الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام
تأليف
الإمام محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط
1 -
عنوان الرسالة (رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام).
2 -
موضوع الرسالة: أصول الفقه.
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك وبعد: فإنه وصل هذا السؤال
…
4 -
آخر الرسالة:
. حدس قوي بالمشابهة، وفي هذا كفاية لمن له هداية حرره المجيب محمد الشوكاني في الثلث الأخير من ليلة الجمعة لعله ثاني وعشرين شهر رمضان سنة (1215هـ).
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
الناسخ: المؤلف- رحمه الله محمد بن علي الشوكاني.
7 -
عدد الصفحات: صفحة واحدة للسؤال. (14) صفحة للرسالة.
8 -
عدد الأسطر في الصفحة: 9 - 24 سطرًا.
9 -
عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة.
10 -
الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتح الشوكاني).
[السؤال]
الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
سيدنا القاضي العلامة، وبركتنا بقية أهل الفضل والاستقامة، بدر الإسلام: محمد ابن علي الشوكاني- حفظه الله تعالى، وأحله فيما يرضاه أعلا المباني وأتحفه بسلامه، وبجزيل رحمته وبركاته، كل صباح واصيل-.
نعم - أبقاكم الله- حصلت مراجعة بيننا وبين سيدنا العلامة الناسك الحسن بن علي حنش (1) -عافاه الله- في «حكم الحاكم بعلمه» وأعلمناه بما علمناه منكم في ذلك، وأن ذلك وجه لديك راجحٌ، وأجمع الرأي مناقضته استحالة الفائدة وطلب العائدة من إحسانكم بتبيين الدليل على أرجحية ذلك من باب قوله تعالى:{قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (2) وإلا فما أرى - بل المقطوع به- لا تقررون إلا ما قد تقرر لدينا بالدليل، ولكن أردنا هذا فأحسنوا - أجزل الله مكاناتكم- برقمه بعد هذا- دامت فوائدكم وأمتعنا الله بحياتكم- وسلامه عليكم.
وصلى الله على محمد وآله وسلم، وحسبي الله وكفى، ونعم الوكيل [1أ].
(1) الحسن بن علي بن الحسن
…
بن أحمد بن حنش ولد بشهارة سنة 1153هـ ورحل من وطنه لطلب العلم إلى مدينة صنعاء فأخذ عن جماعة من أعيانها كالسيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير في الحديث .. توفي سنة 1225هـ بصنعاء.
انظر: «البدر الطالع» رقم (130). «نيل الوطر» (1/ 348 - 352).
(2)
[البقرة: 260].
[جواب الإمام الشوكاني]
رفعُ الخصام في الحكم بعلم الحكام
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلَّي وأسلَّم على رسولك، وآل رسولك وبعدُ:
فإنه وصل هذا السؤال من سيدي العلامة المفضال، جمال الكلمات عليِّ بن إسماعيل ابن علي (1) لا برح في مقام من طلب الحق عليَّ وأقول:
ينبغي -أولاً- أن يعلم أن الله - سبحانه- قد صرح في كتابه الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بالمنع من العمل بالظنِّ واتِّباعه، وذمِّ من يتمسك به -في الدين- بأبلغ ذم.
فمن ذلك قوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإنَّ الظن لا يغني من الحق شيئا} (2).
وقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} (3).
وقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرً من الظن إن بعض الظن ............................
(1) السيد علي بن إسماعيل بن علي القام بن محمد ولس سنة 151هـ بشهارة ونشأ بها وقرأ العلوم الأدبية والفقه. وهو حسن المحاضرة لا يمل جليسه لما يورده من الأخبار والأشعار والمباحثات العلمية والاستفادة فيما لم يكن لديه منها وتحرير الأسئلة الحسنة وقد كتب إلي -أي إلى الشوكاني- من ذلك شيئًا كثيرًا، وأجبت عليه برسائل هي في رسائلي- «الفتح الرباني» .
«البدر الطالع» ترجمة رقم (312)، «التقصار» (ص390)، «نيل الوطر» (2/ 125).
(2)
[النجم: 28]
(3)
[النجم: 23].
إثم} (1).
وقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (2).
وقوله تعالى: {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} (3).
وقوله تعالى: {إن نظن إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين} (4).
وقوله تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرادكم} (5).
وقوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} (6).
فهذه الآيات الكريمة - ونحوها - في الكتاب العزيز قاضية بالمنع من العمل بمجرد الظن، وذم فاعله، والنهي عن أتباعه، وأنه لا يغني من الحق شيئًا. فيجب البقاء على هذه النصوص، ولا يجوز العمل بشيء من الظن في الدين كائنًا ما كان، إلا أن يرد [1ب] دليل يبخصه، ويسوغ العمل به.
وقد ورد في السنة المطهرة ما لا يتسع المقام لبسطه، مما يتضمَّن النهي عن العمل بالظن وأتباعه، وأنه من أكذب الحديث (7).
وبالجملة: فلا يشك عالم من علماء الشريعة أن هذه الأدلة تفيد أن الأصل الأصيل
(1)[الحجرات: 12]
(2)
[الإسراء: 36]
(3)
[الزخرف: 20]
(4)
[الجاثية: 32]
(5)
[فصلت: 33]
(6)
[الحج: 8]
(7)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6064) ومسلم رقم (2563) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»
العمل بالعلم (1)، وأن العمل بالظن لا يجوز إلا بدليل يدل عليه، فإن لم يوجد الدليل الذي يدل عليه كان العمل به غير جائز. الوقوف عند العلم هو الواجب، وهذا مالا يظن بأحد إنكاره، ولا مدافعته.
فإذا تقرر [هذا](2) فالقاضي أمره الله -سبحانه- في محكم كتابه أن يحكم بين عباده بالحق، والعدل، والقسط. فلو فرضنا عدم ورود ما يدل على جواز الحكم بشيء مما يفيد الظن؛ لكان الواجب عليه أن لا يقضي إلا بالعلم الحاصل له (3) بالأسباب، المفيدة
(1) ما المقصود بعلم القاضي؟
هو علمه بوقائع الدعوى وأسباب ثبوتها.
(2)
زيادة يستلزمها السياق.
(3)
العلم الحاصل للقاضي له حالتان:
الحالة الأولى: علم القاضي الذي حصل عليه في مجلس القضاء، إذا حصل القاضي على علمه بوقائع الدعوى وأسباب ثبوتها في مجلس القضاء، كما أقر المدعي عليه بالدعوى، أو نكل عن اليمين بعد أن وجهها إليه القاضي، فإن القاضي يحكم بموجب علمه بوقائع الدعوى ودلائل ثبوتها، ولا يشترط أن يشارك القاضي في علمه وسماعه لوقائع الدعوى ودلائل ثبوتها في مجلس القضاء شاهدان أو أكثر، هذا ما نص عليه الإمام أحمد وهو ما قال به الشافعية أيضًا محتجين بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كما في الحديث: «فإن اعترفت فارجمها» ولم يفيده بأن يكون اعترافها - أي بالزنا- بحضور الناس أو بحضور شاهدين أو أكثر.
قال ابن قدامة في «المغني» (14/ 33): ولا خلاف في أن للحاكم أن يحكم بالبينة والإقرار في مجلس حكمه، إذا سمعه معه شاهدان، فإن لم يسمعه معه أحدٌ، أو سمعه شاهد، فنص أحمد على أنه يحكم به، وقال القاضي: لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان، لأنه حكم بعلمه.
وانظر: «فتح الباري»
(3/ 139). الحالة الثانية: هي علم القاضي المتحصل عنده خارج مجلس القضاء كما لو سمع القاضي شخصًا يطلق أمرأته ثلاثًا خارج مجلس القضاء، أو رأى القضاء شخصًا أتلف مال شخص خارج مجلس القضاء فهل يجوز أن يحكم بما علمه؟؟
قد اختلف أهل العلم في جواز القضاء من الحاكم بعلمه، وفي ذلك أقوال منها:
1 -
القول الأول: أصحابه وهم الشافعية يفرقون بين حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى فإذا كانت الدعوى تتعلق بحقوق الآدميين فعند هؤلاء قولان: أ- لا يجوز أن يحكم القاضي بعلمه لقوله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: «شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك» أخرجه البخاري رقم (2669) و (2670) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس.
لأنه لو جاز له الحكم بعلمه لكان علمه كشهادة اثنين ومن ثم ينعقد النكاح به وحده، ولا قائل به، ولأن الحكم بعلمه يدعو إلى التهمة، وقد يستغله قضاة السوء فيحكمون على البريء.
وانظر تعليق الشوكاني على هذا القول في «نيل الاوطار» (5/ 576) فقد قال: ومن جملة ما استدل به المانعون، حديث:«شاهداك أو يمينه» ، وفي لفظ:«وليس لك إلا ذلك» من أن التنصيص على ما ذكر لا ينفي ما عداه، وأمَّا قوله:«وليس لك إلا ذلك» فلم يقله صلى الله عليه وسلم وقد علم بالمحق منهما من المبطل، حتى يكون دليلًا على عدم حكم الحاكم بعلمه، بل المراد: أنه ليس للمدعي من المنكر إلا اليمين وإن كان فاجرًا حيث لم يكن للمدعي برهان.
والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن يقال: إن كانت الأمور التي جعلها الشارع أسبابًا للحكم، كالبينة، واليمين، ونحوهما أمورًا تعبدنا الله بها، لا يسوغ لنا الحكم إلا بها، وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين، فالواجب علينا: الوقوف عندها، والتقيد بها، وعدم العمل بغيرها في القضاء كائنًا ما كان، وإن كانت أسباباً يتوصل الحاكم بها إلى معرفة المحق من المبطل، والمصيب من المخطئ غير مقصودة لذاتها بل لأمر آخر، وهو حصول ما يحصل للحاكم بها من علم أو ظنَّ، وأنها أقل ما يحصل له ذلك في الواقع، فكان الذكر لها لكونها طرائق لتحصيل ما هو المعتبر فلا شك ولا ريب: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه
…
».
ب- وهو القول الأظهر عند الشافعية وهو اختيار المزني أن القاضي يقضي بعلمه لقوله صلى الله عليه وسلم، كما روي عنه:«لا يمنع أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو علمه أو سمعه» . ولأنه إذا جاز أن يحكم بما شهد به الشهود، وهو غير متيقن من صدقهم وضبطهم فلأن يجوز أن يحكم بما سمعه ورآه وهو على علم به أولى بالجواز.
- أما إذا كانت الدعوى تتعل بحقوق الله تعالى فعند الشافعية قولان أيضًا:
والذي عليه أكثر الشافعية وهو القول الأظهر أنه لا يجوز للقاضي أن يحمكم بعلمه لقول أبي بكر رضي الله عنه: «لو رأيت رجلًا على حد لم أحده، أي لم أعاقبه بعقوبة الحد، حتى تقوم البينة عندي ولأنه مندوب إلى ستره، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات.
القول الثاني: وظاهر مذهب الحنابلة أن القاضي لا يقضي بعلمه في حدّ ولا غيره وسواء ما علمه قبل توليه القضاء أو بعده، والحجة لظاهر مذهب الحنابلة قول صلى الله عليه وسلم:«إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمعه» - تقدم تخريجه- فدل على أنه إنما يقضي بما يسمع لا بما يعلم، وقال صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي:«شاهداك ويمينه، ليس لك منه إلا ذلك» -وقد تقدم-.
ومعنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمدعي: قدّم شاهداك لتثبت دعواك، فإن لم يكن عندك شاهدان فلك تحليف خصمك اليمين.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تدعى عنده رجلان فقال أحدهما: أنت شاهدي. فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد. واحتجوا أيضًا بأن القضاء بعلم القاضي يؤدي إلى تهمته كما قد يؤدي إلى الحكم بما يشتهي.
وردوا على من أجاز للقاضي القضاء بعلمه محتجًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . بأن هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فتيا وليس حكما بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في حق أبي سفيان بدون حضوره ولو كان حكمًا عليه لم يحكم عليه في غيبته.
وقالوا أيضًا أن الاحتجاج بشهادة الشهود مع عدم التيقن بصدقهم يجعل الحك بعدلم القاضي أولى لأنه مبني على اليقين. هذا الاحتجاج غير مقبول عند الحنابلة ويردونه بقولهم أن الحكم بشهادة الشهود العدول لا يفضي إلى التهمة بخلاف حكم القاضي بعلمه.
وأما جواز حكم أهل العلم بعلمهم في الجرح والتعديل بالنسبة لرواة الأحاديث فهذا إنما جاز ليقطع التسلسل لأنه إذا لم يعملوا بعلمهم يلزم من ذلك التسلسل لأن كل مزك يحتاج إلى من يزيكيه.
القول الثالث: قالت الحنفية: يحكم القاضي بعلمه في حقوق العباد إذا استفاد هذا العلم في أثناء ولايته القضاء، أما في الحدود الخالصة لله تعالى مثل حد الزنا وشرب الخمر فلا يقضي بعلمه استحسانًا، إلا في السرقة فيقضي بالمال دون قطع يد السارق، وفي القصاص وحد القذف يحكم القاضي بعلمه.
أما إذا علم القاضي بواقعة قبل تولية القضاء ثم عرضت عليه الواقعة بعد تولية القضاء، فعلى قول أبي حنيفة- رحمه الله لا يقضي بعلمه، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يقضي بعلمه، ولو علم بحادثة في بلد ليس هو قاضٍ فيه ثم رجع إلى بلده الذي هو قاضي فيه ثم رفعت إليه تلك الحادثة، وأراد أن يقضي بعلمه فهو على الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه.
قال ابن عابدين: وأصل المذهب الجواز بعمل القاضي بعلمه، والفتوى على عدمه في زماننا لفساد القضاة. وفي الأشباه والنظائر لابن نجيم: الفتوى على عدم العمل بعلم القاضي في زماننا.
القول الرابع: ذهب الإمام مالك وأكثر أصحابه إلى أن القاضي لا يقضي بعلمه في أي مدعي به سواء علمه قبل توليه القضاء أو بعده.
وحجة المالكية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر مثلكم وأنكم تختصمون إلي .. » - وقد تقدم - فدل ذلك على أن القضاء يكون - كما قال القرافي - بحسب المسموع لا بحسب المعلوم.
واحتجوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك» . فحصر الحجة في البينة واليمين دون علم الحاكم.
واحتجوا أيضًا بأن القاضي إذا قتل أخاه بحجة علمه بأنه قائل: «كالقتل العمد لا يرث منه شيئًا للتهمة في الميراث فنقيس عليه بقية الصور بجامع التهمة.
لحصوله. لكنه ورد ما يدل على أن الحاكم يحكم بشهادة العدلين (1)، مع شهادتهما لا تفيد إلا مجرد الظن، لأن عقل كل عاقل يجوز أن شهادتهما باطلة لوجه من الوجوه.
وكذلك ورد الشارع بأنه يجوز للحاكم أن يحكم بإقرار من أقر على نفسه بأمر من الأمور، مع تجوزي أن يكون ذلك المقر كاذبًا في الواقع، فإن ذلك ليس هو إلا مجرد خير واحدٍ، وغايته أن يفيد الظن وكذبه مجوز على كل حال. وكذلك [2أ] ورد الشرع بأنه يجوز للقاضي أن يحكم بيمين المنكر مع عدم النية (2) -وكذلك النكول واليمين المردودة (3). وهذه الأمور غايتها أن تكون مفيدة للظن. ولا ينكر عالمٌ بل .. ..
(1) انظر: «فتح الباري» (13/ 175 - 177). و «المغني» (14/ 34 - 36)
(2)
للحديث الذي أخرجه مسلم رقم (223/ 139) من حديث وائل بن حجر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: ألك بينة قال: لا. قال: فلك يمينه. فقال: يا رسول الله الرجل فاجر ولا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء فقال: ليس لك منه إلا ذلك» .
(3)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه الدارقطني في «السنن» (4/ 213 رقم 24) والحاكم في «المستدرك» (4/ 100) والبيهقي (10/ 184) من حديث ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق» وهو حديث ضعيف.
و [لا](1) عاقل إن كذبها مجوز.
فلما ورد الشرع بأن هذه الأمور التي لا تفيد إلا مجرد الظن يصح أن تكون أسبابًا لحكم الحاكم سواءًا: كانت مخصصة لعموم تلك الأدلة القاضية بعدم جواز العمل بالظن، فجاز للقاضي أن يقضي على أحد الخصمين بمجرد الظن؛ لوجود السبب الشرعي الذي ورد عن الشارع، وكان حكمه بهذه الامور الظنية معدودًا من الحق، والعدل، والقسط الذي امره الله أن يحكم به، ولولا ورود الأدلة الدالة على أنه يجوز الحكم بها لما جاز للقاضي أن يقضي بشيء منها. بل كان الواجب عليه أن يقضي بعلمه الذي أمره الله بأن يتبعه، ونهاه عن اتباع غيره من الظن وما دونه، لأن كل ظن قد يتخلف.
وقد أرشد الشارع إلى هذا إرشادًا لا يخفى على عارف. فقال -فيما صح عنه-: «إنما أقضي بما أسمع فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه؛ فإنما أقطع له قطعة من نار» (2).
فانظر إلى هذا الكلام من صاحب الشريعة - عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام؛ فإنه أرشد المتخاصمين إلى أنه إنما يقضي بأشياء مسموعة لا معلومة (3)، وأنها قد تتخلف، وأنه لا يحل للمحكوم له [2ب] أن يجعل الحكم بتلك الأسباب المسموعة لا المعلومة موجبًا لتحليل ما حرمه الله عليه من مال أخيه؛ إذا كان يعلم أن ذلك المستند المسموع ليس بمطابق للواقع. فإن الله - سبحانه- إنما جعل ذلك المستند المسموع سببًا لجواز الحكم للقاضي، ولم يجعله سببًا لتحليل المحكوم به، إذا كان ذلك السبب غير مطابق للواقع.
ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: «فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه؛ فإنما أقطع له
(1) زيادة يستلزمها السياق.
(2)
وهو حديث صحيح وقد تقدم.
(3)
انظر: «المغني» (14/ 32)، «فتح الباري» (13/ 139).
قطعة من نار» (1).
ومراده عليه الصلاة والسلام أن المحكوم له إذا كان يعلم بطلان السبب المسموع من شهادة، أو يمين، أو إقرار فلا يأخذنه استنادًا إلى الحكم، وهو يعلم بطلان سببه؛ فإنه إذا فعل ذلك فإنما أقطع له قطعة من نار.
إذا عرفت هذا علمت أنه: لا يجوز للقاضي أن يقضي بشيء من الأسباب المظنونة كائنًا ما كان، بل يقتصر على الأسباب التي ورد الشرع بتخصيصها، وهي: الشهادة، واليمين، والإقرار، وما عداها لا يجوز له أن يجعله سببًا للحكم وإن أفاد مفادها من الظن.
بل لا يجوز له أن يحكم إلا بالعلم الذي أمره الله باتباعه، ونهاه عن اتباع ما دونه؛ لعدم ورود دليل يدل على تخصيص الأدلة الدالة على وجوب العمل بالعلم (2)، والمنع من العمل بالظن [3أ].
فتحصل من هذا أن الحاكم لا يحكم إلا بعلمه في كل خصومةٍ تعرض لديه (3)، ولا
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: الأقوال في بداية الرسالة.
(3)
عدم جواز حكم القاضي بعلمه المتحصل عنده خارج مجلس القضاء هو القول الراجح لأسباب منها:
1 -
الأحاديث التي أحتج بها المانعون أقوى في الدلالة لقولهم من الأحاديث التي أحتج بها المجيزون لقولهم - تقدم ذكرها-.
انظر: «فتح الباري» (13/ 139).
2 -
الآثار الكثيرة المروية عن الصحابة والدالة على منع الحاكم من الحكم بعلمه، والصحابة أعلم من غيرهم بمقاصد الشريعة والمعاني المرادة بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد ثبت عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس المنع من ذلك ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف. وقد ذكرنا الخبر المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث قال: لو وجدت رجلًا على حدِّ حتى تقوم البينة عندي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أرأيت لو رأيت رجلًا يقتل أو يسرق أو يزني؟ قال: أرى شهادة رجل من المسلمين. قال عمر: أصبت.
وعن علي رضي الله عنه مثله، وهذا كله من فقه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أفقه الأمة وأعلمهم بمقاصد الشرع وأحكامه وحكمته. ومن حكمته أن التهمة مؤثرة في الأحكام وهذا هو الدليل الآخر الذي يرجح ما رجّحناه ونذكره فيما يلي.
3 -
اعتبار التهمة، فالتهمة ينظر إليها في الشرع ويقام لها وزن واعتبار وتؤثر في ترتيب الأحكام، ولهذا فهي تؤثر في الشهادات والأقضية والأقارير، وفي طلاق المريض، ومن هنا لم تقبل بعض الشهادات مع أن أصحابها عدول لا يقدح في عدالتهم سوى تهمة التأثير بالقرابة أو العداوة بين الشاهد والمشهود. وكذلك لا يقضي القاضي إلى من لا تقبل شهادته له للتهمة، أي خوفًا من إنحيازه في الحكم إلى المفضي له لقرابة بينهما ونحو ذلك، كما لا يقبل حكم القاضي نفسه للتهمة، ولا يصح إقرار المريض مرض الموت للتهمة، ولا يقبل قول المرأة على ضرتها أنها أرضعتها للتهمة.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الحكام، يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم ولا يحكم بينهم بعلمه مع براءته صلى الله عليه وسلم عند الله ملائكته وعباده من كل تهمة لئلا يقول الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.
4 -
منع القاضي من الحكم بعلمه، يقطع الطريق على حكام السوء ويمنعهم من الحكم على البريء المستور لعداوة بينهم وبينه أو تنفيذًا لأهوائهم أو طاعة لولي الأمر الظالم فلا يستطيعوا أن يحكموا على بريء بحجة علمهم وما أحسن قول الشافعي- رحمه الله: لولا قضاة السوء لقلنا أن للحاكم أن يحكم بعلمه».
وقال ابن عابدين: «وأصل المذهب - الحنفي- الجواز بعمل القاضي بعمله والفتوى على عدمه في زماننا لفساد القضاة» .
5 -
ما يقدمه الخصوم لإثبات الدعوى أو دفعها يمكن مناقشته والنظر فيه وتقويمه قبل أن يصدر الحكم، أما إذا جوزنا للقاضي الحكم بعلمه فإن معنى ذلك أنه يصدر الحكم بناء على هذا العمل دون أن يتمكن الخصوم من مناقشة ما استند إليه القاضي أو الطعن فيه وبيان ما يرد عليه أو ينقضه مع احتمال ذلك كله، لأن علم القاضي الذي يحصل عليه خارج مجلس القضاء معرض للخطأ لأنه غير معصوم وما يعلمه عن طريق السمع أو الرؤية قد يتطرق إليه الخطأ إحاطته بالقرائن والظروف والأحوال التي صدر فيها المسموع أو المرئي، أو لعدم انتباه القاضي انتباهاً كافيًا لم سمع أو لما رأى مما قد يفوت عليه بعض ما سمع أو ما رأى فيكون علمه ناقصا وبالتالي حكمه غير صحيح، وهذا كله إذا نزهنا القاضي عن الهوى والابتعاد عن مظان الاتهام، ففي تجويز الحكم للقاضي بعلمه مع هذه الاحتمالات الواردة ظلم للمحكوم عليه وإجحاف بحقه في الدفاع عن نفسه وتفويت لحقه في مناقشة ما استدل به القاضي من الحكم بعلمه المتحصل عنده خارج مجلس القضاء.
انظر: «الطرق الحكمية» لابن القيم (ص179 - 180)، «فتح الباري» (3/ 139 - 160)، «الفروق» للقرافي (4/ 44).
يحكم بظنه في شيء من الأشياء إلا في تلك الأمور التي ورد الدليل بتخصيصها من عموم المنع من اتباع الظن؛ لأن الشارع قد جوز له الحكم بها، وإن كان يجوز تخلفها.
وبهذا يظهر لك أن حكم القاضي بعلمه هو الحكم الذي يطابق ما أمره الله به من اتباع العلم وهو الحكم الذي يطابق ما أمره الله به من الحكم بالحق والعدل والقسط، وهو الحكم الذي هو الأصل الأصيل، المطابق لما ورد في التنزيل، وهو الحكم الذي يطابق الواقع، ويطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس.
فمن قال من أهل العلم: إن الحاكم لا يحكم بعلمه، بل يحكم بتلك الأسباب الظنية من الشهادة والإقرار واليمين ويقتصر عليها، ولا يجوز له الحكم بالعلم. فما أظنه تدبر هذه الآيات القرآنية الموجبة للعمل بالعلم، والمانعة من العمل بما دونه. ولا أظنه تأمل ما فيها من العموم المتناول لكل شيء من الأشياء (1) ولا أحسبه أمعن النظر فيما اشتملت
(1) يتضح من سياق «هذه الرسالة» قول الشوكاني أن الأمر بالعلم وإطراح الظن الذي تضمنته الآيات السابقة حكم عام لا مخصص له يمكن أن يستثنى من أحكامها القضاء أو علم القاضي، ومعنى ذلك أن الشارح حينما قرر للقاضي أن يحكم بالإقرار والشهادة واليمين، وجميعها لا توصل لأكثر من الظن الراجح، ولا تفيد اليقين بأي حال لم يكن ذلك تخصيصًا لسابق أمره باتباع العلم على العموم، وأن الأحاديث النبوية في هذا الباب - وهي كثيرة- لا تفيد التخصيص، ولكن الرسالة لا تقل لنا شيئًا عن الأثر المنسوب إلى أبي بكر الصديق القائل:«لو رأيت رجلًا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عليه» وهو أثر واضح الدلالة في أن أبا بكر لم يعتمد على علمه، وإنما يجنح إلى الدليل وإطراح علم القاضي وكان عمر بن الخطاب على نفس المنهج فقد روى أنه تداعى عنده خصمان فقال أحدهما: أنت شاهدي، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:«إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد» .
- وهذه المرويات لا ينازع فيها الشوكاني على مدلول واحد هو إن طريق القضاء فيالحكم، الدليل وإن علم القاضي لا يصح سندًا للحكم بل إن ما روي عن عمر بالغ الدلالة في التمييز بين منصب القضاء ومنصب الشهادة، وأن القاضي لا يملك أن يشهد بما رأى ثم يحكم بما شهد، فهذا خلط مذموم وأقل ذميمته أنه يضر بالعدالة.
ولكن الشوكاني - في هذه الرسالة- لا يناقش شيئًا من ذلك وإنَّما يؤكد بتكرار أن من يمنع على القاضي أن يحكم بعلمه لم يدرك ولم يتدبر أسرار الآيات التي استشهد بها ولم يفقه مدلولاتها الواضحة وهذا المنهج أغناه عن عناء الجدل مع هذه الآثار، ناهيك عن الآثار والنصوص التي استندت إليها المذاهب والتي تخالف الشوكاني في مذهبه.
عليه من الذم لمن عمل بالظن، وترك العلم.
وإني لأعجب بمن خفي عليه هذا حتى منع الحاكم من الحكم بعلمه، وسوغ له الحكم بظنه، وكأنه لم يتصور أن تلك الأسباب الظنية لم يجز جعلها أسبابًا لكون الظن في نفسه [3ب] حجة شرعية يجب أتباعها، ويجوز العمل بها، بل إنما جاز جعلها كذلك لورود الشرع بكونها أسبابًا للحكم.
والحكمة في ذلك أنه لو كان المعتبر في قطع الخصومات بعلم الحاكم، وأنه لا يجوز للحاكم أن يحكم إلا بالعلم (1) لكان في ذلك أبلغ الحرج، وأعظم المشقة؛ لأن العلم قليل الحصول، بعيد الوصول.
وكان ذلك يفضي إلى ضياع كثير من الحقوق؛ لأن الظالم سيصر على ظلمه، ويدفع في وجه المظلوم، حتى يحصل للقاضي العلم بذلك الظلم، وهو لا يحصل إلا بمشاهدة، أو ما يقوم مقامها، ومن أين للقاضي مشاهدة جميع الحوادث التي يتخاصم فيها المتخاصمون إليه؟ بل من أين له مشاهدة عشر معشارها؟
ثم هب أنه قد يحصل العلم بطريق آخرى غير المشاهدة ونحوها، وذلك الخير المتواتر
(1) انظر: الأقوال وأدلتها في بداية الرسالة.
الذي يخلق الله عنده العلم للحاكم. ومن اين للمظلوم أن يأتي إلى الحاكم بجمع يفيد خبرهم العلم؟ وإني له ذلك؟
وبهذا تعرف أن الله سبحانه وتعالى إنما سوغ للقضاة أن يحكموا بتلك الأسباب الظنية لما في أسباب العلم من الصعوبة والقلة والضيق، وأيضًا لو لم يشرع لعباده الحكم بتلك الأسباب الظنية لكان إقرار من عليه الحق - الذي هو أعظم الحجج القائمة عليه- خارجًا عن أسباب الحكم بالعلم، لأنه لا يفيد إلا مجرد الظن.
فلما كان في أسباب العلم ما ذكرناه من الضيق والقلة، وندرة الحصول [4أ] وسع الله على عباده. وحكام بلاده، بتوسيع دائرة سبب الحكم. فجعل من أسبابه مالاً يستفاد منه إلا مجرد الظن. وهي تلك الأسباب الظنية. ثم عذر الحاكم بها إذا كان ما حكم به غير مطابق للواقع. بل أثبت له الأجر كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (1).
فجعل الحاكم بالظن مستحقًا مع الإصابة لأجرين، ومستحقًا مع الخطأ الأجر. بل قد ثبت - خارج الصحيح- أن:«الحاكم إذا أصاب فله عشرة أجور» (2).
وهذا من فضل الله على العباد، ولطفه بحكام البلاد. فإنه لم يجعل على المخطئ شيئًا من الوزر. بل أثبت له الأجر، وجعل العقوبة على المحكوم له إذا كان يعلم أن الحكم خطأ. فقال صلى الله عليه وسلم:«فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه، فإنما أقطع له قطعة من نار» (3).
وإذا كان هذا الترديد الشرعي بين الأجر الكثير والأجر القليل لمن حكم بسبب ظني، فما ظنك بمن حكم بسبب ..........................
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
علميِّ يقينيِّ (1)! فإنه مصيب دائمًا؛ لأن الخطأ لا يتطرَّق إلى حكمه بحال من الأحوال؛
(1) يكرر الإمام الشوكاني التأكيد على أن حكم القاضي بعلمه هو حكم اليقين، وحكمه بالأدلة - غير علمه - كالشهادة والإقرار واليمين هو حكم يغالب الظن، ولأن الشارع قد أكد مرارًا على واجب العمل باليقين واجتناب الظن، فإن معنى ذلك أن الأصل أن يحكم القاضي بعلمه وأن الحكم اعتمادًا على البينات إنما هو رخصة من الشارع.
- ومن يدرس قواعد الإثبات في الشريعة بإمعان سيلاحظ أن الشريعة رسمت بدقة ووضوح المبادئ والقواعد والطرق التي تمكن القاضي من تحصيل الواقع والوقوف على حقيقة الخصام وأن ما تحصل له من هذه الطرق والآليات يجب أن يحكم به ويكون حكمه فيه نافذًا واجب الطاعة طالما كان سليمًا من الخطأ والقصور.
- وطرق الإثبات في الشريعة كثيرة من أبرزها وما فصل الشارع في بسط أحكامها: الشهادة - الإقرار - اليمين، ولم ينازع أحد من فقهاء الإسلام في أن مؤدى هذه الأدلة هو الظن وأن الظن هو أقصى ما يتحصل منها، ومعنى ذلك أن الحد الأقصى لصلة القاضي بالواقع في فلسفة التشريع الإسلامي هو الظن، وأن هذا كاف للحكم عليه في اعتبار الشارع.
- ومن المعروف أن هناك مستويين من الحقيقة في المستوى الأول تقع الحقيقة الواقعية، أي حقيقة ما حدث بين الخصمين فعلًا. وفي المستوى الثاني تقع الحقيقة القضائية أي ما تحصله القاضي بطرق الإثبات المرسومة له من الشريعة عن الحقيقة.
ومن البديهي ألا تتفق الحقيقتان في بعض الحالات فتنفك الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية ويكون ما تحصل للقاضي من تلك الأدلة غير مطابق للواقع والبداهة هنا ترجع إلى أن القاضي ليس طليق الحرية في بحثه عن الحقيقة فيتحصل على الحقيقة بأي طريق شاء، وإنما هو ملزم أن يتوسل إليها بوسائل حددها لها الشارع وحدد له قيمتها الثبوتية ومن الذي يقدمها إليه، بل حدد له في الغالب الشكل الذي ينبغي أن تصب فيها تلك الطرق. -
ولذلك نجد الشارع في حد الزنا يحدد أن الطرق إلى إثبات جرم الزنا هو الشهادة أو الإقرار، فإذا كان الطريق هو الشهادة فإن للشارع في ذلك قواعد وقيودًا وتفصيلات وليس أي شهادة تصلح طريقًا لإثبات الواقع في هذه الجريمة، فيقرر الشارع أن الشهادة المعتبرة يجب أن تكون من أربعة أشخاص وأن يكون هؤلاء ذكورًا فلا تقبل شهادة المرأة، وأن يكونوا أصولًا فلا يقبل الشارع أن يشهد بالزنا شاهد أخبره بالواقعة شاهد غيره وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالإيماء، بل إن الشارع حدد هنا حتى صيغة الشهادة بحيث يؤديها الأربعة بتلك الصيغة بحيث يؤديها الأربعة بتلك الصيغة لا سواها وإلا فلا تقبل وتفصيلات الشارع هنا لا حصر لها.
- وبهذا النهج فإن القاضي لن يتحصل لأكثر من الحقيقة القضائية، وأن لا سبيل له إلى الحقيقة الواقعية وبما أن الشارع هو الذي رسم طريق الاستدلال ووسائل الإثبات، فإن معنى ذلك أن أقصى ما يطلبه من القاضي هو الحقيقة القضائية، وأنه غير مكلف بالبحث عن الحقيقة المطابقة للواقع، ومن ثم فإن الحقيقة الواقعية مستبعدة عند الشارع من عمل القاضي، وإلا لما قبل منه بها بديلًا وحينما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«إنما أقضي بما أسمع» إنما كان يشير إلى الأساس الذي تبني عليه الأحكام القضائية في التشريع الإسلامي وهو الحقيقة القضائية المتحصلة من الأدلة التي حددها الشارع وأن هذه قد تختلف عن حقيقة الواقع ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «فمن قضيت له بشيء من مال أخيه
…
» تقدم الحديث. والحديث واضح الدلالة في أن هذا الاختلاف لا أثر له. فلا يمنع من الحكم ولا يعيب فيه بعيب.
- وعلى ذلك فإن تجويز الحكم بعلم القاضي طلبا لليقين والحصول على الحقيقة الواقعية لا يوافق روح التشريع الإسلامي وهو تكلف لم يطلبه الشارع ويأباه التشريع الإسلامي المتسم باليسر والتيسير.
انظر: «المسائل المهمة فيما تعم به البلوى حكام الأمة» وهي ضمن «عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير» رقم (114) بتحقيقي.
«نيل الوطر» (7/ 109)، «الوسيط في شرح القانون المدني» عبد الرزاق أحمد السنهوري (9/ 15).
لعدم تجويز تخلف ما شاهده الحاكم مثلاً بعيني رأسه، أو تواتر له تواترا يخلق الله له عنده العلم.
وبالجملة: فالقائل بأنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه ليس بيده دليلي شرعي ولا عقلي [4ب].
وأما كونه ليس بيده دليل شرعي؛ فلم يأت في هذه الشريعة أن أحدًا من عباد الله يجب عليه أن يرمي بعمله وراء ظهره، ويعمل بظنه، بل كتاب الله، وسنة رسوله بيده من قال: بأن الحاكم يحكم بعلمه كما سبق تقريره.
فإن من قال: المكانع من حكم الحاكم بعلمه: أنها وردت أسباب شرعية توجب على الحاكم الاقتصار عليها كالبينة، واليمين، والإقرار (1).
قلنا: أخبرنا ما الدليل على أن هذه الأسباب يجب الاقتصار عليها؟ ومن أين علمت ذلك؟ وما الذي أفادك هذا. فإنه لم يرد في شيء من هذه الأسباب أنه يجوز الحكم إلا بها، ولا يجوز الحكم بغيرها مما هو أولى منها. ولم نجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله حرفًا من ذلك، ولا رأينا فيهما صيغة تفيد الحصر، ولا يدعى عالم أنه قد ثبت عن الشارع ما يفيد أن هذه الاسباب الظنية هي طرق الحكم (2) ولا طريق له غيرها؟ بل غاية ما هناك أن الشارع أوجب على عباده اتباع العلم، ومنعهم من اتباع الظن، ومقتهم على اتباعه، ثم وسع على عباده بتخصيص الأدلة الموجبة لاتباع العلم بهذه الأدلة الواردة في جواز الحكم بمجرد الظن.
فالحكم بالعلم موافق للأدلة من أدلة الكتاب والسنة، أعني الأدلة الموجبة لاتباع العلم، والنهي عن اقتفاء ما ليس بعلم، وموافق للأدلة المخصصة لذلك العموم - أعني الأدلة الدالة [5أ] على جواز الحكم بالإقرار، والبينة، واليمين؛ لأن العلم - لا يشك عاقل - أنه قد أفاد ما أفادته هذه الأسباب من حصول الظن للحاكم، وزاد عليها بزيادة خرج بها عن مجرد التجوزي المحتمل، والراجح والمرجوح إلى الجزم والمطابقة.
فكيف يقول من له أدنى فهم، وعنده أيسر علم أنه يجوز للحاكم أن يحكم بمجرد ظنه المحتمل للطبلان، ومخالفة الواقع، ولا يجوز له أن يحكم بعلمه الجازم المطابق الثابت الذي لا يتعقبه بطلان، ولا يتبعه تغير؟!
وأين هذا القائل عن قوله -صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح عنه: «دعا ما يريبك إلى ما لا يريبك؟» (3).
(1) تقدم مناقشة ذلك
(2)
تقدم الرد على ذلك.
(3)
أخرجه الترمذي رقم (2518) والنسائي (8/ 327 - 328) ابن حبان في صحيحه رقم (720) والبيهقي في «شعب الإيمان» رقم (5747) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، وهو حديث حسن.
وأين هو عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «استفت قلبك وإن أفتاك المفتون» (1)؟
فإنه لا شك ولا ريب: «أن الظن ريبة، والعلم طمأنينة، وأنه لولا ورود الشرع بتلك الأسباب الظنية لكان تركها متحتمًا لكونها محل ريب» .
ثم من لم يكن معه إلا مجرد ظن لاحظ له عند قلبه إذا رجع إليه واستفتاه، فإنه لا يفتيه بشيء؛ لأنه لم يكن لديه إلا مجرد ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا.
بل القلب الذي يستفتيه صاحبه فيفتيه هو من كان عنده علم (2). فإنه يكشف له عن الصواب، ولا يتستر دونه من الشك بجلباب [5ب].
ثم يقال لهذا المانع من الحكم بالعلم:
أخبرنا: هل الحاكم بالعلم قد حكم بما أمره الله أن يحكم به من الحق والعدل والقسط أم لا؟
فإن قلت: نعم. فما ذاك المطلوب منه غير هذا. بعد أن فعل ما أمر الله به في محكم كتابه.
وإن قلت: لا. قلنا: كيف يكون من حكم بحكم لا يدري هو في الواقع كمنا حكم به أولًا أ؛ ق بما أمر الله به من الحكم بالعدل والحق والقسط من حاكم حكم بحكم شاهده بعيني رأسه وعلمه علماً جازمًا! وقطع بمطابقته للواقع؟ وهل هذا إلا صنع من لا يعقل الحجج، ولا يهتدي لمدخلها ولا للمخرج؟ وكيف يكون المتردد في الشيء أعلم به من الجازم!؟
والجاهل للأمر أحق بنسبته
(1) تقدم تخريجه.
(2)
سيأتي مناقشة قول الشوكاني هذا.
والجاهل للأمر أحق بنسبته إليه من العالم؟
وهل قال عاقل من العقلاء أن الظن أرجح من العلم؟ وهل يوجد مثل هذا في دفتر من دفاتر العلم؟ وهل قد سبق إليه أحد؟
وهل خفي على هذا القائل ما ذكره أئمة الأصول والفروع، والمعقول والمسموع من الترجيح بين أقسام الظن، وتقديم القوي ممنها على الضعيف حتى كان الظن الغالب أقوى من الظن المطلق؟ والظن المقارب للعلم أقوى من الظن الغالب؟ فإذا كان الظن المقارب للعلم أرجح الظنون باعتبار قرية من العلم، فكيف لا يكون العلم أرجح منها!؟ وكيف يسعد [6أ] بمزية الترجيح الظن المقارب له بسبب قربه منه! ويحرم هذه المزية العلم؟ وهل هذا إلا خروج عن العقل، وبعد من إدراك النوع الإنساني!؟
ثم نقول لهذا المانع: اعرض على عقلك - إن بقي لديك منه شيء - مسالك العلة المدونة في الأصول، وأجعل علة الحكم بالبينة والإقرار واليمين (1) في أي مسلك شئت منه.
(1) في هذه الرسالة نجد الشوكاني على عقيدة أن علم القاضي يفضي إلى اليقين القاطع بخلاف ما يتحصل له من الأدلة والبينات الأخرى غير علمه فهي إنما تفيد الظن.
فهل حقا أن علم القاضي مفاده اليقين القاطع في كل الأحوال؟ لا نظن ذلك، فنقول للشوكاني أن القاضي فيما علم كالشاهد فيما يعلم، أي أن الشاهد حين يروي في أقواله ما شاهده أو سمعه فإن مؤدى روايته بالنسبة له وحده اليقين لأنه قال ما وقف عليه بإ؛ دى حواسه، ولكن هذا اليقين مقصور عليه ولا يتعدى لغيره، إذ مؤدى ما قاله بالنسبة للغير الظن ولا أكثر.
وحال علم القاضي لا يخرج عن هذا الإطار فمؤاده القين بالنسبة للقاضي وحده، ولكنه بالنسبة لغيره لا يفيد أكثر من الظن لأنه لا يعد أنه رواية آحاد.
وعلى ذلك لا يمكن موافقة إطلاقات الشوكاني وهو يؤكد بتكرار أن مؤدى علم القاضي بالواقع اليقين القاطع وبصورة مطلقة فالتحليل الصحيح للفكرة أن هذا اليقين ليس كذلك بالنسبة لغير القاضي، وأنه يمكن أن يكون يقينًا بالنسبة للقاضي وحده، وعند هذا المستوى لا يتميز علم القاضي بأي راجحية عن علم الشاهد فإن يقنية علم القاضي كانت لا باعتبار صفته أي ليس باعتباره قاضيًا وإنما باعتباره الشخصي، ولذلك رأيناه سابقًا أنه تساوي في ذلك مع الشاهد. وبما أن القاضي ملزم بقضائه قواعد الشريعة الإسلامية، ولا يملك أن يتجاوز في الإثبات ما رسمته له الشريعة من قواعد وتعاليم، ومعلوم أن تلك القواعد رواية الواحد لا تفيد إلا الظن إذا كان معروفًا بالصدق والضبط. وهذا الظن على حظ الحجية ضئيل جدًا بحيث أن هذه الرواية لا يعمل بها في كل حال، ففي بعض المواطن ينبغي إهمالها كما هو معروف.
وحيث أن القاضي ملزم بهذه القاعدة فليس أمامه إلا أن يطبقها في قضائه. ولا شك أن روايته للواقع أو لما شاهد حين يحكم هي في نظر الشريعة رواية آحاد مفادها الظن في أحسن الأحوال، وليس أمامه إلا أن يعتبر بما اعتبرها الشرع، وأن يزنها بميزانه فتعتبر ظنية كما يعتبرها الشرع ولا بأس أن تبقى يقينية بالنسبة له كشخص ولكن لا يملكن أن يعتبرها كذلك بالنسبة له كقاض.
والقاضي هنا كالشاهد، فلو فرضنا أن شخصا شاهد آخرًا يقتل مسلمًا أمام عينيه، ثم شهد في المحكمة بما رأى ولكن القاضي حكم في المسألة بعلمه، وقضي بقتل شخص آخر غير من شهد به الشاهد استنادًا إلى أنه رأى هذا يقتل المجني عليه.
وعند تنفيذ الحكم بالقتل أمر القاضي بالشاهد - وهو بالمصادفة المختص بذلك - بقتل الآخر والشاهد يقتل يقينا أن المحكوم عليه بريء وأن القاتل آخر، ترى ماذا يصنع هذا السجان؟ هل يطيع أمر القاضي وحكمه؟ أم يرفض اعتمادًا على يقينه الشخصي؟
نجد الشوكاني يوافق المذهب الزيدي في هذه المسألة ويرى أن على هذا الشاهد أن يمتنع عن التنفيذ طاعة لأمر القاضي لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ويقول الشوكاني في «السيل الجرار» (4/ 298): «عليه أن يوضح ذلك بغاية ما يقدر عليه، فإن أمكنه الفرار فعل ولا ترد عليه الادلة القاضية بوجوب الامتثال لأنه على يقين بأن الحكم واقع على جهة الغلط» .
ودلالة ذلك أن حكم القاضي بعلمه ليس بدرجة اليقين القاطع بصورة مطلقة، وأن الحجية فيه نسبية، ولذلك أوجب الشوكاني على من علم يقينًا بخلاف علم القاضي أن يرجح علمه على علم القاضي فلا ينفذ ما أمر به.
فإنك تجد العلم (1) أولى بذلك المسلك من تلك الأسباب الظنية. ثم لو فرضنا أنه لم
(1) لنسلم بان القاضي لا يجوز له أن يحكم بعلمه، إنما يحكم بما تحصل له من الأدلة المطروحة عليه، ما هو الحكم لو أن القاضي قد اطلع شخصيًا على حقيقة الواقع، وعند الترافع إليه جاءت الأدلة على خلاف ما يعلمه فماذا يصنع؟ هل يحكم بما علمه؟ أم يحكم بما تثبته الأدلة؟ فمن المؤكد أن على القاضي أن يمتنع عن الحكم بخلاف عقيدته، بل إن المطلوب منه أن يحكم حسب عقيدته فقط وفي المثل السابق ليس للقاضي من سبيل غير أن يتنحى عن نظر الموضوع ليولي به قاض آخر، وعلى القاضي المتنحي أداء شهادته أمام زميله، وهذا المخرج ليس بالجديد فهو يرجع إلى عمر رضي الله عنه وقد تقدم ذلك.
يرد من كتاب الله، وسنة رسوله ما يرشد إلى إتباع العلم والعمل به، وأنه القنطرة التي لا يجوز العدول عنها إلا بدليل. فكيف خفي عليك ما اتفق عليه الناس من العمل بفحوى الخطاب (1) الذي ورد عليه قول الله سبحانه:{فلا تقل لهما أف} (2) وغير ذلك من خطابات الكتاب والسنة، ومحاورة العرب!؟ فهب أنه لم يرد من الحكم بالعلم حرفٌ من الكتاب والسنة.
أما أرشدك عقلك وفهمك إلى أن تقول هاهنا: أنه إذا جاز الحكم بالظن جاز الحكم بالعلم بالأولى؛ لأن العلم ظن وزيادة؟
فإن قلت: إنك تقتصر على النص، وهو الحكم بتلك الأسباب دون غيرها وإن كان أولى منها.
فنقول لك: لا تخص الاقتصار على النصب بهذا المحل، بل أطرده في كل شيء حتى تخرج عن الشرع والعقل.
فقل: لم يرد في هذه الآية إلا تحريم التأفيف. فما كان أولى بذلك منه [6ب] جائز عندك، فيجوز الشتم والضرب!، ولا جرم ثم قل في قول القائل مثلًا: إن الرجل يحمل
(1) المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به: فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيمسى فحوى الخطاب ومثاله: كآية تحريم التأفف على تحريم الضرب، لأنه أشد فتحريم الضرب من قوله تعالى:{فلا تقل لهما أف} ، من باب التنبيه بالادنى - وهو التأفيف- على الأعلى، وهو الضرب.
انظر: «الكوكب المنير» (3/ 482)، «أدب القاضي» (1/ 617)، «المستصفى» (3/ 411 - 412)، «البحر المحيط» (4/ 12).
(2)
[الإسراء: 23].
الصخرة، إن العشرة، بل المائة لا يحملونها، ثم قل في قول القائل: إن الرغيف يشبع الرجلين، إنه لا يشبع الرجل!
وبالجملة: فترك العمل بفحوى الخطاب (1). الذي يقال له: «مفهوم الأولى» وقياس الأولى خروج عن دائرة لغة العرب بأسرها، ومخالفة لجميع العقلاء، وخرق لإجماع المسلمين، فإن النافين للقياس، وللعمل بالمفهوم لم يجسروا على ترك العمل بفحوى الخطاب.
فإن قلت: إذا كان الحكم بالعلم أرجح من الحكم بالظن كما قررته في هذا الكلام، فهل يقدم على الحكم السببه مجرد الظن فقط؟
مثلًا:
إذا شهد شاهدان عدلان على زيدٍ بأنه قتل عمدًا. أو أقرَّ زيدٌ بأنه القاتل لعمرو، والحاكم الذي وقع التخاصم الديه يعلم علمًا يقينًا أن القاتل لعمرو غير زيد. قلت: نعم يجب عليه وجوبًا مضيفًا أن يعمل بعلمه، ويترك العمل بشهادة الشاهدين، وإقرار المقر، لأنه هاهنا قد بطل الظن بالعلم، بل ثبت العلم ببطلان شهادة الشاهدين (2)، وإقرار المقر، و «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل» (3).
وليت شعري ما يقول في مثل هذا من يقول: بأن الحاكم لا يحكم بعلمه؟ فإن قال: يحكم الحاكم بالشهادة التي قد علم بطلانها [7أ]، أو الإقرار (4) الذي قد تبين كذبه.
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2)
سيأتي التعليق على ذلك.
(3)
قالوا: «إذا جاء سيل الله بطل نهر معقل» .
نهر معقل: في البصرة، وقد احتفره ابن يسار في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسب إليه.
يضرب في الاستغناء عن الأشياء الصغيرة إذا وجد ما هو أكبر منها، وأعظم نفعًا.
انظر: «الأمثال اليمانية» (1/ 95). «الأمثال» للميداني (1/ 88).
(4)
سيأتي التعليق على ذلك.
فيقال له: هذا -والله- الحكم المخالف لما أمر الله به من الحق، والعدل، والقسطن بل الحكم الذي هو شعبة من الطاغوت.
وكيف يجوز لمسلم أن يحكم على مسلم بقتله، وسفك دمه قصاصًا، وهو يعلم أن القاتل غيره؟ وهل هذا يعد من هذه الشريعة؟
يا هذا! قد رجع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور حكم بها باجتهاده، لما علم خلافها؛ فإنه أمر عليًا- عليه السلام أن يذهب إلى من كان يدخل على بعض أمهات أولاده فيقتله، فلما أراد على رضي الله عنه أن يقتل ذلك الرجل رآه مجبوبًا فرفع السف عنه، وأقره رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وصوبه (1).
وكذلك رجع عن حكمه (2) بحدِّ الرجل الذي ادعته المرأة أنه زنى بها، لما تبين له أن الفاعل غيره. وغير ذلك من القضايا الواقعة في عصر النبوة.
وإن قلت: يعمل الحاكم بعلمه في مثل تلك الصورة، ولا يعمل بالشهادة ولا الإقرار.
فنقول: ألم يكن هاهنا قد قدمت العلم على الظن المستفاد من الأسباب التي شرعها
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (59/ 2771).
والحاكم في «المستدرك» (4/ 39 - 40) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(2)
أخرجه الترمذي في «السنن» رقم (1454) وهو حديث حسن دون قوله «ارجموه» من حديث علقمه بن وائل عن أبيه وقد تقدم.
قال ابن العربي المالكي في «العارضة» (6/ 237 - 238): «إنما أمر به ليرجم قبل أن يقر بالزنى وأن يثبت عليه ليكون سببًا في إظهار النفسية حين خشى أن يرجم من لم يفعل وهذا من غريب استخراج الحقوق ولا يجوز ذلك لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن غيره لا يعلم من البواطن ما علم هو صلى الله عليه وسلم بإعلام الظاهر الباطن له بذلك» . اهـ.
وقيل «لا يخفى أنه بظاهره مشكل إذ لا يستقيم الأمر بالرجم من غير إقرار ولا بينة، وقول المرأة لا يصلح بينة بل هي التي تستحق أن تحد حد القذف، فعل المراد فلما قارب أن يأمر به
…
».
«عون المعبود» (12/ 42 - 43).
الشارع؟ وأوجبت على الحاكم أن يعمل بعلمه، ويترك الظن؟ فكيف لا يجوز له الحكم بعلمه مع عدم معارضة الظن مع إيجابك عليه أن يعمل بعلمه مع معارضة الظن!.
فإن قلت: إن العلم قد كشف بطلان السبب الظني الذي شرعه الشارع.
فنقول لك: وكيف كان العلم كاشفًا لبطلانه؟ هل لكونه أرجح من الظن؟ أو مساويًا له أو دونه؟
إن قلت: لكونه مساويًا له أو دونه. فالمساوي والدون لا يكون موجبًا لبطلان ما هو مثله، أو ارجح منه.
وإن قلت: لكون العلم أرجح من الظن أقررت بما هو مطلوبنا، فإن قلت أنا أعترف بأن العلم أرجح من الظن يبطله، ولكن لا أسلم أنه يجوز الحكم بمجرد العلم.
قلنا: الحاكم لما حكم بأن القاتل غير زيد مثلًا قد حكم بالنفي كما اعترفت بذلك [7ب]. وهل يراد بحكم الحاكم - عند اهل الشريعة- إلا مجرد إثبات حكم أو نفيه؟ وأي قائل يقول: إن حكم الحاكم إنما يكون في الإثبات لا في النفي. فإنه لا يكون حكمًا.
وإذا تقرر لك أن الحكم يجب عليه العمل بعلمه (1)، وترك الحكم بالشهادة والإقرار
(1) انظر الأقوال في ذلك وأدلتها.
وليس الشوكاني بدعًا في رأيه بجواز أن يحكم القاضي بعلمه فقد كان ذلك مبدءًا مستقرًا في القضاء اليمني في ظل الدولة الزيدية التي تولى فيها الشوكاني منصب قاضي القضاة، ذلك أن المذهب الزيدي مع الرأي الذي يبيح للقاضي أن يحكم بعلمه في قضايا الأموال والحقوق والقصاص، ويمنعه فقط في الحدود، وحتى في الحدود فإنه يجيز القضاء بعلم القاضي في حد القذف، وفي سائر العقوبات التعزيزية، بل إن المؤيد والناصر وهما من كبار علماء المذهب الزيدي، من القائلين بحق القاضي في الحكم بعلمه مطلقًا، أي في الحدود وفي غيرها دون استثناء.
وفي «شرح الأزهار» (4/ 320): «وله - أي القاضي - القضاء بما علم إلا في حد غير القذف فلا يجوز له أن يحكم فيه بعلمه فأما في حد القذف والقصاص والأموال فيحكم فيها بعمله سواء علم بذلك قبل توليه القضاء أو بعده» .
انظر: «البيان الشافي» لابن المظفر (4/ 29)، «ضوء النهار» (4/ 2216)، «المنار» للمقبليل (2/ 369).
ونجد أن محمد بن إسماعيل لا يوافقهم على ذلك ويذهب إلى المنع من القضاء بعلم القاضي، وقد ناقش الموضوع في كتابه «منحة الغفار على ضوء النهار» وهو حاشية من الأمير على كتاب «الجلال» المشهور «ضوء النهار» .
«ضوء النهار» (3/ 2214).
واليمين، إذا كان يعلم خلاف ذلك، فهل يجب عليه استدراك حكمه بأحد هذه الأسباب الظنية إذا كان قد أوقع الحكم وأنجزه؟
قلت: نعم إذا كان الاستدراك ممكنًا، وإن لم يكن الاستدراك ممكنًا، وذلك مثلًا: كان يقتل زيد قصاصًا في تلك الصورة بشهادة الشهود، أو بإقراره، فالحاكم معذور عند الله، وقد أخطأ في حكمه وله أجرٌ. وأما الشهود فتجب عليهم الدية كاملة إن كان القتل بالشهادة (1)، وإن كان القتل بالإقرار، فالمقر جنى على نفسه، فهو القاتل لنفسه، والحاكم معذورٌ مأجورٌ.
نعم إذا كان الحكم الواقع عن أحد الأسباب الظنية في حد من الحدود المحضة لله، فيمكن أن يكون وقوع السبب الشرعي مسقطًا للحد كما ثبت عنه -صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في الملاعنة:«لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» (2).
(1) انظر: «المغني» (3/ 2214».
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4747).
وهو حديث يكاد يكون صريحًا في هذه المسألة وقد قال عمر بن الخطاب لخصمين «إن شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم ولا أشهد» وهذه الرواية صحيحة عند الفقهاء وفيها بيان صريح وقاطع بأن حكم القاضي بعلمه معناه الجمع بين ولايتين، ولاية الشهادة وولاية الحكم والقضاء وهذا مما يأباه الإسلام.
ولا نحسب أحد سيوافق الشوكاني حينما علق على واقعة امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم إيقاع الحد على امرأة العجلاني إلا ببينة، لأن في رواية ابن ماجه لهذا الحديث تكملة لا تؤيد ما ذهب إليه الشوكاني فقد جاء في الحديث:«لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمت فلانة فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن دخل عليها» .
قال الشوكاني في «السيل الجرار» (4/ 291): «إن هذا ليس من باب العلم» ولكن الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد ظهر من عدة وقائع ذكرها أنها قارفت جرم الزنا، والرسول حين يقول «ظهر» إنما يعني أنه كان في يقينه وعلمه أيا كانت الوسيلة التي تحصل بها هذا العلم، فهو من باب العلم على عكس ما يرى الشوكاني، لأن العلم ليس ما يتحصل بالمشاهدة وإنما يتحصل بها وبغيرها.
ومن جهة ثانية فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «بغير بينة» لم يخطر بباله أن علمه بينة، فالبينة عنده كما قال فقهاء الإسلام هي الإقرار والشهادة واليمين وعلى ذلك فإن من الواضح أن قواعد الإثبات في الشريعة الإسلامية تتأسس على قاعدة أن قضاء القاضي إنما يعتمد ما طرح عليه من أدلة في مجلس قضائه. وأنه ليس في وارد الإسلام أن يكون للقاضي سلطة الدليل وسلطة الحكم معًا.
وقد استدل بعض المانعين من حكم الحاكم بعلمه بهذا الحديث فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمل بعلمه بعد وقوع سبب ظني، وهو الإيمان. وهذا من الفساد بأظهر مكان؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحصل له العلم بكذب الإيمان، بل ظن ذلك ظنًا بمجرد إتيان تلك المراة الحالفة بولد يشبه من رماها زوجها به، وهذا السبب غاية ما يستفاد به الظن. ولست أظن أن المستدل بهذا الحديث يدعي أن مجرد القافة تفيد العلم، ولو قال بهذا الركب مالاً يقول به غيره، ولا يوافقه عليه أحدٌ.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» فهو صلى الله عليه وسلم قد أبهم هذا الشأن، ولم يفسره فيحتمل أنه التوقف في درء الحد عنها بأيمانها، لأنه قد وج ما يعارض ذلك، مع وجود سبب للحد آخر، وهو أيمان الزوج، ولكنها، لما كانت قد جاءت بسبب درًا الحد عنها، وهو الأيمان، كان ذلك موجبًا للعمل بأيمانها؛ لأنها قد فعلت سببًا شرعيًا، والحدود تدرأ بالشبهات (1)، ولم يحصل علم يقيني بل مجرد حدس قوي بالمشابهة، وفي هذا كفاية لمن له هدايةٌ.
(1) تقدم تخريجه مرارًا.
حرره المجيب محمد الشوكاني في الثلث الأخير من ليلة الجمعة لعله ثاني وعشرين شهر رمضان سنة 1215هـ[8أ].