المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رفع الجناح عن نافي المباح - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٥

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌ الفقه وأصوله

- ‌التشكيك على التفكيك لعقود التفكيك

- ‌القول المفيد في حكم التقليد

- ‌بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد

- ‌بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق

- ‌رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام

- ‌بحث في العمل بقول المفتي صحّ عندي

- ‌بحث في الكلام على أمناء الشريعة

- ‌بَحْثٌ في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده

- ‌رفع الجناح عن نافي المباح

- ‌جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله

- ‌بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي

- ‌الدرر البهية في المسائل الفقهية

- ‌بحث في دم الخيل ودم بني آدم هل هو طاهر أن نجس

- ‌جواب سؤال في نجاسة الميتة

- ‌جواب في حكم احتلام النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح

- ‌ بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود

- ‌بحث في أن السجودَ بمجرّده من غير انضمامه إلى صلاةٍ عبادةٌ مستقلةٌ يأجر اللهُ عبده عليها

- ‌كشف الرين في حديث ذي اليدين

الفصل: ‌رفع الجناح عن نافي المباح

‌رفع الجناح عن نافي المباح

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 2387

وصف المخطوط (أ):

1 -

عنوان الرسالة: (رفع الجناح عن نافي المباح).

2 -

موضوع الرسالة: في الأصول.

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. حمدًا لمن أنعم علينا بالإثابة في التروك والأفعال وشكرًا لمن لم يجعل شيئًا من الحركات والسكنات في جانب الإلغاء والإهمال

4 -

آخر الرسالة: وكافاه بالحسنى، بحق محمد (1) وآله وصحبه، وكان تاريخ التأليف وتحريره حفظه الله من شهر رجب سنة 1206 هـ ست ومائتين وألف.

5 -

نوع الخط: خط نسخي معتاد.

6 -

عدد الصفحات: 7 صفحات + صفحة العنوان.

7 -

المسطرة: الصفحة الأولى حتى الصفحة السادسة: 26 سطرًا.

الصفحة السابعة: 15 سطرًا.

صفحة العنوان مع اسم المؤلف.

8 -

عدد الكلمات في السطر 12 - 14 كلمة.

9 -

الرسالة من المجلد الأول من «الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني» .

(1) تم التعليق على هذه العبارة وغيرها فيما تقدم.

ص: 2389

وصف المخطوط (ب):

1 -

عنوان الرسالة: الرد على من استبعد قول العلامة أبو القاسم البلخي وهو الكعبي من أن المباح مأمور به.

2 -

موضوع الرسالة: في أصول الفقه.

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. حمدًا لمن أنعم علينا بالإثابة في التروك والأفعال وشكرًا لمن لم يجعل شيئًا

4 -

آخر الرسالة:

وإلى هنا انتهى الكلام على هذه المسألة، حرره بقلمه وقاله بفمه القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. في شهر رجب سنة (1204 هـ) فكان الفراغ من نقلها في شهر ربيع الآخر سنة (1208 هـ).

5 -

نوع الخط: خط نسخي معتاد.

6 -

عدد الصفحات: 6 صفحات.

7 -

المسطرة: الأولى: 33 سطرًا.

الثانية: 36 سطرًا.

الثالثة: 37 سطرًا.

الرابعة: 34 سطرًا.

الخامسة: 36 سطرًا.

السادسة: 12 سطرأ.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.

9 -

الرسالة من المجلد الأول من «الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني» .

ص: 2393

بسم الله الرحمن الرحيم.

حمدًا لمن أنعم علينا بالإثابة في التروك والأفعال وشكرًا لمن لم يجعل شيئًا من الحركات والسكنات في جانب الإلغاء والإهمال، والصلاة والسلام على من جعل الإمساك عن الشر صدقة (1)، وعلى آله وصحبه الناقلين إلينا من الحديث أوثقه وأصدقه، وبعد:

فإنه لما كثر من جماعة من طلبة علم الأصول استبعاد ما ذهب إليه أبو القاسم البلخي وهو الكعبي (2) من أن المباح (3) ...................

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1445)، ومسلم رقم (1008) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

(2)

هو عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي أبو القاسم وهو رأس طائفة من المعتزلة تسمى الكعبية له أراء خاصة في علم الكلام والأصول وله مؤلفات في علم الكلام كانت وفاته سنة 319 هـ.

انظر: «شذرات الذهب» (2/ 281)«البداية والنهاية» (11/ 284).

(3)

عزاه إليه: الزركشي في البحر (1/ 279) وصاحب الكوكب المنير (1/ 424).

- المباح: لغة: المعلن، المأذون.

واسم المفعول مشتق من الإباحة، ويطلق على الإظهار والإعلان:«باح بسره» أي أظهره وأعلنه.

ويطلق- أيضًا- ويراد به: الإطلاق والإذن. يقال: أباح الأكل من بستانه أي: أذن بالأكل منه.

«لسان العرب» (3/ 234)«تاج العروس» (2/ 126 - 127).

- المباح في الاصطلاح: فعل مأذون فيه من الشارع خلا من مدح وذم مخرج الواجب والمندوب والحرام والمكروه؛ لأن كلاً من الأربعة لا يخلو من مدح أو ذم، إما في العقل، وإما في الترك.

وقال الغزالي في المستصفى (1/ 66): إن المباح هو الذي ورد الإذن من الله تعالى بفعله وتركه غير مقرون بذم فاعله أو مدحه، ولا يذم تاركه.

وانظر الكوكب المنير (1/ 422) تيسير التحرير (2/ 225).

صيغ الإباحة:

الصيغة الأولى: «لا حرج» قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61].

الصيغة الثانية: «لا جناح» ومثاله قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236].

الصيغة الثالثة: «أحل» قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187].

الصيغة الرابعة: صيغة الأمر التي اقترنت بها قرينة صرفتها من الوجوب والندب إلى الإباحة قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

فهنا أمر الله بالانتشار في الأرض وهذا الأمر للإباحة، والقرينة التي صرفت الأمر عن الوجوب إلى الإباحة هي: منع الفعل قبل ذلك في قوله سبحانه: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] حيث كان الانتشار لطلب الرزق ممنوعًا قبل الصلاة ثم أباحه بعد الصلاة.

انظر: «البحر المحيط» (1/ 277).

- الإباحة حكم شرعي: خلافًا لبعض المعتزلة، الخلاف لفظي يلتفت إلى تفسير المباح إن عرفه بنفي الحرج، وهو اصطلاح الأقدمين، فنفي الحرج ثابت قبل الشرع، فلا يكون من الشرع، ومن فسره بالإعلام بنفي الحرج فالإعلام به إنما يعلم من الشرع فيكون شرعيًّا.

«البحر المحيط» (1/ 177 - 178).

«الكوكب المنير» (1/ 422 - 423).

ص: 2397

مأمور به (1) حتى ظن بعضهم أن هذه المقالة من الخرافات التي لا مستند لها من عقل، ولا

(1) المباح غير المأمور به:

اختلف في المباح هل هو مأمور به أو لا؟ على مذهبين:

- المذهب الأول: أن المباح غير مأمور به من حيث هو مباح، وهو مذهب جماهير العلماء من فقهاء وأصوليين وهو الصحيح.

- والدليل على ذلك «أن المباح غير مأمور به» هو أن حد الأمر «استدعاء وطلب الفعل بالقول على وجه الاستعلاء.

وحد المباح هو ما أذن الله تعالى في فعله وتركه.

فالفرق واضح بين أن يأذن لعبده في الفعل وبين أن يأمره به ويقتضيه منه وأنه إن أذن له فليس بمقتص له.

فالأمر: اقتضاء الفعل من المأمور به والمطالبة به والنهي عن تركه على وجه ما هو أمر به، ومعنى الإباحة: تعليق الفعل المباح بمشيئة المأذون له في الفعل وإطلاق ذلك له.

وإن ورد واستعمل الأمر في الإذن فهذا تجوز؛ لأن إطلاق لفظ الأمر على المباح ليس على سبيل الحقيقة؛ لأن الاسم الحقيقي للمباح: المأذون فيه، ويجوز إطلاق اسم الأمر عليه مجازًا من إطلاق اللازم على الملزوم؛ لأنه يلزم من خطاب الله تعالى بالتخيير فيه كونه مأمورًا باعتبار أصل الخطاب.

مما تقدم يلزم أن المباح غير مأمور به. وهو الصحيح؟

المذهب الثاني: أن المباح مأمور به، وهو ما نسب إلى الكعبي وأبي الفرج المالكي وأبي بكر الدقاق.

[سيأتي توضيحه وبيان أدلته لأنه محور الرسالة].

ص: 2398

نقل، ولا جرم هيبة الجمهور تفعل أكثر من هذا، ومعرفة الحق بالرجال لا الرجال بالحق لا يأتي إلا بمثل هذا فاسمع ما نملي عليك من مرجحات مذهب هذا العالم المتفرد بهذه المقالة؛ لتأخذ حذرك من جعل الكثرة بمجردها من موجبات الرجحان، ودلائل الإصابة وتجعلها عبرة في أمثال هذا المقام، وليقدم تقرير مذهب الكعبي ليكون الناظر على بصيرة.

فنقول: حكى عنه ابن الحاجب في مختصر المنتهى (1) القول بأن المباح مأمور به، وتأويله للإجماع على أن المباح غير مأمور به بأنه باعتبار ذات الفعل، لا بالنظر إلى ما يستلزمه، جمعًا بين الأدلة. وصرح السبكي في جمع الجوامع (2) أن الخلاف لفظي (3)،

(1)(1/ 6).

(2)

(1/ 173).

(3)

نعم الخلاف بين الجمهور والكعبي في اللفظ والعبارة فقط ولا خلاف بينهما في المعنى.

أن الكعبي نظر إلى المباح من حيث ما يعرض له من عوارض تخرجه عن كونه مباحًا وتجعله مأمورًا به، فهذا النظر هو سبب قوله في استدلاله على أن المباح يكون مأمورًا به باعتبار ما يعرض له من ترك حزم وغيره لا أنه مأمور به من حيث ذاته.

ومعلوم أن الطرفين قد اتفقا على أن المباح مأمور به لعارض يعرض له. كما ذكرنا في أقسام المباح بحسب الكلية والجزئية.

- خلاصة: أن الكعبي نظر إلى المباح من حيث ما يعرض له من عورض تخرجه عن كونه مباحًا تجعله مأمورًا به.

والأولى ما ذهب إليه الجمهور وهو أن المباح غير مأمور به، ونظرتهم لأنهم نظروا إلى ذات الفعل المباح، والكعبي إنما نظر إلى ما يستلزمه الفعل المباح.

والأصل في ضبط الحدود وبناء الأحكام إنما هو بالنظر إلى ذات الشيء، لا إلى ما يستلزمه وما يعرض له من عوارض.

وإذا ثبت أن النزاع لفظي في المسألة، لعدم ورود المذهبين على محل واحد: يتبين أن المباح من حيث ذاته لا يمكن أن يكون مأمورًا به بالاتفاق.

أما المباح من حيث ما يعرض له وما يستلزمه يمكن أن يكون مأمورًا به حسب العوارض.

انظر: «الكوكب المنير» (1/ 425)، «نهاية السول» (1/ 63)، «البحر المحيط» (1/ 279)، «المستصفى» (1/ 74)، «الإحكام» للآمدي (1/ 125).

ص: 2399

لأن الكعبي لا يخالف الجمهور بالنزر إلى ذات الفعل في أنه غير مأمور به. والجمهور لا يخالفونه بالنظر إلى ما عرض للفعل من تحقق ترك الحرام في أنه مأمور به.

قال المحلي في شرح الجمع (1): قد صرح الكعبي بما يؤخذ من دليله من أنه غير مأمور

(1)(1/ 173).

- أقسام المباح بحسب الكلية والجزئية:

1 -

المباح بالجزء والمطلوب على جهة الوجوب: قسم الشاطبي المباح إلى أربعة أقسام بحسب الكلية والجزئية:

مثاله: الأكل والشرب ومعاشرة الزوجة، حيث أن لكل فرد الحق في أن يأكل ويشرب ويخالط زوجته أو لا يعمل هذا فهو مباح له الأمرين الفعل والترك، لكن يجب الفعل من جهة الكل أي امتناع الشخص عن هذه الأشياء جملة واحدة بشكل دائم حرام؛ لأنه يفضي إلى الهلاك والضرر، وترك الحرام واجب.

2 -

المباح بالجزء والمطلوب بالكل على جهة الندب:

مثاله: التمتع الزائد على الحاجة في المأكل والمشرب، والملبس وغيرها، فإن ذلك مباح بالجزء أي أن لكل شخص الحق في أن يتمتع في المأكل والمشرب الزائد، ولكنه مندوب إليه لما ورد الندب إليه في عموم الأدلة الغالية لها والمرغبة فيها مثل قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].

3 -

المباح بالجزء والمحرم بالكل: مثاله: المباحات التي تقدح المداومة عليها بالعدالة، فبالمداومة عليها يخرج صاحبها إلى ما يخالف هيئات أهل العدالة، ويشبه الفساق وإن لم يكن كذلك.

4 -

المباح بالجزء والمكروه بالكل: مثاله: التنزه في البساتين، وسمع تغريد الحمام فإن هذه مباحة بالجزء أي أن الشخص يباح له أن يفعل ذلك مرة أو مرتين، أما إذا فعلها دائمًا فتكون مكروهة لما فيه من ضياع الوقت من غير فائدة.

«الموافقات» (1/ 206 - 209).

ص: 2400

به من حيث ذاته، مأمور به من حيث ما عرض له من تحقق ترك الحرام (1). تقدمت ترجمته.%: المحكي عن الكعبي أن المباح به، لكنه دون المندوب، كما أن المندوب مأمور به، لكنه دون الواجب.

قال في شرح الغاية: وقد نقل عنه العلامة في شرحه على المختصر مثل ما نقل عنه الإمام يحيى انتهى، وهكذا نقل البرماوي عن القاضي، ثم قال: وقال إنه وإن أطلق الأمر على المباح فلا يسمى المباح واجبًا، ولا الإباحة إيجابًا (2)(1/ 66).%، وابن القشيري (3) نقله الزركشي في «البحر المحيط» (1/ 280): عن الأبياري.

قال ابن تيمية في «مجموع فتاوى» (10/ 530 - 531): ومن هذا أنكر الكعبي «المباح» في الشريعة؛ لأن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم، وترك المحرم واجب، ولا يمكنه تركه إلا أن يشتغل بضده، وهذا المباح ضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إلا ضد واحد، وإلا فهو أمر بأحد أضداده، فأي ضد تلبس به كان واجبصا من باب الواجب المخير.

ثم قال: «وتحقيق الأمر» أن قولنا: الأمر بالشيء نهي عن ضده وأضداده والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده، من جنس قولنا: الأمر بالشيء أمر بلوازمه، وما لا يتم الواجب به إلا به، فهو واجب والنهي عن الشيء نهي عما لا يتم اجتنابه إلا به، فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده، بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء أضداده، وعدم النهي عنه، بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته، و: إذا كان لا يعدم إلا بضد يخلقه كالأكوان فلا بد عند عدمه من وجود بعض أضداده فهذا حق في نفسه لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وأن لم يكن مقصوده الأمر، والفرق ثابت بين ما يؤمر به قصدًا، وما يلزمه في الوجود.

فالأول: هو الذي يذم ويعقب على تركه بخلاف.

الثاني: فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيدًا فعليه أن يسعى من المكان البعيد، والقريب يسعى من المكان القريب، فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به، ومع هذا فإذا ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب، بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد أعظم فلو كانت اللوازم مقصودة للأمر لكان يعاقب بتركها، فكأن يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطعًا.

وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لا بد من ترك أضداده، لكن ترك الأضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصودًا للأمر، بحيث إنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه لا على فعل الأضداد التي اشتغل بها، وكذلك المنهي عنه مقصود الناهي عدمه، ليس مقصوده فعل شيء من أضداده، وإذا تركه متلبسًا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك.

وعلى هذا إذا ترك حرامًا بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني، ولا يقال فعل واجبًا وهو ترك الأول؛ لأن المقصود عدم الأول، فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ولا بامتثاله أمرًا مقصودًا، لكن نهى عن الحرام ومن ضرورة ترك المنهي عنه الاشتغال بضد من أضداده، فذاك يقع لازمًا لترك المنهي عنه، فليس هو الواجب المحدود بقولنا «الواجب ما يذم تاركة، ويعاقب تاركه» أو «يكون تركه سببًا للذم والعقاب» .% من أنه لا مباح في الشرع، بل كل ما يفرض مباحًا فهو واجب،

(1) انظر التعليقة السابقة.%.

قال ابن أبي شريف في حاشيته أن الآمدي وغيره حكى عن الكعبي التصريح بذلك. قال الإمام يحيى بن حمزة

(2)

انظر «البحر المحيط» (1/ 28). «الموافقات» للشاطبي (1/ 194 - 200).%.

قال: وتبعه على ذلك الغزالي في المستصفى

(3)

انظر «البحر المحيط» (1/ 83).% في أصوله، وفيه أن دليله الآتي مصرح بأن المباح واجب.

وأما ما روي عنه

ص: 2401

مأمور به، فقال [1] الإمام يحيى: إنها رواية حكاها عنه الرازي وغيره، وهي مغمورة لا تعرف مذهبًا له، ولا لأحد من أصحابه (1)(2/ 6).%، بأن فيه تسليم أن الواجب واجد، فما فعله فهو واجب قطعًا. قال العضد بعد أن صرح بضعف ذلك الجواب:

ووافق ابن الحاجب (2) في «الإحكام» (1/ 126).% اعترف بعدم صحة هذا

(1) انظر «الكوكب المنير» (1/ 430). «نهاية السول»

(1/ 138).%. وإذا تقرر بلك هذا فاعلم أن الخلاف إن كان لفظيًّا فقد استرحنا من تلك المجاولات والمصاولات التي ذكرها أئمة الأصول بينه وبين الجمهور، ولم يبق ما يوجب التشنيع عليه، ورميه لمخالفة الإجماع، والحط من قوله، ووصفه بالبطلان، وإن كان الخلاف معنويًّا كما هو الظاهر من كلام أكثر الأصوليين فاسمع ما في المقام من المحاججة والخصام وتدبره مستعملاً للإنصاف؛ ليلوح لك أن الكعبي قد وفق لما هو الحق في المسألة.

قال الكعبي مستدلاً على مطلوبه: كل مباح ترك حرام، وترك الحرام واجب فالمباح واجب.

ثم لما كان المقام مظنة سؤال يرد عليه، وهو أن يقال: ليس ترك الحرام نفس المباح غايته أنه لا يحصل إلا به.

أجاب بأن ذلك لا يضرنا؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به واجب، وبه ويتم الدليل ويثبت المطلوب. وأجاب الجمهور عن دليل الكعبي بجوابين:

الأول: المنع من أنه لا يتم الواجب أعني: ترك الحرام إلا بالمباح، قائلين: المباح غير متعين لذلك؛ لإمكان الترك بغيره، ورده ابن الحاجب في مختصر المنتهى.

(2)

(2/ 6).% على رده ما لفظه: وهكذا غاية ما في الباب أنه واجب مخير لا معين، وهو لم يدع أصل الوجوب انتهى. وهكذا الآمدي

ص: 2403

الجواب على دليل الكعبي.

الجواب الثاني: إلزامه أن الصلاة حرام إذا ترك بها واجب، ورده أيضًا ابن الحاجب وشراح كلمة، أن الكعبي يلتزمه باعتبار. وصرح أيضًا بضعفه، ثم قال ابن الحاجب: فلا مخلص إلا بأن ما لا يتم الواجب إلا به من عقلي، أو عادي فليس بواجب. وارتضى هذا المخلص بعض شراح كلامه. وأنت تعلم أن مذهب الجمهور كم حكاه ابن الحاجب في مختصره، والسبكي في جمع الجومع (1) انظر «البحر المحيط» (2/ 281).%، ولكنه قد شهد هو وشراح كتابه على الجمهور القائلين بوجوب العقلي والعادي بعدم إمكان تخلصهم عن قول الكعبي بعد اعترافهم بسقوط ذينك الجوابين الذين من جهد الجمهور [2]. ولهذا ألزم الجمهور في مسألة مقدمة الواجب؛ لصحة قول الكعبي في نفي المباح، واعترف جماعة من محققهم بأن ما قاله الكعبي حق. قال السبكي في شرح المختصر: والحق عندنا أن ما لا يتم الواجب المطلق المقدور إلا به واجب مطلقًا. وأن ما قاله الكعبي حق باعتبار الجهتين انتهى.

وقال بعض المحققين بعد اعترافه بصحة قول الكعبي، وجعله متفقًا عليه ما لفظه: وأما عند توجهنا واشتياقنا إلى الحرام، وكنا نجد من أنفسنا أنا نفعل الحرام لو لم نشتغل بضده، فلا شك حينئذ أنه يجب علينا فعل المباح أو غيره، تحصيلاً لعلة الكف عن الزنا.

والجمهور لا ينكرون وجوب المباح مثلاً في هذه الصورة، بل يصرحون بذلك كما تشهد به كتب الفروع، مثلاً إذا كان شخص مع امرأة جميلة في بيت، وكان يجد من نفسه أنه لو لم يشتغل بضد الزنا لصدر منه الزنا، فلا شك أن الاشتغال بضد الزنا واجب

(1) (1/ 1749.%، وغيرهما أن ما لا يتم الواجب إلا به،- من عقل، أو عادي- واجب، وهو الحق. فابن الحاجب وإن أمكنه التخلص على زعمه بهذا الواجب، لكونه قائلاً بوجوب الشرط الشرعي فقط، تبعًا لإمام الحرمين

ص: 2404

عليه في تلك الصورة، ثم قال: وأنت تعلم أن ما استدل به الكعبي من أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (1)، إنما هو في هذه الصورة؛ إذ في الأولى أعني- تقدير عدم القصد والإرادة- والداعي إلى فعل الحرام لا يصدق أن فعل المباح دائمًا واجب، للكف عن الحرام، فالدليل لا يدل عليه فتأمل.

ومن الذاهبين إلى مذهب الجمهور من لم يعترف بحقية قول الكعبي، وتكلف للجواب عليه بما لا يرضيه المنصفون، فقال ابن الإمام في شرح الغاية في مسألة مقدمة الواجب ما لفظه:

وأما الرابع: فقول أبي القاسم البلخي: إنما يصح لو توقف ترك الحرام على فعل المباح، وليس كذلك لجواز أن لا يتوقف على فعل، أو على فعل غير مباح.

وقد عرفت أن هذا الجواب لا يوجب خروج المباح عن كونه واجبًا مطلقًا، إنما

(1) قال ابن تيمية في «مجموع فتاوى» (10/ 532): «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب «أو» يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب» يتضمن إيجاب اللوازم، والفرق ثابت بين الواجب «الأول» و «الثاني» فإن الأول يذم تاركه ويعاقب، والثاني واجب وقوعًا، أي لا يحصل إلا به ويؤمر به امرأ بالوسائل، ويثاب عليه، لكن العقوبة ليست على تركه.

ثم قال ابن تيمية: «

وبهذا تنحل «شبهة الكعبي» فإن المحرم تركه مقصود، وأما الاشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة، فإذا قيل المباح واجب بمعنى وجوب الوسائل، أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق.

هم إن هذا يعبر فيه القصد، فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم.

وقد يقال المباح يصير واجبًا بهذا الاعتبار، وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا، وإلا كان واجبًا مخبرًا، لكن مع هذا القصد، أما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبًا أصلاً، إلا وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم لا يشترط فيه القصد، فكذلك ما يتوسل به إليه، فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وإنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك، فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري، وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها.

وانظر «البحر المحيط» (1/ 281).

ص: 2405

يخرجه عن كونه واجبًا معينًا إلى كونه واجبًا مخيرًا (1) انظر «البحر المحيط» (4/ 174). «الكوكب المنير» (1/ 383).% مما لم يعتبره أئمة الأصول، بل غاية ما اشترطوه في الواجب المخير مطلق التعيين، لا مقيده. والتخيير بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه تخيير بين أمور معينة، على أن انتهاض اعتبار المقيد

(1) انظر «البحر المحيط» (1/ 275). «مجموع فتاوى» (10/ 541 - 545).%، إذ حاصله أن المباح أحب الأمور التي لا يتحقق ترك الحرام إلا بأحدها، وأحد الأمور التي لا يتم الواجب إلا بها واجب مخير، فالمباح واجب مخير، وأنه غير مناف لمطلوب الكعبي، وقد اعترف ابن الإمام أيضًا في مسألة المباح بأن هذا الجواب وإن خلص عن الواجب المعين لا يخلص عن الواجب المخير، إلا أنه اعتمد هنالك على ما ذكره السعد في حاشية شرح المختصر فقال: إن التخيير إنما يكون في أمور معينة بالاتفاق، ثم قال: قيل التعيين النوعي حاصل، وهو كونه واجبًا، أو مندوبًا، أو مكروهًا [3]، أو مباحًا، وأجيب بأنه لا يكفي تعيين النوع، بل لا بد من تعيين حقيقة الفعل، كالصوم والاعتكاف مثلاً. ولا يحصل ذلك بمجرد اعتبار شيء من الأغراض العامة، إلا أنه غير كلام السعد إلى ما لا يخلو عن إشكال؛ لأن قوله: لا يكفي تعيين النوع يشعر باعترافه بحصول التعيين النوعي في محل النزاع، فلا يصح الجواب، فإنه لا بد من تعيين حقيقة الفعل؛ لأن التعيين النوعي لا يتم إلا بتعيين حقيقة الفعل، كما يشعر به كلام السعد في حاشيته، ولفظه: فإن قيل يكفي التعيين النوعي، وهو حاصل بكونه واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا.

قلنا: لا بد في التعيين النوعي من تعيين حقيقة الفعل، كالصوم، والاعتكاف مثلاً ولا يحصل ذلك لمجرد اعتبار شيء من الأعراض العامة. انتهى.

فكلامه هذا يدل على أن التعيين النوعي لا بد فيه من تعيين حقيقة الفعل، وإلا لم يكن نوعيًّا.

وأنت تعلم أن اشتراط تعيين حقيقة الفعل في التعيين النوعي

ص: 2406

على الكعبي لا يتم إلا بعد ثبوت الاتفاق عليه، وإلا كان من الرد بالمذهب.

ومن جملة الوجوه التي ذكرها المحقق ابن الإمام في رد مذهب الكعبي قوله: على أن التخيير في الوجوب بين الواجب والمندوب والمكروه والمباح، بين كل واحد منها ضد للحرام برفع حقيقة كل واحد منها، والجواب عنه، أما أولاً فبالنقض بالواجب المخير، وهو الجمهور من القائلين بعدم ارتفاع الوجوب عن جميع الأمور المخير فيها، بلك جعلوا الوجوب متعلق بالجميع، أو بالأحد المبهم، أو ما يفعله المكلف، أو معينًا عند الله، وعلى الجميع لم يرتفع الوجوب، والجواب الجواز.

أما ثانيًا فبالحل، وهو أن الذي وجب، وهو المبهم لم يختر فيه، وهو كل من المتعينات؛ لأنه لم يوجب معينًا، وإن كان يتأدى به الواجب. وتعدد ما صدق عليه أحدها إذا تعلق به الواجب، والتخيير يأبى كون الواجب والتخيير واحدًا، كما حرم واحدًا من الأمرين وأوجب واحدًا فإن معناه أيهما فعلت حرم الآخر، وأيها تركت وجب الآخر. والتخيير بين واجب بهذا المعنى جائز. إنما الممتنع التخيير بين واجب بعينه، وغير واجب بعينه. والحاصل أن التخيير بين واجب هو أحد المعينات من حيث هو [4] أحدهما مبهمًا، وبين غير واجب هو أحدهما على التعيين من حيث التعيين لا يستلزم ارتفاع حقيقة الوجوب؛ لن هذا لا يوجب جواز ترك كل من المعينات على الإطلاق، بل جواز ترك كل معين من حيث التعيين بطريق الإتيان بمعين آخر، وأيضًا الحقيقة باقية بالنظر إلى ذات الفعل، والواجب أعني: ترك الحرام إنما هو باعتبار ما يستلزمه الفعل، ولو سلم ارتفاع حقيقة كل وحد لكانت حقيقة المباح مرتفعة، وهو مطلوب الكعبي. أما الملازمة فلأن المباح أحدها، وقد ارتفعت حقيقة كل واحد، وأما حصول مطلوب الكعبي فبانتفاء حقيقة المباح، وما هو جوابكم فهو جوابه.

وقد استحسن جماعة من المتأخرين ما أجاب به البرماوي في شرح ألفيته، وأشار إليه ابن الهمام في تحريره، وذكره ابن أبي شريف في حاشيته على جمع الجوامع، وهو قولهم: لا نسلم أن كل مباح يتحقق به ترك

ص: 2407

الحرام (1) الذي هو واجب؛ لأن ترك الحرام الذي يوصف بالوجوب هو الكف المكلف

(1) قال الزركشي في «البحر المحيط» (1/ 282): قوله إن الحرام إذا ترك به حرام آخر يكون واجبًا من جهة أخرى يقال عليه: إن التفصيل بالجهتين إنما هو في العقل دون الخارج، فليس لنا في الخرج فعل وحد يكون واجبًا حرامًا؛ لاستحالة تقويم الماهية بفصلين متنافيين، وهما فصل الوجوب وفصل الحرمة، وكذلك أيضًا يقال على قوله: إن المباح واجب الاستحالة اجتماع الوجوب والإباحة في الشيء الواحد، وقد علم بالبديهة امتناع تقويم الماهية بفصلين أو فصول متعاندة. ومن ثم امتنع أن يكون للشيء مميزان ذاتيان بخلاف المميزين العرضيين الخاصتين واللازمين ..

«وقوله فعل المباح» قلنا: تركه له بخصوصه أو ترك له مع غيره والأول يلزم منه كون الفعل واجبًا، وأما الثاني فلا نسلم، وسند المنع أن التلبس بالفعل المعين ترك لجميع الأفعال الواجبة والمندوبة والمحرمة والمكروهة والمباحة غير الفعل المتلبس به، وترك الجمع المذكور لا يتعين به ضد معين عملاً بترك الصلاة على الكافر، فإنه لم يتعين من مفهومه وجوب الصلاة على المسلم، ثم نقول: ما ذكرتم وإن دل على وجوبه.

قلنا: ما يدل على إباحته من وجوه:

1 -

أن فعل المباح مستلزم لترك الواجب الذي ليس بمضيق، ولترك الحرام وإذا تعارضت اللوازم تساقطت فيبقى المباح على إباحته.

2 -

أن فعل المباح مستلزم لتعارض اللزوم الذي استلزمه لوازم الأحكام الخمسة، ومتى تعارضت اللوازم تساقطت.

3 -

لو فرضنا جميع الأفعال دائرة أخذت الأفعال المباحة خمسها فإذا حصل الفعل المتلبس به فهو مركز الدائرة وإذا كان مثلاً مباحًا بالذات الذي أقر الكعبي به حصل للفعل المذكور نسبة إلى كل خمس من أجزاء الدائرة، والغرض أنه مباح فتساقطت النسب الخمس، وتبقى الإباحة الذاتية.

الثاني: من أدلة الدائرة: إذا تلبس المتلبس حصلت له الإباحة بالذات وبالنسبة حصل منه الوجوب ناشئًا عن النسبة، وكل ما كان فيه أمران يقتضيان حكمين عارضهما أمر مساوِ لأحدهما يقتضي نفي ذلك الحكم فإنه مرجح وقوع نقيض الأمرين، فيرجح القول بإباحة الفعل المذكور.

الثالث: أن تقول: هذا الفعل فيه إباحة ذاتية وإباحة نسبية وفيه وجوب نسبي معارض للإباحة فيتساقطان، وتبقى الإباحة الذاتية.

(4)

: أن تقول: الإباحة النسبية ترجح بانفرادها على الوجوب النسبي لأن الإباحة النسبية متوقفة على النسبة المذكورة والوجوب يتوقف على ترك الحرام، والحرام متوقف على النسبة المذكورة فترجح الإباحة.

وانظر «مجموع فتاوى» (10/ 530 - 534).

ص: 2408

به في النهي، كما هو الراجح، وهو فعل مغاير لسائر الأفعال الوجودية التي هي أضداد الحرام، ولا خفاء في توقف الكف على القصد له، ولا في أن الكف عن الشيء فرع خطوره بالبال، وداعية النفس له، فمن سكنت جوارحه عن الحرام أو غيره أو حركها في مباح أو غيره، من غير أن يخطر بباله الحرام، ولا دعته النفس إليه لم يوجد منه كف، فلا يكون آتيًا بالترك الواجب، وإن كان غير إثم اكتفى بالانتقال الأصلي في حقه، فقد ظهر أن اجتماع الترك الواجب أعني: الكف، وما يعرض عن فعل مباح أو غيره مما ذكره اجتماع اتفاقي لا لزومي، فإذا اجتمعا فالموصوف فيه بالوجوب هو الكف، لا ما يقارنه من الفعل المباح أو غيره انتهى.

قال ابن أبي شريف: وهذا أحسن ما يتخلص به عن دليل الكعبي. ولا يخفى عليك أن هذا الكلام مع ما فيه من التكلف لا يتم إلا بعد تسليم أن المكلف به في النهي هو الكف المذكور، وأنه خلاف، فإن القائلين بأن النهي عن الشيء أمر بضده صرحوا بأن النهي طلب ترك فعل، والترك فعل للضد، فالمكلف به فعل الضد والمباح ضد فيكون واجبًا لا من حيث كونه كفَّا عن قصد، بل من حيث كونه تركًا للحرام.

وأهل هذا المقالة أعني: كون النهي عن الشيء أمرًا (1) بضده هم القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده.

(1) انظر الرسالة السابقة.

قال ابن برهان في «الأوسط» كما في «البحر المحيط» (1/ 281): بنى الكعبي مذهبه على أصل إذا سلم له فالحق ما قاله، وهو أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده، ولا مخلص من مذهبه إلا بإنكار هذا الأصل.

ص: 2409

وأما ما حكاه ابن الحاجب (1)

(1/ 175 - 176).% انتهى.

وقد ألزم القائلون بأن النهي أمر بالضد بمذهب الكعبي. قال العضد: إنه يستلزم نفي المباح إذ ما من مباح (2) انظر كلام ابن تيمية وقد تقدم.%، وما لا يتم الواجب إلا به لا يلزم أن يكون واجبًا على ما مر انتهى.

وقد عرفت مما سلف عدم انتهاض هذا التخلص، وأيضًا قد اعترف العلامة في شرح المختصر أن الإلزام بمذهب الكعبي لا يختص بمذهب القائلين بأن النهي أمر بالضد، بل هو وارد على مذهب القائلين بكون الأمر بالشيء نهيًا عن الضد. وتكلف السعد في الجواب عليه.

(1) انظر «البحر المحيط» (1/ 281).% أن من [5] الناس من اقتصر على القول بأن الأمر عين النهي عن الضد، أو يستلزمه دون النهي، فلا يكون أمرًا بضده المعين، أو أضداده على التخيير، ولا يستلزمه، فقد قال السبكي في منع الموانع أنه لم يجد له في هذه الطريقة مستندًا من معقول ولا منقول. قال: ولا رأيتهما فيما رأيت من كتب الأصول، ولا أدري من أين أخذها، قال: ولعله أخذها من قول بعض الأصوليين في الاستدلال على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده كما أن النهي ليس أمرًا بضده فكأنه متعين عليه للقطع فيه بذلك لكن ليس فيه صراحة لاحتمال أن يراد ذكر المسألتين معًا، واختيار النفي فيهما لا كون أحدهما أصلاً للأخرى. قال: ولهذا حذفتها في جمع الجوامع

(2)

انظر «مجموع فتاوى» (10/ 542).% إلا وهو ترك حرام، كما هو مذهب الكعبي، وقد بطل انتهى.

قال السعد: فإن قيل هذا بعينه دليل الكعبي، على أن المباح مأمور به لا تعلق له بما ذكرنا من الدليل على أن النهي عن الشيء أمر بضده.

قلنا: قد سبق أنه لا مخلص عن دليل الكعبي إلا بأن ترك الحرام ليس نفس فعل المباح، غايته أنه لا يتم الواجب إلا به

ص: 2410

وعلى الجملة فقد صار مذهب الكعبي شجًّا في حلوق القائلين أن الأمر بالشيء نهي عن ضده وبالعكس، وقذًا في أعين الذاهبين إلى وجوب ما لا يتم الواجب إلا به، وهم الجمهور (1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.% من حديث [6] أبي موسى قال: قال- صلى الله عليه وآله وسلم: «على كل مسلم صدقة. قيل: أرأيت إن لم يجد، قال: يعمل بيديه فينفع نفسه، ويتصدق. قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير. قال: أرأيت أن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر، فإنها صدقة» فجعل- صلى الله عليه وآله وسلم مجرد الإمساك صدقة، فلا شيء من الإمساك بمباح وهو المطلوب. واعتبار القصد والخطور لا دليل عليه إن كان ذلك أمرًا زائدًا على مجرد النية التي تتوقف الإثابة على الأفعال والتروك عليها.

ومن الأدلة الدالة على مذهب الكعبي أيضًا حديث أبي ذر قال: «قالوا يا رسول الله، أحدنا يقضي شهوته ويكون له صدقة؟ قال: أرأيت لو وضعها في غير حلها، ألم يكن يأثم» أخرجه أبو داود (2) كمسلم في صحيحه رقم (53/ 1006) وأحمد (5/ 167 - 168). وهو حديث صحيح.%، فجعل- صلى الله عليه وآله وسلم وضع

(1) انظر بداية الرسالة.% أيضًا، ولا مخلص لهم عنه كما اعترف بذلك جماعة من محققيهم، فإذا ترتب صحة القول في هاتين المسألتين اللتين هما من أمهات مسائل الأصول، ومهماتها على قول الكعبي، ولم يقع النقص عنه إلا بتكلفات قد عرفناك سقوطها، فلا معذرة للجمهور عن القول به، والاعتراف بصحته.

وقد عرفت ما أسلفناه في تقرير مذهب الكعبي، وأنه مجمع عليه من تلك الحيثية فلا نعيده.

ومن الأدلة على صحة مذهب الكعبي ما أخرجه الشيخان

(2)

في «السنن» رقم (5243) و (5244).% وغيره

ص: 2411

الشهوة في الحلال مثابًا عليه، لما فيه من الإمساك عن الحرام.

ومن الأدلة أيضًا حديث (1) قال ابن تيمية في «مجموع فتاوى» (10/ 534): فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الأجنبية ووطئها، أو يأكل طعامًا حلالاً ليشتغل به عن الطعام الحرام فهذا يثاب على هذه النية والفعل وقد يقال المباح يصير واجبًا بهذا الاعتبار، وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا، وإلا كان واجبًا مخيرًا، لكن مع هذا القصد، أما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبًا أصلاً، إلى وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم لا يشترط فيه القصد، فكذلك ما يتوسل به إليه. فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وإنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك، فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي لا اعتباري، وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها.

والمقصود هنا: أن الأبرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح من مباح آخر فيكون كل من المباحين يستوي وجوده وعدمه في حقهم.

أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها، والاستعانة على طاعة الله، وحينئذ فمباحاتهم طاعات وإذا كان كذلك لم تكن الأفعال في حقهم إلا ما يترجح وجوده فيؤمرون به شرعًا أمر استجاب، أو ما يترجح عدمه فالأفضل لهم أن لا يفعلوه وإن لم يكن فيه إثم. والشريعة قد بينت أحكام الأفعال كلها.

قال الزركشي في «البحر المحيط» (1/ 280): والحق: أن مقصود الشارع بخطاب الإباحة إنما هو ذاته من غير اعتبار آخر فأما من جهة أنه شاغل عن المعاصي فليس هذا بمقصود الشرع، ولا هو المطلوب من المكلف، وما صوره الكعبي من كون ذلك ذريعة ووسيلة فلا ننكره، ولكن المنكر قصد الشارع إليه، ولإجماع المسلمين على أن الإباحة حكم شرعي، وأنه نقيض الواجب، وكونها وصلة لا يغلب حكمها المقصود المنصوص عليه شرعًا.% على جميع

(1) لا أصل في المرفوع هكذا.

بل ورد «نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله مضاعف، ودعاؤه مستجاب، وذنبه مغفور» . رواه البيهقي بسند ضعيف عن عبد الله بن أبي أوفى، وضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» رقم (5984).

وقال المناوي في «فيض القدير» (6/ 291) معروف بن حسان- أي أحد رجاله- ضعيف، وسليمان بن عمر النخعي أضعف منه.

وقال الحافظ العراقي فيه سليمان النخعي أحد الكاذبين وأقول: «أي المناوي» في أيضًا عبد الملك ابن عمير أورده الذهبي في الضعفاء وقال أحمد: مضطرب الحديث. وقال ابن معين: مختلط، وقال أبو حاتم ليس بحافظ.

وأورد أبو نعيم في «الحلية» عن سليمان: «نوم على علم خير من صلاة على جهل» . وقد ضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» رقم (5985). وقال علي القاري في «الأسرار المرفوعة» (ص 359): ففي الجملة: من كان عالمًا فنومه عبادة؛ لأنه ينوي به النشاط على الطاعة، ومن هنا قيل:«نوم الظالم عبادة» ؛ لأن تلك السنة عبادة بالنسبة إليه في ترك ظلمه.% «نوم العالم عبادة» إن صح ونحو ذلك كثير لمن تتبع. وهذا من السنن الإلهية. وأي نعمة أجل وكرامة أنيل من استثمار الأجور

ص: 2412

الحركات والسكنات التي لم تتصف بوصف الحرمة والكراهة. وإلى هنا انتهى الكلام على هذه المسألة.

كمل من تحرير المؤلف بقلمه القاضي عز الدين محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما، وكافاه بالحسنى، بحق محمد وآله وصحبة. وكان تاريخ التأليف وتحريره- حفظه الله- في شهر رجب سنة 1206 هـ سنة ست ومائتين وألف.

[وكان الفراغ من نقلها في شهر ربيع الآخر سنة 1208 هـ](1).

(1) زيادة من (ب).

فائدة:

الإباحة حكم شرعي خلافًا لبعض المعتزلة، والخلاف لفظي يلتفت إلى تفسير المباح، إن عرفه بنفسي الحرج، وهو اصطلاح الأقدمين، فنفي الحرج ثابت قبل الشرع، فلا يكون من الشرع، ومن فسره بالإعلام بنفي الحرج فالإعلام به إنما يعلم من الشرع فيكون شرعيًّا.

«البحر المحيط» (1/ 278).

ص: 2413