المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٥

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌ الفقه وأصوله

- ‌التشكيك على التفكيك لعقود التفكيك

- ‌القول المفيد في حكم التقليد

- ‌بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد

- ‌بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق

- ‌رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام

- ‌بحث في العمل بقول المفتي صحّ عندي

- ‌بحث في الكلام على أمناء الشريعة

- ‌بَحْثٌ في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده

- ‌رفع الجناح عن نافي المباح

- ‌جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله

- ‌بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي

- ‌الدرر البهية في المسائل الفقهية

- ‌بحث في دم الخيل ودم بني آدم هل هو طاهر أن نجس

- ‌جواب سؤال في نجاسة الميتة

- ‌جواب في حكم احتلام النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح

- ‌ بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود

- ‌بحث في أن السجودَ بمجرّده من غير انضمامه إلى صلاةٍ عبادةٌ مستقلةٌ يأجر اللهُ عبده عليها

- ‌كشف الرين في حديث ذي اليدين

الفصل: ‌بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد

‌بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حقَّقته وعلَّقت عليه وخرَّجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

ص: 2253

وصف المخطوط:

1 -

موضوع الرسالة: أصول فقه.

2 -

عنوان الرسالة: «بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد» .

3 -

المؤلف: الإمام: محمد بن علي الشوكاني.

4 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والتسليم على الرسول الأمين، وعلى آله الطيبين المطهرين، وصحبه الأكرمين. وبعد.

فإن جماعة من المشتغلين بالفروع في عصرنا هذا، صاروا

5 -

آخر الرسالة: حرر من خط مؤلفه حماه وأبقاه، وفسح له في مدته، وأفاض على العباد من كثير فوائده، ونفع به آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

6 -

نوع الخط: خط نسخي معتاد.

7 -

عدد الأوراق: /6/ أوراق. ?

الورقة الأولى: عنوان الرسالة، واسم المؤلف، وأبيات من الشعر. ?

الورقة الثانية: (أ): (21) سطرًا. ?

الورقة الثالثة: (ب): (24) سطرًا. ?

الورقة الثالثة: (أ): (25) سطرًا. ?

الورقة الثالثة (ب): (24) سطرًا. ?

الورقة الرابعة (أ): 27) سطرًا. ?

الورقة الرابعة: (ب): (26) سطرًا. ?

الورقة الخامسة: (أ): (26) سطرًا.

ص: 2255

الورقة الخامسة: (ب): (23) سطرًا. ?

الورقة السادسة (أ): (20) سطرًا. ?

الورقة السادسة (ب): (21) سطرًا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: (9 - 11) كلمة.

9 -

تاريخ نسخ الرسالة: في شهر ربيع الآخر سنة /1344هـ/.

ملاحظة:

وجد على صفحة العنوان ما يلي:

[بسم الله الرحمن الرحيم

هذه الرسالة المسمَّاة: «بغية المستفيد في الرد من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد» .

من أنظار شيخنا وإمامنا البدر العلامة الرباني محمد بن علي الشوكاني أطال الله بقاءه وحماه وتولاه، ومن كل سوء وشر وقاه .. آمين اللهم آمين آمين آمين.- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا-.

وله (1) حماه الله:

العلم ما أوصل أربابه

إلى انكشاف الحق رأيا لعين

وما عدا هذا فمحصوله

ظنٌّ وكل العلم للمرء زين

فهب لي العلمين ياوا

هب الجزل ويا كشاف غين وزين (2)] (3)

(1) أي للإمام الشوكاني- رحمه الله.

(2)

انظر ديوان الشوكاني (ص 336 - 337).

(3)

ما بين المعقوفتين على صفحة عنوان المخطوط.

ص: 2256

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والتسليم على الرسول الأمين، وعلى آله الطيبين المطهرين، وصحبه الأكرمين.

وبعد:

فإنّ جماعة من المشتغلين بالفروع في عصرنا هذا صاروا يشتغلون بأمور يزجرهم عنها نفس ما هم مشتغلون به من هذا العلم، فأردت تنبيههم على ذلك من باب المعاونة على البر والتقوى، والإرشاد إلى ما هو الأولى بهم، ليستعملوا من الأئمة، ويصفوا لهم مشرب الطلب، ويعملوا بالعلم الذي عرفوه، وقطعوا فيه أعمارهم. فثمرة العلم العمل، أرشدنا الله وإياهم إلى منهج الحق الذي يرضيه بحوله وجلاله آمين.

فالأمر الأول من تلك الأمور أنَّ أول ما يقرع أسماعهم من المختصر النفيس الذي هو مدرسهم ومحفوظهم، وهو مختصر الأزهار (1) هو قول مؤلفه (2) رحمه الله.

(1) الأزهار: الأزهار في فقه الأئمة الأطهار، تأليف: الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني. وهو مختصر من كتاب «التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة» للفقيه الحسن بن محمد المذحجي، ونقل عن ابن مفتاح أن مسائل الأزهار منطوقها ومفهومها تسعة وعشرون ألف مسألة، وقد تهافت عليه علماء الزيدية بالدراسة والشرح والحاشية والتعليق.

نقل في مطلع البدور في ترجمة السيدة دهماء (2/ 101) قصة في كيفية تأليفه هذا الكتاب ملخصها: أن المهدي ألفه في السجن لخوفه نسيان ما حفظه من الفقه، وهو العمدة في المذهب «الزيدي الهادوي» لذا قام بشرحه الجلال في كتاب (ضوء النهار) والشوكاني في كتابه «السيل الجرار» .

ومن المآخذ على هذا المختصر (الأزهار) أن جماعة من المتعصبة نظروا إليه على أنه المرجع الذي لا تجوز مخالفة ما فيه.

انظر: «مؤلفات الزيدية» (1/ 112 - 113)، «البدر الطالع» (1/ 122 - 126).

(2)

هو أحمد بن يحيى بن المرتضى بن مفضل بن منصور بن مفضل بن حجاج بن علي بن يحيى بن القاسم ينتهي نسبة إلى علي بن أبي طالب.

ولد بمدينة ذمار يوم الاثنين لعله سابع شهر رجب سنة 764هـ توفي سنة 840هـ له مؤلفات منها: «الأزهار» و «البحر الزخار» و «طبقات المعتزلة» و «منهاج الوصول إلى شرح معيار العقول» . انظر: «البدر الطالع» (1/ 122 - 126).

ص: 2261

فصل: «التقليد جائز لغير المجتهد لا له، ولو وقف على نصِّ أعلم منه» (1) اهـ وهذا قد دل دلالة أوضح من شمس النهار على أن التقليد لا يجوز لرجل قد بلغ رتبة (2)

(1) انظر: شرح الأزهار لابن مفتاح (1/ 6).

(2)

محل النزاع أمور ثلاثة:

أولًا: أنه المجتهد إذا فرغ من الاجتهاد في مسألة معينة، وغلب على ظنه حكم فإنه لا يجوز له أن يقلد غيره من المخالفين له في الرأي، ويترك نظر نفسه، ويعمل بنظر غيره، هذا بالاتفاق.

ثانيًا: إذا لم يجتهد بعد، ولم ينظر في المسألة، فإن كان عاجزًا عن الاجتهاد فإنه كالعامي يجوز له تقليد غيره، وهذا ليس مجتهدًا.

ثالثًا: إذا لم يجتهد بعد، ولم ينظر في المسألة لكنه ليس بعاجز عن الاجتهاد الجزئي، أي: هو متمكن من الاجتهاد في بعض الأمور، وعاجز عن الاجتهاد في البعض الآخر، ولا يقدر على هذا البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء كعلم النحو -مثلًا- في مسألة نحوية وعلم صفات الرجال وأحوالهم في مسألة خبرية وقع النظر فيها في صحة الإسناد.

فهذا من حيث حصوله على بعض العلوم واستقلاله بها يشبه المجتهد. ومن حيث أنه لم يصحل هذا العلم فيشبه العامي. فهل يلحق بالمجتهد أو بالعامي؟ فقد اختلف في ذلك على مذهبين:

أصح المذهبين: أنه يشبه العامي، لأنه كما أن المجتهد يتمكن من تحصيل العلم الذي لم يحصله، كذلك يمكن للعامي أن يحصِّل العلم مع المشقة فلا فرق هنا.

رابعًا: إذا كان هناك مجتهد صارت عند العلوم حاصلة بالقوة القريبة من الفعل، دون أن يحتاج في تحصيله إلى تعب كثير لو بحث في مسألة معينة، ونظر في الأدلة استقل بها، ولا يفتقر إلى تعلم علم من غيره، فهل يجب على هذا الاجتهاد، أم يجوز له أن يقلد غيره؟ اختلفوا في ذلك على مذاهب.

المذهب الأول: ليس له تقليد مجتهد آخر مع ضيق الوقت، ولا سعته، لا فيما يخصه، ولا فيما يفتي به، لكن يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة كأحمد والشافعي ولا يفتي من عند نفسه بتقليد غيره.

وهو مذهب الأئمة الأربعة وذهب إليه الجمهور العلماء من فقهاء وأصوليين.

المذهب الثاني: يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا سواء كان أعلم منه أو مثله، وسواء كان م الصحة أو من غيره، مع ضيق الوقت أو سعته.

حكى هذا المذهب عن سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه وهو رواية عن الإمام أحمد.

المذهب الثالث: يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر أعلم منه إذا تعذر عليه الاجتهاد. ذهب إلى ذلك ابن سريج ونقله القاضي في التقريب عن محمد بن الحسن.

المذهب الرابع: يجوز للمجتهد أن يقلد الواحد من الصحابة إذا كان قد ترجح في نظره على غيره ممن خالفه، وإن استووا في نظره يخير في تقليد من شاء منهم ولا يجوز له تقليد من عداهم.

نقل هذا عن الشافعي في القديم.

المذهب الخامس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد الواحد من الصحابة والواحد من التابعين دون من عداهم.

المذهب السادس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر فيما يخصه دون ما يفتي به.

المذهب السابع: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا إذا خشي أن يفوت الوقت ولو اشتغل بالاجتهاد.

ولكل واحد من تلك المذاهب أدلة وتعليلات ولكن الراجح هو المذهب الاول وهو: أنه لا يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا.

انظر: «البحر المحيط» (6/ 285 - 288)، «المستصفى» (2/ 384)«جمع الجوامع» (2/ 393)«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (20/ 204)«البرهان» للجويني (2/ 1339).

ص: 2262

الاجتهاد (1) لمجتهد مثله، وأعلم منه. وقد عرفوا ما وقع في شرح هذا المختصر الذي هو

(1) الاجتهاد لغة: بذل الوسع والطاقة، ولا يستعمل إلا فيما فيه جهد ومشقة.

يقال: اجتهد في حمل الرحى، ولا يقال: اجتهد في حمل النواة.

«المصباح المنير» (1/ 112)، «الكوكب المنير» (4/ 458).

الاجتهاد في الاصطلاح: «بذل الوسع في النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية» «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (11/ 264).

ضوابط اشتمل عليها هذا التعريف:

1 -

أن الاجتهاد هو بذل الوسع في النظر في الأدلة، فهو بذلك أعم من القياس إذ القياس هو إلحاق الفرع بالأصل، أما الاجتهاد فإنه يشمل القياس وغيره.

2 -

أن الاجتهاد لا يجوز إلا من فقيه، عالم بالأدلة وكيفية الاستنباط منها إذ النظر في الأدلة لا يتأتى إلا ممن كان أهلًا لذلك.

3 -

أن الاجتهاد قد ينتج عنه القطع بالحكم أو الظن به، وذلك ما تضمنه قيد «الاستنباط» .

4 -

وقد تضمن قيد «لاستنباط» أيضًا بيان أن الاجتهاد إنما هو رأي المجتهد واجتهاده، وذلك محاولة منه لكشف حكم الله، ولا يسمى ذلك تشريعًا، فإن التشريع هو الكتاب والسنة، أما الاجتهاد فهو رأي الفقيه أو حكم الحاكم.

انظر: «الكوكب المنير» (4/ 458)«الفقيه والمتفقه» (1/ 178)«إعلام الموقعين» (4/ 212 - 214).

ص: 2263

مدرسهم، وهو شرح ابن مفتاح (1) رحمه الله أن علوم الاجتهاد خمسة، من عرفها على الصفة التي بينها ذلك الشارح (2)، وأوضحها أهل الحواشي عليها صار مجتهدًا،

(1) هو عبد الله بن أبي القاسم بن مفتاح أبو الحسن الزيدي من موالي بني الحجّي. وهو شارح الأزهار الشرح الذي عليه اعتماد الطلبة وله مؤلفات:» شرح الأزهار المسمى بالمنتزع المختار من الغيث المدرار» وهو مختصر من الشرح الكبير للإمام المهدي المسمِّى بالغيث. توفي سنة 877هـ. وقبره يماني صنعاء.» البدر الطالع» رقم (266).

(2)

ابن مفتاح في «شرح الأزهار» (1/ 7 - 10): وإنما يتمكن من ذلك من جمع علومًا خمسة:

أولها: علم العربية من نحو وتصريف ولغة ليتمكن من معرفة معاني الكتاب والسنة.

ثانيهما: علم الآيات المتضمنة للأحكام الشرعية وقد قدرت خمسمائة آية. قال عليه السلام: أعني التي هي واردة في محض الأحكام وتؤخذ من ظواهرها وصرائحها.

فأما ما يستنبط من معاني سائر القرآن من الأحكام فإنها كثيرة وسيعة كما فعل الحاكم إلا أنها غير مشروطة في كمال الاجتهاد بالاتفاق، ولا يجب في الخمسمائة أن تحفظ غيبًا بل يكفي أن يكون عارفًا بمواضعها من السور بحيث يتمكن من وجدانها عند الطلب من دون ان يمضي على القرآن جميعًا.

ثالثها: أن يكون عارفًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يلزم الإحاطة بل يكفيه كتاب فيه أكثر ما ورد من الحديث في الأحكام.

رابعها: المسائل اليت وقع الإجماع عليها من الصحابة والتابعين وغيرهم التي تواتر إجماع مجتهدي هذه الأمة عليها.

قال عليه السلام: إلا أنها قليلة جدًا: أعني التي نقل الإجماع فيها بالتواتر، قال: وقد تصفحناها فوجدنا أكثرها مستندًا إلى آية صرية أو خبر متواتر صريح فيستغني عن كثير منها أي من الإجماعات بمعرفة ذلك المستند وهو يكون موجودًا في الآيات والأحاديث التي اعتبر معرفتها فلا يخرج عن ذلك إلا القليل فحفظها يسير غير عسير بعد هذا التنبيه الذي أوضحناه لكن ينبغي حفظ ذلك القليل أبلغ مما مرَّ حذرًا من الخطر في مخالفة الإجماع.

خامسها: علم أصول الفقه لأنه يشتمل على معرفة حكم العموم والخصوص والمجمل والمبين، وشروط النسخ، وما يصح نسخه ومالا يصح، وما يقتضيه الأمر والنهي من الوجوب وغيرها وأحكام الإجماع وشروط القياس» اهـ.

ص: 2264

فكيف بمن عرفها وعرف زيادة عليها كما نعرفه من جماعة من عملاء العصر! ويعرفه من يعرف هذه العلوم - كما ينبغي! فإن الله - وله الحمد والمنة - قد أود في عصرنا هذا كثيرًا من العلماء القائمين بعلوم [1أ] الاجتهاد على الوجه المعتبر، بل عرفت فيمن أدركته من شيوخي والمعاصرين لهم من لديه من كل علم من العلوم الخمسة التي ذكرها ذلك الشارح أضعاف أضعاف ما اعتبره من كل واحدٍ منها، بل وفيهم من يعرف علومًا آخرة غير تلك العلوم، كثيرة العدد، ثم في أهل عصرنا - أبقاهم الله- من لا يقصر عن أولئك، وكل من له معرفة بهذه العلوم يقر بهذا ولا ينكره، ويعترف به ولا يجحده، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل أولو الفضل. وإذا كان الأمر هكذا فمعلوم أنه لا يجوز (1) لواحد من هؤلاء أن يقلد غيره من المجتهدين (2) كائنًا من كان، سواءً من الأموات

(1) لا يجوز لمجتهد تقليد مجتهدٍ آخر، لا ليعمل ولا ليقضي ولا ليفتي به، سواء خاف الفوت لضيق الوقت أو لا».

أنظر:» مختصر ابن الحاجب والعضد عليه» (2/ 300).» الإحكام» للآمدي (4/ 204 - 222)

(2)

ينقسم الاجتهاد بالنظر إلى أهله إلى اجتهاد مطلق واجتهاد مقيد، وفي هذين القسمين تجتمع أقسام

ص: 2265

(1)

(1) المجتهدين الأربعة التي ذكرها ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/ 212 - 214) وهي:

1 -

مجتهد مطلق: وهو العالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة، يجتهد في أحكام النوازل يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت.

فهذا النوع هم الذين يسوغ لهم الإفتاء والاستفتاء، وهم المجددون لهذا الدين القائمون بحجة الله في أرضه.

2 -

مجتهد مقيد في مذهب من أئتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، من غير أن يكون مقلدًا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهد والفتيا، ودعا إلى مذهبه ورتِّبه وقرره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معًا.

3 -

مجتهد مقيد في مذهب من انتسب إليه، مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه عالم بها، لا يتعدى أقواله وفتاويه، ولا يخالفها، وإذا وجد نصَّ إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة.

بل نصوص إمامه عنده كنصوص الشارع، قد اكتفى بها من كلفة التعب والمشقة، وقد كفاه إمامه استنباط الأحكام ومئونة استخراجها من النصوص.

وشأن هؤلاء عجيب، إذ كيف أوصلهم اجتهادهم إلى كون إمامهم أعلم من غيره، وأن مذهبه هو الراجح، والصواب دائر معه، وقعد بهم اجتهادهم عن النظر في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم واستنباط الأحكام منه وترجيح ما يشهد له النص.

4 -

مجتهد في مذهب من انتسب إليه، فحفظ فتاوى إمامه، واقَّر على نفسه بالتقليد المحض له، من جميع الوجوه، وذكر الكتاب والسنة عند يكون على وجه التبرك والفضيلة لا على وجه الاحتجاج به والعمل بل إذا رأى حديثًا صحيحًا مخالفًا لقول من انتسب إليه أخذ بقوله وترك الحديث، فليس هند هؤلاء سوى التقليد المذموم.

وينقسم الاجتهاد بالنظر إلى المجتهد من حيث استيعابه للمسائل أو اقتصاره على بعضها إلى مجتهد مطلق ومجتهد جزئي.

فالمجتهد المطلق: هو الذي بلغ رتبة الاجتهاد بحيث يمكنه النظر في جميع المسائل.

والمجتهد الجزئي: هو الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل وإنما بلغ هذه الرتبة في مسالة معينة أو باب معين أو فن معين وهو لم يخط بما عدا ذلك.

وقد اختلف العلماء في جواز تجربة الاجتهاد، والذي عليه المحققون من أهل العلم جوازه وصحته. انظر:«إعلام الموقعين» (4/ 216) و «مجموع الفتاوى» (20/ 204 - 212)«روضة الناظر» (2/ 406، 407).

ص: 2266

أو الأحياء، بل الواجب على كل واحد منهم أن يجتهد في جميع عباداته ومعاملاته، بحسب ما يترجح له بعد إعطاء النظر حقه، فما بال المشتغلين بالفروع -عافاهم الله- إذا سمعوا عن واحد من هؤلاء المجتهدين أنه قال أو فعل خلاف ما في الأزهار ينكرون ذلك عليه أشد إنكار! وهم يعلمون أنه ما فعل إلا ما هو واجبٌ عليه بنص الأزهار، وما ترك إلا ما لا يجوز له بنص الأزهار، فكيف وقعوا في هذه الورطة التي هي من الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف! وما هو الذي حملهم على هذا وأوقعهم في مخالفة ما يدعون الناس إليه، مع إكبابه عليه، ومعرفتهم له، وقطع أعمارهم في درسه وتدريسه؟ فهل سمعت بأعجب من هذا أو أغرب منه!؟ وهو أول درس يدرسه التلميذ عن شيخه، وأول بحث تقع عينه عليه من هذا الكتاب، فكيف غفلوا عنه ولم يعلموا ما يقتضيه! وصاروا ينكرون على من عمل به مع كونهم يقرون على أنفسهم بأنهم مقلدون! وقد عرفوا في هذا الكتاب الذي هو مدرسهم أن التقليد قبول قول الغير من دون حجة، وأن المقلّد هو الذي يقبل قلو الغير ولا يطالبه بحجة، فما بالهم (1)[1ب] لم يقبلوا قول هذا الإمام الذي صرح به في أول كتابه، وخالفوه في أول بحث ذكره في كتابه هذا وما أظنه ينكر هذا فرد من أفرادهم، ولا يأباه من قد عرف أول بحث من أبحاث هذا الكتاب منهم. فما يقول علماء الفروع -كثر الله فوائدهم- هل هذا الذي تعرض للاعتراض على المجتهدين آمر بالمنكر وناه عن المعروف أم لا؟ وهل يستحق العقوبة الشرعية إذا لم يتب أم لا؟ وهل يجوز السكوت عنه. مع استمراره على هذه المعصية أم لا؟ ولا يطلب منهم إلا لجواب مقتضى ما في الأزهار.

الأمر الثاني: أنهم يتعرّضون في مسائل الخلاف، وقد عرفوا أنَّ في الأزهار التصريح

(1) في الأصل مكرر.

ص: 2267

بأن كل مجتهد مصيب (1) فإن قالوا هذا الإنكار منهم واقع على ما يقتضيه المذهب فهو باطل، فالمذهب هو المصرح به في الأزهار. وإن قالوا إنه لا على مقتضى المذهب فما هو الذي استندوا إليهن وعلموا أنه مع اعترافهم بانهم مقلدون، وأن غاية علمهم هو ما في هذا المختصر كما يعلمون ذلك، ويعلمه كل من يعرفهم على أنهم يعترفون بأن عهدتهم قبول قو من يقلدونه من دون أن يطالبوا بحجة؟ فما بالهم ها هنا خرجوا عن علمهم، وخالفوا ما قد التزموه! وهل يعترفون بأن وقوع هذا منهم منكر أم لا؟ فإن كانوا يعترفون فكيف يرضون لأنفسهم بفعل المنكر! وهم يعلمون أن فاعل المنكر يحب الإنكار عليه ودفعه عن ذلك ولو بالقلب (2)، وإن كاننوا لا يعترفون بذلك فما هو الذي استندوا إلى غير فما بالهم تركوا مذهبهم الذي التزموه ونشؤوا عليه! ثم يقول لهم: اخبرونا ما هو ا لذي استندتم إليه إن كان على طريق التقليد؟ فكيف جاز لكم ترك مذهبكم وتقليد غيره؟! وهل ها مما يجوز عندكم أم لا؟ وإن قالوا ليس ذلك على طريق التقليد قلنا لهم أنتم تعترفون على أنفسكم بأنكم مقلدون، ولو تنزَّلنا معكم وقلنا إن الله قد فتح عليكم بعلوم الاجتهاد فهو القادر على كل شيء، فأخبروا ما هو الذي دلكم على [2أ] الوقوع في هذا الأمر حتى نتكلم معكم بالأدلة، ونوضح لكم الأمر على حقيقته بعد اعترافكم بأنكم تركتم التقليد بعد وجود المسوغ؟

الأمرالثالث: من تلك الأمور: أنه قد تقرر أن التقليد إنما هو في المسائل الفرعية (3)

(1) تقدم مرارًا.

(2)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (49) وأبو داود رقم (1140، 4340) والترمذي رقم (2173) والنسائي (8/ 111) وابن ماجه رقم (4013) عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» من رآى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». وهو حديث صحيح.

(3)

لا خلاف بين أهل العلم في أن المجتهد - الذي توفرت الشروط في اجتهاده- إذا أصاب الحق له أجران، للحديث المتقدم، لكن المسألة التي وقع فيها نزاع بين العلماء هي: هل المجتهد - الذي توفرت الشروط في اجتهاده- المخطئ للحق، المخالف للصواب، معذور أو لا؟ وهل يأثم أولا يأثم؟.

مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنه والتابعين لهم بإحسان: أنهم لا يكفرون، ولا يفسقون، ولا يؤثمون أحدًا من المجتهدين المخطئين لا في مسألة فرعية ولا عملية، ولا في الأصول ولا في الفروع ولا في القطعيات ولا في الظنيات. انظر:» مجموع الفتاوى» (19/ 207، 123، 142، 213، 216) وذلك له ضوابط منمها:

1 -

أن يكون مع هذا المجتهد المخطئ مقدار ما من الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم أما من لم يؤمن أصلًا فهو كافر، لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد، لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة. ولأن العذر بالخطأ حكم شرعي خاص بهذه الأمة.

2 -

أن يكون ذا نية صادقة في إرادة الحق والوصول إلى الصواب، أما أهل الجدل والمراء، وأصحاب الأغراض السيئة والمقاصد الخبيثة فلكل منهم ما نوى، والحكم في ذلك للظاهر والله يتولى السرائر.

3 -

أن يبذل المجتهد وسعه ويستفرغ طاقته، ويتقى الله ما استطاع ثم إن أخطأ لعدم بلوغ الحجة، أو لوجود شبهة، أو لأجل تأويل سائغ، فهو معذور ما لم يفرط. أما إن فرّط في شيء من ذلك فلم تبلغه الحجة بسبب تقصيره أو بلغته لكنه أعرض عنها لشبهة يعلم فسادها، أو تأوّل الدليل تأويلًا لا يسوغ فإنه والحالة كذلك لا يعذر، وعليه من الإثم بقدر تفريطه.

انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 207 - 212) و (6/ 56 - 61). «منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد» (1/ 246 - 249).

ص: 2268

العملية، فهل هذا الذي وقعتم فيه من الاعتراض على أن اجتهادات المجتهدين مما يشرع في المذهب أم لا؟ إن قلتم لا يسوغ فما هو الحامل لكم مع كونكم من أهل التقليد على ترك ما أنتم فيه من التقليد في المسائل الفرعية، والرجوع إلى مثل هذا الإنكار الذي هو فرع كون المجتهد قد فعل باجتهاده منكرًا؟ وأنتم تعلمون، ويعلم كل من يعرف العلم أنّ هذا ليس من المسائل الفرعية العلمية، بل يعلمون أن بعض العملي لا يجوز التقليد فيه، وهو المترتب على علمي كما هو مصرّح به في الأزهار (1). فأخبرونا من هو الفاعل

ص: 2269

للمنكر الذي لا خلاف فيه، هل المجتهد الذي أنكرتم عليه اجتهاده مع كونه لم يخالف الأزهار، أم الفاعل المنكر هو أنتم مع كونكم مخالفين لما في الأزهار بلا شك ولا شبهة؟ ثم أخبرونا هل إنكاركم هذا هو من فعل المنكر، وانتم مرتكبون للمنكر، وأنه يجب الإنكار عليكم من كل قادر أم لا؟ إن قلتم: نعم نعم فما هو الذي حملكم على الدخول في هذا المنكر العظيم، والمحرم الوخيم؟ وإن قلتم: لا فأخبرونا بما تمسكتم؟ وما هو الذي تستندون إليه مع مخالفته لمذهبكم؟ إن قلتم: قلتم اجتهدتم في تخطئه المجتهدين فأوضحوا لنا ما هو الذي أوجب عليكم الانتقال من التقليد إلى الاجتهاد؟ فإن الأدلة قاضية بان اجتهاد المجتهد متردد بين الخطأ والصواب (1)، وله مع الإصابة أجران كما ثبت في الحديث (2) الذي تلقته الأئمة بالقبول، ولم يختلفوا في صحته، بل له عشرة أجور (3) كما ثبت في أحاديث تنتهض [2ب] بمجموعها. وله مع الخطأ أجرٌ كما أفاده ذلك الحديث الصحيح.

فلو فرضنا أن المجتهد قد أخطأ في اجتهاده (4)، وأنكم تعرفون الخطأ في الاجتهاد، فكيف

(1) تقدم التعليق عليه.

(2)

تقدم تخريجه في الرسالة السابقة.

(3)

تقدم تخريجه في ارسالة السابقة

(4)

قد بوّب ابن عبد البر لذلك فقال: «باب ذكر الدليل من أقاويل السلف على أن الاختلاف خطأ وصواب

» وبعد أن ذكر آثارا في ذلك قال- رحمه الله» في جامع بيان العلم وفضله» (2/ 913): هذا كثير في كتب العلماء وكذلك اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم من المخالفين وما ردّ فيه بعضهم على بعض لا يكاد أن يحيط به كتاب فضلًا أن يجمع في باب، وفيما ذكرنا مه دليل على ما عنه سكتنا. وفي رجوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض ورد بعضهم على بعض دليل واضح على أن اختلافهم عندهم خطأ وصواب ولولا ذلك كان يقول كل واحد منهم: جائز ما قلت أنت، وجائز ما قلت أنا، وكلانا نجم يهتدي به، فلا علينا شيء من اختلافنا. (قال أبو عمر): والصواب مما اختلف فيه وتدافع وجه واحد، ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضًا في اجتهادهم وقضاياهم وفتواهم والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صوابًا كله.

ولقد أحسن القائل:

إثبات ضدين معًا في حالٍ

أقبح ما يأتي من المحال

«جامع بيان العلم وفضله»

ص: 2270

يجوز لكم أن تخالفوا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فإنه أثبت له أجرًا، وأنتم جعلتم ذلك منكرًا، ومزقتم عرضه، ووقعتم في إنكار المعروف الذي جاءنا به الشرع الصحيح، بل وأجمع عليه المسلمون أجمعون. ولا يخفاكم ما هو الحكم المقرر في الفروع في من خالف الإجماع، وخالف المقطوع به من الشرع، فما بالكم وقعتم في هذا البلاء العظيم، والخطب الجسيم! ومالكم ولهذا! وما حملكم عليه وأنتم في سعة وفي راحة عنه! فإنكم أولًا خالفتم مذهبكم مخالفة أوضح من شمس النهار، ثم خالفتم ما حكم به الشارع- صلى الله عليه وآله وسلم ثم خالفتم الإجماع، ووقعتم في إثم الغيبة، بل البهت الصراح، والكذب البواح، فاجرعوا عن هذه الغربة، وتوبوا إلى ربكم من هذه الجناية، وواجب على أهل العقول منكم أن يردوا أهل التلبيس إلى ما يحمل بأهل العلم، ويليق بمنصبه، وإلا كنتم كما قال القائل:

ومن جهلت نفسه قدره

رأى غيره منه مالا يرى

وكما قال آخر:

ص: 2271

ومن رام ما يعجز عنه طوقه

تقاصرت عنه فسيحات الخطى

الأمر الرابع تلك الأمور: أنكم تعلمون أن في الأزهار أنه لا إنكار في مختلف فيه على من هو مذهبه، فما بالكم أنكرتم على من اجتهد رأيه وعمل بما هو الصواب لديه ممن اجتهاداته في المسائل (1) الخلافية!.

(1) قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (14/ 159): «والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يُفض إلبى شرع عظيم م خفاء الحكم، ولهذا صنّف رجل كتابًا سماه كتاب الاختلاف فقال أحمد: سمه كتاب السعة وأن الحق في نفس الأمر الواحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى: {لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}» [المائدة: 101].

ومن الأحكام المترتبة على المسائل الاجتهادية:

1 -

أنه لا يجوز الإنكار على المخالف، فضلًأ عن تفسيقه أو تأثيمه أو تكفيره.

2 -

أن سبيل الإنكار إنما يكون ببيان الحجة وإيضاح المحجة.

3 -

أن المجتهد ليس له إلزام الناس باتباع قوله.

4 -

أن غير المجتهد يجوز له اتباع أحد القولين إذا تبينت له صحته، ثم يجوز له تركه إلى القول الآخر اتباعًا للدليل.

5 -

لا يصح للمجتهد أن يقطع بصواب قوله وخطأ من خالفه فيما إذا كانت المسألة محتملة.

6 -

أن الخلاف في المسائل الاجتهادية لا يخرج المختلفين من دائرة الإيمان إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

7 -

أن المجتهد يجب عليه اتباع ما أداه إليه اجتهاده، ولا يجوز له ترك ذلك إلا إذا تبين له خطأ ما ذهب إليه أولًا، فيصح أن يرد عن المجتهد قولهان متناقضان في وقتين مختلفين لا في وقت واحد.

8 -

أن المجتهد في مسائل الاجتهاد بين الأجر والأجرين، وذلك إذا اتقى الله في اجتهاده.

9 -

أن المسائل الاجتهادية ظنية في الغالب، بمعنى أنه لا يقطع فيها بصحة هذا القول أو خطئة، لكن قد توجد مسائل يسوغ فيها الاجتهاد وهي قطعية يقنية، يجزم فيها بالصواب، وذلك أن المجتهد قد يخالف الصواب دون تعمد إما لتعارض الأدلة أو خفائها، فلا طعن على من خالف في مثل ذلك.

10 -

إذا علم أن للمسائل الاجتهادية احكامًا تخصها، لزم التفريق بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية. إذ يجب الإنكار على المخالف في المسائل الخلافية غير الاجتهادية، كمن خالف في قول يخالف سنة ثابتة أو إجماعًا شائعًا.

وكذلك يجب الإنكار على العمل المخالف للسنة أو الإجماع بحسب درجات إنكار المنكر.

انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 207)(30/ 79، 80)(35/ 232، 233)، «إعلام الموقعين» (1/ 49)(3/ 288)، «شرح الكوكب المنير» (4/ 492).

ص: 2272

وأمَّا المسائل الإجماعية فقد رفع الإجماع كل اجتهاد يخالفه ولا يقع في مخالفته الإجماع الصحيح الثابت أحدٌ من مجتهدي هذه الأمة، كما ذلك معلوم لكل عارف، فأخبرونا هل صدور هذا الإنكار منكم على المجتهد في مسائل الخلاف موافق لما في الأزهار؟ فأخبرونا ما هو الذي حملكم على القيام مقام من يأمر بالمنكر، وينكر المعروف، مع اعتقاده أن قيامه ذلك خلاف الحق الذي يعتمده، ومباين للصواب الذي لا صواب عنده سواه؟ ولا شك ولا ريب أنّ من قام مقام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وهو يعلم بطلان قوله وفساد ما فعله فهو من أعظم الفاعلين للمنكر، لأنه مبطل [3!]، مع أن ذلك من الغيبة المحرَّمة، والبهت الشديد.

فإن قالوا: إنهم أنكروا اجتهاد ذلك المجتهد لا باعتبار المذهب، بل باعتبار أمر آخر قلنا لهم: كيف تركتم المذهب! وليس بأيديكم سواه، ولا تعرفون غيره، فإن كانت هذه المخالفة ساغئة لكم فكيف أنكرتم على ذلك المجتهد مخالفته للمذهب باجتهاده، وسوغتم بأنفسكم مخالفة المذهب مع كونكم مقلدين ملتزمين لما في ذلك المختصر! فهل يصنع مثل صنيعكم هذا عاقل فضلاً عن عالم؟ فإنكم أنكرتم ما هو جائز، بل واجب بنص الأزهار حسب ما قدمنا من قوله: التقليد جائز لغير المجتهد (1) لا له. ولو وقف على نصِّ أعلم منه، ومن قوله: وكل مجتهد مصيب، وسوغتم ما هو حرام عندكم، وهو انتقال المقلد من مذهبه مع كونه مقلدًا (2)، وأنتم تعلمون أن في الأزهار وبعد الالتزام يحرم الانتقال إلا إلى ترجيح نفسه (3)، وأنتم تعرفون أنكم مقلدون لا ترجيح لكم،

(1) تقديم في بداية الرسالة.

(2)

قال ابن مفتاح في «شرح الأزهار» (1/ 19): (وبعد الالتزام) لقول إمام معين في حكم واحد أو في أحكام أو في جملة المذهب فإنه (يحرم الانتقال) عن ذلك المذهب في عين ذلك الحكم أو الأحكام المعينة قال ابن الحاجب بالاتفاق. فأما في الصورة الثالثة وهي التقليد في جملة المذهب كمن التزم مذهب (الشافعي) مثلًا هل له أن يرجع حنفيًا فيه خلاف، والصحيح التحريم (إلا إلى ترجيح نفسه) أي بعد الالتزام يحرم الانتقال عما التزمه إلا إلى ترجيح نفسه اهـ.

فائدة مهمة للرد على ما تقدم:

قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/ 238): «والصواب أنه إذا ترجح عنده قول غير إمامه بدليل راجح فلابد أن يخرج على أصول إمامه وقواعده، فإن الأئمة متفقة على أصول الأحكام، ومتى قال بعضهم قولًا مرجوحًا فأصوله ترده وتقتضي القول الراجح، فكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة بلا ريب، فإذا تبين لهذا المجتهد المقيد رجحان هذا القول وصحة مأخذه خرج على قواعد إمامه فله أن يفتي به» .

وانظر: «أدب المفتي والمستفتي» (ص 121 - 122).

(3)

قال ابن مفتاح في «شرح الأزهار» (1/ 19): (وبعد الالتزام) لقول إمام معين في حكم واحد أو في أحكام أو في جملة المذهب فإنه (يحرم الانتقال) عن ذلك المذهب في عين ذلك الحكم أو الأحكام المعينة قال ابن الحاجب بالاتفاق. فأما في الصورة الثالثة وهي التقليد في جملة المذهب كمن التزم مذهب (الشافعي) مثلًا هل له أن يرجع حنفيًا فيه خلاف، والصحيح التحريم (إلا إلى ترجيح نفسه) أي بعد الالتزام يحرم الانتقال عما التزمه إلا إلى ترجيح نفسه اهـ.

فائدة مهمة للرد على ما تقدم:

قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/ 238): «والصواب أنه إذا ترجح عنده قول غير إمامه بدليل راجح فلابد أن يخرج على أصول إمامه وقواعده، فإن الأئمة متفقة على أصول الأحكام، ومتى قال بعضهم قولًا مرجوحًا فأصوله ترده وتقتضي القول الراجح، فكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة بلا ريب، فإذا تبين لهذا المجتهد المقيد رجحان هذا القول وصحة مأخذه خرج على قواعد إمامه فله أن يفتي به» .

وانظر: «أدب المفتي والمستفتي» (ص 121 - 122).

ص: 2273

وأنكم لا تطالبون بحجة فضلًا عن أن تعقلوا الحجج، وتعرفوا الموازنة بينها عند تعارضها. فارجعوا -يرحمكم الله- إلى الصوا فقد وضح الصبح لذي عينين. وإن قلتم لا نرجع بل نستمر على ما نحن فيه من الباطل فحسبكم ما تستلزمه هذه المقالة الشنعاء من غضب الله شعرًا:

لا تنته الأنفس عن غيِّها

ما لم يكن منها لها زاجر

فإن قلتم: تركنا الأزهار المشتمل على تصويب المجتهدين، وعدم جواز التقليد منهم لغيرهم بما هو راجحٌ منه. قلنا لهم: ومتى كنتم من أهل الطبقة الشريفة، والمنقبة المنيفة! فإنّ هذا إنما هو مقام المجتهدين الذين قمتم على الإنكار عليهم بسبب مخالفة المذهب شعرًا:

يقولون أقوالاً ولا يعرفونها

ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا

وكان عليكم أن تكفوا شركم عن المجتهدين، وتسوغِّوا لهم ما سوغتم لأنفسكم من المخالفة. فالاجتهاد كما فعلتم بمجرد التقليد، ولا أظن أن تدعوا ذلك قط، فإنكم تعرفون أنفسكم ومقدار ما لكم من العلم، ولا يدعون الخروج عن التقليد قيد شبر، ولا

وزن خردلة. وكما قال الشاعر (1):

وما أنا إلا من غزية إلا غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

وكان [3ب] الأليق لكم، والأجمل لحالكم أن تسألوا المتورعين من علماء الفروع، وتستفتوهم: هل هذا الإنكار على المجتهدين مما يسوغه أهل الفروع الذي أنتم بصدد الاشتغال به درسًا وتدريسًا، وإفتاءً وقضاءً، فإنهم لا محالة ينكرون عليكم، ويعرفونكم بأنكم على جهل عظيم، وإثم وبيل، وحرام دخيل، وهتك يقول:

هذا الليل صبح

أيعمى المبصرون عن الضياء

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره

إذا استوت عنده الأنوار والظلم

الأمر الخامس: من تلك الأمور قد عرفتم أن الاجتهاد معتبرٌ في القاضي، وأنه لا يصلح للقضاء (2) إلا من كان مجتهدًا كما صرح في الأزهار في باب القضاء حيث قال: والاجتهاد «في الأصح» فما بالكم تنكرون على القاضي الذي يقضي بالاجتهاد، وهو من اهل الاجتهاد! مع أنكم تعترفون بأنه القاضي على شرط المذهب، وأن من ليس بمجتهد ليس يقاضي على شرط المذهب، ومع أنك لا تنكرون أنه لو قضى المجتهد بغير اجتهاده، ورجع إلى التقليد الذي أنتم عليه لكان فاعلًا لغير ما هو جائزٌ عندكم، فكيف طلبتم منه أن يخالف ما تذهبون إليه وتقررونه وتدرسونه (3)! فأخبروني ما بالكم تخالفون المذهب في إنكاركم على من هو على شرطه، وأن من هو دونه لا يصلح للقضاء إن قلتم أن عليه سائغًا لكم في المذهب! فالمذهب يرد عليكم في مواضع متعددةٍ قد قدمنا ذكرها.

(1)

هو دريد بن الصمة عزاه إليه صاحب «اللسان» (10/ 68). وقال غزية: قبيلة من قبائل العرب.

(2)

تقدم التعليق على ذلك في الرسالة السابقة. وانظر: «إرشاد السائل إلى دليل المسائل» للإمام الشوكاني (ص 23 - 33).

(3)

مكررة في المخطوط.

ص: 2274

ومنها هذا الموضع المذكور في القضاء، وإن قلتم إنكم أنكرتم عليه لشيء آخر فما هو؟ فإنكم مقلدون. وإن أبيتم وصممتم على الباطل، ولم ترجعوا إلى الحق وقلتم هذا عندم غير جائز مجازفة وجرأة ومخالفة، فالأمر كما قال الشاعر:

يقولون هذا عندنا غير جائز

من أنتم حتى يكون لكم عنده

وقد صان الله - سبحانه- الراسخين في علم الفروع عن الوقوع في هذه المنكرات، فهم أتقى لله من أن يجري منهم مثل هذا، ولكن عليهم أن يفكوا عن تكدر هذا المورد العذب من الجهلة والتهور والعصبية على خلاف ما يفيده المذهب، ولا يقتضيه الدليل.

الأمر السادس [4أ] من تلك الأمور أن في الأزهار، وبعد الالتزام بحرمة الانتقال وأنتم ملتزمون لما في الأزهار عاملون به، ثم تهافت كثير منكم على تولي القضاء وهو يعلم أنه مقلَّد، وأنه لابد أن يكون القاضي مجتهدًا على مقتضى المذهب، فما بالهم وقعوا في مخالفة المذهب، وباشروا ما يباشر القضاة من قطع الأقوال بين أهل الخصومات، وسسفك الدماء، وتحليل الفروج! فإن كان الأزهار حقًا فقضاءهم باطل قد عصوا الله بالدخول فيه، ثم عقبوهن بالمباشرة لما يباشره القضاة، وصار ذلك في أعناقهم، يسألهم الله عنه ويعاقبهم عليه، ولم يقعوا في ذلك إلا لتأثير الدنيا، والتهافت على حطامها، ومن ترك مذهبه لمحبة الدنيا فكيف ينكر من هو صحيح القضاء على الكتاب والسنة، وعلى المذهب! وهل هذا الأمر قلب للأمورن ودفع للحقائق، ومن علامات القيامة.

يا ناعي الإسلام قم فانعه

قد زال عرف وبدا منكر

ومعلوم لكل عارف أن أهل البيت إنما اشترطوا أن يكون القاضي مجتهدًا، لأن المجتهد هو الذي يعرف الحق ويعرف الباطل بالدليل من الكتاب والسنة، فهو الذي يقضي بالحق، وهو يعلم به، وهو القاضي الذي في الجنة، كما في حديث:«القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فالقاضي الذي في الجنة هو الذي قضى بالحق، وهو يعلم، والقاضيان الذين هما في النار هو القاضي الذي قضى بالباطل، والقاضي الذي يقضي بالحق وهو لا يعلم أنه الحق» (1).

فالمقلد - أصلحه الله- هو الذي لا يعرف الأقوال العامة من دون أن يطالبه بحجة ت دل على قوله، فهو لا يدري هل هو حق أو باطل، فإن قضى بقول إمامه فعلى فرض أنه حق في نفس الأمر فالمقلد لا يدري أنه حق، فقد قضى [4ب] بالحق ولا يدري أنه حق، فهو أحد قاضيي النار. وعلى فرض أن ذلك القول غير حق فقد قضى بالباطل وهو القاضي الآخر من قضاة النار.

خذا بطن هرشي أو قفاها فإنه

كلا جانبي هرشي لهن طريق

أمَّا القاضي المجتهد فهو متردد بين أمرين حسنين، وتجارة رابحة، وفوز معلوم لما صح عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:«إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» (2) وقد عرفنا فيما سبق أنها وردت أحاديث من طرق فتنتهض بمجموعها أن للمصيب في حكمة عشرة (3). أجور. فيالها من غنيمة باردة، وخير كثير، وأجر جليل! والعجب كل العجب أن ينكر قاضي النار على قاضي الجنة، ويطلب منه أن يرجع من الاجتهاد إلى التقليد فيكون مثله من قضاة النار -نسأل الله الستر والسلامة-.

وإذا تقرر لك ما ذكرناه من كون السبب لاشتراط أهل المذهب الاجتهاد في القاضي هو أن المقلد في قضائه على كلا حالتيه، وفي جميع وصفيّة من قضاة النار بحكم النبي المختار صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضًا القرآنية مشتملة على الأخذ على القضاة بأن يقضوا بالحق (4)،

ص: 2276

وبالعدل (1)، وبما أمر الله، وبما أنزل الله (2)، والمقلد لا يعرف إلا أقوال إمامه، ولا يدري هل هو حق [5أ] أو باطل، أو من العدل أو الجور، أو مما أمر الله به، أو مما نهى عنه، أو مما أنزل على عباده أو مما لم ينزل، وهو معلوم لا ينكره من يفهم الخطاب من المقلدين.

والحاصل: إنَّ مقصودنا في هذه الرسالة هو الإرشاد لأهل المذهب بالمذهب، والاقتصار على ما في المختصر الذي هو الآن المعتمد عليه، وهو الازهار. وقد أوضحنا ذلك أبلغ إيضاح بحيث يستوي في فهمه كل من له عقل. والمقصد بذلك كما يعلم ا لله هو إرشاد من يبلغنا عنه أنه مشتغل بما ذكرناه. والله الهادي إلى الصواب، وبيده الخير كله، ولا حول ولا قوة إلا به، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

حرر من خط مؤلفه -حرسه الله، وأبقاه، وفسح له في مدته، وأفاض على العباد من كثير فوائده، ونفع به -آمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم كما نقله صبح الثلاثاء لعله 26 شهر ربيع آخر سنة 1244 بقلم الحقير -غفر له- الملك القدير، ووالديه والمسلمين آمين، وجزاه عن مؤلفَّه خيرًا بحق محمد وآله.

ص: 2278