المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحث في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٥

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌ الفقه وأصوله

- ‌التشكيك على التفكيك لعقود التفكيك

- ‌القول المفيد في حكم التقليد

- ‌بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد

- ‌بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق

- ‌رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام

- ‌بحث في العمل بقول المفتي صحّ عندي

- ‌بحث في الكلام على أمناء الشريعة

- ‌بَحْثٌ في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده

- ‌رفع الجناح عن نافي المباح

- ‌جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله

- ‌بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي

- ‌الدرر البهية في المسائل الفقهية

- ‌بحث في دم الخيل ودم بني آدم هل هو طاهر أن نجس

- ‌جواب سؤال في نجاسة الميتة

- ‌جواب في حكم احتلام النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح

- ‌ بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود

- ‌بحث في أن السجودَ بمجرّده من غير انضمامه إلى صلاةٍ عبادةٌ مستقلةٌ يأجر اللهُ عبده عليها

- ‌كشف الرين في حديث ذي اليدين

الفصل: ‌بحث في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده

‌بَحْثٌ في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 2367

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة: (بحث في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده).

2 -

موضوع الرسالة: أصول الفقه.

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لمن نهى عباده بالأوامر، وأمر بنهيه أن يعمل لضده المتسرع القادر. وشكرًا لمن أبدع إتقان المخلوقات

4 -

آخر الرسالة:

فإن تقرر هذا علم السائل أدام الله فوائده أنه لا دلالة في الآيتين على المسألة الأصولية التي هي محل النزاع من تدبر لم يخف عليه ذلك والله أعلم.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد. السؤال بخط السائل، والجواب بخط المؤلف.

6 -

عدد الصفحات: 7 صفحات.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: (1) - (19) سطرًا.

عدد الأسطر في الصفحة: (2) - (23) سطرًا.

عدد الأسطر في الصفحة: (3) - (25) سطرًا.

عدد الأسطر في الصفحة: (4) - (22) سطرًا.

عدد الأسطر في الصفحة: (5) - (17) سطرًا.

عدد الأسطر في الصفحة: (6) - (18) سطرًا.

عدد الأسطر في الصفحة: (7) - (5) سطرًا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: (11 - 12) كلمة.

9 -

الرسالة من المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

ص: 2369

[نص السؤال]

بسم الله الرحمن الرحيم. حمدًا لمن نهى عباده بالأوامر، وأمر بنهيه أن يعمل بضده المتسرع القادر. وشكرًا لمن أبدع إتقان المخلوقات ونصبها للعقول أدلة تغني عن التدقيقات، وصلاة وسلامًا على كاسر شوكة الجهالة، القامع بنواهيه محكمي البطالة والضلالة، وعلى آله السالكين طريقه، وصحابته الشاربين من معين الحقيقة:

وإنه دار بيني وأنا الفقير إلى الله لطف الله بن أحمد بن لطف الله (1)، وبين الوارد العلامة نبراس التحقيق، محذم (2) المشكلات والتدقيق، شرف الإسلام، أوحد العلماء الأعلام الحسن بن علي بن نعلي حنش (3) - وحصلت المناظرة لدى بعض الأعلام دامت فوئداه-، ومدت على الطلاب موائده، مذاكرة بديعة، ومناظرة يهتدي بها في مدارج الشريعة. وذلك فيما قرر لبعض الأصوليين مذهبًا وترجح عند أكثر متأخريهم بالحجة التي لم يجد عنها المنازع مهربًا، وهو قولهم: الأمر بالشيء نهى عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده. والكلام مبسوط في المطولات من كتب الفن (4) فيؤخذ منها.

والذي ظهر في حال المراجعة أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده، وهذا في إفراد الأوامر (5)، والنواهي، وهي كل ما له ضد جزئي لا الضد العام كما عرف، وسيأتي في

(1) تقدمت ترجمته.

(2)

حذم والحذم: القطع الوحي وقيل حذمه يحذمه حذمًا: قطعه قطعًا وحيًّا.

«لسان العرب» (3/ 96).

(3)

تقدمت ترجمته.

(4)

منها: «الإحكام للآمدي» (2/ 130)، «الكوكب المنير» (3/ 8 وما بعدها).

«التبصرة» (ص 17)، «تيسير التحرير» (1/ 333 وما بعدها).

«اللمع» (ص 7)، «المستصفى» (1/ 411).

(5)

ولأهمية الأمر والنهي في الشريعة نقول:

1 -

فهي من الأبواب المهمة في أصول الفقه لأنها أساس التكليف في توجيه الخطاب إلى المكلفين.

2 -

أن معرفتهما تؤدي إلى معرفة الأحكام الشرعية بتفاصيلها وبها يتميز الحلال من الحرام.

ولذلك نجد كثيرًا من الأصوليين جعلهما في مقدمة كتب الأصول واهتموا بهما بالتوضيح والبيان لتمحيص الأحكام الشرعية.

«أصول السرخسي» (1/ 11).

ص: 2373

أثناء هذا التحرير ذكر أنه يستلزمه بناء على أحد المذاهب. وقد أحلنا هذا على نظر العلامة المعلق على عاتق التحقيق فوائده وأحكامه. قبلة الطلاب، طراز كم المعارف والآداب، والواسع الصدر، الجليل القدر، مورق الحسب، غض المفاكهة في الآداب:

إمام هدى أعيت محاسنه الوصفا

حري عليه مشكل البحث لا يخفا

العلم الرباني المترجم عن السر الصمداني محمد بن علي الشوكاني جمل الله الأوقات بأفعاله، وحرس مقام الشريعة بهندواني مقاله.

ولنشرع في أصل م دار فأقول: لما حصلت المذاكرة في ذلك قيل لي أولاً: قد ذاكرت بعض المشايخ فقرر ما إليه استدل القائلون بأن الأمر (1) بالشيء ..........................

(1) الأمر: هنا استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء.

صيغ الأمر: وهو مذهب الجمهور من السلف والخلف الصيغ الدالة على الأمر أربع:

1 -

فعلا الأمر «إفعل» نحو قوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78].

2 -

المضارع المجزوم بلام الأمر «ليفعل» نحو قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} [النور: 63].

3 -

اسم فعل الأمر مثل قوله تعالى: {عليكم أنفسكم} [المائدة: 105].

4 -

المصدر النائب عن فعله: {فضرب الرقاب} [محمد: 4].

وإنما خص العلماء صيغة «إفعل» بالذكر، نظرًا لكثرة دورانه في الكلام.

انظر: «المسودة» (ص 8 - 9)، «التبصرة» (ص 18)، «اللمع» (ص 8).

وترد صيغة أفعل لمعان كثيرة:

أحدها: الوجوب: نحو قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78].

الثاني: الندب: نحو قوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} [النور: 33].

الثالث: الإباحة: نحو قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2].

الرابع: بمعنى (إرشاد): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].

الخامس: كونها بمعنى (إذن): نحو قول من بداخل مكان للمستأذن عليه: ادخل.

السادس: التأديب نحو قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة في حال صغره: «يا غلام سم الله، وكل بيمينك» .

السابع: كونها بمعنى (امتنان) نحو قوله تعالى: {وكلوا مما رزقكم} [المائدة: 88].

الثامن: كونها بمعنى (الإكرام) نحو قوله تعالى: {ادخلوها بسلام آمنين} [الحجر: 46].

التاسع: كونها بمعنى (الجزاء) نحو قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون} [النحل: 32].

العاشر: كونها بمعنى (وعد) نحو قوله تعالى: {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} [فصلت: 30].

الحادي عشر: كونها بمعنى (تهديد) نحو قوله تعالى: {اعملوا ماشئتم} [فصلت: 40].

الثاني عشر: كونها بمعنى (إنذار) نحو قوله تعالى: {قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} [إبراهيم: 30].

الثالث عشر: كونها بمعنى (تحسير) نحو قوله تعالى: {قل موتوا بغيظكم} [آل عمران: 119].

الرابع عشر: كونها بمعنى (تسخير) نحو قوله تعالى: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65].

الخامس عشر: كونها بمعنى (تعجيز) نحو قوله تعالى: {فأتوا بسورة مثله} [يونس: 38].

السادس عشر: كونها بمعنى (إهانة) نحو قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49].

السابع عشر: كونها بمعنى (احتقار) نحو قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام، يخاطب السحرة {ألقوا ما أنتم ملقون} [الشعراء: 43].

الثامن عشر: كونها بمعنى (تسوية) نحو قوله تعالى: {فاصبروا أو لا تصبروا} [الطور: 16].

التاسع عشر: كونها بمعنى (الدعاء) نحو قوله تعالى: {ربنا اغفر لي ولوالدي} [إبراهيم: 41].

العشرون: كونها بمعنى (تمن) كقول امرئ القيس: «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي» .

الحادي والعشرون: كونها بمعنى (كمال القدرة) نحو قوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40].

الثاني والعشرون: كونها بمعنى (خبر) نحو قوله تعالى: {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرًا} [التوبة: 82].

الثالث والعشرون: كونها بمعنى (تفويض) نحو قوله تعالى: {فاقض ما أنت قاض} [طه: 82].

الرابع والعشرون: كونها بمعنى (تكذيب) نحو قوله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93].

الخامس والعشرون: كونها بمعنى (مشورة) نحو قوله تعالى: {فانظر ماذا ترى} [الصافات: 102].

السادس والعشرون: كونها بمعنى (اعتبار) نحو قوله تعالى: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} [الأنعام: 99].

السابع والعشرون: كونها بمعنى (تعجب) نحو قوله تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} [الإسراء: 48].

الثامن والعشرون: كونها بمعنى (إرادة امتثال لأمر آخر) نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل» . فإن المقصود الاستسلام والكف عن الفتن.

التاسع والعشرون: كونها بمعنى (التخيير) نحو قوله تعالى: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42].

الثلاثون: (الاختيار) نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا فإنه لا يدري أين باتت يده» .

الحادي والثلاثون: الوعيد نحو قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29].

الثاني والثلاثون: الالتماس كقولك لنظيرك: إفعل.

الثالث والثلاثون: التصبر نحو قوله تعالى: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40].

الرابع والثلاثون: قرب المنزلة نحو قوله تعالى: {ادخلوا الجنة} [الأعراف: 49].

الخامس والثلاثون: التحذير والإخبار عما يئول الأمر إليه نحو قوله تعالى: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} [هود: 65].

انظر: «الكوكب المنير» (3/ 17 - 18)، «تيسير التحرير» (1/ 337 - 338)، «جمع الجوامع» (1/ 374).

ص: 2374

نهي (1) عن ضده والعكس (2).

فقلت بعد التأمل: أئمة الأصول قد استدل بعضهم على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده بحجج عقلية (3) كقولهم: إن المفهوم أو المتبادر من قولهم: اسكن أنه نهي

(1) النهي: هو استدعاء ترك الفعل بالقول على وجه الاستعلاء وللنهي صيغة موضوعة في اللغة تدل بمجردها عليه هي «لا تفعل» .

انظر: «الكوكب المنير» (3/ 77)، «تيسير التحرير» (1/ 274)، «اللمع» (ص 14)، «المسودة» (ص 80).

(2)

الأمر بالشيء نهي عن ضده، وكذلك النهي عن شيء يكون أمرًا بضده.

انظر: «الكوكب المنير» (3/ 51)، «البرهان» (1/ 350)، «اللمع» (ص 14).

(3)

انظر: «البحر المحيط» (2/ 416 - 430)، «إرشاد الفحول» (ص 363)، «جمع الجوامع» (1/ 386)، «المسودة» (ص 49). -

ذهب الجمهور من أهل الأصول ومن الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشيء المعين إذا أمر به كان الأمر به نهيًا عن الشيء المعين الضاد له سواء كان الضد واحدًا، كما إذا أمره بالإيمان فإنه يكون نهيًا عن الكفر، وإذا أمره بالحركة فإنه يكون نهيًا عن السكون، أو كان الضد متعددًا كما إذا أمره بالقيام فإنه يكون نهيًا عن القعود الاضطجاع والسجود وغير ذلك.

- وقيل ليس نهيًا عن الضد ولا يقتضيه عقلاً واختاره الجويني في «البرهان» (1/ 250) والغزالي في «المنخول» (ص 109) وابن الحاجب، وقيل: إنه نهي عن واحد من الأضداد غير معين، وبه قال جماعة من الحنفية والشافعية والمحدثين، ومن هؤلاء القائلين بأنه نهي عن الضد من عمم، فقال إنه نهي عن الضد في الأمر الإيجابي والأمر الندبي، ففي الأول نهي تحريم وفي الثاني نهي كراهة ومنهم من خصص ذلك بالأمر الإيجابي دون الندبي، ومنهم أيضًا من جعل النهي عن الشيء أمرًا بضده، كما جعل الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، ومنهم من اقتصر على كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده وسكت عن النهي وهذا معزو إلى الأشعري ومتابعيه.

واتفق المعتزلة على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده والنهي عن الشيء ليس أمرًا بضده، وذلك لنفيهم الكلام النفسي

وانظر مزيد تفصيل في «البحر المحيط» (2/ 416 وما بعدها)، «تيسير التحرير» (1/ 363 - 364).

ص: 2377

عن التحرك، وأنه بمنزلة قولك: لا تتحرك، وأنه المفهوم أم المتبادر. وكذلك قولهم: قم فإنهم قضوا بأنه في قوة لا تقعد، وصم اليوم في معنى لا تفطر، ونحو ذلك من العبارات. والذي ظهر لي بعد التأمل أن الحجج العقلية مقبولة، ولكنه ورد في الكتاب العزيز آيتان مبينتان عن تسمية الأمر نهيًا.

(أما الأولى): فقول الله- عز وجل في سياق مخاطبة يوسف- عليه السلام لصاحبي السجن: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه} (1).

(1)[يوسف: 39 - 40].

ص: 2378

(والآية الثانية): قول الله- عز وجل في مجادلة قوم شعيب له، واستهزائهم به:{أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} (1)[يوسف: 40].% فجعل مسمى هذا الأمر هو النهي الذي تعلق به، وهو قوله:«ألا تعبدوا» إلخ. فلو قال قائل عند سماع «أمر» ما الذي أمر به في الآية؟ لما كان الجواب عليه إلا بأن الأمر هو: {ألا تعبدوا إلا إياه} ولا شك أن قوله: {ألا تعبدوا} نهي صريح عن عبادة غير الله.

قيل في الاعتراض: هل هذا الكلام الذي يريده الأصوليون هو اللفظ الإنشائي الطلبي كما قال السيد لعلامة الحسين بن قاسم- رحمه الله في حده لفظ: الأمر حقيقة (2) قال صاحب «الكوكب المنير» (3/ 5): فالأمر لا يعنى به مسماه، كما هو المتعارف في الأخبار عن الألفاظ: أن يلفظ بها، والمراد مسمياتها بل لفظة الأمر هي:(أ م ر) كما يقال: زيد مبتدأ وضرب: فعل ماض وفي حرف جر، ولهذا قلنا: إنه حقيقة في القول المخصوص وهذا بالاتفاق.

انظر: «تيسير التحرير» (1/ 336)، «نهاية السول» (2/ 6).% «أ م ر» هو اللفظ الطلبي من اضرب واقتل وادخل واخرج ونحوه. وأين ما جاء لنا من أمر الشارع فليس المراد سوى ذلك، فإذا قيل أمر رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم بأمر لم نفهم إلا ذلك الأمر الطلبي، أو قيل:

(1)[هود: 87].%. فقيل لي: ما المراد من ذلك؟ قلت: لما قال «أمر» علمنا أن ثمة هناك أمرًا لا بد أن يصرح به، ويشير إليه إذ هو مقام حجاجهم الباطل، ودعواهم أن الآلهة تعبد فنبههم على الصواب فقال:{أمر ألا تعبدوا إلا إياه} .

(2)

تقدم ذكره.% في القول الإنشائي الدال على طلب الفعل: الاستعلاء، وأجبت: بأنه لا محيص من ما ذكرت، وتقرير الكلام هو أن الله تعالى قد صدر منه أمر بمقتضى الآية، والأمر لديكم هو ما ذكرتم، وأن مسمى

ص: 2379

أمر الله بشيء لم نفهم إلا ذلك قطعًا يعلمه كل أحد، وفي تصور ذلك الأمر بمدعانا نهي عن الضد. والشارع- سبحانه- قد أمر [2]، والأمر منه- سبحانه- في مقام العبادات هو الطلب منا فقال:{ألا تعبدوا} . وهذا أمره- سبحانه وتعالى ورد بلفظ النهي.

قالوا: الأمر لفظ مشترك بين أفراد متعددة. وهو أيضًا هنا تفسير للحكم الذي ساقه- تعالى- فقال: {إن الحكم إلا لله} وفسر بأنه أمر. والجواب أن أحكام الله- تعالى- لا تخلو إما أن تكون أوامر أو نواهي. والحكم هاهنا قد فسر بأنه أمر لا نهي، وإلا لقال:{إن الحكم إلا لله} نهي {ألا تعبدوا إلا إياه} وأيضًا يحمل المشترك على جميع معانيه إن احتملها وإلا حمل على ما قامت القرينة عليه. ولا يصح أن يحمل هنا على جميعها، فتوجه المصير إلى ما قامت القرينة عليه (1) [النحل: 90].% {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (2)[طه: 132].

وقال صاحب «الكوكب» (3/ 66 - 67) تعليقًا على هذه الآية وأمر من الشارع (بأمر) لآخر لشيء ليس أمرًا به قال تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة} لأنه مبلغ لا آمر ولأنه لو كان آمرًا لكل قول القائل؛ مر عبدك بكذا

وقال القرافي في «تنقيح الفصول» (ص 149): «لأن الأمر بالأمر لا يكون أمرًا، لكن علم من الشريعة أن كل من أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر غيره، فإنما هو على سبيل التبليغ، ومتى كان على سبيل التبليغ صار الثالث مأمورًا إجماعًا» .%

(1) انظر: «تيسير التحرير» (1/ 336)، «نهاية السول» (2/ 6).%، والقرينة الشائعة في السان المتشرعة هي أن الأمر حقيقة في الطلب من الله- سبحانه- قالوا: هو هنا لفظ خبري، وذلك أن يوسف- عليه السلام أخبر أن الله أمر.

قلنا: لا شك هو لفظ خبري، لكن المراد به الإخبار عن ما أنشأه من الطلب، والذي أنشأه هنا هو قوله:{ألا تعبدوا إلا إياه} وهو نهي صريح، وكلما جاءنا من هذه الآيات كقوله تعالى:{إن الله يأمر بالعدل والإحسان}

(2)

[البقرة: 67].% {وأمر أهلك بالصلاة}

ص: 2380

{وأمر بالمعروف} (1) أي الزمخشري في «الكشاف» (3/ 500).%- قدس الله روحه- فإنه قال في قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} (2) أي الزمخشري في «الكشاف» (3/ 500)، وتمام كلامه»

وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض، ويقال أمرته فقام، وأمرته، فقرأ لا يفهم منها إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني، أو فلم يتمثل أمري؛ لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورًا به، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي؛ لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأمورًا، وكأنه يقول، كان مني أمر فلم تكن منه طاعة، كما أن من يقول فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهي، غير قاصد إلى مفعول به.% كلامًا يدل على عدم التقدير في الآية التي أوردنا كلامه

(1)[لقمان: 17].% ليس المراد منه هذا الإخبار، إلا أنه قد حصل الطلب للعدل والذبح والصلاة والمعروف، لا شك في هذا. وقد نبه على ذلك إمام اللغة والمقدم فيها جار الله.

(2)

[الإسراء: 16].% ما لفظه: «والأمر مجاز؛ لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون» ا هـ. فعرفت من كلامه أن اللفظ الخبري الوارد بلفظ: {أمرنا مترفيها} حقيقة في اللفظ الطلبي؛ أي قولنا لهم: افسقوا، ولكنه منع مانع في هذه الآية التي تكلم عليها، وهو أن الله- سبحانه- لا يأمر بالفسق. فاحتيج إلى المجاز لتنزيه الباري- سبحانه- على أنها لم تعم هنا إلا الدلالة العقلية الصارفة للأمر بالفسق عن الحقيقة.

قالوا: الآية المتنازع فيها المعنى فيها ظاهر؛ لأن المراد من قوله: {أمر ألا تعبدوا} أنه أمر بالعبادة، والأمر بالعبادة هو قوله اعبدوني، فهو مصدر، والجواب أنه قد ذكر العلامة في كشافه

ص: 2381

فيها، فقال في قوله تعالى:{أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} (1) تقدم التعليق عليه.% فنقل آخره له (2)[هود: 87].% مسلك عجيب، وتقريره أن الأمر كما عرفناك فيما سلف حقيقة في اللفظ الطلبي، وإن ورد بلفظ خبري فهو- سبحانه- قد نبه على أنهم استنكروا على شعيب مستهزئين به حيث جاءهم بشيء يأمرهم بترك العبادة للأصنام، والنهي في اصطلاح القوم هو القول الإنشائي الدال على طلب ترك

(1)[الإسراء: 16].% ما لفظه: فإن قلت: هلَّا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا. قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف بحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وسار كلامًا بديعًا.

(2)

في المخطوط (وفنقلة آخره لها) والصواب ما أثبتناه.% إلمام بما نحن فيه، وذكر أن الله يأمر بالقسط فكيف يقال [3] أنه أمر بالفسق! ورد على من قدر لقيام الآيات، وانتصر بأن ذلك هو الظاهر من مساق لغة العرب، مع أن الآيات كانت في كلامه صالحة لصرف المعنى عن الأمر بالفسق، فلذا عدل إلى المجاز، ولم يصر إلى تلك الآيات الصريحة.

وكلامنا هنا مثله، فإن الأمر هنا علق به {ألا تعبدوا} كما أنه علق ففسقوا بالأمر، والقصد التنبيه على دفع التقدير، وإنما أوردنا كلام العلامة هنا لدفع التقدير، لا لأن الآيتين من قبيل واحد في متعلقهما؛ لأن هذا الأمر متعلقه النهي القائم مقام الأمر، والدال عليه. والآية التي ساقها العلامة متعلقها ما دل عليه قوله:{ففسقوا} فقد أرشد إلى أن (أمر) هو الأمر الطلبي. وبالله التوفيق.

ثم لنا في الاحتجاج بالآية الآخرة التي فتح بها، وهي قول الله- عز وجل:{أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا}

ص: 2382

الفعل استعلاء. والصلاة هنا قد أمرت شعيبًا مجازيًّا كما هو الظاهر بأن قومه يتركوا العبادة ومعنى أمرها له بأن يتركوا العبادة هو قولها على طريق المجاز: لا تعبدوا ما يعبد آباؤكم، وهذا ظاهر متبادر لي، ولا أعده إلا من فتح القدير على العبد الحقير.

ولذا قيل لعلي- رضوان الله عليه-: هل عهد إليكم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم عهدًا لم يعهده إلى الناس؟ فقال: والله ما عندنا إلا كتاب الله، وما في جراب هذه الصحيفة، أو رجل آتاه الله فهمًا في كتابه. ولله الحمد (1) أي لا دلالة في الآيتين على المسألة الأصولية «كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده» .%، وأظهر أن الأمر تورية ليس كما لمح إليه السائل وقاله. فلذا وقع التعويل على العلامة الحبر النبيل، حجة الله القائمة، وآيته العاقبة الدائمة، إنسان عين الإفادة، صماخ أذن النقادة، البر الولي محمد بن علي- بلغه الله سؤله- وصلى الله على محمد وآله [4].

(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6915) عن أبي جحيفة قال: «سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ وقال ابن عيينة مرة: «ما ليس عند الناس، فقال: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهمًا يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر» .

وانظره في تحقيقنا للرسالة برقم (21) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.%.

والسؤال قد عرض على بعض الأعلام، ومال إلى عدم الدلالة

ص: 2383

[نص الجواب]

أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على حبيبك ورسولك وآله. وقف الحقير على هذا البحث النفيس، فرأيت حاصل ما اشتمل عليه السؤال عن صحة الاستدلال بقوله تعالى:{أمر ألا تعبدوا إلا إياه} (1)، وبقوله تعالى:{أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} (2) على ما ذكره أهل الأصول في المسألة المشهورة من كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، أو يستلزمه، أو ليس كذلك.

وأقول: لا ريب أن محل النزاع هو كون أفعل الدال على الطلب (3) بالفعل نهيًا عن ضده الذي هو عدم الفعل، أو مستلزمًا للنهي عن ذلك، أو ليس كذلك، مثلاً إذا قال زيد لعمرو: اضرب. هل يكون لفظ اضرب نهيًا عن ترك الضرب الذي هو ضد الضرب، أو مستلزمًا للنهي عن ذلك، أو ليس كذلك؟ فإذا قلت مثلاً: أمر زيد عمرًا بأن يضرب، فالمراد به أنه قال له: اضرب. وإذا قلت: أمر زيد عمرًا بأن لا يضرب، فالمراد أنه قال له: لا تضرب. وإذا قلت: أمر زيد عمرًا أن لا يضرب فالمراد أنه قال له: لا تضرب. وصيغته لا تضرب هي صيغة نهي بلا شبهة، وقد جعلها في هذا المثال تفسيرًا لما أخبر به من الأمر [5].

فإذا كان المتكلم بذلك من هو من العرب الذين يحتد بكلامهم فلا ريب أن تفسير الأمر بما هو صريح النهي يدل على أنه يطلق الأمر على النهي، وأن المتكلم بصريح النهي يقال له آمر.

(1)[يوسف: 40].

(2)

[هود: 87].

(3)

انظر «البحر المحيط» للزركشي (3/ 416 - 420).

قال صاحب «الكوكب المنير» (3/ 55): أن الأمر الإيجاب طلب فعل يذم تاركه إجماعًا، ولا ذم إلا على فعل، وهو الكف عن المأمور به أو الضد، فيستلزم النهي عن ضده أو النهي عن الكف عنه.

ص: 2384

وهذا الإطلاق لا يصح أن يكون إطلاقًا حقيقيًّا لما تقرر من أن الأمر هو طلب الفعل، لا طلب الكف، فلم يبق إلا أن ذلك الإطلاق مجازي، والعلاقة الضدية، وهي إحدى العلاقات المشورة المسوغة للتجوز، فما وقع في القرآن الكريم من قوله تعالى:{أمر ألا تعبدوا إلا إياه} (1) فيه التجوز بإطلاق الأمر الذي تضمنه الإخبار عن النهي المذكور لتلك العلاقة، وليس هذا هو محل النزاع بين أهل الأصول في مسألة كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، أو يستلزمه، بل محل النزاع عندهم هو ما قدمناه من كون لفظ افعل الدال على الطلب هل يكون نهيًا عن فعل الضد أو مستلزمًا له كما كان طلبًا للفعل نفسه، أو ليس كذلك؟ وليس نزاعهم في صحة إطلاق لفظ الأمر على النهي مجازًا، أو في عدم الصحة، فإنهم لا يختلفون في جواز ذلك الإطلاق على طريق المجاز في كل ضدين، لوجود العلاقة المسوغة، وهي الضدية مع نصب القرينة المانعة عن إرادة المعنى الحقيقي، ومثل هذا قوله تعالى:{أصلاتك [6] تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} (2) فإنه ليس فيه إلا جواز إطلاق لفظ الأمر الذي تضمنه الإخبار على الترك الذي هو مدلول النهي. فإذا تقرر هذا علم السائل- أدام الله فوائده- أنه لا دلالة في الآيتين في المسألة الأصولية التي هي محل النزاع (3). ومن تدبر لم يخف عليه ذلك. والله أعلم [7].

(1)[يوسف: 40].

(2)

[هود: 87].

(3)

على أن «كون الأمر بالشيء نهي عن ضده» .

ص: 2385