين، يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس فإنهم قالوا بحدوث الظلام وذكروا سبب حدوثه.

وهؤلاء قالوا بتساويهما في القدم، واختلافهما في الجوهر والطبع والفعل والحيز والمكان والأجناس والأبدان والأرواح.

ومن فوقهم: المانوية، المزدكية، الديصانية، المرقيونية، الكينوية، الصيامية، التناسخية.

* المرقيونية: قال ابن النديم في الفهرست (ص 474): هم أصحاب مرقيون وهم قبل الديصانية، طائفة من النصارى- ولعلها التي ذكرها الشوكاني-.

المرقيونية: أثبتوا اصلين قديمين متضادين: أحدهما: النور، والثاني: الظلمة. وأثبتوا أصلاً ثالثًا هو المعدل الجامع، وهو سبب المزاج، فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان إلى بجامع، وقالوا: إن جامع دون النور في المرتبة، وفوق الظلمة، وحصل من الاجتماع والامتزاج هذا العالم ومنهم من يقول: الامتزاج إنما حصل بين الظلمة والمعدل؛ إذ هو أقرب منها. فامتزجت به لتطيب به، وتلتذ بملاذه، فبعث النور إلى العالم الممتزج روحًا ومسيحية وهو روح الله وابنه، تحننًا على المعدل الجامع السليم الواقع في شبكة الظلام الرجيم، حتى يخلصه من حبائل الشياطين، فمن اتبعه فلم يلامس النساء، ولم يقرب الزهومات أفلت ونجا. ومن خالفه خسر وهلك.

«الملل والنحل» (1/ 298).% القائلين بالنور والظلمة، ومنهم من ذهب إلى مذهب الحكماء، ومنهم

(1) قال الشهرستاني في «الملل والنحل» (1/ 265 - 266): «افترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة وكبار فرقهم ثلاثة: الملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، وانشعبت منها: الإلبانية، والبليارسية، المقدانوسية، والسبالية، والبوطينوسية، والبولية.

وانظر: «محاضرات في النصرانية» (ص 152 - 153) لأبي زهرة. «تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب» (ص 121 - 126) لأبي محمد عبد الله الترجماني الميورقي. (ت سنة 832 هـ).%، وهم زهادهم، وقد تلاعب بهم الشيطان، فمنهم من صار من الثنوية

ص: 2463

من وافق الصابئة مع اعترافهم بنبوة المسيح- عليه السلام.

فانظر كيف كان أمر الملة اليهودية والنصرانية قبل حدوث الرأي، وما صاروا إليه من الضلال البين، والتلاعب بدينهم بعد أن علموا بالرأي، وقلدوا في دين الله.

وفي هذا معتبر لك عاقل، وموعظة لكل ذي فهم. فالحاصل أن الرأي هو الذي غير الشرائع بعد أن كانت صحيحة مستقيمة لا عوج بها. والمهدي من هداه الله- عز وجل وفي هذا المقدار كفاية. قاله كاتبه- غفر الله له [3 ا]-.

ص: 2464