الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحث في أن السجودَ بمجرّده من غير انضمامه إلى صلاةٍ عبادةٌ مستقلةٌ يأجر اللهُ عبده عليها
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على [سيد](1) المرسلين وآله الأكرمين- ورضي الله عن الصحابة أجمعين-.
اعلم أن السجود (2) لمجرده من غير انضمامه إلى صلاة ودخوله فيها عبادة مستقلة يأجر الله عبده عليها والنصوص على ذلك في الكتاب العزيز معروفة والحمل في بعضها غلى السجود الكائن في الصلاة أو على نفس الصلاة هو مجاز لابد فيه من علاقة وقرينة ودليل ومن ذلك السجودات للتلاوة فإنه صلى الله عليه وسلم بينها بالسجود المنفرد وغيرها مثلها يحمل على السجود المنفرد.
وهكذا يحمل المنفرد على السجود أو على نفس الصلاة ما ثبت في الصحيح (3) من حديث معدان بن طلحة اليعمري قال لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أخبرني بعمل أعمله يدخلني الجنة أو قال قلت ما أحب الأعمال إلى الله عز وجل فسكت ثم سألته فسكت ثم سألته الثالثة فقال سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة» ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال لي ثوبان هذا لفظ
(1) في الأصل: سيدي والصواب ما أثبتناه.
(2)
قال ابن القيم في «زاد المعاد» (1/ 229): أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرأ) على الأصح وختمها بقوله: {واسجد وأقترب} [العلق: 19]، بأن السجود لله يقع من المخلوقات كلها علويها وسفليها، وبأن الساجد أذل ما يكون لربه وأخضع له، وذلك أشرف حالات العبد. فلهذا كان أقرب ما يكون من ربه في هذه الحالة، وبأن السجود هو سر العبودية، فإن العبودية هي الذل والخضوع، يقال: طريق معبد، أي ذللته الأقدام، ووطأته. وأذل ما يكون العبد وأخضع إذا كان ساجدًا.
(3)
أخرجه مسلم رقم (488) والترمذي رقم (388) والنسائي (2/ 228) وابن ماجه رقم (1423) وهو حديث صحيح.
مسلم (1) وكل عربي لا يفهم من قوله سجدة إلا السجدة المنفردة وأما السجود الذي في الصلاة فأجره داخل في أجر الصلاة.
وثبت في الصحيح (2) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: «سل» فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: «أو غير ذلك» فقلت هو ذاك. قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود» . هذا لفظ مسلم (3) فصدق هذا السجود على السجود المنفرد هو المعنى الحقيقي ومثل هذا حديث عائشة [رضي الله عنها](4) الثابت عنها في الصحيح (5) أنها فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدها على بطن قدمه وهو في المسجد وهما منصوبتان مهو يقول: «اللهم إني أعوز برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوز بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ، وهكذا يصدق على السجود المنفرد ما ثبت في ................................
(1) في صحيحة رقم (225/ 488).
(2)
أخرج مسلم في صحيحة رقم (226/ 489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي:«سل» فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال:«أو غير ذلك» قلت: هو ذلك. قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود» .
قال القاضي عياض في «أكمال المعلم بفوائد مسلم» (2/ 304): ليزداد من القرب ورفعة الدرجات حتى يقرب من منزلته وإن لم يساره فيها، فإن السجود معارج القرب ومدراج رفعة الدرجات قال تعالى:{واسجد وأقترب} [العلق: 19]. وقال- عليه السلام في الحديث الآخر: «لا تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة» ولأن السجود غايته التواضع لله، والعبودية له، وتمكين اعز عضو في الإنسان وأرفعه وهو وجهه من أدنى الأشياء وأخسها وهو التراب والأرض المدوسة بالأرجل والنعال وأصله في اللغة: الميل.
(3)
في صحيحة رقم (226/ 489).
(4)
زيادة يستلزمها السياق.
(5)
أخرجه مسلم في صحيحة رقم (222/ 486).
الصحيح (1) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» .
وأخرج النسائي (2) من حديث عائشة [رضي الله عنها](3) قالت: «كان [1أ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إحدى عشرة ركعة فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر سوى ركعتي الفجر ويسجد قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية» .
وقد أخطأ صاحب عدة الحصن الحصين (4) في الحكم منه بأن هذه السجدة موضوعة فقد نبهت على ذلك في شرحي على العدة (5).
وأخرج ابن أبي شبيبة في مصنفه (6) عن أبي سعيد أنه قال: ما وضع رجل جبهته لله ساجدًا فقال يا رب اغفر لي ثلاثًا إلا رفع رأسه وقد غفر له، وهذا وإن كان موقوفُا عليه فله حكم الرفع لأن ذلك لا يقال من طريقة الرأي وأخرجه الطبراني (7) عن أبي مالك عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8) رواه الطبراني في الكبير (9) من رواية محمد بن جابر عن أبي مالك هذا قال ولم أر من ترجمهما (10).
(1) أخرجه مسلم في صحيحة (482).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (875) والنسائي (2/ 226) وهو حديث صحيح.
(2)
رقم (1749) وهو حديث صحيح.
(3)
زيادة يستلزمها السياق.
(4)
(ص169).
(5)
(ص 168 - 169).
(6)
(10/ 221 - 222 رقم9282).
(7)
في «الكبير» (8/ 483 رقم8197).
(8)
(2/ 129).
(9)
في «الكبير» (8/ 483 رقم8197).
(10)
«قلت: محمد بن جابر هذا يترجح لدي أنه ابن سيار المترجم في «تهذيب الكمال» (24/ 565) لأمور عدة منها:
1 -
التقارب في الطبقة.
2 -
أن ابن سيار هذا كوفي، وشيخه أبو مالك هو سعد بن طارق الأشجعي من أهل الكوفة.
3 -
نكارة المتن، فإذا كان محمد بن جابر هو ابن سيار- كما رجحته- فهو أولى من تلزق به هذه النكارة حيث إن من دونه أفضل حالًا منه، وابن سيار وشهور برواية المناكير.
4 -
شهرته تكفي عند الرواية عنه عن تعيينه، خلافًا لغيره ممن يسمى بهذا الاسم، فهم دون الشهرة عنه فغالبًا ما يحتاجون عند الرواية عنهم إلى زيادة نسبة تعيينهم.
وهذه النقطة كثيرًا ما تجدها في مصنفات الطبراني فإنه إذا جاء عنده راو غير مشهور فغالبًا ما يعينه» 1هـ.
«الفرائد على مجمع الزوائد» خليل بن محمد العربي (ص269 - 297).
وأخرج بن ماجه (1) بإسناد صحيح عن عبادة بن الصامت أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة ومحا عنه بها سيئة ورفع له بها درجة فاستكثروا من السجود.
وأخرج أحمد (2) وابن ماجه (3) بإسناد جيد عن أبي فاطمة قال: يا رسول الله أخبرني بعمل استقيم عليه وأعمل قال عليك بالسجود فإنه لا يسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ولفظ أحمد (4) أنه صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أبا فاطمة إن أردت أن تلقاني فأكثر السجود» .
وأخرج الطبراني في الأوسط (5) بإسناد رجاله ثقات من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من حالة يكون العبد أحب إلى الله من أن يراه ساجدًا يعفر وجهه في التراب» .
وأخرج أحمد (6) والبزار (7) بإسناد صحيح من حديث أبي ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) في «السنن» رقم (1424). وهو حديث صحيح.
(2)
في «المسند» (3/ 428).
(3)
في «السنن» رقم (1422) وهو حديث صحيح.
(4)
في «المسند» (3/ 428).
(5)
رقم (6075).
(6)
في «المسند» (5/ 148).
(7)
في مسنده (1/ 345 - 346 رقم 718 - كشف).
وأورده الهيثمي في «المجمع» (2/ 258) وقال: رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح.
ٍٍ
يقول: «من سجد لله سجدة كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة» ، ومعلم أن المراد بهذه السجدات المذكورة في هذه الأحاديث هي السجدات المنفردة كما هو المعنى الحقيقي وصدقه مجاوًا على السجود الكائن في الصلاة لا يضرنا ولا يدفع صدقه على السجود المنفرد والحاصل أن السجود نوع من أنواع العبادة مرغب فيه بهذه الحاديث وغيرها يتقرب به العبد كما يتقرب بالصلاة لورود التغيب والوعد النبوي بالأجر الجزيل عليه وفعله صلى الله عليه وسلم لبعض أنواعه لا يمنع من فعل غيره كما هو شأن الترغيب العام بالقول ومثل هذا لا يخفى فيسجد في أي وقت شاء على أي صفة أراد ومن أنكر عليه ذلك فهو لا يدري بهذه الأحاديث التي ذكرناها وأشرنا إلى غيرها أو يدري بها ولكنه لا يفهم أن المشروعية ثبتت بدون ذلك [1ب] ومن قال بأن المشروع من السجود إنما هو بعض أنواعه مثل سجود التلاوة (1) والشكر (2) ونحو ذلك فيقال له يلزم هذا في
(1)(منها): ما أخرجه مسلم في صحيحة رقم (108/ 578) وأبو داود رقم (1407) والترمذي رقم (573، 574) وقال: حديث حسن صحيح والنسائي (2/ 161، 162) وابن ماجه رقم (1058).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1]. و {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1].
وهو حديث صحيح.
ومنها ما أخرجه البخاري رقم (1071) عن ابن عباس قال: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم» .
(2)
منها: ما أخرجه أحمد (5/ 45) وأبو داود رقم (2774) والترمذي رقم (1578) وابن ماجه رقم (1394) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وهو حديث حسن.
عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا جاءه خبر يسره خر ساجدًا لله» .
قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (2/ 448 - 449): فإن النعم نوعان: مستمرة، ومتحددة، فالمستمرة شكرًا لله عليها، وخضوعًا له، وذلًا في مقابلة فرحة النعم، وانبساط النفس لها وذلك من أكبر أدوائها، فإن الله سبحانه لا يحب الفرحين ولا الآشرين. فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين، وكان سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره.
ونظير هذا السجود عند الآيات التي يخوف الله بها عباده كما في الحديث: «إذا رأيتم آية فاسجدوا» .
أخرجه أبو داود رقم (1197) والترمذي رقم (3891) وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد فزع النبي صلى الله عليه وسلم عند رؤية انكساف الشمس إلى الصلاة، وأمر بالفزع إلى ذكره «- أخرجه البخاري رقم (1046) ومسلم رقم (901) ومعلوم أن آياته تعالى لم تزل مشاهدة معلومة بالحس والعقل، ولكن تجددها يحدث للنفس من الرهبة، والفزع إلى الله ما لا تحدثه الآيات المستمرة فتجدد هذه النعم في اقتضائها لسجود الشكر كتحدد تلك الآيات في اقتضائها للفزع إلى السجود والصلوات.
قال ابن القيم في «عدة الصابرين» (ص172 - 174): فإن قيل: فنعم الله دائمًا مستمرة على العبد فما الذي اقتضى تخصيص النعمة الحادثة بالشكر دون الدائمة وقد تكون المستدامة أعظم».
قيل: الجواب من وجوه:
1 -
إن النعمة المتجددة تذكر بالمستدامة، والإنسان موكل بالأدنى.
2 -
إن هذه النعمة المتجددة تستدعي عبودية مجددة وكان أسسها على الإنسان وأحبها إلى الله السجود شكرًا له.
3 -
إن المتجددة لها وقع في النفوس والقلوب بها أعلق، ولهذا يهني بها ويعزي بفقدها.
4 -
إن حدوث النعم توجب فرح النفس وانبساطها، وكثيرًا ما يجر ذلك إلى الأشر والبطر، والسجود ذل لله وعبودية وخضوع.
الصلاة فيقال ليس له أن يتنفل ألا النفل الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم ولا يزيد عليه في عدد ولا صفة ولا يفعله في زمان غير الزمان الذي فعله صلى الله عليه وسلم فيه ولا يخفاك أن هذا القول جهل عظيم لأن الترغيبات في مطلق النفل من الصلاة تدل على أن الاستكثار من صلاة النفل سنة ثابتة وشريعة قائمة ما لم يكن الوقت وقت كراهة (1) فهكذا مجرد السجود فإنه ثبت
(1) أخرج البخاري في صحيحة رقم (586) ومسلم رقم (288/ 827) من حديث أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد الصبح حتى تبزغ الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب» .
وأخرج مسلم في صحيحة رقم (293/ 831) عن عقبة بن عامر الجهني قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب» .
الترغيب فيه والأجر العظيم لفاعله كما تقدم ولا سيما وهو من أسباب القرب من الرب عز وجل كما تقدم (1) من قوله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» ثم أمره بإكثار الدعاء عند هذا القرب الكائن للساجد بسجوده ما أحق طالب الخير وقارع باب الإجابة أن ينحط عند أن يدعو ربه ساجدًا فإنه يفتح له باب الرحمة التي تجاب عندها الدعوات وترفع بها الدرجات وتكفر بها الخطيئات لأنه قد صار في مقام القرب من ربه في مقام أقرب القرب من الجناب العالي عز وجل.
كتبه قائله الشوكاني غفر الله له [2أ].
(1) تقدم ذكره من حديث أبي هريرة.