المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحث في الكلام على أمناء الشريعة - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٥

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌ الفقه وأصوله

- ‌التشكيك على التفكيك لعقود التفكيك

- ‌القول المفيد في حكم التقليد

- ‌بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد

- ‌بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق

- ‌رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام

- ‌بحث في العمل بقول المفتي صحّ عندي

- ‌بحث في الكلام على أمناء الشريعة

- ‌بَحْثٌ في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده

- ‌رفع الجناح عن نافي المباح

- ‌جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله

- ‌بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي

- ‌الدرر البهية في المسائل الفقهية

- ‌بحث في دم الخيل ودم بني آدم هل هو طاهر أن نجس

- ‌جواب سؤال في نجاسة الميتة

- ‌جواب في حكم احتلام النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح

- ‌ بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود

- ‌بحث في أن السجودَ بمجرّده من غير انضمامه إلى صلاةٍ عبادةٌ مستقلةٌ يأجر اللهُ عبده عليها

- ‌كشف الرين في حديث ذي اليدين

الفصل: ‌بحث في الكلام على أمناء الشريعة

‌بحث في الكلام على أمناء الشريعة

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 2343

وصف المخطوط

1 -

عنوان الرسالة: (بحث في الكلام على أمناء الشريعة).

2 -

موضوع الرسالة: في أصول الفقه.

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين وبعد فإني رأيت بعض الأعلام كثر الله فوائده ونفع بعلومه قد أنكر أن يكون بعث أمناء الحكام لنظر محل الخصومة.

4 -

آخر الرسالة:

قال الله سبحانه: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} فقد يذهل العالم عن مدرك من مدارك الشرع، فيأتي بما يخالفه حتى يتذكر، فيعود إلى الصواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.

7 -

عدد الصفحات: 9 صفحات.

8 -

المسطرة: الصفحة الأولى والثانية 26 سطرًا.

الصفحة الثالثة: 25 سطرًا.

الصفحة الرابعة: 11 سطرًا.

الصفحة الخامسة: 23 سطرًا.

الصفحة السادسة: 21 سطرًا.

الصفحة السابعة: 25 سطرًا.

الصفحة الثامنة: 22 سطرًا.

الصفحة التاسعة: 23 سطرًا.

9 -

عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة.

10 -

الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

ص: 2345

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، وبعد:

فإني قد رأيت بعض الأعلام (1) - كثر الله فوائده، ونفع بعلومه-، قد أنكر أن يكون بعثُ أمناء الحكام لنظر محل خصومة (2)، أو فصل أمر شجر بين خصوم كائنًا ما كان موافقًا للمنهج الشرعي، مطابقًا للمسلك المرضي. وصرح بأنه خلاف الشرع، وخلاف طريقة العدل.

هذا معنى كلامه - متع الله بحياته-، وأسند هذا الكلام الذي هو في قوة المنع بأن ذلك لم يثبت عن الشارع، ولا روي من فعله.

وأقول: هو - حفظه الله- لا يذكر أن هذه الشريعة المطهرة، ليست بمقصورة (3)

(1) في هامش المخطوطة ما ؤنصه: هو سيدي العلامة عبد الله بن محمد الأمير- رحمه الله وقد أطلعته على هذا البحث.

(2)

سيأتي توضيحه.

(3)

لذلك تجد دواوين السنة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم مبثوثة بين أحاديثه القولية، ولم يفردها من المسندين أحد بالرواية- فيما نعلم- كما لم يفرد الأقوال أحد عن الأفعال.

وأول من اعتنى بجمع الأفعال وإفرادها عن الأقوال هو- ابن العاقولي ولم يكن هذفه من تجميع الأفعال التهيئة لاستفاد الأحكام الفقهية منها، وإنما كان يريد التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم ولذلك أدمج أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم الخلقية ونسبه الشريف ونحو ذلك- كتابه «الرصف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الفعل والوصف» وجاء بعد ذلك السيوطي، فأفرد الأفعال عن الأقوال، ولم يكن الذي دعاه إلى هذا أمرًا يتعلق بالاحتجاج بها، وإنما كان هدفًا صرفًا.

انظر: «مقدمة السيوطي» الجامع الكبير.

- ترجع أولية فصل الفعال النبوية عن الأقوال إلى القرن الرابع. والله أعلم.

وقيل أن البيان بالفعل أحد أنواع البيان، فيمكن استعماله حيث أفاد المطلوب وواصح عقلًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان واسطة لتبيلغ الشريعة وبيانها، فإنه يبين بالطريقة التي يختارها، فإما أن يبين المشكل بأقواله أو بأفعاله، فلما صح البيان بالأقوال لكونها دليلًا على المطلوب فكذلك يصح البيان بالأفعال حيث تدل على المطلوب.

فما أفاد فيه البيان بالأقوال والأفعال، أجزأ بكل منهما ويكون ذلك واجبًا مخيرًا، أي الخصلتين فعل فقج أدى ما وجب عليه، وهذا مذهب أكثر العلماء وقد قيده عبد الجبار بأن لا يختص أحدهما في كونه مصلحة بما ليس في الآخر، وهو معنى ما تقدن من اشتراط الفائدة.

انظر: «المغني» (17/ 250).

قال ابن تيمية في «مجموع فتاوى» (8/ 11 - 12): كل ما قاله بعد النبوة واقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع، ثم قال: «

والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منها شرع»

وانظر: «الواضح في أصول الفقه» : في المرتبة الثانية من أدلة الأحكام الشرعية وهي السنة: وهي ثلاث مراتب:

فالأولى منها: القول، وهو منقسم إلى قسمين: مبتدأ، وخارج على سبب.

فالأول: المبتدأ، وهو منقسم قسمين: ص، وظاهر، ومن جملة الظاهر: العموم.

فأما النص: قوله صلى الله عليه وسلم: «في الرقة ربع العشر» ، «فيما سقت السماء العشر» .

وحكم ذلك: إيجاب تلقيه باعتقاد وحوبه والعمل به، ولا يترك إلا بنص يعارضه، ونسخ يرفع حكمه.

والظاهر: كقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء في دم الحيض: «حتيه، ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء» ، يحمل على الوجوب، ولا يصرف إلى الاستحباب إلا بدليل.

والعموم: كقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس في المال حق سوى الزكاة» ، «ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامة» فيعم سائر الحقوق إلا ما خصه الدليل من الغرامات والكفارات والديات.

القسم الثاني: وهو الخارج على سبب فمنقسم إلى قسمين:

مستقل دون السبب: كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له: إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وهي تطرح فيها المحائض ولحوم الكلاب وما ينجي الناس، قال:«الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه» .

فحكم هذا في استقلاله بنفسه المبتدأ، وقد سبق بيانه وانقسامه.

القسم الثاني: من الخارج على السبب: ما لا يستقل دون السبب مثل ما روي عن السائل عن لطم أمته الراعية، حيث اكل الذئب شاة من غنمه، وأنه أخذه ما يأخذ الرجل على تلف ماله: وما روي أن أعرابيًا قال له: جامعت امرأتي في نهار رمضان فقال لكل واحد منها: «اعتق رقبة» فيصير قوله صلى الله عليه وسلم مع سؤال السائل كالقول الواحد، فتقديره: اعتق رقبة إذا لطمت أمتك، واعتق رقبة إذا جامعت في نهار رمضان زوجتك.

وانظر: «الإحكام» (2/ 347)، «نهاية السول» (2/ 476 - 480).

ص: 2349

على مجرد الأفعال، بل هي ثابتة بالأقوال أكثر منها بالأفعال، وبالمعلومات أكثر منها بالخصومات.

وهذا أمر لا ينكره أحد، ولا تتخالج عارفًا فيه شبهة. وقد أمر الله- سبحانه- في كتابه العزيز بالحكم بالعدل (1)، وبما أنزل الله (2)، وبما أراه رسله من الحق (3). ثم خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم:{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} (4) الآية.

ثم كانت الخصومات ترفع إلى الرسول- صلى الله عليه وىله وسلم-، فيقتضي فيها كما قصة المترافعين إليه في المواريث (5) بينهما فدرست (6)، وكما في قصة خصومة الزبير في السقي (7) وكما في كثير من الواقعات في الأموال (8)

(1) قال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعد .. } [النساء: 58].

(2)

قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أعواءهم} [المائدة: 49].

(3)

قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله .. } [النساء: 105].

(4)

[النساء: 65].

(5)

انظر «فتح الباري» (3/ 56).

(6)

هكذا في المخطوط ولعلها فورثت.

(7)

أخرجه البخاري رقم (2359، 2360، 2361، 2362، 2708، 4585).

ومسلم في صحيحه (129/ 2357).

(8)

انظر «كتاب الأموال» لأبي عبيد.

ص: 2351

والحدود (1)، واللعان (2)، والطلاق (3)، والعتاق (4)، وما لا يأتي عليه الحصر.

فالحاصل أم ما شرعه الله- سبحانه- في كتابه العزيز، وما ثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم مما يبين به للناس ما نزر إليهم إما هو شريعة ثابتة مستمرة (5)

(1) انظر: «المغني» (14/ 308) وما بعدها.

(2)

انظر: «فتح الباري» (9/ 361) و (9/ 456).

(3)

انظر: «فتح الباري» (8/ 519).

(4)

انظر: «فتح الباري» (5/ 146).

(5)

إن النصوص في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، دلت دلالة قاطعة على وجوب اتباع السنة اتباعًا مطلقًا في كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن من لم يرض بالتحاكم إليها والخضوع لها فليس مؤمنًا، وأنها تدل بعموماتها وإطلاقًا على امرين هامين: أنها تعم كل من بلغته الدعوة إلى يوم القيامة، وذلك صريح في قوله تعالى {وأوحى إلى هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19].

أي أوحى الله إلى هذا القرآن الذي تلوته عليكم لأجل أن أنذركم به وأنذر به من بلغ إليه: أي كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة، وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد كشمولها لمن قد كان موجودًا وقت النزول.

انظر: «فتح القدير» (2/ 105).

وقال تعالى: {وما ارسلنك 'لا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا} [سبأ: 28]. أي أن الله تعالى أرسله إلى جميع الخلائق من المكلفين، كقوله تعالى:{قل بأيها الناس إني رسول الله إلأيكم جميعًا} [الأعراف: 158].

وأخرج مسلم في «صحيحه» رقم (154) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به غلا كان من أصحاب النار» .

وانظر «زاد المسير» (6/ 456).

وقال ابن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» (1/ 69 - 99): إن الله جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم أنبيائه ورسله وجعل شريعته الشريعة الخاتمة وكلف الناس بالإيمان به، واتباع شريعته إلى يوم القيامة ونسخ كل شريعة تخالفها، فمما تقضيه إقامة حجة الله على خلقه، أن يبقى دينه صلى الله عليه وسلم ويحفظ شرعه، إذ من المحال أن يكلف الله عباده بأن يتبعوا معرضة للزوال أو الضياع، ومعلوم أن المرجعين الأساسيين للشريعة الإسلامية هما القرآن والسنة.

ص: 2352

لعباده إلى قيام الساعة، أو هو خاص بزمن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم، والثاني باطل بإجماع المسلمين واولهم وآخرهم، ومستلزم لما هو باطل بإجماع المسلمين أولهم وآخرهم، إذ الكل متفقون على بقاء هذه الشريعة، وعلى أنها لم ترفع بموت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم، وأن السلف [1 أ] والخلف إلى قيام الساعة متعبدون بأحكامها، مكلفون بتكاليفها، ولم يسمع عن فرد من افراد المسلمين بما يخالف هذا بوجه من الوجوه، هذا هو البحث الول من مباحث كلامنا هنا.

(البحث الثاني): أنه لم يقل أحد من المسلمين أجمعين منذ البعثة إلى الآن أن هذه الشريعة المطهرة، لا تثبت إلا بالأفعال خاصة دون الأقوال. بل الأكام الثابتة بالأفعال المجردة عن الأقوال (1)، هي أقل قليل بالنسبة إلى الأقوال.

(البحث الثالث): أن هذه الشريعة المطهرة أكثرها ثابت بالعمومات الشاملة (2)، فإن أركان الإسلام لم تثبت إلا بمثل قوله- سبحانه-:{وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة} (3)، {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (4)، {ولله على الناس حج البيت} (5)

(1) انظر: «بداية الرسالة» .

(2)

انظر: تفصيل في «البحر المحيط» (2/ 134)، «المحصول» (2/ 363)، «إرشاد الفحول» (ص 419 - 425).

(3)

[المزمل: 20].

وقوله تعالى: {وأقيموا، وآتوا} من صيغ العموم وهو الأمر بصيغة الجمع

(4)

[البقرة: 185].

أيضًا من من صيغ العموم وانظر تفصيل ذلك «تيسير التحرير» (1/ 224)، «البحر المحيط» (3/ 64 - 65).

(5)

[آل عمران: 97].

فائدة: العموم في اللغة: شمول أمر لمتعدد سواء كان الأمر لفظًا أو غيره، ومنه قولهم عمهم الخير إذا شملهم وأحاط بهم.

«لسان العرب» (9/ 483)، «المصباح المنير» (ص 163).

والعموم في الإصلاح: «هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعه. كقوله الرجال، فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له ولا تدخل عليه النكرات كقولهم رجل لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا ولا يستغرقهم، ولا التثنية ولا الجمع لأن لفظ رجل ورجال يصلح لكل اثنين وثلاثة ولا يفغيدان الاستغراق، وى ألفاظ العدد، كقولنا خمسة لأنه يصلح لكل خمسة ولا يستغرقه، وقولنا بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك والذي له حقيقة ومجاز فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معًا.

وذهب الجمهور إلى أن العموم له صيغة موضوعة له حقيقة، وهي أسماء الشرط والاستفهام والموصولات والجموع المعرفة الجنس والمضافة واسن الجنس والنكرة المنفية والمفرد المحلى باللام ولفظ كل وجميع .. ».

النظر: «المحصول» (2/ 309)، «المسودة» (89 - 100)، «البحر المحيط» (3/ 7)، «إرشاد الفحول» (ص 391 - 398).

ص: 2353

(البحث الرابع): أنه لم يقل قائل من المسلمين أجمعين: أن أقواله وأفعاله- صلى الله عليه وآله وسلم مختصة، بأعيان الأسباب التي وقعت لأجلها (1)، لا تتجاوزها غلى أمثالها، ولا يصح الاحتجاج بها على غيرها. ولو قال قائل بذلك ارتفاع أكثر الشريعة، وعدم التعبد بغالب القرآن والسنة، لأنهما في الغالب، وأردان على أسباب خاصة. فلو قبل بقصر ما ورد فيهما عليها لزم أنه لا يحتج بها إلا في تلك المكنة، والأزمنة، وعلى أولئك الأشخاص الذين لهم تلك الأحوال. وهذا باطل من القول بلا خلاف.

(1) أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من حيث الجملة، حجة على العباد، إذ هي دليل شرعي يدل على أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين.

وقالوا: «لا خلاف بين أهل العلم أنه يرجع غلى أفعاله صلى الله عليه وسلم في ثبوت الأحخكام للفعال الشرعية، كما يرجع إلى اقواله، وذلك كله عندهم واحد في هذا الباب» .

انظر: «المتعمد» (1/ 377)، «الإحكام» للآمدي (1/ 265)، «تيسير التحرير» (3/ 120).

ص: 2354

(البحث الخامس): أنه قد ثبت عنه- صلى الله عليه وآله وسلم بعث أصحابه- رضي الله عنهم إلى الأقطار لتعليم الشرائع (1)، وقبض الزكوات (2). وذلك ظاهر مكشوف، لا يخالف فيه من يعرف الشريعة، بل بعث رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم من اصحابه من بعثه للإصلاح بين المسلمين. كما ثبت عنه أنه بعث عليًا رضي الله عنه في قصة خالد مه بني جذيمة (3)، وفي قصته مع مالك بن نويرة (4). بل خرج- صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه الشريفة للإصلاح بين بني عمرو بن عوف (5)، بل بعث خادمة أنيسًا (6) رضي الله عنه في أمر عظيم فقال: واغد يا أنيس على امرأة

(1) انظر: «السيرة النبوية» (2/ 83 - 86) العقبة الأولى ومصعب بن عمير.

قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين ..

(2)

أخرجه البخاري في «صحيحه» رقم (1458)، ومسلم رقم (29/ 19) عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: إنك تقدم على اقوام أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم الزكاة في اموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم، فإذا اطاعوك فخذ منهم وتروق كرائمم أموال الناس.

وانظر: «القصة كاملة في السير النبوية» (4/ 100 - 104).

(3)

أخرجه البخاري في «صحيحه» رقم (4339، 7189) وقد تقدم.

(4)

مالك بن نويرة التميمي كان شاعرًا فارسًا معدودًا في فرسان بني يربوع في الجاهلة. أسلم هو وأخروه متمم بن نويرة الشاعر كان النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمله على صدقات قومه.

انظر: «الإصابة» (5/ 560) رقم (7711)، «تهذيب الكمال» (3/ 1301)، «الكاشف» (3/ 117).

(5)

انظر التعليقة الآتية.

(6)

في هامش المخطوط: هذا المرسل هو أنيس بن الضحاك الأسلمي رجل من أسلم، كما جاء كما جاء مصرحًا بذلك في بعض الروايات الصحيحة وليس انس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يكن بعثه ولا غيره بأجرة فما الدليل وإلا فلتكن

الموضوع للمصالح العامة.

وانظر «الإصابة» رقم (290) و «الاستيعاب» رقم (95).

ص: 2355

هذا [1 ب] فإن اعترفت بالزنا فارجمها (1). وكذلك بعث عليًا رضي الله عنه لقتل الرجل الذي كان يدخل على أمهات المؤمنين، فوجده مجبوبًا (2) فتركه. ونحو هذه الوقائع كثير.

فإن قال قائل: إنه لا يجوز بعث أمناء الشريعة إلا في هذه الأمور بخصوصها، قلنا له: إن كان هذا لمزيد خصوصية لها الشريعة، فما هذه الخصوصية؟ وإن كان لكونها ثابتة بالشريعة، فكيف لا يجوز بعث الأمناء لكل أمر من الأمور الثايتة في الشبريعة!؟ فإن الشفعة ثابتة في هذه الشريعة (3)، وكذلك الإجارو (4)، والشركة (5)، وسقي الأعلى، فالأعلى، ومقدار ما يحل من السقي للأول حتى يرسله إلى من بعده (6).

فإن قال: إن هذه الأمور، يمكن للقاضي أن يقضي فيها، وهو في مكان حكمه، وداخل بيته.

قلنا: إن كان الأمر هكذا، فنحن نخالفك، ولكن محل النزاع، إذا كان محل الخصومة في بلاد قوم، لا يعرفون المسالك الشرعية ولا يعقلونها، فإن فوض القاضي

(1) أخرجه البخاري في صحيحيه رقم (2695، 2696)، ومسلم رقم (25/ 1697، 1698).

(2)

تقدم في الرسالة السابقة.

(3)

منها حديث جابر الذي أخرجه البخاري رقم (2257): أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا ةقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة.

(4)

قال تعالى: {قالت إحداهما يأبت استئجره إن خير من ؤاستئجرت القوي الأمين} [القصص: 26].

وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2262) من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم فقال أصحابه: وأنت: قال نعم: كنت ارعاها على قراريط لأهل مكة» .

(5)

منها الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (2497، 2498)، ومسلم رقم (1589) عن أبي المنهال:«أن زيد بن الأرقم والبراء بن عازب كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فامرهما أن ما كان يدًا بيد فخذوه وما كان نسيئة فردوه» .

(6)

تقدم من حديث عبد اله بن الزبير

ص: 2356

الأمر إليهم حكموا بالطاغوت، وإن شهادتهم وأخبارهم فهم لا يعرفون المسالك الشرعية، وكيف يعرفون أن هذا أحق بالشفعة من هذا، وهذا قد تعدى على خصمه فيما هو مشترك بينهما من دار، أو أرض. وهذا أقدم بالسقي من هذا، وهذا أمسك الماء زيادة على ما جعله رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم في الزبير.

وهذا معلوم، لا ينكره أحد. ومثل هذا إذا حضر بين يدي القاضي ورثة، وقالوا ابعث بيننا من يقسم ما تركه مورثنا على الفرائض الشرعية من دور وأراض، فكيف يصنع القاضي في مثل هذا؟! هل يفوض الأمر إلى عريف من عرفاء القرية، فيكون قد قضى بينهم بالطاغوت البحت؟.

أن يقول لهم هذه أراضيكم ودوركن، احملوها إلي، وآتوني بها حتى أقسمها بينكم، فيكون قد جاء بما يخالف الشرع والعقل [2 أ]، بل بما شعبة من الجنون؟! وهكذا لو قال للمختصين في شفعة أو شركة: احملوا هذا الذي تخاصمتم فيه إلي، فإنه قد أمرهم بما يحكمون عليه به بالجنون.

وإن قال: قد فوضت ذلك إلى العريف الفلاني من عرفاء القرية، كان قد أمرهم بالحكم بالطاغوت المحض.

فكيف يصنع هذا القاضي المسكين؟! أيطردهم من عنده؟ أم يقول لهم قد انسد في مثل حادثتكم هذه باب الشرع، ولا أجد لكم فرجًا، ولا مخرجًا في الشريعة السمحة السهلة، فاذهبوا حتى يبعث الله في قريتكم عالمًا فاضلاً يقسم بينكم، ويقضي في أموركم من شفعة وشركة، وإجارة وغير ذلك؟!!.

وكيف يسوغ مثل هذا في دين الله؟! وهل يقول به قائل من المسلمين [2 ب]؟ فإن قال: إن البعث للأمناء لمثل هذه الأمور التي ذكرناها جائز (1)، وأنها

(1) يجوز للقاضي اتخاذ الأعوان مع الحاجة لما ثبت في البخاري رقم (7155) من حديث أنس: «أن قيس بن سعد كان يكون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة للأمير» . وقد يجب عليه ذلك إذا كان لا يمكنه إنفاذ الحق ودفع الباطل إلا بهم.

وعليه أن يوصي الوكلاء والأعوان على بابه بتقوى الله تعالى، والرفق بالخصوم، وقلة لطمع ويجتهد أن لا يكونوا إلا شيخًا أو كهولاً من أهل الدين والصيانة والعفة.

انظر المغني (14/ 24) وتبصرة الحكام (1/ 25).

ص: 2357

أمور شرعية كتلك الأمور (1)، ولكن هؤلاء يطلبون أجرة .................................

(1) يحتاج القاضي في وظيفته القضائية إلى أعان يعينونه على تمشية أعمال القضاء، وهؤلاء هم الموظفون والمستخدمون في دائرة لقاضي كما يحتاج القاضي إلى من يستشيرهم من أهل العلم والفقه في القضايا التي تعرض عليه والأحكام الشرعية المناسبة لها، فمن هؤلاء الأعوان ....

أولاً: جماعة من أهل العلم والفضل. يشاورهم فيما يعرض عليه من قضايا وما ينبغي لها من أحكام شرعية مناسبة، وهذه المشاورة مطلوبة من القاضي وإن كان عالمًا.

وهذا النهج جرى عليه الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من القضاة، فقد كان سعيد بن إبراهيم قاضي المدينة يجلس بين القاسم وسالم، وهما من فقهاء المدينة يشاورهما. ولغرض من المشاورة تنبيه القاضي إلى ما قد عسى أن يكون قد فاته أو نسيه مما له تعلق بالدعوى أو مؤثر في الحكم مع بيان رأيهم في الحكم المناسب، وقد اشترطوا فيهم أن يكونوا من أهل الاجتهاد والعدالة حتى يمكنهم الدلالة على الحكم الشرعي للقضية.

ثانيًا: أعوان القاضي منهم:

1) الكاتب: وهو الذي يكتب بين يدي القاضي حسب ما يملي عليه القاضي. وقد قال الفقهاء عن هذا الكاتب أن بكون عدلاً على قدر كاف من الفقه والدراية.

2) الحاجب: وهو الذي يقدم الخصوم إلى القاضي ليقضي في خصومتهم بحسب أسبقيتهم في الحضور

. 3) البواب: ومن وظيفته إعلام الناس بوقت جلوس القاضي للحكم وإعلامهم بوقت راحته، ولإخبار القاضي بمن يريد الدخول عليه.

4) المترجم: ويتخذ القاضي مترجمًا عدلاً أو مترجمين اثنين أو أكثر عدولاً على اختلاف بين الفقهاء في العدد المطلوب

5) الجلواز: هو الذي يقوم على رأس القاضي ويقيم الخصوم إذا انتهت الخصومة ليخرجوا من مجلس القضاء.

6)

الشهود: وهؤلاء يحضرهم القاضي وجوبًا ليشهدوا على الإقرارات التي تصدر من الخصوم ويحفظونها.

7) الآجرياء: ووظيفتهم إحضار الخصوم إلى مجلس القضاء إذا استعدى عليهم أصحاب الحقوق، وينبغي أن يكونوا من ذوي الدين ولأمانة والبعد عن الطمع.

8) المزكون: وهؤلاء رجال عدول يختارهم القاضي دون علم الناس لتزكية الشهود بعد السؤال عنهم.

9) المؤدبون: وهؤلاء نفر من الرجال الأكفاء يكونون في مجلس القضاء ليزجروا من ينبغي زجره من المتخاصمين أو من غيرهم إذا أساءوا الأدب في مجلس القضاء، ولهم الحق في إخراجهم من المجلس إذا لم يكفوا عن إساءتهم.

10) أهل الخبرة: وهؤلاء يختارهم القاضي من أهل العدالة والأمانة والخبرة في الأمور التي تدخل في أعمال القضاء وتحتاج إلى خبرة معينة مثل تقويم الأشياء وإجراء قسمة العقار والمنقول.

11) صاحب السجن: من واجباته أن يرفع إلى القاضي كل يوم أحوال المحبوسين وما يجري في السجن، حتى يزيل الظلم ويطلق من لا يستحق البقاء في السجن.

من يختار أعوان القاضي:

الصنف الأول: يختارهم القاضي بنفسه، مثل أهل العلم والفقه الذين يستشيرهم القاضي في أمور الدعوى، والمزكون الذين يزكون الشهود لدى القاضي بعد أن يسألوا عنهم، والشهود الذين يشهدون على أقارير الخصوم في مجلس القضاء. والمترجم الذي يترجم له أقوال الخصوم والشهود الذين لا يعرف القاضي لغتهم.

الصنف الثاني: تعينهم الدولة عن طريق من له حق التعيين كالوزير ولأمير أو من يقوضه الخليفة أمر تعيينهم، وهؤلاء هم الكاتب، والحاجب والبواب، والجلواز، والآجرياء، وصاحب السجن، والمؤدبون.

انظر: «أدب القاضي» للماوردي (1/ 261 - 265)، «تبصرة الحكام» (1/ 37)، «روضة القضاة وطريق النجاة» للسمناني (ص132)، «أدب القاضي» لابن أبي الدم (ص 59 - 65).

ص: 2358

عملهم (1)،ويأخذونها من ........................................

(1) ورزق أعوان القاضي الذين تعينهم الدولة يكون من بيت المال، أما ما يختارهم القاضي كأهل العلم الذين يستشيرهم في الدعاوى التي ينظرها، وكالمزكين الذين يختارهم لتزكية الشهود بعد السؤال عنهم، وكالشهود الذين يحضره القاضي لسماع أقارير الخصوم في مجلس القضاء. وأرى تخصيص مكافآت أو مرتبات شهرية لهؤلاء من بيت المال على حسب ما يراه ولي الأمر من وجوه المصلحة

انظر: «تبصرة الحكام» (1/ 37)، «روضة القضاة» (ص 132).

ص: 2359

الخصومة (1).

منها الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2270) من حديث أبي هريرة قال: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه ولم يعطه أجره» .%، والتأكيد من ذلك، والتحذير من التقصير في شأنه.

وما الفرق بين هؤلاء، وبين من يؤجر نفسه في حرث الأرض، أو في رفع الأبنية أو إصلاح الطرقات، وحفر الأنهار ونحو ذلك مما لا يحصى؟. وكيف ينكر عل هؤلاء الأمناء، ما كسبوه من أجرهم التي عرقت لأجلها جباههم، وفارقوا أوطانهم، وقطعوا المفاوز، ونزلوا في أرض الجفاء بين البدوان أهل الجفاء والغلظة، والفظاظة، واستعفوا بذلك في أمر معاشهم، وقطعوا فيه غال أوقاتهم، فكيف يحسن من متدين أن يثلب أعراضهم، ويهتك أسترهم، ويقول: إنهم كانوا فقراء فصاروا أغنياء، وهو يعلم أن من عمل كعملهم، بل بعض عملهم من المنبثين في الأسواق القاعدين في دكاكينهم، قد نال من كسبه أضعاف أضعاف ما نالوا، مع أنه لم يتعب كتعبهم، ولا أجهد نفسه كما

(1) قال الفقيه السمناني في روضة القضاة (1/ 132) ويتكلم عن بواب القاضي، ورزقه: «ويكون رزقه من بيت مال المسلمين بحسب كفايته، وذلك سائر أعوان القاضي حتى لا يأخذ مالاً يجب أخذه وهم كالقاضي في ذلك لأنهم في مصالح المسلمين، فكما لا يجوز للقاضي أن يأخذ من أحد الخصوم شيئًا فكذلك أعوانه.%.

فأقول: إذا أخذوا ما يستحقون من الأجرة، فأي مانع لهم من ذلك؟ وهل قد ضاقت الشريعة عن أجرة مثل هؤلاء؟ أم أوجب الشارع عليهم أن يقطعوا المفاوز، ويستغرقوا أيامهم، ولياليهم بدون أجرة؟ وحاشا الشريعة المطهرة، أن تقضي بهذا أو توجته على أحد من عباد الله، بل الذي في الشريعة المطهرة الأمر بإعطاء الأجير أجره

ص: 2360

أجهدوا أنفسهم.

فما هو الموجب للرسل على هؤلاء الأمناء، مع كون لهم مزية العلم ونشره [3 أ] والاشتغال به، بل غالب من يباشر هذه الأعمال منهم علماء مبرزون قد جمع الله لهم بين علوم الاجتهاد، وصاروا رؤساء في علم الكتاب والسنة بحيث أنه لا يوجد من يقاربهم فلاً عمن يشابههم، في أمناء الشريعة الذين كانوا مع من قبلنا، فإن غالبهم ملتحقون بالعامة. والنادر منهم، يعرف بعض مسائل الخصومة، خبطًا وجزافًا. وقد نالوا من المكاسب أضعاف ما ناله هؤلاء. وكانوا يأخذون على الأعمال، فوق ما يأخذه هؤلاء بكثير.

وهذا يعرفه كل منصف. ومع هذا فما ترسل عليهم أحد من العلماء المعاصرين لهم ولا من العلماء الموجودين الآن الذين أدركوهم.

فياليت شعري ما هو المخصص لهؤلاء المساكين، حتى صار تعلقهم بمثل هذه الأعمال الشرعية منكرًا، ولم بكتف بذلك حتى عيرو بما كانوا عليه من الفقر والحاجة التي خلصهم الله منها بمزيد سعيهم، وكثير تعبهم!!!.

فإن كانت تلك المزية التي امتازوا بها على غيرهم. وهي كونهم من نبلاء العلم وفحول رجاله، قد صارت عليهم مزرية، وانقلبت مطعنة، فالأمر لله العلي الكبير.

فإن قال قائل: إنه لا ينكر جوز دخولهم في مثل هذه المكاسب، ولا مانع لهم عن ذلك من شرع ولا عقل، ولكنهم يأخذون من الأجرة فوق ما يستحقونه [3 ب] فأقول:

قد كان ينبغي ترك هذا التطويل والتهويل، وإنكار كون هذا المكسب مما يسوغ في الشرع، ويقال هؤلاء يأخذون فوق ما يستحقونه من الأجرة وحينئذ نقول: هاتوا من يشكو منهم بمثل هذه الشكاية، ويدعي عليهم مثل المظلمة، حتى نجمع بينه وبينهم في موقف الخصومة، ونأخذ الحق منه ونعاقبه بما يردع من يفعل مثل فعله.

ولست ممن يذهب إلى ما كان يذهب إليه أبو بكر الصديق- رضي الله عنه، من أنه لا يقيد

ص: 2361

من وزعته، ولا يقبل الطعن في أعوانه، مستدلاً على ذلك، بأنه قد لا يتم المضي في الحق، إلا ببعض الشدة في الأمر، وأن غالب الطباع قد ضربت بالنقم على من يلي أمور المسلمين، وسرى النقم عليهم إلى النقم على أعوانهم، وقد يكون غالب ذلك باطلاً.

وبهذا السبب أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه في أيام عثما- رضي الله عنه (1) تقدم تخريجه مرارًا.%، قد كانوا يعملون لرسول الله على الصدقات ونحوها، ويجعل لهم عمالة يعيشون بها، ويتصدقون بما فضل منها، كما ثبت ذلك في الصحيح. بل ثبت في الأحاديث الصحيحة (2) أخرجه أبو داود في سننه رقم (1588) بسند ضعيف.

من حديث جابر بن عتيك مرفوعًا بلفظ: «سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم» .%.

(1) انظر السيرة النبوية (1/ 244 - 149).%. فإن قال قائل: في الناس من يعمل مثل عمل هؤلاء بغير مؤنة، ولا تكليف الخصوم الأجرة. فأقول: جزى الله خير الجزاء من أهدى إلينا مثل هؤلاء الرجال، إن وجدوا في هذا العالم الإنساني. وهيهات؛ فإن الصحابة الذين هم خير القرون

(2)

أخرج البخاري في صحيحه رقم (7052) ومسلم رقم (45/ 1843) من حديث ابن مسعود «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: تودون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم» .

وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1846) والترمذي رقم (2199) من حديث وائل بن حجر قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعون حقنا ويسألونا حقهم؟ فقال اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» .%، أن أهل الأموال، كانوا يشكون إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم من ظلم المصدقين، فيأمرهم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يصيروا على ظلمهم. ويقول [4 أ]: أعطوهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم. وكان يأمرهم أن لا يرجع المصدقون إلا وهم راضون، وأن يكرموهم، إذا نزلوا عليهم

ص: 2362

فإن كان هذا الظلم الذي شكوه إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم حقًّا، فكيف يطمع الآن في ناس، لا يشكون ممن ولي شيئًا من أمورهم؟. وإن كان هذا الظلم الذي شكوه باطلاً، فكيف لا يجوز صدور مثله، من مثل أهل زماننا، ونحمل المشكو منهم على السلامة، ونقول للشاكي: أنت لا تقبل على خصمك كما ورد بذلك الشرع، فكيف تقبل على من ولي الحكم بينك وبينه؟. وأقل الأحوال، أن لا نبني علي ما يقوله الخصم في الحكم عليه مشيدات القناطر، ونرتب عليه عظيمات الفواقر، بل نبحث عن الحقيقة ونتبين الأمر كما أمرنا الله- سبحانه- بذلك في كتابه العزيز (1) أخرجه أبو داود في السنن رقم (1641) والترمذي رقم (1218) والنسائي (7/ 259) من حديث أنس. وهو حديث صحيح.

وأخرج البخاري رقم (1470) عن الزبير بن العوام رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم أحبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره، فيبيعها فيكف بها وجهه، خير من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه» .

وأخرجه البخاري رقم (1470) ومسلم رقم (1042) ومالك في الموطأ (2/ 998) والترمذي رقم (680) والنسائي (5/ 93) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه، أو يمنعه» .%. بل قد كان الصادق المصدوق- صلى الله عليه وآله وسلم

(1) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].%.

ثم اعلم أن الطعن على من سعى في مكسب حلال، يعفه عن الحاجة إلى الناس، ويعود عليه، وعلى من يعول بفائدة لم يقع أحد من سلف هذه الأمة ولا من خلفها، وقد كان الصحابة- رضي الله عنهم يسعون في المكاسب على اختلاف أنواعها، ما سمع من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم، أنه أنكر على أحد منهم، بل كان يرغبهم في ذلك، حتى أمر من لا كسب له أن يأتي ببعض ملبوسه، واشترى له بذلك فأسًا، وأمره أن يذهب فيحتطب

ص: 2363

[4 ب] يذهب قبل البعثة بتجارة خديجة- رضي الله عنها إلى الأقطار الشامية (1) تقدم ذكر ذلك.%.

وقد كان في النواب، والشهود جماعة من أكابر العلماء المصنفين، ومن رجال الرواية الحفاظ المتقنين. وهذا يعرفه كل من له خبرة بأحوال الناس. ومن شك في هذا، فليطالع كتاب تاريخ الإسلام (2)«سير أعلام النبلاء» للذهبي. مطبوع بـ / 28/ مجلدًا بمؤسسة الرسالة- بيروت.%، بل الكتب التي هو موضوعة لأخص من هؤلاء، كالمصنفات المشتملة على تراجم رواة الأمهات الست (3) [الذاريات: 55].% فقد يذهل العالم عن مدرك من

(1) انظر السيرة النبوية (1/ 244 - 245).%.

ثم الاعتياش بمثل هذا المعاش كائن في جميع الأعصار الإسلامية، مع جميع قضاة الإسلام، فقد كانوا ينتخبون النواب، ويرسلونهم إلى أطراف ولا يتهم، ويستكثرون منهم ويزيدون على اتخاذ النواب أهل منصب آخر يسمونهم الشهود.

(2)

للذهبي (49) مجلدًا.%، أو كتاب النبلاء.

(3)

كتهذيب الكمال للمزي، وتهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني والكاشف للذهبي.%، وهذا أمر ظاهر مكشوف. وما سمعنا إلى الآن مترسلا من الناس ترسل على أحد من هؤلاء، أو أنكر تكسبهم بمثل هذا المكسب.

فما هو الوجه الذي اقتضى الإنكار على هؤلاء، وتعييرهم بما كانوا عليه من الفقر، واستعظام ما صاروا فيه من ستر الحال، وجعل ذلك مطعنًا بل مدركًا يستفاد منه خيانتهم.

وفي هذا المقدار كفاية، فليس المراد منه إلا مجرد التذكير. قال- سبحانه-:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}

ص: 2364

مدارك الشرع، فيأتي بما يخافه حتى يتذكره، فيعود إلى الصواب.

وحسبنا الله ونعم الوكيل [5 أ].

ص: 2365