الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة: (بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق).
2 -
موضوع الرسالة: أصول الفقه.
3 -
أول الرسالة: (وبعد حمد الله حق حمده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، فإنها لما وقعت المذاكرة من جماعة من الحكام الأعلام ..
4 -
آخر الرسالة: فأهل المذهب الشريف لا يجعلون حكمه حكمًا، ولا يمنعون من نقضه إذا خالف الحق، ونصوصهم على هذه مدونة في كتبهم المباركة، وفي هذا المقدار كفاية في مسألة السؤال. انتهى.
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
الناسخ: المؤلف رحمه الله. محمد بن علي الشوكاني.
7 -
عدد الصفحات: (7) صفحة.
8 -
عدد الأسطر في الصفحة: (20 - 21) سطرًا.
9 -
عدد الكلمات في السطر: (9 - 10) كلمة.
10 -
الرسالة من المجلد الثانيب من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).
[بسم الله الرحمن الرحيم]
وبعد حمد الله حق حمده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله. فإنها لما وقعت المذاكرة من جماعة من الحكام الأعلام، في كلام أهل المذهب الشريف أنه: لا ينقض حكم الحاكم إلا بدليل علمي. فقلت:
إن المراد بهذا الحكم (1) الذي لا يحل نقضه إلا ................................
(1) الحكم في اللغة: القضاء والفصل لمنع العدوان ومنه قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105].
وقوله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} [ص: 26].
ويطلق الحكم ويراد به العلم والفقه ومنه قوله تعالى: {وآتيناه الحكم صبيًا} [مريم: 12].
قال ابن الأثير في «النهاية» (1/ 419): «الحكم: العلم والفقه والقضاء بالعدل» .
وقال صاحب «المصباح المنير» (ص56): الحكم: القضاء وأصله المنع يقال حككمت عليه بكذا إذا منعه من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك.
ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل.
ومعنى ذلك في الحكم الشرعي: أنه إذا قيل: «حكم الله في المسألة الوجوب» فإن المراد من ذلك أنه سبحانه قضى فيها بالوجوب ومنع المكلف من مخالفته.
- الحكم في اصطلاح الأصوليين: الحكم الشرعي: خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير أو الوضع.
أنواع الحكم الشرعي:
1 -
الحكم التكليفي: وهو خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير. -
وله خمسة أقسام: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحظور.
2 -
الحكم الوضعي: هو خطاب الله المتعلق بجعل الشيء سببًا لشيء آخر، أوشرطًا له، أو مانعًا منه، أو كون الفعل صحيحًا، أو فاسدًا، أو رخصة، أو عزيمة، أو أداء، أو إعادة، أو قضاءً.
وله أقسام عشرة: السبب، والشرط، والمانع، والصحة، والبطلان، والعزيمة، والرخصة، والاداء، والقضاء والإعادة.
الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي:
1 -
الحكم الوضعي الخطاب فيه هو: خطاب إخبار وإعلام جعله الشارع علامة على حكمه، وربط فيه بين أمرين بحيث يكون أحدهما سببًا للآخر أو شرطًا أو مانعًا منه.
أما الحكم التكليفي فالخطاب فيه خطاب طلب الفعل، أو طلب الترك: أو التخيير بينهما، فخطاب التكليف هو طلب أداء ما تقرر بالأسباب والشرط والموانع.
2 -
الحكم التكليفي يشترط له أن يستطيع المكلف فعله أي: يقدر على فعله، أما الحكم الوضعي فلا يشترط فيه قدرة المكلف عليه: فقد يكون مقدورًا للمكلف، وقد يكون غير مقدور للمكلف.
مثال: ما لا يقدر المكلف عليه: دلوك الشمس الذي هو سبب لوجوب الصلاة.
مثال: ما يقدر المكلف عليه: السرقة التي هي سبب في قطع اليد.
1 -
أن الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف وهو من توفرت فيه شروط المكلف وهو كونه عاقلًا يفهم الخطاب.
أما الحكم الوضعي فإنه يتعلق بفعل المكلف وغير المكلف كالصبي والمجنون والنائم والناسي.
1 -
أن الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بالكسب والمباشرة للفعل من الشخص نفسه بمعنى: أن المكلف فيه إذا عمل عملًا موافقًا لأمر فإنه يؤجر عليه، وإذا عمل عملًا مخالفًا لذلك فإنه يعاقب عليه.
أما الحكم الوضعي فلا ينطبق عليه ذلك فقد يعاقب أناسًا بفعل غيرهم ولهذا وجبت الدية على العاقلة.
2 -
أن الحكم التكليفي يشترط فيه: أن يكون معلومًا للمكلف، وأن يعلم أن التكليف به صادر من الله عز وجل.
أما الحكم الوضعي فلا يشرط فيه علم المكلف فلذلك يرث الإنسان بدون علمه، وتحل بعقد وليها عليها.
3 -
أن خطاب التكليف هو الأصل، وخطاب الوضع على خلافه فالأصل أن يقول الشارع:«أوجبت عغليكم أو حرمت» وأما جعله الزنا والسرقة علماًا على الرجم والطقع فبخلاف الأصل ولذلك يقدم الحكم التكليفي على الحكم الوضعي عند التعارض، لأنه الأصل.
ومن العلماء من يقدم الوضعي، لانه لا يتوقف على فهم وتمكن.
انظر «البحر المحيط» (1/ 128 - 130)، «الكوكب المنير» (1/ 333 - 336).
بدليل علمي (1) هو ما كان حكمًا ناجزًا مستندًا إلى العلم، لا ما كان حكمًا مشروطًا، أو مستندًا إلى الظنِّ؛ فإنه يجوز نقضه بحجة أقوى منه.
فطلب بعض الحكام - أبقاهم الله - النقل عن أهل المذهب الشريف في ذلك. فأقول: قال الإمام المهدي عليه السلام في (البحر الزخار)(2) ما لفظه:
«فصل: ولا ينقض حكم إلا أن يخالف قاطعًا؛ إذ لا يبطل العلم بالظن» انتهى فهذا التعليل يدل على أن الحكم مستنده أمرٌ يفيد العلم؛ إذ لا يكون الحكم معلوماً،
(1) إذا كان الحكم معتمدًا على دليل قطعي من نص أو إجماع أو قياس جلي فلا ينقض، لأن نقضه إهمال للدليل القطعي، وهو غير جائز أصلًا.
وإما إذا خالف الحكم دليلًا قطعيًا، فينقض بالاتفاق بين العلماء، سواء من قبل القاضي نفسه، أو من قاض آخر، لمخالفته الدليل.
فإن كان الحكم في غير الأمور القطعية، وإنما في مجال الاجتهادات أو الأدلة الظنية فلا ينقض. حتى لا تضطرب الأحكام الشرعية أو تنعدم الثقة بأحكام القضاء وتبقى الخصومات وتبقى الخصومات على حالها بدون فصل زمانًا طويلًا.
قال ابن قدامة في «المغنى» (14/ 34 مسألة رقم 1868): وجملة ذلك أن الحاكم إذا رفعت إليه قضية قد قضى بها حاكم سواه، فبان له خطؤه أن بان له خطأ نفسه، نظرت؛ فإن كان الخطأ لمخالفة نصِّ كتاب أو سنةٍ أو إجماع نقض حكمه، وبهذا قال الشافعي وزاد: إذا خالف قياسًا جليًا نقضه.
وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى - كتااب القضاء المشهور - وقد بين فيه عمر آداب القضاء، وصفة الحكم وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس:» .. ولا يمنعك قضاءً قضيت فيه اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديمٌ ومراجعة الحقِّ خير من التمادي في الباطل .. ».
أخرجه الدار قطني في «السنن» (4/ 206، 207 رقم 15) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 115).
(2)
(5/ 135 - 136)
ومستنده مظنونًا، لأن الظنِّ لا يحصل عنه الإ الظنُّ، ولا يخفى على عارف أنه لا يستفاد من شهادة العدلين، إلا مجرد الظن، وكذلك لا يستفاد من يمين المدِّعّى عليه ونكوله إلا مجرَّد الظنِّ.
فالحكم المستند إلى هذه الأمور ليس بمعلوم، حتى يقال فيه إنه لا يبطل العلم بالظنِّ. وإذ لم يكن معلومًا، بل مظنونًا جاز نقضه [1أ] بما يفيد العلم، بل وبما يفيد ظنًّا أقوى من الظنِّ الذي استند الحكم إليه فهذا حاصل ما يستفاد من كلام (البحر).
ومن زعم أن الحكم المستند إلى الأشياء المظنونة يكون معلومًا، فقد أخطأ؛ لأن الأشياء المستفادة حكمها حكم أسبابها، ولا يمكن أن تكون المسببات معلومة، وأسبابها مظنونة (1). ومما يؤيد هذا أنه قد تقرر لأهل المذهب الشريف أنه يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة الشهود، وإن لم يظن صدقهم، بل يكفي مجرد ألا يظن الكذب، فهذا الحاكم الذي حكم مع عدم حصول ظنِّ الصدق لا يقول عاقل أن يكون حكمه معلومًا، بل لا يقول إنه يكون حكمه مظنونًا ظنًا صحيحًا، ولكنه لما وجد المستند الشرعي وهو الشهادة جاز له الحكم مع أنه لو قال له قائل:
هل صار هذا الحكم الذي صدر عنك بمجرد شهادة لم تظن صدقها مظنونًا لديك؟ لقال: لا؛ لعدم حصول الظن بصدق السبب، فإذا قيل له: فكيف حكمت حكمًا لا تظن صحته؟ قال: وجد السبب الشرعي، وهو الشهادة، ولم يوجد المانع، وهو ظن الكذب ففعلت ما يجوز لي [1ب].
ومثل كلام (البحر الزخار) كلام (شرح الأثمار)(2)؛ فإنه قال فيه (في شرح قول صاحب .................
(1) انظر: «المغني» (14/ 34)، «تبصرة الحكام» (1/ 82 - 85).
(2)
وله شروح منها: شرح محمد بن يحيى بهران، ويحيى المقرابي.
الأثمار (1):
فصل: (ولا ينقض حكم إلا بنحو مخالفته لقاطعٍ) ما لفظُه: «أي لا يجوز نقض حكم حاكم لا للذي حكم به، ولا لحاكم (2) غيره، إلا إذا كان مخالفًا لدليل قاطعٍ من قرآن صرحي لا يحتمل التأويل، أو خبر نبوي متواتر صحيح، إن إجماع قطعي، فهذا يجب نقضه على الحاكم الذي حكم به، ويجوز ذلك لغيره، وقد يجب أيضًا. وما لم يكن كذلك لم يجز نقضه، إذا القطعي لا ينقض بالظن» انتهى.
فانظر كيف جعل العلة المانعة من النقض هي كون الحكم قطعيًا، وقطعيته إنما يكون باعتبار قطعية سببه! إذ لا يكون الشيء قطعيًا، وسببه ظنيًا وهذا معلومٌ بالعقل.
وقال في «الغيث» (3) ما لفظه:
«تنبيه» أما إذا عرضت دعوى في شيء قد حكم به حاكمٌ، فأما أن يكون ذلك الحكم مضافًا إلى سببٍ أو لا. إن كان غير مضافٍ بل حكم لزيدٍ بالملك المطلق، ثم
(1) وهو الإمام يحيى شرف الدين بن شمس الدين الحسني اليمني ولد بحصن حضور الشيخ من أعمال كوكبان شبام. سنة 877هـ، توفي سنة 965هـ دفن بحصن الضفير.
من مؤلفاته: «الأحكام في أصول المذهب» ، «شرح خطبة الآثار» ، «الأثمار في فقه الأئمة الأطهار» (مختصر «الأزهار») للإمام المهدي وهو أشهر كتب فقه الزيدية باليمن.
انظر: «مؤلفات الزيدية» (1/ 44)، «أعلام المؤلفين الزيدية» (ص1134).
(2)
قال في «شرح فتح القدير» (7/ 282): وإذا رفع القاضي حكم حاكم أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع بأن يكون قولًا لا دليل عليه.
(3)
الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار». تأليف الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضي الحسني.
وهو شرح على كتاب المؤلف «الأزهار في فقه الأئمة الأطهار» في أربع مجلدات قيل بدأ به المؤف في السجن سنة 796هـ وقد تحدث فيه عن كل مسألة وردت في الأصل مع ذكر الأدلة والأقوال.
انظر: «أعلام المؤلفين الزيدية» (ص 206). «مؤلفات الزيدية» (2/ 297).
أدعى آخر أنه شراءه من مالكه، أو نحو ذلك، فها هنا لا ينقض الحكم، ولو قامت البينة بذلك. ذكره المؤيد بالله في (الزيادات)، لأن الحكم يقابل تلك البينة، إلا أن يدعي الانتقال بعد حكم الحاكم من المحكوم له [2أ]، وأما إن أضاف حكمه إلى سبب نحو أن يحكم لزيدٍ بملك هذه الدار بحق الشراء من عمرو، ثم قامت شهادة بخلاف ذلك نظر في البينتين، فإن كانت لا حكم معها متقدمة على بينة الحكم نقض، ومثاله أن يشهد الشهود أن بائعها زيد أقر بها لآخر قبل بيعه، أو وهبها أو نحو ذلك، فإن كانت بينة الحكم لا تبطل نحو أن يدَّعى أحدهم شراءها من مالكها، وهو زيد، وحكم له، والآخر من مالكها وهو عمرو، ولا تاريخ لأيهما، فإن الحكم لا ينقض، لأن مع كل واحد منهما بينة؛ لكن رجحنا البينة التي معها الحكم. وكذا إذا كانت المسألة خلافية كبينة الداخل والخارج، فإن الحكم لا ينقض
…
». انتهى كلام الغيث للإمام (1) عليه السلام.
وقد استفدنا منه أن الحكم الذي لا يجوز نقضه إنما هو المطلق، لأنه ناجزٌ غير مضاف إلى سبب يقتضي أن يكون الحكم مشروطًا بصحة كون ذلك السبب سببًا. وأما إذا كان مضافًا إلى سبب فإنه يجوز نقضه بما يوجب بطلان سببية ذلك السبب من الأصل كما تقدم في شهادة إقرار البائع بخروج المبيع من ملكه قبل صدور البيع منه إلى المشتري الذي أقام البينة على الشراء.
وهكذا يجوز نقض الحكم المضاف [2ب] إلى سبب بمستندٍ أرجح من سند الحكم كما يفيد كلام (الغيث)(2) المذكور.
ومثل الصورة التي مثل بها صاحب الغيث في الشهادة المتقدمة الصورة التي عرضت المذاكرة فيها، وهي استناد الحكم إلى شهادة الإقرار بأن الدين على فلان لفلان، ثم قيام
(1) الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني تقدمت ترجمته.
(2)
تقدم ذكره.
شهادة أخرى محققه أن ذلك الإقرار صدر عن تواطؤ بين المقر والمقر له أن الإقرار ليس على حقيقته، بل المال للمقر، وإنما كان الإقرار لغرض. فإن الشهادة على التواطؤ تقضي ببطلان السبب الذي استند إليه الحكم، وهو الإقرار. ولكن هذا إذا صحت الشهادة على التواطؤ، وسلمت عن القادح.
ومن النصوص المقتضية لما ذكرناه في (شرح الأزهار)(1) ولفظه: «وكذا لو قامت بينة أخرى تنقض بينة الحكم فإنه يحكم بها.
نحو أن تقوم بينة بأن هذه الدار لزيد، اشتراها من عمرو، ثم تقوم بينة أن عمرو أقر بها للمبين الآخر قبل ذلك الشراء؛ فإن هذه البينة الأخيرة تقنض الحكم الأول» انتهى.
وقد ذكر صاحب (البيان)(2) كلامًا مفصلًا مفيدًا ولفظه:
«مسألة: الحكم على وجوه ثلاثة:
الأول: ينفذ فيه ظاهرًا لا باطنًا (3) وفاقًا، وهو في صور أربع [3أ].
(1) تقدم ذكره.
(2)
انظر: «مؤلفات الزيدية» (1/ 222 - 223)
(3)
قال جمهور العلماء: قضاء القاضي ينفذ ظاهرًا لا باطنًا، لأنا مأمورون باتباع الظاهر، والله يتولى السرائر فلا يحل هذا الحكم حرامًا ولا يحرم حلالاً، فلو حكم بشهادة شاهدين ظاهرهما العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطنًا، سواء في المال وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم:«إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته، من بعض، فأقضى له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له م حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» .
أخرجه البخاري رقم (2458) و (7181) ومسلم رقم (5، 6/ 1713) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
وقال أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم بعقد أو فسخ أو طلاق، نفذ حكمه ظاهرًا وباطنًا، لأن مهمته القضاء بالحق، وأما الحديث فهو في قضية لا بينة فيها. وعلى هذا إذا ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها، فأنكرت فأقام على زواجها شاهدي زور، فقضى القاضي بالنكاح بينهما، وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما، حل للرجل وطؤها، وحل لها التمكين عند أبي حنيفة خلافًا للجمهور. ومثله لو قضى بالطلاق فرق بينهما عنده، وإن كان الرجل منكرًا، ويقاس عليه البيع ونحو.
والخلاصة: إن القاضي في قول أبي حنيفة ينفذ قضاؤه ظاهرًا حيث كان المحل قابلاً لذلك كالعقود والفسوخ، والقاضي غير عالم بزور الشهود، وهذا القول وإن كان هو الأوجه في مذهب أبي حنيفة، إلا أن المفتي به عندهم هو قول الصاحبين الموافق لبقية الأئمة وهو أن قضاء القاضي ينفذ ظاهرًا فقط لا باطنًا أي ليس الحلال عند الله هو ما قضى به القاضي، بل ما وافق الحق. انظر:«البدائع» (7/ 15)«المغني» (14/ 34).
الأولى: فيما يحكم به تقريرًا ليد المدعى عليه، حيث حلف عليه، فإذا قامت الشهادة بعد الحكم قبلت.
الثانية: في القصاص إذا حكم بوجوبه، وهو ساقط.
الثالثة: ما كان فيه سببًا للتحريم كالحكم بزوجية امرأة لرجل وهي رضيعةٌ له في الباطن، أو كافرةٌ، ونحو ذلك.
الرابعة: فيمن حكم له بشيء مطلقًا، وهو في الباطن لغيره .. »
والذي يتعلق بمحل السؤال هو ما ذكرناه؛ فإنه صرح في الصورة الأولى أن البينة مقبولة مع أن الحاكم قد حكم بمستند شرعي، وهي يمين المدعي عليه (1).
وكذلك في الصورة الثانية (2)، فإن ظاهره أنه إذا حكم الحاكم بالقصاص بأي مستند كان، ثم ظهر مستندٌ آخر يقتضي سقوط القصاص، أنه يجب الانتقال عن الحكم، ويتوجَّه نقضه؛ لأن شهادة ا لسقوط قد رفعت السبب، الذي كان مستندًا للحكم.
وعلى الجملة: إن كتب المذهب الشريف مشحونة بما قدمنا ذكره من أن الحكم الذي لا يجوز نقضه هو ما كان حكمًا قطعيًا لا ظنيًا، ومعلومًا لا مظنونًا، ومطلقًا لا مقيدًا
(1) الذي أخرج البخاري رقم (4552) و (2514 و2268) ومسلم رقم (1711) من حديث ابن عباس رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدَّعى عليه» .
(2)
انظر تفصيل ذلك في «البحر الزخار» (5/ 137).
بسبب من الأسباب، فإذا جمع الحكم هذه القيود، فهو الحكم الذي لا يجوز نقضه وإن اختل [3ب] شيء منها جاز نقضه، فهذا كلام أهل المذهب الشريف في كتبهم المعتبرة كما سمعت، وما لم يذكر من كتبهم فيه مثلما ذكر الحكم.
قلت: وأرجح الأقوال ما حكاه الإمام المهدي في (البحر الزخار)(1) عن الإمام الأعظم يحيى بن حمزة - سلام الله عليه- أن الحكم إذا كان عن قياس خالف نصًّا صريحًا، ولو آحاديًا جاز نقضه. ووجه ذلك أنه قد صرح أئمة الأصول من أهل البيت - سلام الله عليهم-، ومن غيرهم أن القياس مع النص الصريح فاسد الاعتبار، لا يجوز العمل به، ولا يحل التعويل عليه.
وهكذا إذا كان مستندًا لحكم دون المستند الذي يخالفه كائنًا ما كان. وقد ذكرت الأدلة على ما ذهب إليه الإمام يحيى في غير هذا الموضع، ولا يتسع المقام لبسطها، إذ المطلوب هو تبيين كلام أهل المذهب الشريف.
ومما ينبغي التنبيه له: أن نصوص المذهب قاضية بأن الحاكم الذي لا يجوز نقض حكمه هو حاكم المجمع عليه، الذي كملت له الشروط المعتبرة، وأما من كان فاقدًا لبعض تلك الشروط أو لغالبها، فأهل المذهب الشريف لا يجعلون حكمه حكمًا، ولا يمنعون من نقضه إذا خالف الحق (2).
(1)(5/ 135 - 136).
(2)
إذا صدر الحكم القاضي مستوفيًا شروط صحته من حيث صيغته ومن حيث سلامته مما يدعو إلى نقضه كان حكمًا لازمًا واجب التنفيذ، وإذا أعيد النظر فيه، فإن كان مستحقًا للنقص، نقص وإلا أبرم. قواعد وضوابط يسترشد بها القاضي المختص فينقض في ضوئها بعض الأحكام ويبرم البعض الآخر:
القاعدة الأولى: الاجتهاد لا ينقض بمثله، ويترتب على ذلك أمران:
أ- أن ما حكم به القاضي بناء على اجتهاده السائغ المقبول في المسائل الاجتهادية، ليس له نقضه باجتهاده الجديد في المسألة التي حكم فيها.
ب- لا يسوغ لأي قاضٍ أن ينقض باجتهاده حكمًا اجتهاديًا أصدره قاضٍ آخر ما دام هذا الحكم قد صدر عن اجتهاد سائغ مقبول، لأن الاجتهاد السابق لا ينقضه اجتهاد لاحق من قاض آخر، لأنه لا مزية لاجتهاد الثاني على اجتهاد الأول ما دام الأثنان سائغين. وإذا نقض القاضي الثاني باجتهاده حكم القاضي الأول الذي أصدره باجتهاده كان نض الثاني مستحقًا للنقض، لأن القضاء في المسائل الاجتهادية حسب اجتهاد القاضي هو قضاء نافذ بالإجماع فلا يجوز التعرض له بالنقض من قبل قاضٍ آخر يريد نقضه بحجة أنه مخالف لاجتهاده هو.
وفائدة هذه القاعدة: تؤدي إلى استقرار الأحكام ووثوق الناس بها وإنهاء الخصومات، وقطع الطريق على حكام السوء الذي قد يتذرعون بالاجتهاد لنقض أحكامهم أو لنقض أحكام غيرهم وهم في الحقيقة يريدون محاباة من يكون النقض لمصلحتهم لذلك نقل عن بعض فقهاء الزيدية في هذا المعنى:«إذا أخطأ الحاكم فحكم بخلاف اجتهاده هو مما يجوز على قول بعض المجتهدين فإنه لا ينسخه، ويحكم بالمستقبل بما يؤدي إليه اجتهاده والوجه في عدم النقض ما يؤدي إليه من التسلسل بنقض النقض من الآخرين فتفوت مصلحة نصب الحاكم من فصل الخصومات لعدم الوثوق بالحكم» . -
القاعدة الثانية: السوابق القضائية لا تفيد القاضي ولا تلزمه إذا قضى القاضي في مسألة اجتهادية بحكم معين، فإنه لا يتقيد به في القضايا المماثلة للقضية الأولى، فله أن يحكم فيها بحكم جديد إذا تغير اجتهاده في هذه القضايا وبالتالي لا يجوز له أن ينقض حكمه الجديد بحجة حكمه القديم، وكذلك لا يجوز لغيره من القضاة نقض حكمه القديم بحجة اجتهاده الجديد، لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله ثم لا يجوز لغيره من القضاء نقض حكمه القديم بحجة اجتهاده الجديد، لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله ثم لا يجوز لغيره من القضاة نقض حكمه الجديد بحجة مخالفته لحكمه القديم لأن السوابق القضائية لا تقيد القاضي.
- القاعدة الثالثة: ينقض الحكم المخالف للنص أو الإجماع، فإذا حكم القاضي بحكم يخالف نص القرآن أو السنة الصحيحة أو الإجماع فإن هذا الحكم يستحق النقض. وقد أضاف القرافي في فروقه (4/ 40): أن من موجبات النقض مخالفة الحكم للقياس الجلي السالم عن المعارضة أو مخالفته لقاعدة من القواعد العامة الشرعية السالمة عن المعارض وبناء على ما تقدم، فإن حكم القاضي إذا رفع القاض آخر لينقضه، فإنَّه ينقضه إذا خالف ما ذكرناه، ويمضيه ويبرمه إذا لم يخالف ذلك.
- القاعدة الرابعة: تنقض أحكام قضاة الجور والسوء إذا كانت جائرة، ذهب جمهور المالكية إلى أن القاضي الجائر في أحكامه، إذا كان معروفًا في ذلك وكان غير عدل في سيرته وحاله، وسواء كان ذا علم أو ذا جهل فإن أحكامه ترد وتنقض سواء كانت في حقيقتها صوابًا أو خطأ لأنه لا يؤمن حيفه إلا ما عرفنا من أحكامه أن حكمه صواب، والبينة التي استند إليها حكمه بينة سليمة مستقيمة عادلة، فإن حكمه صواب والبينة التي استند إليها حكمه بينة سليمة مستقيمة عادلة، فإن حكمه هذا يمضي ولا يرد. وقال بعض فقهاء المالكية، في القاضي الجائر ثلاثة أقوال:
الأول: تنقض أحكامه مطلقًا وهذا قول ابن القاسم.
الثاني: حمل أقضيته على الصحة ما لم يثبت الجور.
الثالث: يمضي من أحكامه ما عدل فيه ولم تحصل فيه ريبة ويفسخ ما ثبت فيه الجور والريبة.
والأولى: أن القاضي الجائر المعروف بالجور والسوء يستحق العزل حالًا لتخليص الناس من جوره .. ».
- القاعدة الخامسة: التهمة تؤثر في حكم القاضي وتعرضه للنقض قال القرافي في «الفروق» (4/ 43): «إن التهمة تقدح في التصرفات إجماعًا مثل: حكم القاضي لنفسه. فإن هذا الحكم ينقض بلا خلاف بين الفقهاء؛ وتعليل هذا المسلك الذي نقول به أي نقض الأحكام للتهمة المعتبرة دون حاجة إلى فحصها، هو لضبط الأحكام، وفإن هذا الحكم ينقض بلا خلاف بين الفقهاء؛ وتعليل هذا المسلك الذي نقول به أي نقض الأحكام للتهمة المعتبرة دون حاجة إلى فحصها، هو لضبط الأحكام، وإبعاد الحكام عن مواطن الشكوك، وجعل الناس يثقون بحكامهم ويطمئنون بأحكامهم.
- القاعدة السادسة: تدقق أحكام قليل الفقه ومن لا يشاور فيبرم منها الصحيح وينقض منها ما كان خطأ بينًا.
- القاعدة السابعة: إذا كان الحكم المنقوض صحيحًا فإن الحكم الناقض ينقض ويبرم الحكم المنقوض. أنظر تفصيل ذلك في: «أدب القضاء» لابن أبي الدم (ص125). «تبصرة الحكام» لابن فرحون (ص70 - 75). «الفروق» للقرافي (4/ 40 - 45). «الفتاوى الهندية»
(3/ 356). - الجهة التي لها حق النقض والإبرام:
1 -
ينقض الحكم من أصدره - وقد تقدم.
2 -
ينقض الحكم غير من أصدره كما أن للقاضي الذي أصدر الحكم أن ينقض حكم نفسه، فإن لغيره من القضاة أن ينقضوا أحكام غيرهم، إذا رفعت إليهم هذه الأحكام، أو نظروها من تلقاء أنفسهم.
3 -
هل تنقض الأحكام وتبرم بطلب أو بدونه:
4 -
للقاضي الذي أصدر الحكم أن ينقضه بنفسه إذا ظهر له مخالفته لنص الكتاب أو السنة .. ومعنى ذلك أن هذا النقض يتم بدون طلب من أصحاب الشأن ويجوز من باب أولى أن ينقضه إذا طلب ذلك أصحاب الشأن والعلاقة بالحكم.
5 -
لا يجب على القاضي الجديد أن ينظر أحكام القاضي السابق الذي حل هو محله في وظيفته، لأن الظاهر جريان أحكام القاضي السابق على وجه الصحة والصواب إلا إذا تظلم محكوم عليه من حكم أصدره عليه القاضي السابق.
6 -
إذا لم يطلب القاضي من أحد من أصحاب الشأن النظر في أحكام من سبقه، وأراد القاضي أن يتعقب أحكام من سبقه ويتفحصها، فله ذلك فما رآه من هذه الأحكام موافقًا للشرع أمضاه وأبرمه وما كان مخالفًا للشرع على وجه لا يسوغ قبوله وكان في حق الله تعالى نقضه، لأن له النظر في حقوق الله تعالى، وإن كان الحكم في حق آدمي لم ينقضه.
- ضرورة تنظيم نقض الأحكام وإبرامها إلى جهات متعددة وإلى القاضي الذي أصدر الحكم، وعدم وجود جهة مختصة لها وحده حق نقض الأحكام وإبرامها، أن حالة كهذه تؤدي إلى شيء من المتاعب لأصحاب الحقوق كما تؤدي إلى عدم استقرار الأحكام وإلى اضطراب تنفيذها لذلك نستخلص أنه من الممكن لولي الأمر أن يعين ثلاثة أنواع من القضاة ويجعل اختصاصهم على النحو التالي:
النوع الأول: قضاة يصدرون الأحكام في الدعاوي التي ينظرونها ولا يحق لهم إعادة النظر فيها لأي سبب كان ونسميهم اصطلاحًا «قضاة الدرجة الأولى» .
النوع الثاني: قضاة ينظرون في أحكام قضاة الدرجة الأولى، كلها أو بعضها ويكون من صلاحيتهم إبرام وتأييده هذه الأحكام، ونسمى هذا النوع من القضاة «قضاة الدرجة الثانية» .
النوع الثالث: قضاة ينظرون في بعض أحكام قضاة الدرجة الأولى وفي جميع أو معظم أحكام قضاة الدرجة الثانية فما رأوه موافقًا للشرع أبرموه وما كان مخالفًا للشرع نقضوه، ونسميهم «قضاة الدرجة الثالثة». انظر:«الفروق» (4/ 41)، «تبصرة الحكام» (1/ 77).
ونصوصهم على هذه مدونة في كتبهم المباركة، وفي هذا المقدار كفاية في مسألة السؤال. انتهى.