المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٥

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌ الفقه وأصوله

- ‌التشكيك على التفكيك لعقود التفكيك

- ‌القول المفيد في حكم التقليد

- ‌بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد

- ‌بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق

- ‌رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام

- ‌بحث في العمل بقول المفتي صحّ عندي

- ‌بحث في الكلام على أمناء الشريعة

- ‌بَحْثٌ في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده

- ‌رفع الجناح عن نافي المباح

- ‌جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله

- ‌بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي

- ‌الدرر البهية في المسائل الفقهية

- ‌بحث في دم الخيل ودم بني آدم هل هو طاهر أن نجس

- ‌جواب سؤال في نجاسة الميتة

- ‌جواب في حكم احتلام النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح

- ‌ بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود

- ‌بحث في أن السجودَ بمجرّده من غير انضمامه إلى صلاةٍ عبادةٌ مستقلةٌ يأجر اللهُ عبده عليها

- ‌كشف الرين في حديث ذي اليدين

الفصل: ‌القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح

‌القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 2586

بسم الله الرحمن الرحيم

إياك نعبد وإياك نستعين، والصلاة ولسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين، وبعد:

فإنه ورد إلينا سؤال من الشيخ علي بن محمد بن عبد الوهاب النجدي- كثر الله فوائده، وغفر لي وله- وهذا لفظه:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ما قولكم في رجل دائم الحدث، وربما انقطع حدثه في بعض الأوقات، وليس لانقطاعه وقت معلوم، فإذا صلى في بيته من حين وضوئه صلى قبل أن يحدث، وإن خرج إلى المسجد أحدث إما قبل الدخول في الصلاة، وإما قبل الخروج منها. فهل يلزمه المشي إلى المسجد وإن صلى بالحدث؟ أم تلزمه الصلاة بالطهارة وإن فاتته الجماعة ومذهب الشافعي الأفضل في حقه أن يخرج إلى المسجد ويصلي مع الجماعة (1).

قال النووي (2) المذهب المشهور على أن صلاة الجماعة عندهم سنة، فإن قلتم يلزمه المشي وتصح صلاته مع الحدث، فهل تصح إمامته بكامل الطهارة أم لا؟ والسائل قد وقف على كلام أهل المذاهب الأربعة، ورأى عباراتهم متفقه على أنه يصلي وإن وجد معه الحدث. وأما اختلافهم في بعض الحدود والشروط فقال الموفق (3) في كتاب المقنع (4) والمستحاضة تغسل فرجها وتعصبه وتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي ما شاءت من الصلوات، وكذلك من به سلس البول، والمذي، والريح، والجريح الذي لا يرقأ دمه، والرعاف الدائم.

(1) انظر «المغني» (1/ 421).

(2)

انظر شرحه لصحيح مسلم (5/ 151).

(3)

أي شيخ الإسلام أبي محمد موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي.

(4)

(1/ 96 - 97)

ص: 2591

قال الشارح (1) ويجب على كل واحد من هؤلاء الوضوء لوقت كل صلاة إلا أن لا يخرج منه شيء، وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي. واستحب مالك لمن به سلس البول أن يتوضأ لوقت كل صلاة (2)، إلا أن يؤذيه البرد، فأرجو أن لا يكون عليه ضيق.

وقال أحمد بن القاسم (3) سألت أبا عبد الله- يعني أحمد- فقلت: إن هؤلاء يتكلمون بكلام كثير، ويؤقتون بوقت، ويقولون: إذا توضأت للصلاة وقد ................

(1) المقنع (1/ 97 - حاشية) والحاشية في المقنع منقولة من خط الشيخ سليمان ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله وهي غير منسوبة لأحد، والظاهر أنه هو الذي جمعها فجزاه الله خيرًا ورحمه. انظر صفحة العنوان «المقنع".

(2)

ذكره ابن قدامة في «المغني» (1/ 422).

(3)

ذكره ابن قدامة في «المغني» (1/ 424).

ثم تابع كلامه قائلا: «

وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالوضوء كل صلاة من غير تفضيل، فالتفضيل يخالف مقتضى الخبر، ولأن اعتبار هذا يشق، والعادة في المستحاضة وأصحاب الأعذار أن الخارج يجري وينقطع، واعتبار مقدار الانقطاع فيما يمكن فعل العبادة فيه يشق وإيجاب الوضوء به حرج لم يرد الشرع به، ولا سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة التي استفته، فيدل ذلك ظاهرًا على عدم أعتباره مع قول الله تعالى:{وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولاعن أحد من الصحابة هذا التفصيل، وقال القاضي وابن عقيل: إن تطهرت المستحاضة حال جريان دمها ثم انقطع قبل دخولها في الصلاة، ولم يكن لها عادة بانقطاعه، لم يكن لها الدخول في الصلاة حتى تتوضأ لأنها طهارة عفي عن الحدث فيها لمكان الضرورة. فإذا انقطع الدم زالت الضرورة، فطهر حكم الحدث كالمتيمم إذا وجد الماء، وإن دخلت في الصلاة فاتصل الانقطاع زمنًا يمكن الوضوء والصلاة فيه، فهي باطلة لأننا تبينا بطلان طهارتها بانقطاعه. وإن عاد قبل ذلك فطهارتها صحيحة لأننا تبينا عدم الطهر المبطل للطهارة، فأشبه ما لو ظن أنه أحدث، ثم تبين أنه لم يحدث.

وفي صحة الصلاة وجهان:

أحدهما: يصح، لأنا تبينا صحة طهارتها، لبقاء استحاضتها.

الثاني: لا يصح لأنها صلت بطهارة لم يكن لها أن تصلي بها فلم تصح، كما لو تيقن الحدث وشك في الطهارة، فصلى، ثم تبين أنه كان متطهرًا. وإن عاودها الدم قبل دخولها في الصلاة لمدة تتسع للطهارة والصلاة بطلت الطهارة وإن كانت لا تتسع لم تبطل. لأننا تبينا عدم الطهر المبطل للطهارة، فأشبه ما لو ظن أنه أحدث فتبين أنه لم يحدث، وإن كان انقطاعه في الصلاة، ففي بطلان الصلاة به وجهان مبنيان على المتيمم يرى الماء في الصلاة

وإن عاودها الدم فالحكم فيه على ما مضى في انقطاعه في غير الصلاة، وإن توضأت في زمن انقطاعة، ثم عاودها الدم قبل الصلاة أو فيها وكانت مدة انقطاعة تتسع للطهارة والصلاة، بطلت طهارتها بعود الدم، لأنها بهذا الانقطاع صارت في حكم الطاهرات، فصار عود الدم كسبق الحدث، وإن كان انقطاعًا لا يتسع لذلك، لم يؤثر عوده، لأنها مستحاضة، ولا حكم لهذا الانقطاع وهذا مذهب الشافعي- رحمه الله وقد ذكرنا من كلام أحمد- رحمه الله ما يدل على أنه لا عبرة بهذا الانقطاع، بل متى كانت مستحاضة أو بها عذر من هذه الأعذار فتحرزت وتطهرت، فطهارتها صحيحة، وصلاتها بها ماضية، ما لم يزل عذرها، وتبرأ من مرضها، أو يخرج وقت الصلاة، أو تحدث حدثًا سوى حدثها.

وانظر: مزيد تفصيل: «شرح الزركشي على مختصر الخرقي» (1/ 437 - 440).

ص: 2592

انقطع (1) الدم ثم سال بعد ذلك قبل أن تدخل في الصلاة تعيد الوضوء. ويقولون: إذا تطهرت والدم سائل ثم انقطع الدم قولًا آخر. قال: لست أنظر في لنقطاعة حين توضأت سال الدم أو لم يسل، إنما أمرها أن تتوضأ لكل صلاة فتصلي بذلك الوضوء النافلة والفائتة، حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى (2)، ولو نستقصي ما وقف عليه من عبارات العلماء لاحتمل كراريس، فالمطلوب بسط الجواب بما أمكن من الأحاديث والآثار، والنظر والقياس.

وسر آخر وهو أنه ربما زاد الحدث ببعض المأكولات فهل يلزمه ترك [1 أ] ذلك المأكول والمشروب إذا عرف أنه يمد علة الحدث، وفرع لهذه المسألة، وهو أن السائل يصلي مع الجماعة بالحدث لإذن أهل العلم له بذلك كما تقدم، ولخوف أن تكون صلاة الجماعة شرطًا كما هو مذهب أهل الظاهر، ومن وافقهم، ثم أنه يقضي الصلاة في بيته لأجل إمكان الصلاة على طهارة، وتناول في ذلك حديث الرجلين اللذين صليا بالتيمم (3)

(1) المقنع (1/ 97 - حاشية) والحاشية في المقنع منقولة من خط الشيخ سليمان ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله وهي غير منسوبة لأحد، والظاهر أنه هو الذي جمعها فجزاه الله خيرًا ورحمه. انظر صفحة العنوان «المقنع".

(2)

ذكره ابن قدامة في «المغني» (1/ 422).

(3)

سيأتي تخريجه.

ص: 2593

فلما وجد الماء أعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فذكرا ذلك للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم فقال للذي لم يعد:«أصبت السنة» وقال للآخر: «لك الأجر مرتين» . وهذا الرجل قد اتخذ القضاء دينًا، فهل هو مصيب في ذلك أم لا؟ وأيضًا على أي صفة يحضر هذا الرجل صلاة الجمعة.

أفتونا- علمكم الله ما لم تكونوا تعلمون- انتهى.

ص: 2594

أقول- مستعينًا بالله، ومتكلًا عليه، حامدًا له مصليًا مسلمًا على رسوله وآله وصحبه-:

إن هذا المكتوب قد اشتمل على أسئلة سنجيب عن كل واحد منها- بمعونة الله- بعد تقديم مقدمة هي أنه لا خلاف بين من يعتد به من أهل العلم أن كون الشيء ناقضًا للوضوء، مبطلًا للطهارة، موجبًا للوضوء لا يعرف إلا بالشرع، ولا مدخل في ذلك لحكم العقل، ولا لمحض الرأي، فإذا جاء حكم الشرع بأن هذا الشيء يبطل حكم الطهارة، ويوجب إعادتها كان علينا قبول ذلك والإذعان له، وإن لم نعقل علة ذلك، ولا فهمنا وجهه كما في مس الذكر (1)، وأكل لحوم الإبل (2)، فإنه قد ثبت عن الشارع أنهما ناقضان للطهارة، مبطلان للوضوء، وليس لنا أن نقول: العلة في هذا معقولة أو غير معقولة، أو السبب في هذا مفهوم أو غير مفهوم، وهكذا ما شابه هذين الناقضين من النواقض التي يبعد فهم عللها، ويصعب تعقل أسبابها، بل نقول بعد ورود الشرع: هكذا جاءنا عن

(1) للحديث الذي أخرجه أحمد (6/ 406 - 407) وأبو داود رقم (181) والترمذي رقم (82) والنسائي (1/ 100) وابن ماجه رقم

(479)

.

عن بسرة بنت صفوان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مس ذكره فاليتوضأ» . وهو حديث صحيح.

وانظر: «بيل الأطار» الحديث رقم (15/ 252) بتحقيقنا فهناك تفصيل وبيان موسع.

(2)

للحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (97/ 360) وأحمد (5/ 102) وابن ماجه رقم (495) وابن الجارود رقم (25) والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 158) وفي معرفة «السنن والآثار» (1/ 402) والطحاوي في «شرح المعاني» (1/ 70) وابن خزيمة (1/ 21) وأبو عوانة (1/ 270 - 271) والطيالسي (ص104 رقم 766) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلًا سأل رسول الله أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ» قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم، توضأ من لحوم الإبل» قال أصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم"، قال: أصلي في مرابض الإبل؟ قال: «لا". وهو حديث صحيح.

انظر تفصيل وبيان ذلك موسعًا في «نيل الأوطار» رقم (19/ 56) - بتحقيقنا.

ص: 2595

الله- سبحانه-، أو عن رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نقبله ونذعن له كما وجب علينا قبول ما جائنا به من كون غسل أعضاء الوضوء. وهي بعض من البدن رافعًا لحكم الحدث، وهو شيء لم يقم بها حسًا ولا وجد عليها أثرة في رأي العين، وهكذا إذا جاء الشرع بأن هذا الشيء المرئي أثره الخارج من الفرج أو نحوه ليس بناقض للطهارة، فليس لنا أن نقول لم لم يكن ناقضًا؟ وكيف لايكون مبطلًا للطهارة! وها هو جسم مدرك بحاسة البصر، وحاسة اللمس، خارج من الفرج. بل نقول: هكذا جائنا عن الذي جائنا بتفصيل أحكام الطهارة وبيان شروطها، ومقتضيها ومانعها، وما تصح به وما لا تصح به، وليس لنا أن نرجع [1 ب] إلى ما تقتضي به عقولنا وتقبله أفهامنا؛ فإن ذلك في مثل هذه المدارك أمر وراء الشرع.

وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (1). وإذا تقرر هذا فالشرع قد ورد مورداُ لا يجحده أحد من المتشرعين أن دم المستحاضة مع كونه دمًا من الفرج الذي هو محل الحدث لا ينقض الطهارة (2)، ولا يبطل حكمها، وإن استمر خارجًا من عند الشروع في الوضوء إلى الفراغ من الصلاة. وهذا معلوم من الشرع علمًا ضروريًا، ومجمع عليه عند جميع أهل هذه الملة الشريفة.

وألاحاديث الواردة في ذلك يعرفها السائل- عافاه الله-. فهذا الدم الخارج على هذه الصفة ليس من الأحداث الموجبة للوضوء في حق هذه المرأة المستحاضة لاينكلر ذلك منكر، ولا يخالف فيه مخالف، فصلاتها وهو خارج خروجًا كثيرًا، منصب انصبابًا

(1) وهو نهر في البصرة، وقد احتفره معقل بن يسار في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسب اليه.

يضرب في الاستغناء عن الأشياء الصغيرة إذا وجد ما هو أكبر منها، وأعظم نفعًا.

ذكره القاضي إسماعيل بن على الأكوع في الأمثال اليمانية «إذا جاء سيل الله بطل نهر معقل".

وقال: من أمثال المولدين «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل".

وانظر: «الأمثال» للميداني (1/ 88).

(2)

انظر «المغني» (1/ 423).

ص: 2596

شديدًا (1)، مستمر أستمرارًا مطبقًا، وصلاتها وهو خارج خروجًا يسيرًا، وسائل سيلانًا نزرًا، وصلاتها وهو منقطع تارة، وخارج أخرى مجزية صحيحة مقبولة واقعة على المنهج الشرعي، والمهيع المحمدي، والسبيل الأسلامي، لا فرق بين هذه الصور أصلًا. ولم يأت في هذه الشريعة السمحةالسهلة شيء مما يستدل به على الفرق.

فالحاصل أن المستحاضة لا فرق بينها وبين غيرها من النساء اللاتي لم يكن مستحاضات في نفس الفريضة التي تؤديها بذلك الضوء، وأما الأحاديث الواردة بأن المستحاضة تغتسل لكل صلاة (2)، فلو صح ذلك لكان غاية ما فيه أنه يجب عليها أن تبالغ في رفع الحدث بالغسل، وأن لا تؤدي بطهارتها الا صلاة واحدة، وليس هذا بمناف لكون خروج الدم غير ناقض للطهارة، لأنها في تلك الصلاة التي أدتها لا فرق بينها وبين غيرها من النساء في جميع الأحكام فتصلي في أول الوقت كما تصلي سائر النساء، وتؤم بغيرها من النساء كما تؤم من لم تكن مستحاضة. وأما من زعم من الفقهاء بأنها تصلي في آخر الوقت فليس على ذلك آثارة من علم، ولا هو مما يشتغل برده لوضوح بطلانه، وكونه قولًا مجردًا عن البرهان على كل حال.

فإن قلت: هل ينتهض شيء من الادلة الدالة على أنها تغتسل لكل صلاة أو نحو ذلك مما ورد في ذلك؟.

(1) منها: الحديث الذي أخرجه أبو داودرقم (287) والترمذي رقم (128) وابن ماجه رقم (627) وأحمد (6/ 439، 381، 382، 439) والحاكم (1/ 172 - 173) والبيهقي (1/ 338) والطحاوي في «مشكل الآثار» (3/ 299، 300) عن حمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش فقلت: يا رسول الله، إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما تأمرني فيها قد منعتني الصيام والصلاة؟ قال:«انعت لكي الكرسف، فإنه يذهب الدم» قالت: هو أكثر من ذلك؟ قال: «فتلجمي» قالت: هو أكثر من ذلك؟ «فاتخذي ثوبًا» قالت: هو أكثر من ذلك إنما اثج ثجًا

". وهو حديث حسن.

(2)

سيأتي ذكر ذلك.

ص: 2597

قلت: لا تنتهض أحاديث إيجاب [2 أ]. الغسل عليها. أما حديث عائشة- رضي الله عنه عند أبي داود (1) وابن ماجه (2) قالت: استحيضت زينب زينب بنت جحش فقال لها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم: «اغتسلي لكل صلاة» ففي إسناده علل منها: كون في رجاله محمد بن إسحاق ولا يصح ما زعمه المنذري من تحسين بعض طرقه، وهكذا حديث عائشة أيضًا عند أحمد (3) وأبي داود (4) أن سهلة بنت سهيل بن عمرو استحيضت فأتت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن ذلك، فأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، والصبح بغسل، ففي إسناده محمد بن إسحاق (5) أيضًا عن عبد الرحمن بن القاسم، وابن إسحاق ليس بحجة لاسيما إذا عنعن، وعبد الرحمن قد قيل إنه لم يسمع

(1) في «السنن» (1/ 204 - 205 رقم 292).

(2)

في «السنن» رقم (622).

قال المحدث الألباني في صحيح أبي داود: صحيح دون قوله: زينب بنت جحش والصواب أم حبيبة بنت جحش

".

قال الشافعي في «الأم» (1/ 245 رقم المسألة825): «إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، قال: ولا أشك إن شاء الله أن غسلها كان تطوعًا غير ما أمرت به، وذلك واسع لها» .

وقال النووي في «المجموع» (2/ 553): فرع: مذهبنا- أي الشافعية- أن طهارة المستحاضة الوضوء، ولا يجب عليها الغسل لشيء من الصلوات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضتها، وبهذا قال جمهور السلف والخلف وهو مروي عنه علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنه وبه قال عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو حنيفة ومالك وأحمد .............

(3)

في «المسند» (6/ 119).

(4)

في سننه رقم (295).

(5)

محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني، نزيل العراق إمام المغازى: صدوق يدلس، ورمى بالتشيع والقدر.

«التقريب» رقم (5725).

ص: 2598

من أبيه، قال ابن حجر (1) قد قيل إن بن إسحاق وهم فيه.

وهكذا حديث عروة بن الزبير عن أسماء بنت عميس عند أبي داود (2) قالت: قلت: يا رسول الله، إن فاطمة بنت أبي جحش استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم:«هذا من الشيطان، لتجلس في مركن، فإذا رأت صفرة فوق الماء فتغتسل للظهر والعصر غسلًا واحدًا، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلًا واحدًا، وتغتسل للفجر غسلًا، وتتوضأ فيما بين ذلك» . ففي إسناده سهيل بن أبي صالح (3)، وفي الاحتجاج بحديثه خلاف.

وهكذا حديث حمنة بنت جحش وفيه «فإن قويت على أن تؤخري الظهر، وتعجلي

(1) في «التلخيص» (1/ 171). وهو حديث ضعيف.

(2)

في «السنن» رقم (296).

(3)

سهيل بن أبي صالح، ذكوان السمان أبو يزيد المدني، صدوق تغير حفظه بآخرة روى له البخاري مقرونًا- أي بغيره- وتعليقًا.

«التقريب» رقم (2675).

قلت: الحديث ضعيف، حالف فيه سهيل بن أبي صالح جميع من رواه عن الزهري واختلف عليه في لفظه.

أخرج أبو داود رقم (281) من طريق جرير، عن سهيل، عن الزهري عن عروة بن الزبير، قال: حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش أنها أمرت أسماء، أو أسماء حدثتني أنها أمرتها فاطمة بنت أبي حبيش أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد، ثم تغتسل".

قال البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 353): «هكذا رواه سهيل بن أبي صالح، عن الزهري، عن عروة، واختلف فيه عليه والمشهور رواية الجمهور، عن الزهري عن عروة، عن عائشة، في شأن أم حبيبة بنت جحش» . ا هـ.

قلت: حديث أبي داود رقم (281) ليس فيه الاغتسال لكل صلاة مجموعة ولا الاغتسال لصلاتين، وهذا اللفظ قريب من لفظ البخاري رقم (325) عن عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش، وفيه:«ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم أغتسلي وصلي» .

ص: 2599

العصر، ثم تغتسلي حتى تطهري وتصلي الظهر والعصر جمعًا، ثم تؤخري المغرب وتعجلي العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الصبح وتصلين. قال: وهذا أعجب الأمرين إلي» (1)

أخرجه الشافعي (2)، وأحمد (3)، وأبو داود (4)، والترمذي (5)، وابن ماجة (6)، والدارقطني (7)، والحاكم (8)، وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل (9)، وهو مختلف فيه. وقال بن مندة: لايصح بوجه من الوجوه، وقال بن أبي حاتم (10) سألت أبي عنه. فوهنه ولم يقو إسناده. وقال الترمذي في كتاب العلل (11) إنه سأل البخاري عنه فقال: هو حديث حسن. وهكذا صححة أحمد والترمذي، لكن بن عقيل رواه عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، وفي سماعه منه نظر، وقال ........................

(1) قوله صلى الله عليه وسلم: «وهذا أعجب الأمرين إلي» : أي أحسن الأمرين، مع أن كلا الأمرين حسن. وهذا أحسن يعني الغسل مع الجمع.

(2)

رقم (141) ترتيب المسند.

(3)

في «المسند» (6/ 381، 382، 439).

(4)

في «السنن» رقم (287).

(5)

في «السنن» رقم (128).

(6)

في «السنن» رقم (627).

(7)

في «السنن» رقم (1/ 214).

(8)

في «المستدرك» رقم (1/ 172 - 173).

(9)

عبد الله بن محمد بن عقيل. لم يكن بالحافظ، وأهل العلم بالحديث مختلفون في جواز الاحتجاج بروايته قاله البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 237).

وقال يحيي بن معين: لا يحتج بحديثه.

وقال البخاري: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجون بحديثه.

انظر: «تاريخ بن معين» (4/ 64)، «تقريب التهذيب» (1/ 447).

(10)

في «العلل» (1/ 51 رقم 123).

(11)

(ص58).

ص: 2600

الخطاني (1) قد ترك العلماءالقول بهذا الحديث. وقد رده ابن حزم (2) بأنواع من الرد. ومن جملة ذلك أنه علله بالانقطاع بين ابن جريح وابن عقيل، وزعم أن بينهما النعمان بن راشد وهو ضعيف (3)، وقد شارك ابن جريح في روايته عن ابن عقيل ضعفًا. وعلى الجملة [2 ب] فقد طول الحفاظ الكلام على هذا الحديث تعليلًا، وردُا، وتضعيفًا، وتصحيحًا، وتحسينًا. وقد أوضحت الكلام على ذلك في (4) ........... وعلى فرض أنه مما يصلح للتمسك به فهو مقيد بعدم وجود معارض بأنهض منه، وقد وجد ها هنا، وهو ما ثبت في الصحيحين (5) وغيرهما (6) من طرق عن عائشة مرفوعًا بلفظ:«فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي» ، وهكذا وردت الأحاديث في (7) [ ..... ] الدم والتمييز بالعادة (8) حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم قال في المستحاضة:«تدع أيام إقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة» . رواه .....................

(1) في «معالم السنن» (1/ 201 - هامش السنن) ولفظه: «وقد ترك بعض العلماء القول بهذا الخبر» .

(2)

في «المحلي» (2/ 194 - 195).

(3)

ضعفه ابن حزم في «المحلى» (6/ 121).

(4)

غير واضح في المخطوط ولعله «نيل الأوطار» قلت: انظر «النيل» رقم الحديث (6/ 373) بتحقيقي لترى هذا التوضيح.

(5)

أخرجه البخاري رقم (306) ومسلم رقم (333).

(6)

كأبي داود رقم (282) والنسائي (1/ 184). وهو حديث صحيح.

وفي رواية أخرجها البخاري رقم (228) ومسلم رقم (333) وأبو داود رقم (282) والترمذي رقم (125) والنسائي (1/ 184).

«فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» . وزاد الترمذي في «السنن» (1/ 218): «وقال: توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» .

وأخرج البخاري في صحيحه رقم (325)«ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» .

(7)

غير واضح في المخطوط.

(8)

غير واضح في المخطوط.

ص: 2601

ابن ماجه (1) والترمذي (2) لأن في إسناده عثمان بن عمير بن قيس الكوفي هو أبو اليقظان ويقال له: عثمان بن أبي حميد، وعثمان بت أبي زرعة قال يحيي بن معين: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم (3) إنه ضعيف منكر الحديث، كان شعبه لا يرضاه، وقال أبو أحمد الحاكم (4) ليس بالقوي عندهم، ولم يرضه يحيي بن سعيد.

وقال النسائي (5) ليس بالقوي، وقال الدارقطني (6) ضعيف، وقال بن حبان (7) اختلط بآخره حتى لا يدري ما يقول، لا يجوز الاحتجاج به، قال الترمذي (8) سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقلت: عدي بن ثابت عن أبيه عن جده، جد عدي بن ثابت ما اسمه؟ فلم يعرف محمد اسمه، وذكرت لمحمد قول يحيي بن معين أن اسمه دينار فلم يعبأ به، وقال الدمياطي في عدي المذكور (9) هو عدي بن ثابت أبان بن قيس بن الخطيم الأنصاري، ووهم من قال إن اسم جده دينار، وأما ما قاله المجد بن تيمية في المنتقى (10) إن الترمذي قال بعد إخراج هذا الحديث: إنه حسن. فوهم منه؛ فإن الترمذي لم يحسنه، بل سكت عنه، قال بن سيد الناس في شرحه للترمذي:

(1) في «السنن» رقم (625).

(2)

في «السنن» رقم (126) وسكت عنه الترمذي ولم يحسنه.

(3)

في «الجرح والتعديل» (3/ 1/ 161).

(4)

انظر «الميزان» (3/ 50)«لسان الميزان» (7/ 302). «الكاشف» (2/ 223).

(5)

في «الضعفاء والمتروكين» رقم (438).

(6)

انظر «الميزان» (3/ 50) و «التاريخ الكبير» (3/ 245).

(7)

في «المجروحين» (2/ 95).

(8)

في «السنن» (1/ 220 - 221).

(9)

انظر «تهذيب التهذيب» (3/ 85).

(10)

الحديث رقم (9/ 376).

ص: 2602

وسكت الترمذي عن هذا الحديث فلم يحكم بشيء، وليس من باب الصحيح ولا ينبغي أن يكون من باب حسن. ثم ذكر الكلام على ضعفه، وأطال في ذلك (1).

وهكذا حديث عبد الحمن بن القاسم عن أبيه، عن زينب بنت جحش انها قالت للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم:«أنها مستحاضة، فقال: «تجلس أيام إقرائها ثم تغتسل، وتؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل [3 أ] وتصلي، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل وتصيبهما معًا. وتغتسل للفجر» أخرجه النسائي (2) ورجال إسناده

(1) انظر شرح الحديث رقم ()«نيل الأوطار» بتحقيقنا.

(2)

في «السنن» (1/ 184 - 185 رقم63) ورواته كلهم ثقات.

قال الشيخ محمد بن على الإتيوبي في «شرح سنن النسائي» المسمى: «ذخيرة العقي في شرح المجتبي» (5/ 398 - 399).

هذا الحديث بهذا السند من أفراد المصنف، أخرجه في هذا الباب فقط، وفيه لنقطاع فإن القاسم لم يسمع من زينب قال حافظ في «تهذيب التهذيب» (12/ 449 - 450) أرسل عنهما القاسم بن محمد.

ويؤيده ما سنن أبي داود قال: بعد حديث عائشة (292): «أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت زينب» حديث فريضه: قال أبو داود في «السنن» (1/ 204 - 205) ولم أسمعه منه، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: استحيضت زينب بنت جحش، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«إغتسلي لكل صلاة» وساق الحديث.

قال أبو داود: ورواه عبد الصمد- يعني بن عبد الوارث- عن سليمان بن كثير، قال:«توضئي لكل صلاة» وهذا وهم من عبد الصمد، والقول قول أبي الولي.

لكن قال البيهقي في «السنن الكبرى» 1/ 350): رواية أبي الوليد غير محفوظة فقد رواه مسلم بن إبراهيم، عن سليمان بن كثير. كما رواه سائر الناس عن الزهري، ثم أخرج بسنده عن مسلم، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: «استحيضت أخت زينب بنت جحش سبع سنين

الحديث».

وصحيح الحديث المحدث الآلي في «صحيح أبي داود» رقم (292) وقال: «الصواب أم حبيبة بنت جحش» .

قال الجامع- محمد الإتيوبي الولوي-: فتبين بهذا أن المستحاضةهي أخت زينب لا زينب فتبصر وشرح الحديث واضح مما سبق» 1هـ.

ص: 2603

ربما كانوا ثقات، فإنه (1) [

] عدم سماع عبد الرحمن بن القاسم من أبيه.

وهكذا حديث عائشة أنها جائت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني أمراة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال لها:«لا، اجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة ثم صلى وإن قطر الدم على الحصير» . أخرجه أحمد (2)، والترمذي (3)، والنسائي (4)، وأبو داود (5)، وأبن ماجة (6)، وابن حبان (7). ولكنه معلول، فإن حبيبًا لم يسمع من عروة بن الزبير، وإنما سمع من عروة [المزني](8) فالإسناد منقطع، وحبيب بن أبي ثابت يدلس، وعروة [وهو المزني فهو](9) مجهول (10)، وقد روى أصل الحديث .....................

(1) غير واضح في المخطوط. وانظر التعليقة السابقة.

(2)

في «المسند» (6/ 204).

(3)

في «السنن» رقم (125).

(4)

في «السنن» رقم (1/ 181 - 185).

(5)

في «السنن» رقم (282).

(6)

في «السنن» رقم (621).

(7)

في صحيحة رقم (1350) وهو حديث صحيح.

(8)

غير واضح في المخطوط وما أثبتناه من «نيل الأوطار» شرح الحديث رقم (10/ 377).

(9)

غير واضح في المخطوط وما أثبتناه من «نيل الأوطار» شرح الحديث رقم (10/ 377).

(10)

قلت: في رواية أبي داود: عروة غير منسوب، وقد نسبه أبن ماجة، والدراقطني والبزار، وإسحاق بن راهويه، فقالوا: عروة بن الزبير الأمر الذي دل عليه أن عروة في رواية أبي داود، هو عروة بن الزبير لا عروة المزني، وعليه فإن سنده عند أبي داود صحيح.

أو دعوى الانقطاع بأن حبيب بن أبي ثابت لم يسمعه من عروة بن الزبير فغير مسلمة كما جنح إلى ذلك الحافظ بن عبد البر قائلًا: لا شك أن حبيب بن أبي ثابت أدرك عروة، وحبيب لا ينكر لقؤة عروة لروايته عمن هو أكبر من عروة وأقدم موتًا منه، كما قال أبو داود في سننه: وقد روى حمزة الزيات عن حبيب عن عروة بن الزبير عن عائشة حديثًا صحيحًا. 1هـ وهو يشير إلى ما رواه الترمذي في الدعوات بسنده عن حبيب بن عروة عن عائشة وقال: حسن غريب.

زمراد أبي داود بهذا الرد على الثوري القائل بعدم رواية حبيب عن عروة بن الزبير.

ويؤيد حديث حبيب ما أخرجه البخاري من طريق أبي معاوية قال: حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة، وفيه: وقال أبي: «ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» من تعليق السيد عبد الله بن هاشم اليماني المدني. «تلخيص الحبير» (1/ 168).

ص: 2604

مسلم (1) بدون قوله: وتوضئي إلي آخره، لأنها زيادة غير محفوظة، وقد رواها [

] (2) كالدرامي (3) والطحاوي (4).

وفي الباب عن جابر مرفوعًا رواه أبو يعلى (5) بإسناد ضعيف.

وعن سودة بنت زعمة رواه الطبراني (6)، وأما ما رواه البخاري (7) ومسلم (8) في صحيحيهما أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت، فقال لها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم:«فاغتسلي ثم صلي» فكانت تغتسل عند كل صلاة، بل فعلت ذلك من قبل نفسها.

قال الشافعي (9) إنما أمرها رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم- أن تغتسل وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة. قال: ولا أشك- إن شاء الله- أن

(1) في صحيحة رقم (333).

(2)

كلمة غير مقروءة في المخطوط.

(3)

في سننه (1/ 199).

(4)

في «شرح معني الآثار» (1/ 100 - 101).

(5)

عزاه اليه الحافظ في «التلخيص» (1/ 169) وضعف إسناده.

(6)

في «الأوسط» رقم (9184) عن سودة بنت زعمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها، ثم تغتسل غسلًا واحدًا. ثن تتوضأ لكل صلاة» .

وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 281) وقال وفيه جعفر عن سودة لم أعرفه.

(7)

في صحيحة رقم (320).

(8)

في صحيحة رقم (334).

(9)

في «الأم» (1/ 245 رقم المسألة825).

ص: 2605

غسلها كان تطوعًا غير ما أمرت به، وذلك واسع. وكذا قال سفيان بن عيينة، والليث بن سعد، وغيرهما.

قال النووي (1) ولم يصح عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر المستحاضة بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع حيضتها، وهو قوله- صلى الله عليه وآله وسلم:«إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي» (2) وليس في هذا ما يقتضي تكرار الغسل. قال: وأما الأحاديث الواردة في سنن أبي داود والبيهقي وغيرهما أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أمرها بالغسل، فليس فيها شيء ثابت. وقد بين البيهقي (3) ومن قبله ضعفها انتهى.

فإن قلت: هذه الأحاديث، وإن كان في كل واحد منها مقال لا ينتهض معه للاستدلال، لكنها تنتهض بمجموعها، ويشهد بعضها لبعض، فيكون من الحسن لغيره، وهو معمول به [3 ب]. ومع هذا فقد صحح بعضها بعض الأئمة، وحسن بعضها بعض آخر منهم.

قلت: أما تصحيح من صحح بعضها، وتحسين من حسن بعضها فقد قدمنا أنه لم يقع موقعه، وأنه وهم من قائله. وأما شهادة بعضها لبعض، وانتهاض بعضها للاستدلال فهو إنما يكون لو كانت سالمة من معارض، هو أنهض منها، ولم تسلم هذه الأحاديث من معارض، بل عورضت بما هو صحيح بلا خلاف، وهو أنه لا يجب ىعليها إلا غسل واحد عند إدبار وقت الحيضة، ولا يلزمها تجديد الغسل لكل صلاة أو للصلاتين، وكذلك لا يلزمها تجديد وضوء لكل صلاة أو للصلاتين.

فإن قالت: إنه لا معارضة هاهنا، لأن الغسل المتكرر، والوضوء المتكرر لا ينافي

(1) في «المجموع» (2/ 554).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحة رقم (306) والنسائي (1/ 184) وأبو داود رقم (282). وهو حديث صحيح.

(3)

في المخطوط غير واضح وما أثبتناه من «نيل الأوطار» شرح الحديث رقم (17/ 325) بتحقيقنا.

ص: 2606

غسل مرة واحدة، والزيادة مقبولة وإن كان المزيد أصح منها.

قلت: إنما يتم هذا لو لم ينص الأئمة على عدم صحة شيء بالمرة.

فإن قلت: فهلا جمعت بين الأحاديث مجمل تكرير الغسل والوضوء على الاستحباب كما فعل بعض الأئمة. وقد تقرر أن الجمع مقدم على الترجيح.

قلت: لو سلمنا أن هذا الجمع متحتم فليس هاهنا وجوب غسل متكرر (1)، ولا وجوب وضوء متكرر وهو المطلوب، وقد عرفت مما تقدم أنه لم يكن مطلوبنا هاهنا إلا تقرير أن دم الأستحاضة ليس من الأحداث التي ينتقض بها الوضوء على أي صفة كان، وإذا ثبت هذا فلا فرق بين المستحاضة وبين من به سلس البول. أو سلس الغائط، أو سلس الريح، أو فيه جرح يستمر خروج الدم، أو القيح [](2). وبه يتعذر الاحتراز عنه، فيكون من به شيء من هذه العلل كالمستحاضة لعدم الفرق بينها وبينهم بوجه من الوجوه.

ويثبت لهم حكمها ثبوتًا ليس فيه شك ولا إشكال (3). ولا يتيسر في مثل هذا إيراد ما

(1) وما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الاغتسال إلا لإدبار حيضة هو حق، لفقد الدليل الصحيح الذي تقوم به الحجة لا سيما في مثل هذا التكليف الشاق فإنه لا يكاد يقوم مما دونه في المشقة إلا خلص العباد، فكيف بالنساء الناقصات الأديان بصريح الحديث، والتيسير وعدم التيسير من المطالب التي أكثر المختار صلى الله عليه وسلم الإرشاد إليها، فالبرأة الأصلية المعتضدة بمثل ما ذكر لا يعني جزم بالانتقال عنها بما ليس بحجة توجب الانتقال وجميع الأحاديث التي فيها إيجاب الغسل لكل صلاة كل واحد منها لا يخلو عن مقال، لا يقال إنها تنتهض للاستدلال بمجموعها، لأنا نقول: ـ يوجد ما يعارضها وأما إذا كانت معارضة بما هو ثابت في الصحيح فلا كحديث عائشة رضي الله عنها تقدم- فإن فيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة فلا أبي جحش بالاغتسال عند ذهاب الحيضة فقط. وترك البيان في وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول

».

انظر: «الأم» (1/ 245) و «المجموع» للنووي (2/ 554). «المغني» (1/ 422).

(2)

كلمة غير واضحة في المخطوط.

(3)

انظر «المغني» (1/ 421 - 423).

ص: 2607

أورده النافون للقياس من تلك الإشكالات، لأن الإلحاق بعدم الفارق لما كان في غاية الوضوح والجلاء اندفع عنه كل إيراد وإشكال وتشكيك كما يعرف ذلك فحول علماء الأصول، وأهل الرسوخ في علمي المعقول والمنقول. ويدل لعدم انتقاض طهارة من به علة من هذه العلل المتقدمة ما علمناه من كليات هذه الشريعة المطهرة [4 أ] التي يندرج تحت عمومها هؤلاء وأمثالهم، وذلك مثل قول الله- سبحانه-:{فاتقوا الله ما استطعتم} (1) فإن فيها تقييد التقوى بالاستطاعة، فما خرج عنها فليس من التكاليف التي كلف الله بها عباده، ومعلوم أنا لو قلنا أنها تنتقض طهارة من به علة من تلك العلل بالخارج الذي لا يمكنه الاحتراز عنه، وبالحدث الذي لا يقدر على إمساكه لكان ذلك تكليفًا له بما لا يستطيعه.

وقد فهم الصحابة- رضي الله عنهم من هذه الآية تخفيف التكليف عليهم، ولهذا عظم عليهم الأمر لما نزل قول الله- سبحانه-:{اتقوا الله حق تقاته} (2) وصرحوا بأن ذلك ليس في قدرتهم، ولا يدخل تحت استطاعتهم، فنزل قول الله- سبحانه-:{اتقوا الله ما استطعتم} (3) ففرحوا بذلك، وزال عنهم ما وجدوه من الحرج عند نزول الآية المتقدمة (4)، ومثل هذه الآية قول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم:«إذا أمرتكم بأمر فأتوا به ما استطعتم» (5) ومثل قوله- صلي الله عليه وآله وسلم-: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» (6) وهي أحاديث ثابتة في الصحيح. ومثله حديث: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب» . وحديث:

(1)[التغابن: 16].

(2)

[آل عمران: 102].

(3)

[التغابن: 16].

(4)

انظر «تفسير ابن كثير» (8/ 140).

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحة رقم (4344، 4345) ومسلم رقم (71/ 1733) من حديث أبي موسى الأشعري.

ص: 2608

«أمرت بالحنيفية السمحة السهلة» (1).

وبالجملة فمن نظر في كتاب العزيز، وفي السنة المطهرة حق النظر وجدهما مصرحين في كثير من المواضيع بتقييد التكاليف الشرعية بالاستطاعة، وعدم الحرج والتيسير، وعدم التعسير، والتبشير وعدم التنفير، ولا أشد تكليفًا وأصعب تعبدًا من تكليف العبد [

] (2). ولا يدخل تحت وسعة، فرحمة الله التي وسعت كل شيء [](3) تخالف هذا التكليف وتنافي هذا الحرج [

] (4) وتباين هذا التعبد الصعب، فتقرر بمجموع ما ذكرناه أن دم المستحاضة، واستمرار حدث من له حكمها ممن تقدم ذكره، وعدم

(1) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 209) وأورده السيوطي في «الجامع الصغير» رقم (3150) وأشار لضعفه.

وقال المناوي في «فيض القدير» (3/ 203): «وفيه على بن عمر الحربي أورده الذهبي في الضعفاء وقال: صدوق. ضعفه البرقاني، ومسلم بن عبد ربه، ضعفه الأزدي ومن ثم أطلق الحافظ العراقي في ضعف سنده، وقال العلائي: مسلم ضعفه الأزدي ولم أجد أحد وثقه.

ولكن له طرق ثلاث ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن.

قلت: وله شاهد من حديث أبي قلابة الجرمي مرسلًا بلفظ: «يا عثمان إن الله لم يبعثني بالرهبانية مرتين أو ثلاثًا، وإن أحب الدين عند الله الحنيفية السمحة» .

أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (3/ 395).

وله شاهد آخر من رواية عبد العزيز بن مروان بن الحكم مرسلًا. أخرجه أحمد بن حنبل في «الزهد» (289 و210) بسند صحيح.

وأخرج أحمد في «المسند» رقم (2107 - شاكر) بإسناد صحيح من حديث بن عباس قال: قيل يا رسول الله! أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: «الحنيفية السمحة» وعلقه البخاري في صحيحة ووصله في «الأدب المفرد» رقم (287) من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس. وقال الحافظ في «الفتح» (1/ 94) إسيناده حسن.

وخلاصة القول أن الحديث حسن بشواهده. والله أعلم.

(2)

ثلاث كلمات غير واضحة في المخطوط.

(3)

كلمتان غير واضحتين في المخطوط.

(4)

كلمة غير واضحة في المخطوط.

ص: 2609

انقطاعه إلا في أوقات غير معلومة، كل هذا لا تبطل به الطهارة، ولا ينتقض به الوضوء، ولا يجب على صاحبه تأخير صلاة إلى آخر وقتها، ولا يمنعه من أن يكون إمامًا بمن لم يكن فيه مثل علته، ولا يحول بينه وبين تأدية صلاته في جماعة [4 ب]. وإلى هنا انتهت المقدمة وبها يتبين جواب ما سأل عنه السائل على طريقة الإجمال.

وأما ما سأل عنه على طريقة التفصيل فنقول:

قد اشتمل سؤاله هذا على مسائل:

المسألة الأولى: قوله: فإذا صلى في بيته في حين وضوئه صلى قبل أن يحدث، وإن خرج إلى المسجد أحدث إما قبل الدخول في الصلاة، وإما قبل الخروج منها، فهل يلزمه المشي إلى المسجد، وإن صلى بالحدث أم تلزمة الصلاة بالطهارة وإن فاتته الجماعة؟.

وأقول: قد قدمنا أن هذا الحدث الدائم مطلقًا أو غالبًا بحيث لا يعلم وقت انقطاعه ليس بحدث أصلًا، ولا هو مما يطلق عليه أسم الحدث شرعًا، وحينئذ فتأدية صاحب علة من هذه العلل لصلاته حال خروج الخارج كتأديته لها مع مصادفة انقطاعه في كل الصلاة أو بعضها، فترك صاحبه لصلاة الجماعة وعدوله إلى الصلاة وحده قد تسبب عنه ترك سنه مجمع عليها، وفاته بذلك أجر كبير، وفضل عظيم، وثواب جليل، وهو ما في قوله- صلي الله عليه وآله وسلم-:«صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة» وهو في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث أبي هريرة، وفيهما (3) أيضًا من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم-: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» .

(1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (648) ومسلم رقم (245/ 650).

(2)

كمالك (1/ 129 رقم2) وأحمد (2/ 65) وأبو عوانة (2/ 2). والبيهقي في «السنن الكبري» (3/ 60).

(3)

البخاري في صحيحة رقم (645) ومسلم رقم (249/ 650).

ص: 2610

وفي الباب أحاديث (1) غير هذه في بعضها التصريح بأنها تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة، فكيف يسمح من له رغبة في الخير، وطلب للثواب، وحرص على الأجر أن يصلي منفردًا فتكون له درجة واحدة، ويفوت عليه ست وعشرون درجة! مع كون صلاته وحده على فرض انقطاع الخارج منه حال تأديته لتلك الصلاة منفردًا لا يفضل على تأديته لها منفردًا، والخارج يخرج، وهكذا صلاته في جماعة والخارج منقطعًا لا يفضل على تأديته لها، والخارج مطبقًا، وهل هذا إلا من ظلم النفس بإحرمها للأجور التعددة، ومن بخس الحظ بتفويت الأجور المتكاثرة ومن عدم الرغبة في الخير الكثير، والأجر العظيم بالعدول عنه إلى الأجور النزر، والثواب القليل! هذا لو لم يكن من الشارع إلا لمجرد المفاضلة بين الصلاتين، فكيف وقد صح عنه أنه قال:«لقد هممت أن أمر بالصلاة، ثم أمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم [5أ] من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» وهو في الصحيح (2) من طرق، حتى أنه لم يرخص في التخلف عن الجماعة للأعمى الذي لا قائد له إذا كان يسمع النداء، وهو أيضًا في الصحيح (3). وجعل التخلف عن صلاة الجماعة من علامات النفاق، وهو في الصحيح (4) أيضًا.

فإن هذه الأحاديث وأمثالها تدل على أن ذلك متأكد أبلغ تأكد، ومشدد فيه أعظم تشديد، ولا أقول: ذلك وهذا التفضيل الذي سبق ذكره ما بين صلاة الجماعة وصلاة

(1) منها ما أخرجه البخاري في صحيحة رقم (646) من حديث أبي سعيد.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحة رقم (644) ومسلم رقم (251/ 651).

ومالك (1/ 129 رقم3) وأحمد (2/ 244) وأبو داود رقم (548و549) والنسائي (2/ 107) وابن ماجه رقم (791) والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 55).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحة رقم (255/ 653) والنسائي (2/ 109 رقم 850).

(4)

أخرجه البخاري رقم (657) ومسلم رقم (252/ 651) وابن ماجه (1/ 261 رقم 797) والدرامي (1/ 291) من حديث أبي هريرة.

ص: 2611

المنفرد يدل [

] (1) دلالة وينادي أعظم نداء، بأن صلاة الرجل منفردًا صحيحة، وأنها تسقط عنه الواجب، وتجزي عنه الفريضة، وكذلك حديث صلاة الرجل مع الأمام أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام، ونحو ذلك من الأحاديث كحديث المسيء صلاته (2)، ومن شابه ممن صلى منفردًا.

ولكني أقول: إن العدول إلى صلاة الانفراد مع عدم وجود العذر المانع من صلاة الجماعة مع كونه مشددًا فيها هذا التشديد، ومؤكد حكمها هذا التأكيد لا يفعله إلا من رغب عن الخير، وأحرم نفسه الثواب الكثير، والأجر العظيم، فصاحب هذه العلل المتقدم ذكرها إن لم يكن له عذر إلا مجرد ما ظنه بأن تأدية صلاته وحده مع الانقطاع أكثر ثوابًا، وأعظم أجرًا من تأديتها في جماعة مع عدم الانقطاع فقد ظن ظنًا باطلًا، وتصور تصورًا فاسدًا. وسبب هذا الظن الباطل، والتصور الفاسد ما خطر له من أن ذلك الخارج حدث من الأحداث، وليس الأمر كذلك كما قدمنا لك.

قال السائل (3) - كثر الله فوائده-: «وسؤال آخر وهو أنه ربما زاد الحدث ببعض المأكولات والمشروبات، فهل يلزمه ترك ذلك المأكول أو المشروب إذا عرف أنه يمد علة الحدث؟.

أقول: لا تلزمه ذلك حتمًا، لأنه أكل ما يحل أكله شرعًا [5ب]، ولم يرد تقييده بمثل هذا القيد أعني كونه لا يزيد في شيء من فضلات البدن، بل يجوز للإنسان أن يأكل ما أذن الله بأكله ما لم يكن في ذلك المأكول ما يتسبب عنه حدوث عله يخشى على نفسه

(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.

(2)

أخرجه أحمد (2/ 437) والبخاري رقم (793) ومسلم رقم (45/ 397) وأبو داود رقم (856) والترمذي (2/ 103 رقم 303) والنسائي (2/ 124 رقم 884) وابن ماجه رقم (1060) من حديث أبي هريرة.

(3)

في هامش المخطوط ما نصه: هذا السؤال متأخر عن السؤال الذي بعده

ص: 2612

منها الهلاك، أو بضرر البدن بمرض، فإن الله- سبحانه- قد نهى عباده عن أن يقتلوا أنفسهم، ونهاهم عن أن يأكلوا أو يشربوا ما يضر بأبدانهم، فهذا الجنس من المأكول والمشروب ليس مما أذن الله بأكله أو شربه، بل مما نهى عنه عباده، وليس مسألة السؤال من هذا القبيل، فإن المفروض أن الرجل الذي وقع السؤال عنه قد صار معتلًا بتلك العلة ولا يحصل باستعمال هذا النوع المسؤول عن أكله وشربه إلا مجرد الزيادة.

وقد عرفت أنه لا فرق بين أن يكون الخارج مطبقًا كثيرًا، أو يأتي في وقت دون وقت، ولكن لا يكون وقت انقطاعه معلومًا عنده، أما لو كان الرجل صحيحًا ليس به علة السلس (1) لكنه إذا استعمل نوعًا خاصًا من المأكول والمشروب حدثت به هذه العلة فلا يبعد أن يقال: إن كان يجد غير هذا المأكول والمشروب بدون مشقة عليه في تحصيله على وجه لا يكون آثمًا به فاجتنابه واجب عليه، لأنه قد حصل ضررًا في بدنه [6أ] ومرض حادث عليه.

وأما إذا كان لا يجد إلا هذا النوع الذي يحدث به هذه العلة، ولا يجد غيره، وقد أجاز الله المضطر الانتفاع أكلًا وشربًا بما حرمه عليه تحريمًا منصوصًا عليه، معلمًا بالدليل الصحيح كما في قوله- سبحانه-:{إلا ما اضطررتم إليه} (2) فجواز الأكل أو الشرب لما هو حلال في أصله، ولكنه يحدث به في البدن مثل ذلك الحادث ثابت بفحوى الخطاب (3)، وهو مما وقع الاتفاق بين أهل العلم على العمل به، حتى وافق في

(1) قال النووي في «المجموع» (2/ 559) سلس البول هنا بكسر اللام وهي صفة للرجل الذي به هذا المرض، وأما سلس بفتح اللام فاسم لنفس الخارج فالسلس بالكسر كالمستحاضة وبالفتح كالاستحاضة.

وقال في «اللسان» (6/ 324): سلس بول الرجل إذا لم يتهيأ أن يمسكه وفلان سلس البول إذا كان لا يستمسكه.

(2)

[الأنعام: 119].

(3)

تقدم التعريف به.

ص: 2613

العمل به النافون للعمل بالقياس والنافون للعمل بالمفاهيم.

فإن قلت: فإذا كان يتمكن من غير هذا النوع الذي تحدث به العلة بالسؤال للناس لا بغير ذلك؟.

قلت فواجب عليه أن يترك السؤال، ويأكل أو يشرب من ذلك النوع الذي يحدث به مثل ذلك، لأنه بوجوده قد صار ممن يحرم عليه السؤال كما يدل ذلك على الأدلة الواردة في تحريم سؤال الناس (1) لمن كان غنيًا، أو قويًا إلا أن يقال: إنه لا يصير بوجود هذا النوع الذي يضره غنيًا، بل يكون وجوده [6ب] في ملكه كعدمه، فهو والحال هذه لم يجد قوت يومه الذي يحرم عليه السؤال معه على تقدير الغني المانع من سؤال الناس بوجود قوت اليوم على ما في ذلك من اضطراب الأقوال واختلاف المذاهب. وبسط الكلام في هذا يطول به البحث، ويخرجنا عن المقصود، فهذان الاحتمالان للمجتهد أن يرجح منهما ما يترجح له بعد توفيه النظر حقه.

قال السائل في غضون كلامه في السؤال الأول المحرر قبل هذا السؤال الذي فرغنا من الجواب عليه: فإن قلتم يلزمه المشي إلى صلاة الجماعة، وتصح صلاته مع الحدث، فهل تصح إمامته بكامل الطهارة أم لا؟ انتهى.

أقول: قد قدمنا أن صلاة الجماعة ليس بفريضة، ولا هي شرط لصحة الصلاة، ولكنها سنة من السنن المؤكدة حسبما أوضحناه، فلا يلزمه المشي حتمًا، ولكنه يسن له

(1) منها ما أخرجه أحمد (1/ 441) وأبو داود رقم (1626) والترمذي رقم (650) وابن ماجه رقم (1840) والنسائي رقم (2593). وهو حديث صحيح.

من حديث بن مسعود مرفوعًا: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش، قالوا يا رسول الله: وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب» .

ومنها ما أخرجه أحمد (3/ 7، 9) وأبو داود رقم (1628) والنسائي رقم (2596) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» .

وهو حديث حسن.

ص: 2614

كما تقدم، وأما كونها تصح إمامة سلس البول (1) ونحوه بكامل الطهارة.

فأقول: قدمنا أن صاحب هذه العلة يفعل ما يفعله من لا عله به، وأن هذا الخارج ليس كسائر الأحداث، بل لا فرق بينه وبين من لا علة به، فظهر من هذا التقرير الذي أسلفنا تحريره أنه يؤم بغيره [7أ] ممن لا علة به، لأنا لا نسلم أنه ناقص طهارة، ثم لو سلمنا أن طهارته ناقصة تنزلًا فلم يأت في الشريعة المطهرة منع ناقص الطهارة عن أن يكون إمامًا، لمن كان كاملها.

وقد كان الصحابة- رضي الله عنهم من هو كثير المذي (2)، وأطلع على ذلك رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وسئل عنه، ولم يرد في حديث صحيح أو حسن ولا ضعيف أنه نهاه عن أن يؤم بغيره، وهكذا قد كان في عصره مستحاضات (3)، وبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم، وسئل عنه في مواطن، وتكرار ذلك كما تفيده الأحاديث التي قدمنا ذكرها في سؤال المستحاضات لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وسؤال من سأله من غيرهن عنهن، ولم يأت في حرف واحد أنه نهاهن عن الإمامة لغيرهن في الصلاة.

(1) أخرج عبد الرازق في مصنفه رقم (582) والبيهقي (1/ 356) كان زيد قد سلس منه البول، وكان يداري منه ما غلب، فلما غلبه أرسله، وكان يصلي وهو يخرج منه.

وأخرج البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 357) من طريق إسحاق بن راهويه: كان زيد بن ثابت سلس البول وكان يداويه ما استطاع فإذا غلبه صلى، ولا يبالي ما أصاب ثوبه، وقال أحمد في مسائل عبد الله رقم (82): وكان زيد بن ثابت سلس البول محصنه فصلى.

(2)

منها ما أخرجه البخاري رقم (132، 178، 269) ومسلم رقم (17، 18، 19/ 303) وأبو داود رقم (206) والترمذي رقم (114) والنسائي رقم (1/ 96، 97) وابن ماجه رقم (504) عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلًا مذاء، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: فقال: «فيه الوضوء» .

(3)

تقدم ذكرهن خلال الأحاديث المتقدمة.

ص: 2615

وقد كان في زمنه- صلى الله عليه وآله وسلم من به جراحات (1) يكثر خروج الدم ونحوه منها، ولم يرد عنه النهي عن أن يؤموا بغيرهم. وقد كان في عصره من يتطهر بالتيمم، ولم يثبت عنه أنه نهاهم عن أن يصلوا بغيرهم [7ب]، بل ثبت أنه قال- صلى الله عليه وآله وسلم لعمران بن حصين:«عليك بالصعيد فإنه يكفيك» ، وهو في الصحيحين (2) وغيرهم.

وثبت أنه قال لأبي ذر: «إن الصعيد طهور لمن لم يجد الماء عشر سنين» ، وهو في مسند أحمد (3)، وسنن أبي داود (4) وغيرهما (5). بل ثبت أن عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل صلى بأصحابه بالتيمم وكان جنبًا، فذكروا ذلك للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم فقال:«يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟» ، فقال: نعم، ذكرت قول الله تعالى:{ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} (6) فتيممت وصليت، فضحك رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقل شيئًا، وهو حديث مشهور (7) معروف مروي في كتب الحديث، وكتب السير.

(1) أخرج مالك (1/ 62) وعبد الرازق في مصنفه (1/ 578 - 581) وابن سعد في «الطبقات» (3/ 350) والدراقطني (1/ 224) والبيهقي (1/ 357) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 295) وقال: رواه الطبراني.

عن عمر رضي الله عنه أنه لما طعن كان يصلي وجرحه يثغب دمًا.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحة رقم (344) ومسلم رقم (682).

(3)

في «المسند» (5/ 147، 155).

(4)

في «السنن» رقم (332، 333).

(5)

كالنسائي (1/ 171) وابن أبي شيبه في «المصنف» (1/ 156 - 157).

(6)

[النساء: 29].

(7)

أخرجه أحمد (4/ 203) والدارقطني (1/ 178 رقم 12) وابن حبان في صحيحه رقم (1311 - 1313). والحاكم في «المستدرك» (1/ 177) وصححه ووافقه الذهبي.

وأخرجه البخاري (1/ 454) معلقًا. وقال الحافظ: «هذا المعلق وصله أبو داود والحاكم وإسناده قوي

».

والخلاصة أن الحديث صحيح.

ص: 2616

والظاهر أن أصحابه كانوا متوضئين، ولهذا أنكروا عليه، وكان الماء موجودًا، ولو كان معدومًا لم ينكروا عليه، ولا كانت له حاجة تدعوه إلى الاستدلال بالآية، بل كان سيتعذر بعدم وجود الماء، وهكذا وقع من غيره من الصحابة كما رواه أحمد (1) وغيره عن بن عباس أنه صلى بجماعة من الصحابة وهو متيمم من جنابة، وفيهم عمار بن ياسر، وأخبرهم بن عباس بذلك، ولم ينكر عليه أحد منهم. فعرفت بمجموع ما ذكرناه المنع من كون من به سلس البول ونحوه ناقص طهارة. ثم على [8أ] التسليم فلا دليل يدل على المنع، بل الدليل قائم على الجواز، ومفيد للصحة كما أوضحناه (2).

قال السائل- كثر الله فوائده-: «وفرع هذه المسألة، وهو أن السائل يصلي مع الجماعة بالحدث لإذن أهل العلم له بذلك كما تقدم، ولخوف أن تكون صلاة الجماعة شرطًا كما هو مذهب أهل الظاهر ومن وافقهم، ثم إنه يقضي الصلاة في بيته لأجل إمكان الصلاة على طهارة، وتناول في ذلك حديث (3) الرجلين اللذين صليا بالتيمم، فلما وجدا الماء أعاد أحدهما، ولم يعد الآخر، فذكرا ذلك للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة» ، وقال للآخر:«لك الأجر مرتين» وهذا الرجل قد اتخذ القضاء ديدنًا، فهل هو مصيب في ذلك أم لا؟ انتهى.

(1)(3/ 173 رقم 1107) وعزاه صاحب «المنتقى» الأثرم.

(2)

وقال الشوكاني في «السيل الجرار» (1/ 534):» وأما ناقص الطهارة فلا دليل يدل على المنع أصلًا، فيصح أن يؤم المتيمم متوضًأ ومن ترك غسل بعض أعضاء وضوئه لعذر بغيره ونحوهما، ولا يحتاج إلى الاستدلال بحديث عمرو بن العاص في صلاته بأصحابه بالتيمم وهو جنب، فإن الدليل على المانع كما عرفت والأصل الصحة.

(3)

أخرجه أبو داود رقم (238) والنسائي (1/ 213 رقم 433) من حديث أبي سعيد الخدري وهو حديث حسن.

ص: 2617

أقول: إذا كان الحضور مع الجماعة قد أذن به أهل العلم، وفيه الخلوص من الخلاف في كون صلاة الجماعة شرطًا فذلك يدل عل أن هذه الصلاة التي صلاها مع الجماعة صحيحة مجزية، ولو كانت غير صحيحة ولا مجزية لم يأذن بها أهل العلم، ولا تخلص بها الذي به تلك العلة عن كون الجماعة شرطًا عند من يقول به، وصحة هذه الصلاة مستلزم بعدم صحة قضائها، لأن القضاء إنما يكون إستدراكًا لشيء فات، ولم يصح، ولا إجزاء هذه الصلاة المفعولة في الجماعة ممن هو كذلك صحيحة مجزية. فتقرر بهذا أن إعادة هذه الصلاة من ذلك الذي قد صلاها في جماعة ابتداع محض، وشكوك فاسدة، وتنطع لم يأذن الله به.

وإذا عرفت أنه لا وجه للقضاء على مقتضى إرادة هذا القاضي، وهو كونه حضر صلاة الجماعة لإذن أهل العلم له بذلك، وليتخلص من قول من قال: إنها شرط، وأنه لا يصح القضاء على مقتضى هذه الإرادة فهو أيضًا كذلك ليس بقضاء على مصطلح أهل الأصول والفروع، لأنهم [8ب] لا يطلقون أسم القضاء على مثل هذا، فما أحق هذه الصلاة التي انتقل منها من [

] (1) إلى (2) زمن السنة إلى البدعة، ومن الثواب المتضاعف بفعل سنة الجماعة إلى العقاب بفعل بدعة الإعادة بغير وجه أن يقال لها صلاة الشك والوسوسة، لا صلاة القضاء.

ومع هذا فهذه الإعادة لهذه الصلاة قد ذكر حكمها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم فقال «لا ظهران في يوم» (3)، وقال «لا تصلي صلاة في يوم مرتين» (4)

(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.

(2)

كلمة غير واضحة في المخطوط.

(3)

قال ابن حجر في «تلخيص الحبير» (1/ 156): «لا ظهران في يوم» هو بلظاء المعجمة المضمومة ولم أره بهذا اللفظ. لكن روى الدراقطني في سننه (1/ 415) من حديث ابن رفعه: «لا تصلوا صلاة في يوم مرتين» بإسناد صحيح.

(4)

أخرجه أبو داود رقم (579) والنسائي (2/ 114) والدارقطني (1/ 415 رقم 1) والبيهقي (2/ 303) وابن خزيمة (3/ 69) وابن حبان في صحيحة رقم (432) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

ص: 2618

وهذان الحديثان صحيحان ثابتان في دواوين الإسلام، فلم يربح هذا المتشكك من فعله لهذه الصلاة المشكوكة إلا بوقوعه في ما نهى عنه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم: ونفاه وأبطل حكمه وبيينه للناس بيانًا أوضح من شمس النهار. ولا يصح الاستدلال على جواز صلاة الشك والوسوسة هذه بما وقع في الحديث الصحيح للرجلين الذين صليا بالتيمم، ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم للذي لم يعد:«أصبت السنة» ، وقال للآخر:«لك الأجر مرتين» (1)، لأن هذا الذي أعاد لم يكن عنده علم بعدم جواز الإعادة، وقصد خيرًا وكرر عبادة في [

] (2) جاهلًا بأن حكم الشرع في ذلك عدم جواز الإعادة فقال له ما قال، وأرشده إرشادًا في غاية الوضوح، يفهمه كل [

] (3) وبين له أن فعله هذا خلاف ما شرعه الله لعباده وهو عدم الإعادة، وذلك حيث قال لصاحبه:«أصبت السنة» أي أصبت الطريقة التي شرعها الله لعباده، وظفرت بما هو حكم الله في هذه الصلاة، وفيه دلالة على أن صاحبه الذي أعاد بسبب الإعادة غير مصيب للسنة، ولا موافق لها، ولا عامل بحكمه [9أ].

والحاصل أن هذه المقالة النبوية، والعبارة المحمدية قد دلت أن ذلك الذي أعاد الصلاة مبتدع لا متبع، ومخالف للسنة لا موافق لها، ولكنه لما لم يكن ابتداعه عن قصد لعدم علمه بما شرعه الله لعباد في مثل هذه الصلاة التي صلاها بالتيمم، ثم وجد الماء قال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم ما قال، وليس المراد بالسنة هاهنا ما هو المصطلح عليه عند أهل الأصول، وأهل الفروع، من كونها ما يمدح فاعله، ولا يذم تاركه، فتكون عندهم محتملة بما ليس بواجب، وهو ما يمدح فاعله، ويذم تاركه، فإن هذا

(1) تقدم تخريجه.

(2)

كلمة غير واضحة في المخطوط.

(3)

كلمة غير واضحة في المخطوط.

ص: 2619

اصطلاح متحدد، وعرف حادث ليس بحقيقة لغوية ولا شرعية (1)، بل المراد بالسنة في لسان الشارع ما شرعه الله لعباده أعم من أن يكون واجبًا أو مرغبًا فيه، وليس بواجب، وهذا معلوم لا يخفى، ولكنا أردنا مزيد الإيضاح لدفع ما عسى أن يتوهمه متوهم، أو يغلط فيه غالط، فعرفت بهذا أن قوله- صلى الله عليه وآله وسلم:«أصبت السنة» في قوة قوله: أصبت ما شرعه الله لعباده، ومن أصاب ما شرعه الله لعباده فقد رشد وفاز بالخير كله دقه وجله، وآخره وأوله، ومن لم يصب ما شرعه الله لعباده فهو في الجانب المقابل لجانب الشريعة، وليس إلا البدعة؛ إذ لا واسطة بينهما في الأمور المنسوبة إلى الدين، الداخلة في مسماه حقيقة أو ادعاء.

فإن قلت: قد ثبتت الإعادة في الأحاديث الواردة في من أدرك أئمة الجور الذين يميتون الصلاة كميتة [9ب] الأبدان. بإخراجهم لها عن وقتها المضروب كما في الأحاديث الصحيحة، فإن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن أدرك ذلك من المؤمنين أنهم يصلون الصلاة لوقتها، وأمرهم أن يصلون مع أولئك، وتكون صلاتهم معهم نافلة (2).

أقول ليس في هذا إشكال يرد على ما نحن بصدده من الكلام على مسألة السؤال، فإن هذه الصلاة المعادة قد أخبرهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أنها ليست بفريضة، ولا بقضاء للفريضة، بل قال: إنها تكون لهم نافلة، والنافلة باب آخر، والمنهي عنه ليس إلا إعادة الصلاة على أنها فريضة، ثم هي أيضًا مفعولة بعد خروج وقت الصلاة، فليس

(1) تقدم التعريف بها.

(2)

منها: ما أخرجه أحمد (4/ 160 - 161) والترمذي رقم (219) والنسائي (2/ 112 - 113 رقم 858) وأبو داود رقم (575) وابن حبان في صحيحة رقم (1565) والترمذي (1/ 426) عن يزيد بن الأسود أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو برجلين لم يصليا. فدعا بهما، فجيء بهما ترعد فرائضهما، فقال لهما:«ما منعكما أن تصليا معنا» ؟ قالا: قد صلينا في رحالنا، قال:«فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه، فإنها لكما نافلة» . وهو حديث صحيح.

ص: 2620

هذا من باب إعادة الصلاة في وقتها، والأمر واضح لا يخفى- إن شاء الله-.

قال- كثر الله فوائده-: وأيضًا على أي صفة يحضر هذا الرجل صلاة الجمعة؟ أفتونا علمكم الله ما لم تكونوا تعلمون. انتهى.

أقول: يحضر الجمعة على الصفة التي يحضر بها باقي الصلوات، فالجمعة صلاة من الصلوات، واختصاصها بالخطبة قبلها ليس ذلك مما يخرج عن كونها صلاة من الصلوات، ولقد أطال الناس في شروط هذه العبادة لأعني صلاة الجمعة (1) بما لا طائل تحته عند من جرد نفسه للعمل بالكتاب والسنة، ولم يعول على مجرد الرأي المحض، وتأمل- أرشدك الله- مقالات الناس في هذه العبادة، فهذا يقول لا يجب إلا في مكان مخصوص كالمصر الجامع في المكان المستوطن، وهذا يقول لا يجب إلا مع وجود الإمام الأعظم، وهذا يقول لا يجب إلا بعدد مخصوص [10أ] كقول من قال بالأربعين أو بالسبعين، أو بالاثنى عشر، أو بالثلاثين، أو نحو ذلك من الأقوال الفاسدة التي لا ترجع إلى عقل ولا نقل.

ويا ليت شعري ما الحامل لهم على هذا وأمثاله في مثل هذه العبادة الجليلة، والصلاة الفاضلة! وقد بحثنا عن أدلتهم أتم بحث. فغاية ما يجده الإنسان عند من له نظر في الأدلة على وجه يكنه الاستدلال على ما قاله هو أومن يقلده هو وقوع واقعة فعلية أو اتفاقية.

ويالله العجب كيف يستدل بمثل ذلك على كون الشيء شرطًا! فإن الشرط هو الذي يؤثر عدمه في عدم المشروط، فلا تثبت إلا بدليل خاص، وهو ما يفيد نفي الذات من حيث هي، أو نفي ما لا تصح. ويجري بدونه.

وهكذا الفرض لا يثبت إلا بدليل خاص كالأمر بالفعل أو النهي عن الترك، أو التصريح بأنه فرض أو واجب أو نحو ذلك، فانظر- أرشدك الله- هل صح عن الشارع من وجه صحيح أنه قال لا صلاة جمعة إلا في مسجد جامع، أو في مكان مستوطن، أو

(1) انظر «فتح الباري» (2/ 423).

ص: 2621

مع وجود إمام أعظم، أو بعدد هو كذا أو كذا، أو قال لا يصح صلاة جمعة، أو لا يجري بكذا أو كذا أو كذا، أو وقع منه الأمر بذلك، أو النهي عن تركه، أو صرح بأنه فرض أو واجب! فيالله العجب ما للناس قيدوا هذه العبارة بقيود، وشرطوها بشروط تقلل عددها، وتقصر مددها، وتقسطها على كثير من العباد. وبالجملة فالبحث عن هذا يطول، وقد أوضحته في مؤلفاتي (1)، وتكلمت على دفع ما لم يكن عليه برهان من الله من الأقوال الباطلة في هذه الصلاة.

وفي هذا المقدار من جواب سؤالات السائل- عافاه الله- كفاية، فخير الكلام ما أفاد المرام.

كتبه جامعه محمد بن على الشوكاني- غفر الله لهما [10ب]-.

ص: 2622