الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول المفيد في حكم التقليد
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت على شف الدين أم الحسن
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة: القول المفيد في حكم التقليد.
2 -
موضوع الرسالة: أصول الفقه.
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد حمد لله وصلاته وسلامه على رسول وآله. فإنه طلب بعض المحققين من أهل العلم أن أجمع له بحثا يشمل على تحقيق الحق في التقليد ....
4 -
آخر الرسالة: .... فإن ألجأته الضرورة، لم يتمكن من تصريح بالصواب، فعليه أن يصرح تصريحا لا يبقى فيه شك لمن يقف عليه أن هذا مذهب فلان أو لاأي فلان الذي سأل عنه السائل عن غيره. انتهى ما أدت تحيره بقلم مؤلف محمد بن علي الشوكاني.
5 -
نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 -
عدد الأوراق: 32 ورقة أي 64 صفحة.
7 -
المسطرة: 24 - 26 سطرا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: (10 - 12) كلمة.
9 -
الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني
10 -
الرسالة من المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاى الشوكاني).
[تمهيد]
بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد حمد لله وصلاته وسلامه على رسول وآله. فإنه طلب بعض المحققين من أهل العلم أن أجمع له بحثا يشمل على تحقيق الحق في التقليد (1)، أجائز هو أم لا على وجه لا يبقى بعده شك ولا يقبل عنده تشكيل. ولما كان هذا السائل من العلماء المبزين كان جوابه على نمط علم المناظرة.
فنقول وبالله التوفيق: لما كان القائل بعدم جواز التقليد قائما في مقام المنع وكان القائل بالجواز مدعيا كان الدليل على مدعي الجواز وقد جاء المجوزون بأدلة:
(1) تقدم التعريف به في الرسالة السابقة رقم (59).
[أدلة القائلين بجوار التقليد والرد عليها]
[1]
: منها قوله تعالى {فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (1) قالوا فأمر الله سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم.
(الجواب) أن هذه الآية الشريفة واردة في سؤال خاص خارج عن محل النزاع كما يفيد ذلك السياق المذكور قبل هذا اللفظ الذي استدلوا به وبعده.
يفيد ابن جرير (2) والبغوي (3) وأكثر المفسرين إنها نزلت ردا على المشركين لما أنكروا كون الرسول بشرا، وقد استوفى ذلك السيوطي في الدر المنثور (4) وهذا هو المعنى الذي يفيده السياق (5). قال تعالى:{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا إليهم نوحي فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (6) وقال [تعالى]: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم} (7) وقال [تعالى]: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا
(1)[النحل:43]
(2)
في «جامع البيان عن تأويل آى القرآن «(8/جـ 14/ 108).
(3)
في «معالم التنزيل» (3/ 70)
(4)
(5/ 132 - 133)
(5)
قال ابن جرير في «جامع البيان «(8/جـ14/ 108): وتقول تعالى ذكره لنبيه محمد- صلى الله عليه وآله وسلم: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم، للدعاء إلى توحيدنا، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، إلا رجالا من بني آدم نوحى إليهم وحينا لملائكة، ويقول: فلم نرسل إلى قومك إلا مثل الذي كنا نرسل إلى من قبلهم من الأمم من جنسهم، وعلى منهاجهم {فسئلوا أهل الذكر} يقول لمشركي قريش: وإن كنتم لا تعلمون أن الذين كنا يرسل إلى من قبلكم من الأمم رجال من نبي آدم مثل محمد- صلى الله عليه وآله وسلم وقلتم: هم ملائكة: أى ظننتم أن كلمهم قبلا- فأسلوا أهل الذكر، وهو الذين قد قرءوا الكتب من قبلهم: التوراة والانجيل، وغير ذلك من كتب الله التى أأنزلها على عباده.
(6)
[النحل:43].
(7)
(يونس: 2)
نوحى إليهم من أهل القرى} (1)
وعلى فلاض أن المراد السؤال العام فالمأمور بسؤالهم هم أهل الذكر وهو كتاب الله وسنة رسوله لا غيرهما، ولا أظن مخالف في هذا لأن هذه الشريعة المطهرة هى إما من الله عز وجل وذلك هو القرآن الكريم، أو من رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم وذلك هو السنة المطهرة ولا ثالث لذلك.
وإذا كان المأمور بسؤالهم هم أهل القرآن والسنة فالآية المذكورة حجة على المقلدة وليست بحجة لهم لهم لأن المراد أنهم يسألون أهل الذكر ليخبروهم به، فالجواب من المسؤولين أن يقولوا قال الله كذا قال رسوله كذا فيعمل السائلون بذلك وهذا هو غير ما يريده المقلد المستدل بالآية الكريمة فإنه إنما استدل بها على جواز ما هو فيه من الأخذ بأقوال الرجال من دون سؤال فإن سؤال عن الدليل فإن هذا هو التقليد، ولهذا رسموه بأنه قبول قول الغير من دون مطالبته بحجة (2).
فحاصل التقليد أن لا يسأل عن كتاب الله لا عن سنو رسوله بل يسأل عن مذهب إمامه، فإذا جاوز ذلك إلى [1] الشؤال عن الكتاب والسنة فليس بمقلد، وهذا يسلمه كل مقلد ولا ينكره. وإذا تقرر بهذا أن المقلد إذا سأل أهل الذكر عن كتاب الله وسنة رسوله لم يكن مقلد علمت أن هذه الآية الشريفة- على تسليم أن السؤال ليس عن الشيء الخاص الذي يليه السياق بل عن كل شيء من الشريعة كما يزعمه المقلد- تدفع في وجهه وترغم أنفه وتكسر ظهره كما قررناه.
[2]
: ومن جملة ما استدلوا به ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث صاحب الشجة (ألا سالوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي ..........
(1)[يوسف: 109]
(2)
انظر: «أساس ابلاغة» (ص 785)، «معجم اللغة «(5/ 19).
وانظر: «الكوكب المنير» (4/ 530)
السؤال) (1) وكذلك حديث العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة فقال أبوه أني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وأن على امرأة هذا الرجم، وهو حديث ثبت في الصحيح (2) قالوا فلم ينكر عليه تقليد من هو أعلم منه.
(الجواب): أنه لم يرشدهم- صلى الله عليه وآله وسلم في حديث صاحب الشحة إلى السؤال عن آراء الرجال بل أرشدهم إلى السؤال عن الحكم الشرعي الثابت عن الله ورسوله، ولهذا دعا عليهم لما أفتوا بغير علم فقال [صلى الله عليه وآله وسلم]:«قتلوه قتلهم الله» مع أنهم قد أفتوا بآرائهم فكان الحديث حجة عليهم لا لهم، فإنه اشتمل على أمرين. أحدهما: الإرشاد لهم إلى السؤال عن الحكم الثابت بالدليل. والآخر الذم لهم على اعتماد الرأي والإفتاء به، وهذا معلوم لكل عالم فإن المرشد إلى السؤال هو رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وهو باق بين أظهرهم فالإرشاد منه إلى السؤال وأن كان مطلقا ليس المراد به إلا سؤاله- صلى الله عليه وآله وسلم أو سؤال من يسأله أو سؤال من قد علم هذا الحكم منه.
والمقلد كما عرفت سابقا لا يكون مقلدا إلا إذا لم يسأل عن الدليل أما سأل عنه فليس بمقلد فكيبف يتم الاحتجاج بذلك على جواز التقليد [2] وهل يحتج عاقل على ثبوت شيء بما ينفيه وعلى صحة أمر بما يفيد فساده فأنا لا نطلب منكم معشر المقلدة إلا
(1) وهو حديث حسن بشواهده. أخرجه أبو داود رقم (336) والبيهقى (1/ 228) والدارقطنى (1/ 189 - 190) وله شاهدان عن ابن عباس
الأول: أخرجه أبو داود رقم (337) وابن ماجه رقم (572). وهو حديث حسن.
الثاني: أخرجه الحاكم (1/ 178) والدرقظني (1/ 190).
(2)
أخرجه البخاري رقم (6859) ومسلم رقم (1697،1698) ومالك في «الموطأ «(2/ 822 رقم 6) والترمذي رقم (1433) وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود رقم (4445). والنسائي (8/ 240رقم 5410) والشافعي في (الرسالة «(ص 248 فقرة رقم 691).
ما دل عليه ما جئتم به فنقول لكم اسألوا أهل الذكر وه كتاب الله وسنة رسوله واعملوا عليه وارتكوا آراء الرجال والقيل والقال. ونقول لكم كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا تسألون فإنما شفاء العيى السؤال عن كتاب الله وسنة رسوله لا عن رأى فلان ومذهب فلان فإنكم إذا سألتم عن محض الرأي فقد قتلكم من رسوله به كما قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم. في حديث صاحب الشجة (1)«قتلوه قتلهم الله» .
وأما السؤال الواقع من والد العسيف (2) فهو إنما سأل علماء الصحابة عن حكم مسألته من كتاب الله وسنه ريوله ولم يسألهم عن آرائهم ومذهبهم، وهذا يعلمه كل عالم، ونحن لا نطلب من المقلد إلا أن يسأل كما سأل والد العسيف ويعمل على ما قام عليه الدليل الذي رواه العالم المسؤول ولكنه قد أقر على نفسه أنهلا يسأل إلا عن رأي إمامه لا عن روايته، فكان استدلاله، بما استدل به هاهنا حجة عليه لا له والله المستعان.
[3]
: ومن جملة ما استدلوا به ما ثبت أن أبا بكر قال في الكلالة (3): أقضي فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يمكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله أن أخالف أبا بكر وصح عنه أنه قال لأبي بكر رأينا تبع لرأيك. وصح (4) قال كان ستة من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم يفتون الناس: ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبو موسى [رضي الله عنهم] وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم
(1) تقدم تخريجه (ص 2165)
(2)
تقدم تخريجه (ص 2165)
(3)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 304 رقم 19191) والدارمي (2/ 365 - 366) والبيهقي (6/ 224) ورجاله ثقات لكن الشعبي من أبي بكر، فالحديث منقطع.
(4)
ذكره ابن القيم في «إعلام الموقعين «(2/ 202)
لقول ثلاثة كان عبد الله يدع قوله لقول عمر وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب.
(الجواب): عن قول عمر أنه قد قيل إنه يستحي عمر من مخالفة أبي بكر [3] في اعترافه بجواز الخطأ عليه وأن كلامه ليس كله صوابا مأمونا عليه الخطأ، وهذا وإن لم يكن ظاهرا لكنه يدل عليه ما وقع من مخالفة عمر لأبي بكر مسألة، كمخالفته له في سبي أهل الردة (1) وفي الأرض المغنومة (2) فقسمها أبو بكر ووقفها عمر. وفي العطاء (3) فقد كان أبو بكر يرى التسوية وعمر يرى المفاضلة. وفي الاستخلاف فقد استخلف أبو بكر ولم يستخلف عمر (4)، بل جعل الأمر شورى وقال إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر، وإن لم أستخلف فإن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم لم يستخلف.
قال ابن عمر فوالله ما هو إلا ان ذكر رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم فعلمت أنه لا يعدل برسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم أحدا وأنه غير مستخلف. مخالفه أيضًا في الجلد والإخوة (5) فلو كان المراد بقوله إن يستحي من مخالفة أبي بكر في مسألة الكلالة (6) وهو ما قالوه لكان منقوضًا عليهم بهذه المخالفات فإن صح خلافة له، ولم يستح منه فما أجابوا به في هذه المخالفات فهو جوابنا عليهم في تلك الموافقة.
(1) انظر «المغني «(12/ 264 - 265)
(2)
انظر: «موسوعة فقه عمر بن الخطاب» (ص 79 - 81). و» الأموال «لأبي عبيد (ص59)
(3)
انظر (موسوعة فقه عمر بن الخطاب «(ص 697)
(4)
قال عمر رضي الله عنه: «قد رأيت من أصحابي حرصا سيئا، وإني جاعل هذا الأمر الأمر إلى هؤلاء لنفر الستة الذين مات رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنهم راض
…
»
انظر: «البداية والنهاية» (7/ 137). «موسوعة فقه عمر بن الخطاب» (ص 131).
(5)
انظر: «المحلى «(9/ 288) وموسوعة فقه عمر بن الخطاب «(ص 45 - 57).
(6)
انظر تفصيل ذلك في «موسوعة فقه عمر بن الخطاب» (ص 747 - 748) و «المغني» (6/ 168).
وبيانه أنهم إذا قالوا خالفه في هذه المسائل لآن اجتهاده، كان على خلاف اجتهاد أبي بكر.
قلنا ووافقه في تلك المسألة لأن اجتهاده كان موافقا لاجتهاده وليس من التقليد في شيء.
وأيضا قد ثبت أن عمر بن الخطاب أقر عند موته (1) بأنه لم يقض في الكلالة بشيء واعترف أنه لم يفهمها فلو كان قد قال بما به أبو بكر تقليدا له لما أقر بأنه لم بقض فيها بشيء ولا قال إنه لم يفهمها. ولو سلمنا «أن عمر أبا بكر في هذه المسألة لم تقم بذلك حجة، لما تقرر من عدم حجة أقوال الصحابة (2) وأيضا غاية ما في ذلك تقليد علماء الصحابة في مسألة من المسائل التي يخفى فيها الصواب على المجتهد مع تسويغ
(1) أخراج أحمد في مسنده (1/ 20) عن عمر بن الخطاب قال: اعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئا.
(2)
وهذا ليبس على إطلاقه بل فيه تفصيل:
1 -
قول الصحابي فيما لا يدرك بالرأي والاجتهاد حجة عند العلماء، لانه محمول على السماع من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون من قبيل السنة، والسنة مصدر للتشريع.
2 -
قول الصحابي الذي حصل عليه الاتفاق يعتبر حجة شرعية، لأنه يكون إجماعا، وكذلك قول الصحابي الذي لا يعرف له مخالف بعد اشتهاره يكون من قبيل الإجماع السكوني، وهو أيضًا حجة شرعية.
3 -
قول الصحابي الصادر عن رأي واجتهاد، لا يكون حجة ملزمة على صحابي مثله، ولا على من جاء بعدهم ولكن يستأنس به في حال انعدام الدليل من الكتاب والسنة والإجماع.
4 -
قول الصحابي إذا خالف المرفوع الصحيح لا يكون حجة، بل يكون مردودا.
5 -
قول الصحابي إذا خالفه الصحابة لا يكون حجة.
انظر «البحر المحيط «(6/ 53 - 56).
وقال الشافعي: إذا اجتمعوا أخذنا باجتماعهم وإن قال واحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله، وإن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم ولم تخرج عن أقاويلهم كلهم. "
الرسالة» (ص 597 - 598).
انظر «المسودة «(ص (276 - 336)، التبصرة (395) «تيسير التحرير» (3/ 132).
المخالفة فيما عدا تلك المسألة، وأين هذا مما يفعله المقلدون من تقليد العالم في جميع أمور الشريعة من غير التفات إلى دليل ولا تعريج على تصحيح أو تعديل.
وبالجملة فلو سلمنا [4] أن ذلك تقليد من عمر كان دليلا للمجتهد إذا لم يمكنه الاجتهاد في مسألة، وأمكن غيره من المجتهدين فيها إذا أنه يجوز لذلك المجتهد أن يقلد المجتهد الآخر ما دام غير متكمن من الاجتهاد فيها إذا تضيقت عليه الحادثة. وهذه مسألة أخرى غير المسألة التى يريدها المقلد، وهى تقليد عالم من العلماء في جميع المسائل الدين وقبول رأيه دون روايته وعدم مطالبته بدليل، وترك النظر في الكتاب والسنة، والتعويل على ما يراه من هو أحقر الآخذين بهما، فإن هو عين اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا كما سيأتيك بيانه.
وأيضا لو فرض ما زعمه من الدلالة لكان ذلك خاصا بتقلي علماء الصحابة في مسألة من المسائل فلا يصح إلحاق غيرهم لهم لما تقرر من المزايا التي للصحابة البالغة إلى حد بقصر عنه الوصف حتى صار مثل جبل أحد من متأهري الصحابة لا يعدل المد من متقدميهم ونصيفه (1) وصح أنهم خير القرون (2) فكيف يلحق بهم غيرهم! وبعد اللتيا والتي (3) فما أوجدتمونا نصا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجة البخاري رقم (3673) وأبو داود رقم (4658) والترمذي رقم (3861).
من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تسبوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه»
(2)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (2652) ومسلم رقم) ومسلم رقم (2533) وقد تقدم مرارا.
(3)
وتصغير التي واللآتي واللآت اللتيا واللتيا، بالفتح والتشديد قال العجاج:
دافع عني بنقير قوتي.
بعد اللتيا واللتيا والتي.
إذا علتها نفس تردت.
قيل: أراد العجاج باللتيا تصغير التي، وهي الداهية الصغيرة، والتي الداهية الكبيرة، وتصغير اللواتي اللتيات واللويات.
ويقال: وقع فلان في اللتيا والتي، وهما اسمان من أسماء الداهية.»
لسان العرب «(12/ 234)
وليست الحجة إلا فيها، ومن ليس بمعصوم لاحجة لنا لكم في قوله ولا في فعله فما جعل الله الحجة إلا في كتابه وعلى لسانه نبيه، عرف هذا من عرف وجهله من جهله والسلام.
وأما ما استدلوا به من قول عمر لأبي بكر رآينا لرأيك تبع فما هذه أول قضية جاءوا بها على غير وجهها فإنها لو نظروا في القصة بكمالها لكانت حجة عليهم لا لهم، وسياقها في صحيح البخاري (1) هكذا:
عن طارق بن شهاب قال جاء [بزاخة](2) وفد من أسد وطفان إلى أبي كر يسألونه الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية، فقالوا هذه عرفناها فما المخزية. قال: ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما أصبنا منكم [5] وتردون علينا ما أصبتم منا، وتدون لنا قتلانا ويكون قتلاكم في النار، وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين أمرا يعذرونكم به فعرض أبو بكر ما قال على القوم فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيا وسنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المحلية والسم المخزية فنغمم ما ذكرت وأما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، وأما ذكرى تدون قتلانا
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (13/ 206) رقم 7221) مختصرا.
وانظر «فتح الباري» (13/ 210 - 211): قال الحافظ ابن حجر: أخرجه بطوله البرقاني بالإسناد الذي أخرج البخاري ذلك القدر منه- وهو- حدثنا مسدد حدثنا يحيي عن سفيان حدثني قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب.
(2)
زيادة من «فتح الباري «(13/ 210)
ويكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقلت على أمر الله، أجورها على الله ليس لها ديات فتتابع القوم على ما قال عمر.
ففي هذا الحديث ما يرد عليهم فإنه قرر ما رآه أبو بكر رضي الله عنه ورد بعضه، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: قد رأيت رأيا ورأينا لرأيك تبع فلا شك أن المتابعة في بعض ما رآه أو في كله ليست من التقليد في شيء، بل من استصواب ما جاء به في الآراء والحروب وليس ذلك بتقليد، وأيضا قد يكون السكوت عن اعتراض بعض ما فيه مخالفة من آراء الأمراء لقصد إخلاص الطاعة للأمراء التي ثبت الأمر بها وكراهة الخلاف الذي أرشد- صلى الله عليه وآله وسلم إلى تركه. ثم هذه الآراء هي في تدبير الحروب وليست في مسائل الدين وإن تعليق بعضها بشيء من ذلك فإنما هوة على طريق الاستتباع.
وبالجملة فاستدلال من استدل بمثل هذا على جواز التقليد تسلية لهؤلاء المساكين من المقلدة بما لا يسمن ولا يغني من جوع، وعلى كل حال فهذه الحجة التي استدلوا بها عليهم لا لهم لأن عمررضي الله عنه قرر من قول أبي بكر ما وافق اجتهاده ورد ما خالفه.
وأما ما ذكروه من موافقة ابن مسعود لعمر وأخذه بقوله، وذلك رجوع بعض الستة المذكورين من الصحابة إلى بعض فليس هذا إلا من باب موافقة العالم المجتهد للعالم المجتهد، وليس هذا ببدع ولا مستنكر فالعالم يوافق العالم في أكثر مما يخالفه فيه من المسائل، ولا سيما إذا كانا قد بلغا إلى أعلى مراتب الاجتهاد فإن المخالفة قليلة جدا، وأيضا قد ذكر أهل العلم أن ابن مسعود خالف عمر في نحو مائة مسألة، وما وافقه إلا في نحو أربع مسائل فأين التقليد من هذا ويكف صلح مثل ما ذكر [6] للاستدلال به على جواز التقليد؟ وهكذا رجوع الستة المذكورين إلى أقوال بعض فإن هذا موافقة لا تقليد، وقد كانوا جميعا هم وسائر الصحابة إذا ظهرت لهم السنة لم يتركوها لقول أحد كائنا من كان بل كانوا يعضون عليها ...........
بالنواجذ (1) ويرمون بآرائهم وراء الحائط فأين هذا من صنع المقلدين الذين لا يعدلون بقول من قلد كتابا ولا سنة ولا يخالفونه قط، وإن تواتر لهم ما يخلفه من السنة.
ومع هذا فإن الرجوع (2) الذي كان يقع من بعض الصحابة إلى قول بعض إنما هو في الغالب رجوع إلى روايته لا إلى رأيه، لكونه أخص بمعرفة ذلك المروي منه بوجه من الوجوه كما يعرف هذا من عرف أحوال الصحابة.
وأما مجرد الآراء المحضة فقد ثبت عن أكابرهم النهي عنها والتنفير منها كما سيأتي بيان طرف من ذلك إن شاء الله وإنما كانوا يرجعون إلى الرأي إذا أعوزهم الدليل وضاقت عليهم الحادثة، ثم لا يبرمون أمرا إلا بعد التراود والمفاوضة، ومع ذلك فهم على وجل، ولهذا كانوا يكرهون تفرد بعضهم برأي يخالف جماعتهم حتى قال أبو عبيدة السلماني لعلي ابن أبي طالب: لرأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك.
[4]
: واحتجوا أيضًا بقوله- صلى الله عليه وآله وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي «(3) وهو طرف من حديث العرباض بن سارية وهو حديث صحيح وقوله- صلى الله عليه وآله وسلم:"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (4)
(1) تقدم تخريجه مرارا.
(2)
سيأتي توضيح ذلك.
(3)
تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(4)
أخرجه الترمذي رقم (3662) وقال: حديث حسن.
وأحمد (5/ 382، 385،402) واين ماجه رقم (97) والحاكم في «المستدرك) (3/ 75) والطحاوي في «مشكل الآثار «(2/ 83 - 84) والحميدي في مسنده (1/ 214 رقم 449) وابن سعد في «الطبقات «(2/ 334) وأبو نعيم في الحلية (9/ 109) والخطيب في تاريخه (12/ 20) والبغوي في «شرح السنة «(14/ 101) رقم 3894، 3895) كلهم من طرق عن عبد المال بن عمير. وهو حديث صحيح.
وأخرجه الترمذي رقم (3663) وأحمد (5/ 399) من حديث حذيفة لكن من طريق سالم أبي العلاء ......
وهو حديث معروف مشهور ثابت في السنن وغيرها.
(والجواب): أن ما سنه الخلفاء الراشدون من بعده فالأخذ به ليس إلا لأمره- صلى الله عليه وآله وسلم بالأخذ به فالعمل بما سنوه والاقتداء بما فعلوه هو لأمره- صلى الله عليه وآله وسلم لنا بالعمل بسنة الخلفاء الراشدين والاقتداء بأبي بكر وعمر ولم بأمرنا بالاستنان بسنة عالم من علماء الأمة ولا أرشدنا إلى الاقتداء بما يراه مجتهد من المجتهدين.
فالحاصل أنا لم نأخذ بسنة الخلفاء ولا اقتدينا بأبي بكر وعمر إلا امتقالا لقوله- صلى الله عليه وآله وسلم:» عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (1) وبقوله «اقتدوا بالذين من بعد أبي بكر وعمر» (2) فكيف ساغ لكم أن تستدلوا بهذا الذي ورد فيه النص على ما لم يرد فيه! فهل تزعمون أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم قال عليكم بسنة أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل [7] حتى يتم لكم ما تريدون.
فإذا قلتم نحن نقيس أئمة المذاهب (3) على هؤلاء الخلفاء الراشدين فيا عجبا لكم كيف ترتقون إلى هذا المرتقى الصعب وتقدمون هذا الإقدام في مقام الإحجام فإن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم إنما خص الخلفاء الراشدين وججعل سنتهم كسنته في اتباعها لأمر يختث بهم ويتعداهم إلى غيرهم ولو كان الإلحاق بالخفاء الراشدين سائغا لكان إلحاق المشاركين لهم في الصحبة والعلم مقدما على من لم يشاركهم في مزية من المزايا، بل المسبة بينه وبينهم كالنسبة بين الثرى والثريا، فلولا أن هذه المزية خاصة بهم مقصورة عليهم لم يخصهم بها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم دون سائر الصحابة فدعونا من هذه التمحلات التي يأباها الإنصاف.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخرجه.
(3)
انظر:» إعلام الموقعين «(2/ 230 - 238).
وليتكم قلدتم الخلفاء الراشدين لهذا الدليل أو قلدتم ما صح عنهم على ما يقوله أئمتكم، ولكنكم لم تفعلوا بل رميتم بما جاء عنهم وراء الخائط إذا خالف ما قاله من أنتم أتباع له، وهذا لا ينكره إلا مكابر معاند بل رميتم بصريح الكتاب ومتواتر السنة إذا جاء بما يخالف من أنتم متبعون لهم، فإن أنكرتم هذا فهذه كتبكم أيها المقلدة على ظهر البسيطة عرفونا من تتبعون من العلماء حتى نعرفكم بما ذكرناه.
[5]
: ومن جملة ما استدلوا به حديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (1).
(الجواب): أن هذا لا حديث قد روي من طريق عن جابر (2) وابن عمر وصرح أئمة الجرح والتعديل بأنه لا يصح منها شيء، وأن هذا الحديث لم يثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وقد تكلم عليه الحفاظ بما يشفي ويكفي، فمن رام البحث عن طرقه وعهن تضعيفها فهو ممكن بالنظر في كتاب من كتب هذا الشأن (3) وبالجملة فالحديث لا تقوم به حجة به قم لو كان مما تقوم به الحجة فما لكم أيها المقلدون وله، فإنه تضمن منقبة للصحابة ومزية لا توجد [8] لغيرهم فماذا تريدون منه؟ فإن كان ما تقلدونه منهم احتجا إلى الكلام معكم، وإن كان من تقلدونه من غيرهم فاتركوا ما ليس لكم لهم ودعوا الكلام على مناقب خير القرون، وهاتوا ما أنتم بصدد الاتسدلال عليه فإن هذا الحديث لو صح لكان الأخذ بأقوال الصحابة ليس إلا لكونه- صلى الله عليه وآله وسلم أرشدنا إلى أن الاقتداء بأحدهم اهتداء فنحن إنما امتثلنا إرشاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
(1) وهو حديث موضوع. وقد ورد حديث جابر، وأبي هريرة وابن عباس، وعمر ابن الخطاب، وابن عمر.
وقد تقدم تخريج ذلك كله في القيم الأول- العقيدة- من الفتح الرباني.
(2)
تقدم تخريجه
(3)
انظر "الضعيفة" للألباني رقم (61 - 60 - 58).
"كشف الخلفاء"(1/ 68).
وآله وسلم] وعملنا على قوله وتبعنا سنته، فإن ما جعاه محلا للاقتداء يكون ثبوت ذلك له بالنسبة وهى قول رسول الله الله عليه وآله وسلم فلم نخرج عن العمل بسنة رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] ولا قلدنا غيره بل سمعنا الله يقول:{وما إتكم الرسول فخذوه وما نهكم عنه فانتهوا} (1)[آل عمران:31] وكان هذا القول من جملة ما أتانا به فأخذناه واتبعناه فيه، ولم نتبع غيره ولا عولنا سواه. فإن كنتم تثبتون لأئمتكم هذه المزية قياسافلا أعجب مما افتريتموه وتقولتموه، وقد سبق الجواب عنكم فى البحث الذي قبل هذا.
وبمثل هذا الجواب يجاب عن اتجاجهم بقوله- صلى الله عليه وآله وسلم «إن معاذا قد سن لكم سنة» (2) وذلك فى شأن الصلاة حيث أخر قضاء ما فانه مع اٌمام ولا يخفى عليك أن فعل معاذ هذا إنما صار سنة بقول رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم لا بمجرد فعله، فهو إنما كان السبب لثبوت السنة ولم تكن تلك السنة (3) سنة إلا بقول رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وهذا واضح لايخفى. وبمثل هذا الجواب على حديث «أصحابي كالنجوم» (4) يجاب عن قول ابن (5) مسعود في وصف الصحابة فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا يهديهم فإنهم كانوا علي الهدى المستقيم.
(1)[الحشر:7] وسمعناه يقول: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى} .
(2)
أخرجه أحمد فى «المسند «(5/ 246).وأبو داود فى «السنن"رقم (506/ 507) وابن خريمة في صحيحه رقم (381/ 383) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى به.
(3)
انظر:"إعلام الموقعين» (2/ 202).
(4)
وهو حديث موضوع. وقد تقدم.
(5)
ذكره ابن القيم في"إعلام الموقعين"(2/ 302 - 303) ......
[خلاصة ما تقدم]
ثم هاهنا جواب يشمل ما تقدم من حديث «عليم بسنتي وسنة الخلفاء» وحديث «اقتدوا بالذين من بعدي» (1) وحديث «أصحابي والنجوم» (2) وقول ابن مسعود وهو أن المراد بالاستنان بهم والاقتداء هو أن يأتي المستن والمقتدي بمثل ما أتوا به [9] ويفعل كما فعلوا، وهم لا يفعلون فعلا ولا يقولون إلا على وفق فعل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله فالاقتداء بهم هواقتداء برسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم والاستنان بسنتهم هو استنان بسنة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وإنما أرشد الناس إلى ذلك لأنهم المبلغون عنه الناقلون شريعته إلى من بعده من أمته فالفعل وإن كان لهم فهو على طريق الحكاية لفعل رسول الله عليه وآله وسلم، كأفعال الطهارة والصلاة والحج ونحو ذلك فهم رواة له وإنما كان منسوبا اليهم لكونه قائما بهم: وفي التحقيق هو راجع إلى ما سنه رسول بسنة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم، فالاقتداء بهم اقتداء به، والاستنان بسنتهم استنان بسنة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وإذا خفي عليك هذا فانظر ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة في عباداتهم فإنك تجده حكاية لما كان يفعله رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وإذغ اختلفوا في شئ من ذلك فهو لاختلافهم في الرواية لا في الرأي، وقل أن جاء فعل من تلك الأفعال صادر عن أحد منهم لمحض رأي رآه، بل قد تجد ذلك لا سيما في أفعال العبادات وهذا يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم.
وعلى هذا فمعنى الحديث أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم خاطب أصحابه أن يقتدوا بما يشاهدونه يفعله من سنته، وبما يشاهدون من أفعال الخلفاء الراشدين فإنهم
(1) تقدم تخريجه.
(2)
وهو حديث موضوع. وقد تقدم.
المبلغون عنه العارفون بسنته المقتدون بها، فكل ما يصدر عنهم في ذلك صادر عنه ولهذا صح عن جماعة من أكابر الصحابة ذم الرأي وأهله وكانوا لا يرشدون أحدا إلا إلى سنة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم لا إلى شيء من آرائهم وهذا معلوم لا يخفى على عارف [10] وما نسب إليهم من الاجتهادات وجعله أهل العلم رأيا لهم لا يخرج عن الكتاب والسنة وإما بتصريح أو بتلويح، وقد يظن خروج شيء من ذلك وهو ظن مدفوع لمن تأمل حق التأمل، وإذا وجد نادرا رأيت الصحابي بتحرج أبلغ تحرج ويصرح بأنه رأيه وأن الله بريء من خطئه وينسب الخطأ إلى نفسه وإلى الشيطان، والصواب إلى الله كما تقدم (1) عن الصديق فى تفسير الكلالة وكما روى عنه (2) وعن غيره (3) فى فرائض الجد ، وكما كان يقول عمر (4) فى تفسير قوله تعالي {وفكهة وأبا} (5) وهذا البحث
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 304 رقم 19191) والدارمي (2/ 365 - 366) والبيهقي (6/ 224) ورجاله ثقات لكن الشعبي لم يسمع من أبي بكر، فالحديث منقطع.
- أن أبا بكر قال في الكلالة: أقضي فيها برأي يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه وهو دون الولد والوالد
…
"وقد تقدم.
(2)
أخرج البخاري في صحيحه رقم (3658) عن عبد الله إبي مليكة قال: كتب أهل الكوفة إلى ابن الزبير في الجد فقال: أما الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وآله سلم «لو كنت كتخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته» أنزله أبا- يعنى أبا بكر».
(3)
أخرج أبو داود رقم (2897) وابن ماجه رقم (2723) عن الحسن البصري أن عمر قال: أيكم يعلم ما ورث رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم الجد؟ فقال معقل بن يسار: أنا، ورثه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم السدس، قال: مع من؟ قال: لا أدري. قال: لا دريت، فما تغني إذا؟ وإسناده منقطع.
(4)
أخرجه البخاري فى صحيحه رقم (7293) عن أنس قال: كنا عند عمر فقال: «نهينا عن التكلف» .وأورده ابن ابن كثير فى تفسيره (8/ 325):عن أنس قال: قرأ عمر بن الخطاب: {عبس وتولى} فلما أتى على هذه الآية: {وفكهة وأبا} قال: عرفنا ما الفاكهة، فما الأب؟ فقال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف.
(5)
[عبس:31] .......
نفيس فتأمله حق التأمل تنتفع به.
[6]
: ومن جملة ما استدلوا به قول الله تعالى: {أطيعو الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} (1) قالوا أولي الأمر هم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به.
(الجواب) أن للمفسرين (2) في تفسير أولي الأمر قولين: أحدهما أنهم الأمراء والثاني العلماء. ولا تمتنع إرادة الطائفتين من الآية الكريمة، ولكن أين هذا من الدلالة على مراد المقلدين فإنه لا طاعة للعلماء ولا للأمراء إلا إذا أمروا بطاعة الله على وفق شريعته وإلا فقد ثبت عنه صلى الله علية وآله وسلم:«أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (3)، وأيضا العلماء إنما أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم عن ذلك كما سيأتي بيان طرف منه عن الأئمة الأربعة وغيرهم فطاعتهم ترك تقليدهم.
ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد الناس إلى التقليد ويرغبهم فيه لكان مرشدا إلى معصية الله، ولا طاعة له بنص حديث رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم (4) وإنما قلنا إنه مرشد إلى معصية الله لأنه من أرشد هؤلاء العامة الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون الصواب من الخطأ إلى التمسك بالتقليد كان هذا الإرشاد منه مستلزما لإرشادهم إلى ترك [11] العمل بالكتاب والسنة إلا بواسطة أراء بواسطة أراء العلماء الذين يقلدونهم فما عملوا به عملوا وما لم يعملوا به لم يعملوا به، ولا يلتفتون إلى كتاب ولا سنة، بل من شرط
(1)[النساء:59]
(2)
انظر «الجامع لأحكام القرآن «(5/ 259 - 260).
(3)
أخرجه البغوي ى «شرح السنة» رقم (2455) من حديث النواس بن سمعان بإسناد ضعيف.
ولكن يشهد له حديث الحكم بن عمرو الغفاري: وعمران بن الحصين رضي الله عند أحمد (5/ 66) والطيالسي (856) بإسناد صحيح. وأخرجه الحاكم (2/ 443) وصححه ووافقه الذهبي.
(4)
يشير إلى الحديث النبوي: «لا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق» وقد تقدم .......
التقليد الذين أصيبوا به أن يقبل من إمامه رأيه ولا يعول على روايته، ولا يسأله عن كتاب ولا سنة، فإن سأله عنهما خرج عن التقليد لآنه قد صار مطالبا بالحجة.
ومن حملة ما تجب فيه طاعة أولي الأمر تدبير الحروب التي تدهم الناس والانتفاع بآرائهم فيها وقي غيرها من تدبير أمر المعاش وجلب المصالح ودفع المفاسد الدنيوية، ولا يبعد أن تكون هذه الطاعة في هذه الأمور التي ليست من الشريعة هي المرادة بالأمر بطاعتهم، لأنه لو كان المراد طاعتهم في الأمور التي شرعها الله ورسوله لكان ذلك داخلا تحت طاعة الله وطاعة الرسول، ولا يبعد أيضًا أن تكون الطاعة لهم في الأمور الشرعية في مثل الواجبات المخيرة وواجبات الكفاية، فإذا أمروا بواجب من الواجبات المخيرة أو ألزموا بعض الأشخاص بالدخول في واجبات الكفاية لزم ذلك فهذا أمر شرعي وجبت فيه الطاعة، وبالجملة فهذه الطاعة لأولي الأمر المذكورة في الآية هذه هيالطاعة التي ثبتت في الأحاديث المتواترة (1) في طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله أو يرى المأمور كفرا بواحا، فهذه الأحاديث مفسرة لما في الكتاب العزيز وليس ذلك من التقليد في شيء بل هو في طاعة الأمراء الذين غالبهم الجهل والبعد في تدبير الحروب وسياسة الأجناد وجلب مصالح العباد وأما الأمور الشرعية المحضة فقد أغنى عنها كتاب الله وسنة رسوله [12]
(1) منها ما أخرج البخاري في صحيحه رقم (7142) من حديث أنس مرفوعا: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله» .
(ومنها):ما أخرج البخاري في صحيحه رقم (2957) ومسلم في صحيحه رقم (33/ 1835) من حديث أبي هريرة عنه- صلى الله عليه وآله وسلم:» من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني
…
».
(ومنها):ما أخرج البخاري في صحيحه رقم (7144) ومسلم رقم (38/ 1839) من حديث ابن عمر عنه- صلى الله عليه وآله وسلم: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» .......
[7]
: واعلم أن هذا الذي سقناه هو عمدة أدلة المجوزين للتقليد، وقد أبطلنا ذلك كله كما عرفت. ولهم شبهة غير ما سقناه (1) وهي ما حررناه كقولهم إن الصحابة قلدوا عمر في المنع من بيع (2) أمهات الأولاد، في أن الطلاق يتبع الطلاق، وهذه فرية ليس فيها مرية، فإن الصحابة مختلفون في كلا المسألتين فمنهم من وافق عمر اجتهادا لا تقليدا ومنهم من خالفه (3)، وقد كان الموافقون له يسألونه عن الدليل ويستروونه النصوص، وشأن المقلد أن لا يبحث عن دليل بل يقبل الرأي ويترك الرواية، ومن لم يكن هكذا فليس بمقلد.
[8]
: ومن جملة ما تمسكوا به أن الصحابة كانوا يفتون ورسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم حتى بين أظهرهم وهذا تقليد لهم.
ويجاب عن ذلك (4) بأنهم كانوا يفتون بالنصوص من الكتاب والسنة وذلك رواية
(1) انظر» إعلام الموقعين «(2/ 206 - 230).
(2)
بل ورد في ذلك حديث عن أبي أبوب الأنصاري، قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم يقول «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» .وهو حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 413) والترمذي رقم (1283) وقال: حديث حسن غريب. والدارمي (2/ 227 - 228) والدارقطني (3/ 67رقم 256) والحاكم (2/ 55) وصححه على شرط مسلم. والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 280 رقم 456).
(3)
انظر تفصيل ذلك في «زاد الميعاد" (5/ 276 - 284)
(4)
قال ابن القيم في"إعلام الموقعين» (2/ 251): أن فتواهم إنما كانت تبليغا عن الله ورسوله، وكانوا بمنزلة المخبرين فقط، لم تكن فتواهم، ولا يفتون بغير النصوص، ولم يكن المستفتون لهم يعتمدون إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم فيقولون: أمر بكذا وفعل كذا ونهى عن كذا هكذا كانت فتواهم، فهي حجة على المستفتين كما هي حجة عليهم، ولا فرق بينهم وبين المستفتين لهم في ذلك إلا في الواسطة بينهم وبين الرسول وعدهما، والله ورسوله وسائر أهل العلم أنهم وأن مستفتيهم لم يعلموا إلا بما عملوه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه وهؤلاء بغير واسطة، ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة يحلل ما حلله ويحرم ويستبيح ما أباحه. وقد أنكر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم من أفتى بغير السنة منهم، كما أنكر على أبي السنابل وكذبه، وأنكر على من أفتي برجم الزاني البكر، وأنكر على من أفتى باغتسال الجريح حتى مات، وأنكر على من أفتى بغير علم كمن يفتي بما لا يعلم صحته، وأخبر إن إثم المستفتى عليه، فإفتاء الصحابة في حياته نوعان:
أحدهما: كان يبلغه ويقرهم عليه، فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم.
الثاني: ما كانوا يفتون به مبلغين له عن نبيهم، فهم فيه رواة لا مقلدون ولا مقلدون .......
منهم، ولا يشك من يفهم أن قبول الرواية ليس بتقليد فإن قبول الرواية هو قبول للحجة، والتقليد إنما هو قبول للرأي، وفرق بين قبول الرواية وقبول الرأي، فإن قبول الرواية ليس من التقليد في شيء بل هو عكس رسم المقلد فاحفظ هذا فإن مجوزة التقليد يغالطون بمثل ذلك كثير فيقولون مثلا إن المجتهد هو مقلد لمن روى له السنة ويقولون إن من التقليد قبول قول المرأة أنها قد طهرت وقبول قول المؤذن أن الوقت قد دخل، وقبول الأعمى لقول من أخبره بالقبلة. بل وجعلوا من التقليد قبول شهادة الشاهد وتعديل المعدل وحرج الجارح.
ولا يخفى عليك أن هذا ليس من التقليد في شيء (1) بل هو من قبول الرواية لا من قبول الرأي، إذ قبول الرواي للدليل والمخبر بدخول الوقت وبالطهارة وبالقبلة [13] والشاهد والجارح والمزكي هو من قبول الرواية إذا الرواية إذا الراوي إنما أخبر المروي له بالدليل الذي
(1) قال ابن القيم في» إعلام الموقعين» (2/ 254 - 255): قولهم «وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمقوم والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد وذلك تقليد محض» .
أتعنون بع أنه تقليد لبعض العلماء في قبول أقوالهم أو تقليد لهم فيما يخبرون؟ فإن عنيتم الأول فهو باطل، وإن عنيتم الثاني فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد الذى قام الدليل على بطلانه، وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد لا من باب قبول الفتيا فى الدين من غير قيام دليل على صحتها، بل لمجرد إحسان الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه، فأين قبول الإخبار والشهادات والأقارير إلأى التقليد فى الفتوى؟ والمخبر بهذه الأمور بخير عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه بالحواس والمشاعر ونظيره قبول خبر المخبر عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قال أو فعل، وقبول خبر المخبر عمن أخبر عنه بذلك وهلم جرا. فهذا حق لا ينازع فيه أحد .......
رواه ولم يخبره بما يراه من الرأي، وكذلك المخبر بدخول الوقت ' إنما أخبر بأنه شاهد علامة من علامات الوقت، ولم يخبر لأنه قد دخل الوقت برأيه وكذلك المخبر بالطهارة فإن المرأة مثلا أخبرت أنها شاهدت علامات الطهر من القصة البيضاء ونحوها، ولم تخبر بأن ذلك رأي رأته، وهكذا المخبر بالقلبلة أخبر أن جهتها أو عينها هاهنا حسبما تقتضيه المشاهدة بالحاسة ولم يخبر عن رأيه، وهكذا أوضح من أن يخفى، والفرق بين الرواية وال {أي أبين من الشمس، ومن التبس عليه الفرق بينهما فلا يشغل نفسه بالمعارف العليمة فإنه بهيمي الفهم وإن كان فى مسلاخ إنسان.
قال ابن خويز منداد البصر (1) الملكي: (التقليد): معناه في الشرع الرجوع إلى قوله لا حجة لقائله عليه، وذلك منوع منه في الشريعة، (والاتباع): ما ثبتت عليه الحجة .. إلى أن قال والاتباع في الدين متبوع والتقليد ممنوع، وسيأتي مثل الكلام لابن عبد البر وغيره.
[9]
: وقد أورد بعض أسراء التقليد كلاما يؤيد به دعواه الجواز فقال ما معناه- لو كان التقليد غير جائز لكان الاجتهاد واجبا على كل فرد من أفراد العباد، وهو تكليف مالا يطاق، فإن الطباع، وعلى فرض أنها قابلة له جميعها فوجوب تحصيله على كل فرد يؤدي إلى تبطيل المعايش التي لا يتم بقاء النوع بدونها، فإنه لا يظفر برتية الاجتهاد إلا من جرد نفسخ للعلم في جميع أوقاته على وجه لا يستغل بغيره، فحينئذ يشتغل الحراث والزراع والنساج والعمار ونحوهم بالعلم، وتبقى هذه الأعمال شاغرة معطلة [14] فتبطل المايش بأسرها ويفضي ذلك إلى انخزام نظام الحياة وذهاب نوع الإنسان، وفي هذا من الضرر والمشقة ومخالفة مقصود الشاعر مالا يخفى على أحد.
(1) ذكره ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله" (2/ 117) .......
ويجاب عن هذا التشكيك الفاسد (1) بأنا لا نطلب من كل فرد من أفراد العباد أن يبلغ رتبة الاجتهاد بل المطلوب هو أمر دون التقليد وذلك بأن يكون القايمون بهذه المعايش والقاصرون إدراكا وفهما كما كان عليه أمثالهم في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم خير القرون (2) ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وقد علم كل عالم أنهم لم يكونوا مقلدين ولا منتسبين إلى فرد من أفراد العلماء بل كان الجاهل يسأل العالم عن
(1) قال ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 256 - 257): فجوابه من وجوه:
أحدهما: أن من رحمة الله سبحانه بنا ورأفته أنه لم يكلفنا بالتقليد، فلو كلفنا به لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا، لأنا لم نكن ندري من نقد من المفتين والفقهاء، وهم عدد فوق المئتين، ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله.
فلو كلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العنت والفساد، ولكلفنا بتحليل الشيء وتحريمه وإيجاب الشيء وإسقاطه معا وإن كلفنا بتلقيد كل عالم. وإن كلفنا بتلقيد الأعلم فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل بكثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شريط التقليد. ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ واختيارنا وشهواتنا، وهو عين المحال فلا بد أن يكون ذلك راجعا إلى من أمر الله باتباع قوله وتلقي الدين من بين شفتيه وذلك محمد- صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: أن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها، وبإهماله وتقليد من يخطئ ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به.
الثالث: أن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول فيما أخبر به ويطيعه فيما أمر وذلك لا يكون إلا بعد معرفة أمره وهبره ولم يوجب الله سبحانه من ذلك على الأمة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها وصلاحها في معاشها وبإهمال ذلك تضييع مصالحها وتفسد أمورها.
الرابع: أن الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصه من الأحكام ولا يجب عليه أن يعرف مالا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة لمصالح الخلق ولا تعطيل لمعاشهم، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم قائمين بمصالحهم ومعاشهم وعمارة حروثهم.
الخامس: أن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم دون مقدرات الأذان ومسائل الخرص والألغاز، وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه.
(2)
تقدم تخريجه مرارًا ......
الحكم الشرعي الثابت فى كتاب الله أو سنة رسوله فيفتيه به ويرويه له لفظا أو معنى فيعمل بذلك من باب العمل بالرواية لا بالرأي، وهذا أسهل من التقليد فإن تفهم دقائق علم الرأي أصعب من تفهم الرواية بمراحل كثيرة.
فما طلبنا من هؤلاء العوام إلا ما هو أخف عليهم مما طلبه منهم الملزمون لهم بالتقليد، وهذا هو الهدى الذي درج عليه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم حتى استدرج الشيطان بذريعة التقليد من استدرج ولم يكتف بذلك حتى سول لهم الاقتصار على تقليد فرد من أفراد العلماء وعدم جواز تقليد غيره ثم توسع في ذلك فخيل لكل طائفة أن الحق مقصور على ما قاله إمامها وما عداه باطل، ثم أوقع في قلوبهم العداوة [15] والبغضاء حتة أنك تجد من العداوة بين أهل المذاهب المختلفة مالا تجده بين أهل الملل المختلفة وهذا يعرفه كل من عرف أحوالهم.
فانظر إلى هذه البدعة الشيطانية التي فرقت أهل الملة الشريفة وصيرتهم على ما تراه من التباين والتقاطع والتخالف، فلو لم يكن من شؤم هذه التقليدات والذاهب المبتدعات إلا مجرد هذه الفرقة بين أهل الإسلام مع كونهم أهل مله واحدة ونبي [واحد](1) وكتاب واحد لكان ذلك كافيا كونها غير جائزة فإن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهى عن الفرقة ويرشد إلى الاجتماع ويذم المتفرقين في الدين حتى إنه قال في تلاوة القرآن وهو من أعظم الطاعات أنهم إذا اختلفوا تركوا التلاوة وأنهم يتلون ما دامت قلوبهم مؤتلفة (2).
وثبت ذم التفرق والاختلاف في مواضع من الكتاب .............................
(1) في المخطوط: واحدة ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2)
يشير المؤلف إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (5060) ومسلم رقم (3/ 2667) عن جندب ابن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا» .......
العزيز (1) معروفة فكيف يحل لعالم أن يقول بجواز التقليد الذي كان سبب فرقة أهل الإسلام وانتشار ما كان عليه من النظام والتقاطع بين أهله وإن كانوا ذوي أرحام.
[10]
: وقد احتج بعض أسراء التقليد ومن لم يخرج عن أهله وإن كان عند نفسه قد خرج منه- بالإجماع- على جوازه، وهذه دعوى لا تصدر من عارف بأقوال أهل العلم بل لا تصدر من عارف بأقوال أئمة المذاهب الأربعة فإنه قد صح عنهم المنع من التقليد.
(1) مثل قوله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [آل عمران: 103] وقوله تعالى {وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا لسبل فتفرق بكم عن سبيله ذالك وصكم به لعلكم تتقون} [الانعام: 153] وقوله تعالى: {ولا تنزاعو فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال:46] ......
[أقوال العلماء في النهي عن التقليد]
قال ابن (1) عبد البر: إنه لا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد وأوراد فصلا طويلا في محاجة من قال بالتقليد وإلزامه بطلان ما يزعمه من جوازه فقال:
يقال لمن قال بالتقليد لما قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا فإن قال قلدت لأن كتاب الله تعالى لا علم لي بتأويله، وسنة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم لم أحصها والذي [6 1] قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني قيل له أما العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية سنة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض فما حجتك في تقليد بعض دون بعض وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه. فإن قال قلدته لأني علمت أنه صواب قيل له وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال قلدته لأنه أعلم مني قيل له فقلد كا من أعلم منك فإنك من ذلك خلقا كثيرا ولاتخص من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك.
فإن قال قلدته لأنه أعلم الناس قيل له فهو إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحا
…
انتهى (2) ما أردت نقله من كلامه وهو طويل وقد حكى في أدلة افجماع على فساد التقليد فدخل فيه الأئمة الأربعة دخولا أوليا.
وحكى ابن القيم (3) عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما قالا: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه انتهى. وهذا هو تصريح يمنع التقليد التقليد لأن من علم بالدليل فهو مجتهد مطالب بالحجة لا مقلد والمقلد فإنه الذى يقبل القول ولا يطالب بحجة.
(1) في كتابه «جامع بيان العلم «(2/ 994 - 995)
(2)
أى كلام ابن عبد البر.
(3)
في إعلام الموقعين (2/ 211) ......
وحكى ابن عبد البر (1) أيضًا عن معين بن عيسى بإسناد متصل به قال سمعت مالكا يقول إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. انتهى.
ولا يخفى عليك أن هذا تصريح منه بالمنع من تقليده لأن العمل بما وافق الكتاب والسنة من كلامه هو عل بالمكتاب والسنة وليس بنمسوب إليه، وقد أمر أتباعه بترك ما كان من رأيه غير موافق للكتاب والسنة.
وقال سند بن عنان الملكي في شرحه على مدونة سحنون المعورفة بالأم ما لفظة: أما مجرد الاقتصار على محض التقليد فلا يرضى به رجل رشيد وقال أيضا: نفس المقلد ليست على بصيرة ولا يتصف من العلم بحقيقة، إذ ليس التقليد بطريق إلى العلم بوفاق أهل الآفاق، وإن نوزعنا في ذلك أبدينا برهانه فنقول قال تعالى:{فاحكم بين الناس بالحق} (2) وقال: {بما أرك الله} (3) وقال: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (4) وقال: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (5) ومعلوم أن العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به، فنقول للمقلد [17] إذا اختلفت الأقوال وتشعبت من أين تعلم صحة قول من قلدته دون غيره أو صحة قولة له أخرى، ولا يبدى كلاما في ذلك إلانعكس عليه في نقيضه. سيما إذا عرض له قولة لإمام مذهبه الذي قلده
(1) في «جامع بيان العلم «(1/ 775 رقم 1435) بإسناد حسن.
(2)
وتمام الآية:: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [سورة ص:26].
(3)
[النساء:105] قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} .
(4)
[الإسراء:36].
(5)
[الأعراف:33] .......
وقولة تخالفها لبعض أئمة الصحابة إلى أن قال أما التقليد فهو قول الغير من غير خحة فمن أين يحصل به علم وليس له مستند إلى قطع، وهو أيضًا في نفسه بدعة محدثة لأنا نعلم بالقطع أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن في زمانهم وعصرهم مذهب لرجل معين يدرس ويقلد، وإنما كانوا يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنة أو إلى ما يتخض بينهم من النظر من النظر عند فقد الدليل وكذلك تابعوهم أيضًا يرجعون إلى الكتاب والسنة فإن لم يجدوا نظروا إلى ما أجمع عليه الصحابة فإن لم يجدوا اجتهدوا واختار بعضهم قول صحابي فرآه الأقوى في دين الله تعالى. ثم كان القرن الثالث وفيه كان أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل فإن مالكا توفي سنة تسع ومائة وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة، وفي هذه السنة ولد الإمام الشافعي وولدا ابن حنبل سنة أربع وستين ومائة وكانوا على منهاج من مضى لم يكن في عصرهم مذهب رجل معين يتدارسونه وعلى قريب منهم كان أتباعهم فكم من قولة لمالك ونظرائه خالفه فيها أصحابه، ولو نقلنا ذلك لخرجنا عن مقصود هذا الكتاب، ما ذاك إلا لجمعهم آلات الاجتهاد وقدرتهم على ضروب الاستنباطات، ولقد صدق الله نبيه في قوله:{خير الناس قرني ثم الذين يولنهم ثم الذين يلونهم} ذكر بعد قرنه قرنين والحديث في صحيح البخاري (1).
فالعجب لأهل التقليد كيف يقولون هذا هو الأمر القديم وعليه أدركنا الشيوخ، وهو إنما حدث بعد مائتى سنة من الهجرة (2) وبعد فناء القرون الذين أثنى عليهم الرسول ..... انتهى.
(1) في صحيحه رقم (2652).
قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2533) والترمذي رقم (3859) كلهم من حديث عبد الله ابن مسعود.
(2)
انظر الرد على من أخلد إلى الأرض (ص133) ......
[تاريخ التقليد]
وقد عرفت بهذا الإسم أن التنفيذ لم إلا بعد انقراض خير القرون تم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، وأن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعةإنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة وإنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف فى هجر التقليد وعدم الإعتداد به < > وان هذه المذاهب إنما أحذثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين ، وقد تواترت الرواية عن الإمام مالك أنه قال له الرشيد (1) أنه يريد أن يحمل الناس على مذهبه ، فنهاه عن ذلك وهذا موجود فى كل كتاب فيه ترجمة ال'مام مالك ولا يخلو ذلك إلا النادر.
وإذا تقرر أن المحدث لهذه المذاهب والمبتدع لهذه التقليدات هم جهلة المقلدة فقط، فقد عرفت مما تقرر في الأصول أنه لا اعتداد بهم في الإجماع وأن المعتبر في الإجماع إنما هم المجتهدون، وحينئذ لم يقل بهذه التقليدات عالم من العلماء المجتهدين أما قبل حدوثها فظاهر، وأما بعد حدوثها فما سمعنا عن مجتهدات أنه يسوغ صنيع هؤلاء المقلدة الذين فرقوا دين الله وخالفوا بين المسلمين بل أكابر العلماء بين منكر لها وساكت عنها سكوت تقية لمخافة ضرر أو لمخافة فوات نفع كما يكون مثل ذلك كثيراً لا سيما من علماء السوء.
وكل عاقل يعلم أنه لو صرخ عالم من علماء الإسلام المجتهدين في مدينة من مدائن الإسلام في أي محل كان بأن التقليد بدعة محدثة لا يجوز الاستمرار عليه ولا الاعتداد به لقام عليه أكثر أهلها إن لم يقم عليه كلهم وأنزلوا به من الإهانة والإضرار بماله وبدنه وعرضه مالا يليق بمن هو دونه، هذا إذا سلم من القتل على يد أول جاهل من هؤلاء المقلدة ومن يعضدهم من جهلة الملوك والأجناد فإن طبائع الجاهلين بعلم الشريعة متقاربة وهم لكلام من يجانسهم في الجههل أقبل من علام من يخالفهم في ذلك من أهل العلم.
(1) أنظر «حلية الأولياء" ......
ولهذا طبقت هذه البدعة جميع البلاد الإسلامية، وصارت شاملة لكل فرد من أفراد المسلمين فالجاهل يعتقد أن الدين ما زال هكذا ولن يزال إلبى المحشر، ولا يعرف معروفا وال ينكر منكراً وهكذا من كان من المشتغلين بعلم التقليد فإنه كالجاهل [19] بل أقبح منه لأنه يضم إلى جهله وإصراره على بدعته وتحسينها في عيون أهل الجهل والازدراء بالعلماء المحققين العارفين بكتاب الله وسنة رسوله ويصول عليهم ويحول وينسبهم إلى الابتداع ومخالفة الأئمة والتنقص بشأنهم فيسمع ذلك منهم الملوك ومن يتصرف بالنيابة عنهم من أعوانهم فيصدقونه ويذعنون لقوله إذ هو مجانس لهم في كونه جاهلاً وإن كان يعرف مسائل قد قلد فيها غيره لا يدري أهي حق أم باطل ولا سيما إذا كان قاضيا ً أو مفتيا فإن العامي لا ينظر إلى أهل العلم بعين مميزة بين من هو عالم على الحقيقة ومن هو جاهل وبين من هو مقصر ومن هو كامل لأنه لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهله.
وأما الجاهل فإنما يستدل على العلم بالمناصب والقرب من الملوك واجتماع المتدرسين من المقلدين وتحرير الفتاوي للمتخاصمين وهذه الأمور إنما يقوم بها رؤوس هؤلاء المقلدة في الغالب كما يعلم ذلك كل عالم بأحوال الناس في قديم الزمن وحديثه، وهذا يعرفه الإنسان بالمشاهدة لأهل عصره وبمطالعة كتب التاريخ الحاكية لما كان عليه من قبله.
وأما العلماء المحققون المجتهدون فالغالب على أكثرهم الخمول لأنه لما كثر التفاوت بينهم وبين أهل الجهل كانوا متباعدين لا يرغب هذا في هذا ولا هذا في هذا.
ومنزلة الفقية من السفيه
…
كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهد في حق هذا
…
وهذا فيه أزهد منه فيه
ومما يدعو العامة إلى مهاجرة أكابر العلماء وقاطعتهم أنهم يجدونهم غير راغبين في علم التقليد الذي هو رأس مال فقهائهم وقضاتهم والمفتين منهم بل يجدونهم مشتغلين بعلوم الاجتهاد وهي عند هؤلاء المقلدة ليست من العلوم النافعة عندهم [20] هي التي يتعجلون نفعها بقبض جرابات التدريس وأجرة الفتاوي ومقررات القضاء ومع هذا فمن كان من هؤلاء المقلدة متمكنا من تدريسهم في علم التقليد إذا درسهم في ......
مسجد من المساجد أو في مدرسة من المدارس اجتمع عليه منهم جمع جم يقارب المائة أو يجاوزها من قوم قد ترشحوا للقضاء والفتيا وطمعوا في نيل الرياسة الدنيوية أو أرادوا حفظ ما قد ناله سلفهم من الرياسة وبقاء مناصبهم والمحافظة على التمسك بها كما كان عليه أسلافهم فهم لهذا المقصد يلبسون الثياب الرفيعة ويديرون على رؤوسهم عمائم كالروابي فإذا نظر العامي أو السلطان أو بعض أعوانه إلى تلك الحلقة البهية المشتملة على العدد الكثير والملبوس الشهير والدفاتر الضخمة لم يبق عنده شك أن شيخ تلك الحلقة ومدرسها أعلم الناس فيقبل قوله في كل أمر يتعلق بالدين ويؤهله لكل مشكلة ويرجو منه القيام بالشريعة مالا يرجوه من العالم على الحقيقة المبرز في علم الكتاب والسنة وسائر العلوم التي يتوقف فهم المعلمين عليها ولا سيما وغالب المبرزين من العلماء تحت ذيل الخمول إذا درسوا في علم من علوم الاجتهاد فا يجتمع عليهم في الغالب إلا الرجل والرجلان والثلاثة لن البالغين من الطلبة إلى هذه الرتبة المتعدين لعلم الاجتهاد هم أقل قليل لأنه لا يرغب في علم الاجتهاد إلا من أخلص النية وطلب العلم لله عز وجل ورغب عن المناصب الدنيوية وربط ننسه برباط الزهد وألجم نفسه بلجام القنوع.
فلينظر العاقل أين يكون محل هذا العالم على التحقيق عند أهل الدنيا إذا شاهدوه في زاوية من زوايا المسجد وقد قعد بين يديه رجلٌ أو رجلان من محل ذلك المقلد الذي اجتمع عليه [21] المقلدون فإنهم ربما يعتقدون أنه كواحد من تلاميذه هذا المقلد أو يقصر عنه لما يشاهدونه من الأوصاف التي قدمنا ذكرها.
ومع هذا فإنهم لا يقفون على فتوى من الفتاوى أو سجل من الأسجال إلا وهو بخط أهل التقليد ومنسوب إليهم فيزدادون لهم بذلك تعظيما ويقدمونهم على علماء الاجتهاد في كل إصدار وإيراد، فإذا تكلم عالم من علماء الاجتهاد والحال هذه بشئ من يخالف ما يعتقده المقلده فاموا عليه قومة جاهلية ووافقهم على ذلك أهل الدنيا وأرباب السلطان فإذا قدروا على الإضرار به في بدنه وماله فعلوا ذلك وهم بفعلهم مشكورون عند أبناء ......
جنسهم من العامة والمقلدة لنهم قاموا بنصرة الدين بزعمهم وذبوا عن الأئمة المتبوعين وعن مذاهبهم التي قد اعتقدها أتباعهم فيكون لهم بقذه الأفعال التي هي عين الجهل والضلالة من الجاه والرفعة عند أبناء جنسهم ما لم يكن في حساب.
وأما ذلك العالم الممحق المتكلم بالصواب فبالحري أن ينجو من شرهم ويسلم من ضرهم، وأما عرضه فيصير عرضه للشتم والتبديع والتجهيل والتضليل فمن ذذا تراه ينصب نفسه للإنكار على هذه البدعة ويقوم في الناس بتبطيل هذه الشعنة مع كون الدنيا مؤثرة وحب الشرف والمال يميل بالقلوب على كل حال.
فانظر أيها المنصف بعين الإنصاف هل يعد سكوت علماء الاجتهاد عن إنكار بدعة التقليد مع هذه الأمور موافقة لهلاه على جوازها؟ كلا والله فإنه سكوت تقتتية لا سكوت موافقة مرضية ولكنهم مع سكوتهم عن التظاهر بذلك لا يتركون بيان ما أخذ الله عليهم بيانه (1)، فتارة يصرحون بذلك في مؤلفاتهم وتارة يلوحون به، وكثير منهم يكتم ما يصرح به من تحريم التقليد إلى بعد موته كما روى الأدفوي عن شيخه الإمام ابن دقيق العيد أنه طلب منه ورقا وكتبها ي مرض موته، وجعلها تحت فراشه فلما مات أخرجوها فإذا هي في تحريم التقليد مطلقا. ومنهم من يوضح ذلك لمن يثق به من أهل العلم ولا يزالون متوازثين بينهم طبقة بعد طبقة [22] يوصحه السلف للخلف وويبينه الكامل للمقصر، وإن انحجب ذلك عن أهل التقليد فهو غير منحجب عن غيرهم وقد رأينا في زماننا مشايخنا المشتغلين بعلوم الاجتهاد فلم نجد عند واحد منهم أن التقليد صواب، ومنهم من صرح بإنكار كثير من المسائل التي يعتقدها المقلدون فوقع بينه وبين أهل عصره قلاقل وزلازل ونالهم من الامتحان ما فيه توفير أجورهم وهكذا حال أهل سائر الديار في جميع الأعصار.
(1) قال تعالى: {وإذا أخذ الله ميثق الذين أوتوا الكتتب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنتا قليلا فبئس ما يشترون} [آل عمران: 187] ......
وبالجملة فهذا أمر يشاهده كل واحد في زمنه فإنا لم نسمع بأن أهل مدينة من المدائن الإسلامية أجمعوا أمرهم على ترك التقليد واتباع الكتاب والسنة لا في هذا العصر ولا فيما تقدمه من العصور بعد ظهور المذاهب بل أهل البلاد الإسلامية أجمع أكتع لا مطبقون على التقليد.
ومن كان منهم منتسبا إلى العلم فهو إما أن يكون مبلغ علمه معرفة ما هو مقلد فيه وهذا هو عند التحقيق ليس من أهل العلم، وإما أن يكون قد اشتغل ببعض علوم الاجتهاد ولم يتأهل للنظر فوقف تحت ربقة التقليد ضرورة لا اختياراً وإما أن يكون عالماً مبرزاً جامعاً لعلوم الاجتهاد فهذا هو الذي يجب عليه أن يتكلم بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم إلا لمسوغ شرعي.
وأما من لم يكن منتسبا إلى العلم فهو إما عامي صرف لا يعرف التقليد ولا غيره، وإنما هو ينتمي إلى الإسلام جملةً ويفعل كما يفعله أهل بلده في صلاته وسائر عبادته ومعاملته فهذا قد أراح نفسه من محنة التعصب التي يقع فيه المقلدون وكفى الله أهل العلم شره، فهو لا وازع له من نفسه يحمله على التعصب عليهم بل ربما نفخ فيه بعض شياطين المقلدة وسعى إليه بعلماء الاجتهاد فحمله على أن يجهل عليهم بما يوبقه في حياته وبعد مماته [23] وإما أن يكون مرتفعا عن هذه الطبقة قليلا فيكون غير مشتغل بطلب العلم لكنه يسأل أهل العلم عن أمر عبادته ومعاملته وله بعض تمييز فهذا هو تبع لمن يسأله من أهل العلم إن كان يسأل المقلدين فهو لا يرى الحق إلا في التقليد وإن كان يسأل المجتهدين فهو يعتقد أن الحق ما يرشدونه إليه فهو مع من غلب عليه من الطائفتين، وإما أن يكون ممن له اشتغال بطلب علم المقلدين وإكباب على حفظه وفهمه وال يرفع رأسه إلى سواه ولا يلتفت إلى غيره فالغالب على هؤلاء التعصب المفرط على علماء الاجتهاد ورميهم بكل حجر ومدر وإيهام العامة بأنهم مخالفون لإمام المذهب الذي قد ضاقت أذهانهم عن تصور عظيم قدره، وامتلأت قلوبهم من هيبته حتى تقرر عندهم أنه في درجة لم يبلغها الصحابة فضلا عمن بعدهم، وهذا وإن لم يصرحوا به فهو مما تكنه صدورهم، ولا.
تنطلق به ألسنتهم، فمع ما قد صار عندهم من هذا الاعتقاد في ذلك الإمام إذا بلغهم أن أحد علماء الاجتهاد الموجودين يخالفه في مسألة كان هذا المخالف قد ارتكب أمراً شنيعاً وخالف عندهم شيئا قطعياً وأخطأ خطأ لا يكفره شئٌ وأن استدل على ما ذهب إليه بالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة لم يقبل منه ذلك ولا يرفع لما جاء به رأساً كائنا من كان ولا يزالون منتقصين له بهذه المخالفة [24] انتقاصا شديدا على وجه لا يستحلونه من الفسقة ولا من أهل البدع المشهورة كالخوارج (1) والروافض (2) ويبغضونه بغضا شديداً فوق ما يبغضون أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن أنكر هذا فهو غير محقق لأحوال هؤلاء.
وبالجملة فهو عندهم ضال ممضل ولا ذنب له إلا أنه عمل بكتاب الله وسنة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم واقتدى بعلماء الإسلام في أن الواجب على كل مسلم تقديم كتاب الله وسنة رسوله على قول كل عالم كائنا من كان.
(1) تقدم التعريف بها ص 153
(2)
تقدم التعريف بها ص 148
[أقوال الأئمة الأربعة في النهي عن التقليد]
ومن المصرحين بهذا الأئمة الأربعة فإنه قد صح عن كل واحد منهم هذا المعنى من طرق متعددة.
[1 - أبو حنيفة]: قال صاحب الهداية (1): وفي روضة العلماء أنه قيل لأبي حنيفة إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه قال اتركوا قولي بكتاب الله فقيل إذذا كان خخبر الرسول يخالفه قال اتركوا قولي بخير الرسول فقيل إذا كان قول الصحابي يخالفه قال اتركوا قولي بقول الصحابي ..... انتهى.
وقد روى عنه هذه المقالة جماعة من أصحابه وغيرهم.
[2 - مالك]: وقد ذكر نور الدين السنهوري (2) نحو ذلك قال، قال ابن مسدي في منسكه: روينا عن معن بن عيسى قال سمعت مالكا يقول: إنما أنا بشرٌ أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي كل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. انتهى. قال ابن مسدي فقد علم أن كلما خالف الكتاب والسنة من أراء مالك فليس بمذهب له بل مذهبه ما وافق الكتاب والسنة انتهى.
ونقل الأجهوري والخرشي هذا الكالم وأقراه في شرحيهما على مختصر خليل (3) وقد روي ذلك عن مالك جماعة من أهل مذهبه وغيرهم.
[3 - والشافعي]:وأما الإمام الشافعي [25] فقد تواتر ذلك عنه تواترا لا يخفي على مقصر فضلا عن كامل، فإنه نقل ذلك عنه غالب أتباعه ونقله عنه أيضًا جميع المترجمين له إلا من شذ.
(1) انظر إعلام الموقعين (1/ 282) وانظر البحر المحيط (4/ 54)
(2)
انظر: جامع بيان العلم وفضله «(1/ 775) والإحكام «لابن حزم (6/ 149 - 150) و"إعلام الموقعين «(1/ 75).
(3)
(1/ 40 - 43)
ومن جملة من روى عنه ذلك البيهقي (1) فإنه ساق إسناداً إلى الربيع لاقال: سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال: يروي عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال كذا وكذا فقال له السائل: يا أبا عبد الله أتقول بهذا، فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال: ويحك وأي سماء تظلني إذا رويت عن الرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً ولم أقل به نعم على الرأس والعين نعم على الرأس والعين.
وروي البيهقي (2) أيضًا عن الشافعي أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رلسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم فقولوا بسنة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم ودعوا ما قلت: وروى البيهقي (3) عنه أيضًا قال: إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهي إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم ولا يترك لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم حديث أبداً إلى إلا حديث وجد عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم حديث يخالفه.
وروى البيهقي: (4) أيضًا عنه أنه قال له رجل وقد روى حديثا أتأخذ بهذا فقال متى رويت عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.
وحكى ابن القيم في إعلام الموقعين (5) أن الربيع قال سمعت الشافعي يقول: كل مسألة يصح فيه الخبر عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي. وقال حرملة بن يحيى قال الشافعي: ما قلت وكان
(1) في المناقب (1/ 475)
قلت: وابن القيم في إعلام الموقعين «(2/ 286) وأبو نعيم في الحلية (9/ 106)
(2)
في المناقب (1/ 4723 - 473)
(3)
ذكره ابن القيم في «إعلام الموقعين «(2/ 282) وابو نعيم في «الحلية (9/ 106)
(4)
في المناقب (1/ 474)
(5)
(2/ 285).
النبي- صلى الله عليه وآله وسلم قد قال بخلاف قولي فما صح من حديث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أولى ولا تقلدوني.
وقال (1) الحميدي سأل رجل الشافعي عن مسألة فأفقتاه وقال قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا فقال الرجل أتقول هذا يا أبا عبد الله فقال الشافعي [26] أرأيت في وسطي زناراً؟ أتراني خرجت من الكنيسة؟ أقول قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم وتقول لي أتقول بهذا. أأروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أقول به. انتهى ونقل إمام الحرمين في نهايته (2) عن الشافعي أنه قال: إذا صح خبر يخالف مذهبي فاتبعوه، واعلموا أنه مذهب. انتهى.
وقد روى نحو ذلك الخطيب وكذلك الذهبي في تاريخه الإسلام والنبلاء (3) وغير هؤلاء ممن لا يأتي عليه الحصر. وقال الحافظ ابن حجر في توالي التأسيس (4) قد اشتهر عن الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهب وحكى عن السبكي أن له مصنفا في هذه المسألة.
[4 - أحمد بن حنبل]: وأما الإمام أحمد بن حنبل فهو أشد الأئمة الأربعة تنفيراً ن الرأي وأبعدهم عنه وألزمهم للسنة، وقد نقل عنه ابن القيم في مؤلفاته كإعلام الموقعين (5) ما فيه التصريح بأنه لا عمل على الرأي أصلا وهكذا نقل عنه ابن الجوزي وغيره من أصحابه وإذا كان من المانعين للرأي المنفرين عنه فهو قائل بما قاله الأئمة الثلاثة المنقولة
(1) انظر: «إعلام الموقعين «(2/ 285 - 286).
(2)
أنظر المصدر السابق.
(3)
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (10/ 35): قال أبو ثور: سمعت الشافعي يقول: «كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني ".
(4)
لابن حجر (ص 109). والصواب أن اسم الكتاب (توالي التأنيس بمعالي ابن إدريس)
انظر كتاب «توثيق النصوص وضبطها عند المحدثين «تأليف الدكتور موفق بن عبد الله بن عدب القادر (ص108 - 113)
(5)
(2/ 31)
نصوصم على أن الحديث مذهبهم ويزيد عليه بأنهم سرغوا الرأي فيما لا يخالف النص وهو منعه من الأصل وسيأتي قريبا النقل علن الإمام أحمد بما فيه التصريح بمنع التقليد.
وقد حكى الشعراني في الميزان (1) أن الأئمة الأربعة كلهم قالوا إذا صح الحديث فهو مذهبنا وليس لأحد قياس ولا حجة. انتهى
(1)(1/ 55)
[إجماع الأئمة الاربعة على تقديم النص]
وإذا تقرر لك إجماع أئمة المذاهب الأربعة على تقديم النص على آرائهم عرفت أن العالم الذي عمل بالنص وترك قول أهل المذاهب هو الموافق لما قاله أئمة المذاهب، والمقلد الذي قدم أقواله أهل المذاهب على النص هو المخالف لله ولرسوله ولإلمام مذهبه ولغيره من سائر علماء الإسلام.
ولعمري إن القلم جرى بهذه [27] النقور على وجل وحياء من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم فيا لله العجب أيحتاج المسلم في تقديم قول الله أو قول رسوله على قول أحد من علماء أمته إلى أن يعتضد بهذه النقول يالله العجب، أي مسلم يلتبس عليه مثل هذا حتى يحتاج إلى نقل أقوال هؤلاء العلماء رحمهم الله في أن أقوال الله وأقوال رسوله مقدمة على أقوالهم فإن الترجيح فرع التعارض ومن ذاك الذي يعارض قوله قول الله أو قول رسوله- حتى نرجع إلى الترجيح والتقديم ! سبحانك هذا بهتان عظيم. فا حيا الله هؤلاء المقلدة هم الذين ألجأوا الأئمة إلى التصريح بتقديم أقوال الله. ورسوله على أقوالهم لما شاهدوهم عليه من الغلو المشابه لغلو اليهود والنصارى في أحبارهم (1) ورهبانهم وهم الذين ألجأونا إلى نقل هذه الكلمات وإلا فالأمر واضح لا يلتبس على أكمه.
ولو فرضنا والعياذ بالله أن عالما من علماء الإسلام يجعل قوله كقول الله أو قول رسوله لكان كافراً مرتدا فرضا عن أن يجعل قوله أقدم من قول الله ورسوله.
(1) يشير إلى قوله تعالى: {أتخذوا أحبارهم ورهبنهم أرباب من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها وحدا لآإله إلا هو سبحنه عما يشركون} [التوبة 31].
وأخرج ابن جرير في «جامع البيان» (6/جـ 10/ 114 - 115): والقرطبي في تفسيره (8/ 120) عن حذيفة أنه سئل عن قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أرباب من دون الله} كانوا يعبدونهم، قال: لا كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه.
فإنا لله وإنا إليه راجعون ما صنعت هذه المذاهب بأهلها وإلى أي موضع أخر أخرجتهم، وليت هؤلاء المقلدة الجفاة الأجلاف نظروا بعين العقل إذا حرموا النظر بعين العلم ووازنوا بين رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وبين أئمة مذاهبهم وتصوروا وقوفهم بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم فهل يخطر [28] ببال من بقيت فيه بقية من عقل هؤلاء المقلدين أن هؤلاء الأئمة المتبوعين عند وقوفهم المفروض بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يردون عليه قوله أو يخالفونه بأقوالهم! كلا والله بل هم أتقى لله وأخشى له، فقد كان أكابر الصحابة يتركون سؤاله- صلى الله عليه وآله وسلم في كثير من الحوادث هيبة له وتعظيما، وكان يعجبهم الرجل العاقل من أهل البادية إذا وصل يسأل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم ليستفيدوا بسؤاله كما ثبت في الصحيح (1) وكانوا يقفون بين يديه كأن على رؤوسهم الطجير يرمون بأبصارهم إلى بين أيديهم ولا يرفعونها (2) إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم احتشاماً وتكريما وكانوا أحقر وأقل عند أنفسهم من أن يعارضوا رسول الله صلى عليه وآله وسلم بآرائهم وكان التابعون يتأديون مع الصحابة بقريب من هذا الأددب، وكذلك تابعو التابعين كانوا يتأدبون مع التابعين بقريب من أدب التابعين مع الصحابة فما ظنك أيها المقلد لو حضر إمامك بين يدي رسول الله- صلى عليه وآله وسلم- فإتك يا مسكين الاهتداء بهدى العلم فلا يفوتنك الاهتداء بهدى العقل، فإنك إذا استضأت بنوره خرجت من ظلمات جهلك إلى نور الحق. وإذا عرفت ما قدمنا لك أيضًا حكاية الإجماع على منعهم من التقليد وحكينا لك ما قاله الإمام أبو
(1) يسير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحة (10/ 12) عن أنس رضى الله عنه قال: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية، العاقل، فيسأله ونحن نسمع ..... "
(2)
انظر الحديث بطوله في صحيحه البخاري رقم (2731، 2732) من حديث المسور بن مخرمة ومروان
حنيفة وما قاله إمام دار الهجرة مالك بن أنس من ذلك ولاح لك ما نقلناه قريبا ما يقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي من منع التقليد.
وقد قال المزني في أول مختصره (1) ما نصه [29]: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقرأه على من أرداده مع إعلانه بنهيه عن تقيلده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحاط فيه لننفسه انتهى. فانظر ما نقله هذا الإمام الذي هو من أعلم الناس بمذهب الشافعي- رحمه الله من تصريحه بمنع تقليده وتقليد غيره.
وأما الإمام أحمد بن حنبل فالنصوص عنه في منع التقليد كثيرة قال أبو دواد سمعته- يعني أحمد بن حنبل- يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثم من هو بعده من التابعين خير. انتهى فانظر كيف فرق بين التقليد والابتاع.
وقال أبو دواد (2) قلت لأحمد الأوزاعي هو اتبع أم مالك؟ فقال: لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء ما جاء عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فخذ به وقال أبو داود (3) سعمته يعني أحمد بن حنبل- يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثم من هو بعده من التابعين مخير. انتهى فانظر كيف فرق بين التقليد والاتباع. وقال أبو داود (4) قال لي أحمد لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا. وقال من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال.
قال ابن القيم (5): ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتابا في الفقه وإنما دون أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك. وقال ابن الجوزي في «تلبيس إبليس «(6):
(1) المطبوع مع كتاب «الأم «للشافعي (8/ 93) ط. دار الفكر
(2)
في «مسائل الإمام أحمد (ص276 - 277)
(3)
في «مسائل الإمام أحمد (ص276 - 277)
(4)
"مسائل الإمام أحمد «(ص 276 - 277)
وانظر «إعلام الموقعين «(2/ 200) و» إيقاظ الهمم «(ص 113) للفلاني
(5)
في «إعلام الموقعين «(2/ 282) "
(6)
(ص94 - 95) وتمام قووله:» .... لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح ممن أعطى شمعة يستضئ بها أن ثطفئها ويمشي في الظلمة، واعلم أن عموم أصحاب المذهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر لما قال، وهو عين الضلالة، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل». أهـ
اعلم أن المقلد على غير نقة فيما قلد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل ثم أطال الكلام في ذلك.
وبالجملة فنصوص أئمة المذاهب الأربعة في المنع من التقليد وفي تقديم النص على آرائهم وآراء غيرهم لا يخفي على عار من أتباعهم وغيرهم.
[أقوال الأئمة المتبوعين من أهل البيت]
وأما نصوص سائر الأئمة المتبوعين على ذلك كالأئمة من أهل البيت عليهم السلام فهي موجودة في كتبهم معروفة قد نقلها العارفون بمذاهبهم عنهم ومن أحب [30] النظر في ذذلك فليطالع مؤلفاتهم، وقد جمع منها السيد العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في مؤلفاته ما يسفي يكفي لا سيما في كتابه المعروف بالقواعد (1) فإنه نقل الإجماع عنهم وعن سائر علماء الإسلام على تحريم تقليد الأموات وأطال في ذلك وأطاب وناهيك بالإمام الهادي يحي بن (2) الحسين- رحمه الله فإنه الإمام الذي صار أهل الديار اليمنية مقلدين له متبعين لمذهبه من عنصره وهو آخر المائة الثالثة إلى الآن مع أ، وقد اشتهر عند أتباعه والمطلعين على مذهبه أنه صرح تصريحا لا يبقى عنده شك ولا شهبه بمنع التقليد له وهذه مقاله مشهورة في الديار اليمنية يعلمها مقلدوه وإن كان لا يجوز ذلك عملا بما قاله بعض المتأخرين إنه يجوز تقليد الإمام الهادي وإن منع من التقليد، وهذا من أغرب ما يطرق سمعك إن كنت ممن ينصف.
وبهذا تعرف أن مؤلفات الإمام الهادي في الأصول والفروع وإن صرحوا في بعضها بجواز التقليد فهو على غير مذهب إمامهم وهذا كما وقع لغيرهم من أهل المذاهب، وقد كان أتباع هذا الإمام في العصور السابقة وكذلك أتباع الإمام الأعظم زيد ابن على- رحمه الله فيهم إنصاف لا سيما في فتح باب الاجتهاد وتوسيع دائرة التقليد وعدم
(1)» القواعد في الاجتهاد «- خ- رقم 96 (مجاميع ق 62 - 100) أخرى بمكتبة الحبشي، ثالثة بمكتبة التيمورية، أخرى ضمن مجموع الكبسي (ص 131 - 309) رابعة بدار الكتب المصرية.
أنظر: أعلام المؤلفين الزيدية «(ص 829)
(2)
تقدمت ترجمته.
انظر: «أعلام المؤلفين الزيدية «(ص1103)
قصر الجواز على إمام معين كما يعرف ذلك من مؤلفاتهم بخلاف غيرهم من المقلدة فإنهم أوجبوا على أنفسهم تقليد المعين واستروحوا إلى أن باب الاجتهاد قد انسد وانقطع التفضل به من الله على عباده ولقنوا العوام الذين هم مشاركون لهم في الجهل بالمعارف العملية ودونهم في معرفة مسائل التقليد بأنه لا اجتهاد بعد استقرار المذاهب وانقراض أئمتها فضموا إلى بدعتهم بدعة وشنعوا شنعتهم وسجلوا على أنفسهم بالجهل فإن من تجارأ على مثل هذه المقالة وحكم على الله سبحانه بمثل هذا الحكم المتضمن لتعجيزه عن التفضل على عباده بما أرشدهم إليه من تعلم العلم وتعليمه لا يعجز عن التجاري على أن يحكم على عباده بالأحكام الباطلة ويجازف في إصداره وإيراده.
[القول بانسداد باب الاجتهاد بدعة شنيعة]
ويا لله العجب فاقنع هؤلاء الجهلة النوكي (1) بما هم فيه من بدعة التقليد التي هي أم البدع ورأس الشنع حتى سدوا على أمة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم باب معرفة الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله وإنه لا سبيل إلى ذلك ولا طريق حتى كأن الأفهام البشرية قد تغيرت والعقول الإنسانية قد ذهبت وكل هذا حرصا منهم على أن تعم بدعة التقليد كل الأمة وأن لا يرتفع عن طبقتهم السافلة أحد من عباد الله كأن هذه الشريعة التي بين أظهرنا من كتاب الله ورسوله قد صارت منسوخة والناسخ لها ا ابتدعوه من التقليد في دين الله فلا يعمل الناس بشئ مما في كتاب الله والسسنة بل لا شريعة لهم إلا ما قد تقرر في المذاهب لا على ما وافقها منهما وإن يخالفها أحدهما أو كلاهما فلا عمل عليه ولا يحل التمسك به [32].
هذا حاصل قولهم ومفاده وبيت قصيدهم ومحل نشيدهم ولكنهم رأوا التصريح بمثل هذا تستنكره قلوب العوام فضلا عن الخواص وتقشعر منه جلودهم وترجف له أفئدتهم فعدلوا عن هذه العبارة الكفرية والمقالة الجاهلية إلى ما يلاقيها في المعنى ويوافقها في المفاد ولكنه ينفق على العوام بعض نفاق فقالوا قد انسد باب الاجتهاد. ومعنى هذا الانسداد المفتري والكذب البحت أنه لم يبق في أهل هذه الملة الإسلامية من يفهم الكتاب والسنة وإذا لم يبق من هو كذلك لم يبق سبيل إليهما، وإذا انقطع السبيل إليهما فكل حخكم فيهما لا عمل عليه ولا التفات إليه سواء وافق اتلمذاهب أو خالفها لأنه لم يبق من يفهمه ويعرف معناه إلى آخر الدهر، فكذبوا على الله وادعوا عليه سبحانه أنه لا يتمكن من أن
(1) نوك نوكا: حمق، وهو أنوك والجمع نوكي. قال سيبوية أجرى مجرى هلكي لأنه شئ أصيبوا به عقولهم.
والنوك عند العرب العجز والجهل، وقال الأصمعي: الأنوك العيي في كلامه. «لسان العرب (14/ 335)
يخلق خلقا يهمون ما شرعه لهم وتعبدهم به حتى كأن ما شرعه لهم في كتابه وعلى لسان رسوله ليس بشرع مطلق بل شرع مقيد مؤقت إلى غاية هي قيام هذه المذاهب، وبعد ظهورها لا كتاب ولا سنة بل قد حدث من يشرع لهذه الأمة شريعة جديدة ويحدث لها دينا آخر وينسخ بما رآه من رأي وما ظنه من الطن ما تقدمه من الكتاب والسنة وهذا وإن أنكروه بألسنتهم فهو لازم لهم لا محيد لهم عنه ولامهرب، وإلا فأي معنى لقولهم قد انسد باب الاجتهاد ولم يبق إلا مجرد التقليد فإنهم إن أقروا بأنهم قائلون بهذا لزمهم الإقرار بما ذكرناه وعند ذلك نتلو عليهم {اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله} [التوبة 31] وإن أنكروا القول بذلك وقالوا باب الاجتهاد مفتوح والتمسك بالتقليد غير حتم فقل لهم فما بالكم يانوكي ترمون كل من عمل بالكتاب والسنة وأخذ دينه منهما بكل حجر وقدر وتستحلون [33] عرضه وعقوبته وتجلبون عليه بخيلكم ورجلكم! وقد علموا وعلم كل من يعرف ما هب عليه أنهم مصممون على تغليق باب الاجتهاد وانقطاع السبيل إلى معرفة الكتاب والسنة فلزمهم ما ذكرناه بلا تردد فأنظر أيها المنصف ما حدث بسبب بدعة التقليد من البلايا الدينية والرزايا الشيطانية، فإن هذه المقالة بخصوصها- أعني انسداد باب الاجتهاد- لو لم يحدث من مفاسد التقيد إلا هي لكان فيها كفاية ونهاية فإنها حادثة رفعت الشريعة بأسرها واستلزمت نسخ كلام الله ورسوله وتقديم غيرهما عليهما واستبدال غيرهما بهما:
ياناعي الإسلام قم وانعه
…
قد زال عرف وبدا منكر
وما ذكرناه فيما سبق من أنه كان في الزيدية والهادوية بالديار اليمنية إنصاف في هذه المسألة بفتح باب الاجتهاد فذك إنما هو في الأزمنة السابقة كما قيدنا فيما سلف. وأما في هذه الأزمنة فقد أدركنا منهم من هو أشد تعصبا من غيرهم فإنهم إذا سمعوا برجل يدعي الاجتهاد ويأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله قاموا عليه قياما تبكي فه عيون
الإسلام واستحلووا منه مالا يستحلونه من أهخل الذذمة بالطعن واللعن والتفسيق والتكفير والهجم عليه إلى دياره ورجمه بالأحجار والاستظهار بهتك حرمته، ونعمل يقينا أنه لولا خبطهم بسوط هيبة الخلافة أعز الله أركانها وشيد سلطانها لا ستحلوا إراقة دماسء العلماء المنتمين إلى الكتاب والسنة وفعلوا بهم مالا يفعلونه بأهل الذمة وقد شاهدنا من هذا مالا يتسع المقام لبسطه.
والسبب في بلوغهم إلى هذا المبلغ الذي يلغه ما غيرهم أن جماعة من شياطين [34] المقلدين الطالبين لفوائد الدنيا بعلوم الدين يوهمون العوام الذين لا يفهمون من الأجناد والسوقة ونحوهم بأن المخالف لما قد تقرر بينهم ن المسائل التي قلدوا فيها هو من المنحرفين عغن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضى الله عنه وأنه من جملة المبغضين له الدافعين لفضله وفضائله المعادين له وللأئمة من أولاده فإذا سمع منهم العامي هذا مع قد ارتكز في ذهنه من كون هؤلاء المقلدة هم العلماء المبرزون لما يبهره من زيهم والاجتماع عليهم وتصدرهم للفتيا والقضاء حسبما ذكرناه سابقا فلا يشك أن هذه المقالة صحيحة وإن ذلك العالم العامل بالكتاب والسنة من أعداء القرابة فيقوم بحمية جاهلية صادرة عن واهمة دينية قد ألقاها إليه من قدمنا ذكرهم ترويجا لبدعتهم وتنفيقا لجهلهم وقصورهم عل من هو أجهل منهم وإنما موهوا على العوام بهذه الدققيقة الإبليسية لما يعلمونه من أن طبائعهم مجبولة على التشيع إلى حد يقصر عنه الوصف حتى إن أحدهم لو سمع التنقص تصريحا بالجناب الإلهي أو الجناب النبوي لم يغضب له عشر معشار ما يغضبه إذا سمع التنقيص بالجناب العلوي بمجرد الوهم والإيهام الذي لا حقيقة له.
فبهذه الذريعة الشيطانية والدسيسة الإبليسية صار علماء الاجتهاد في القطر اليمني في محنة شديدة بالعامة والذنب كل الذنب على شياطين المقلدة فإنهم هم الداء العضال والسم القتال، ولو كان للعامة عقول لم يخف عليهم بطلان تلبيس شياطين المقلدة عليهم فإن من عمل في شئ من عباداته أو معاملاته بنص الكتاب أو السنة لا يخطر ببال من له عقل أن ذلك يستلزم الانحراف عن على رضى الله عنه، وأين هذا من ذاك، ولكن العامة قد [35] ضموا
إلى فقدان العلم فقدان العقل لاسيما في أبواب الدين وعند تلبيس الشياطين، فإنا لله وإنا إليه راجعون ما للعامة الذين قد أظلمت قلوبهم لفقدان نور العلم وللاعتراض على العلماء والتحكم عليهم وما بال هذه الأزمة جاءت بما لم يكن في حساب، فإن المعروف من خلق العامة في جميع الأزمنة أنهم يبلغون في تعظيم العلماء إلى حد يقصر عنه الوص وربما يزدحمون عليهم للتبرك بتقبيل أطرافهم ويستجلبون منهم الدعاء ويقرون بأنهم حجج الله على عباده في بلاده ويطيعونهم في كل ما يأمرونهم به ويبذلون أنفسهم وأموالهم بين أيديهم لا جرم حملهم على هذه الأفاعيل الشيطانية والأخلاق الجاهلية أباليس المقلدة بالذريعة التي أسلفنا بيانها.
فانظر هل هذه الأفعال الصادرة من مقلدة اليمن هي أفعال من يعترف بأن باب الاجتهاد مفتوح إلى قيام الساعة وأن تقليد المجتهدين لا يجوز لم بلغ رتبه الاجتهاد وأن رجوع العالم إلى اجتهاد نفسه بعد إحرازه للاجتهاد ولو ي فن واحد ومسأله واحدة كما صرح له بذلك المؤلفون لفقه الأئمة وحرروه في الكتب الأصولية والفروعية كلا والله بل صنع من يعادي كتاب الله وسنة رسوله الطالب لهما والراغب فيهما ويمنع الاجتهاد ويوجب التقليد ويحول بين المتشرعين والشريعة ويحيلها عليهم فهما وإدراكا كما صنعه غيرهم من مقلدة سائر المذاهب بل زادوا عليهم في الغلو والتعصب بما تقدم ذكره.
ومع هذا فالأئمة قد صرحوا في كتبتهم الفروعية والأصولية بتعداد علم الاجتهاد وأنها خمسة (1) وأنه يكفي المجتهد في كل فن مختصر من المختصرات، وهؤلاء المقلدة يعلمون أن
(1) 1 - أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة، فإذا قصر في أحدهما لم يكن مجتهداً ولا يجوز له الاجتهاد ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة بل بما يتعلق منهما بالأحكام قال الغزالي وابن العثربي: والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الطاهر، للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك .... ....
. أنظر: «البحر المحيط «(6/ 199) و» المستصفى «(4/ 6).
2 -
أن يكون عارفا بمسائل الإجماع ححتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه إن كان ممن يقول بحجية ويرى أنه دليل شرعي
3 -
أن يكون عالما بسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه وال يشترك أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب بل المعتبر أن يكون متمكنا من استخراجها من مؤلفات الأثمة المشتغلين بذلك.
4 -
أن يكون عالما بعلم أصول الفقه لاشتماله على ما تمس الحاجة إليه ووعليه أن يطول الباع فيه ويطلع على مختصارته ومطولاته بما تبلغ إليه طاقته، فإن هذذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه، وعليه أيضًا أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظراً يوصله إلى ما هو الحق فيها فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد وخبط في وخلط.
وقال الغزالي في «المستصفى» (4/ 10): إن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون: الحديث، واللغة، وأصول الفقه.
5 -
أن يكن عارفا بالناسخ والمنسوخ بحيث لا يحفى عليه شئ من ذلك مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ.
واختلفوا في اشتراط علم الفروع فذهب جماعة منهم الأستاذذذ أبو إسحاق والأستاذذ أبو منصور إلى اشتراطه. وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه
وقد جعل قوم من جملة علوم الاجتهاد علم الجرح والتعديل وهو كذلك ولكنه مندرج تحت العلم بالسنة ....
.. وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد معرفة القياس بشروطه وأركانه قالوا: لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه وهو مندرج تحت علم أصول الفقه فإنه باب من أبوابه. «أنظر الإحكام «للآمدي (4/ 171) والبحر المحيط (6/ 205) «المستصفي (4/ 10 - 15)
كثيراً من العلماء [36] العاملين بالكتاب والسنة المعاصرين لهم يعرفون من كل فن من الفنون الخمسة أضعاف أضعاف القدر المعتبر ويعرفون علوما غير هذه العلوم. وهم وإن كانوا جهالا لا يعرفون شيئا من المعارف لكنهم يسألون أهل العلم عن مقادير العلماء فيفدونهم ذلك.
وبهذا تعرف أنه لا حامل لهم على ذلك إلا مجرد التعصب لمن قلدوه وتجاوزوا الحد في تعظيمه وامتثال رأيه على حد لا يوجد عندهم للصحابة بل لا يوجد عندهم لكلام الله ورسوله.
[إبطال التقيد]
أخرج البيهقي (1) وابن عبد البر (2) عن حذيفة بين اليمان أنه قيل له في قوله تعالى: {أتخهذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله} [التوبة] أكانو يعبدونهم فقلل: لا ولكن يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه فصاروا بذلك أرباباً.
وقد روى نحو ذلك مرفوعاً من حديث عدي بن حاتم كما قال البيهقي (3) وأخرج نحو هذا التفسير ابن عبد البر (4) عن بعض الصحابة بإسناد متصل به قال: أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم ما أطاعوهم ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامها وحرامه حلالا فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية.
ومن ذلك قوله تعالى: {وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثرهم مقتدون قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءاباءكم} فآثرها الاقتداء بآبائهم حتى قالوا: {إنا بما أرسلتم به كفرون} [الزخرف 23 - 24] وقال عز وجل: {إذا تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كمما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعملهم
(1) في السنن الكبرى (10/ 116)
(2)
في جامع بيان العلم وفضله (2/ 975) وقد تقدم وهو حديث حسن
(3)
في السنن الكبرى (10/ 116)
(4)
في جامع بيان العلم وفضله (2/ 976 - 977)
حسرات عليهم} [البقرة 166 - 167] وقال الله عز وجل: {ما هذذه التماثيل التي أنتم لها عكفون قالوا وجدنا ءابانا لها عبدين} فهذه الآيات وغيرها مما ورد في معناه ناعية على المقلدين ما هم فيه وهي وإن كان تنززيلها في الكفار لكنها قد صح تأويلها في المقلدين لا تحاد العلة، وقد تقرر في الأصول [37] أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدما (1) وقد احتج أهل العلم بهذه الآيات على إبطال التقليد ولم يمنعهم من ذلك كونها نازلة في الكفار.
وأخرج ابن عبد البر (2) بإسناد متصل بمعاذ رضى الله عنه قال: إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال وويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول قد قرأت القرآن فما أطن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة ....
». وأخرج (3) أيضًا عن ابن عباس أنه قال وويل للأبتاع من عثرات العالم قيل كيف ذلك؟ قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم منه فيترك قوله، ثم يمضي الأتباع.
وأخرج (4) أيضًا عن علي بن أبي طالب .................................
(1) أنظر «إرشاد الفحول ص 699"
(2)
في جامع بيان العلم وفضله (12/ 981رق 1871)
(3)
ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله (2/ 984 رقم 1877)
(4)
ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله (2/ 984 رقم 1878) بسند ضعيف جداً
رضي الله عنه (1) أنه قال: يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاةٍ وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيؤا بنور العمل ولم يلجأوا إلى ركن وثيق.
وأخرج (2) عنه أيضًا أنه قال: إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار.
وأخرج (3) عن ابن مسعود أنه قال: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلًا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر.
وروى ابن عبد البر (4) بإسناده إلى عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون ما أحل الله ويحلون به ما حرم الله» . وأخرجه البيهقي (5) أيضًا.
قال ابن القيم بعد إخراجه من طرق: وهؤلاء - يعني رجال إسناده - كلهم ثقات حفاظ إلا حريز بن عثمان فإنه كان منحرفًا عن علي، ومع هذا احتج به البخاري في صحيحه (6). وقد روي عنه أيضًا أنه تبرّأ مما نسب إليه من الانحراف.
(1) زيادة من (ب)
(2)
أي ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 987 رقم 1881) بسند ضعيف
(3)
ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 988 رقم 1882).
(4)
في «جامع بيان العلم» (2/ 1039 رقم 1997).
(5)
في «المدخل» (ص188 رقم 207). قلت: وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 430) وصححه على شرط الشيخين والخطيب في «الفقيه والمتفقه» رقم (473) وفي «تاريخ بغداد» (3/ 307 - 311) وهو حديث ضعيف.
(6)
في «هدى الساري» (ص 396): قال البخاري: «قال: أبو اليمان كان حريز يتناول من رجل ثم ترك قالت: فهذا أعدل الأقوال فلعله تاب
…
»
وروى ابن عبد البر (1) بإسناده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:» تعمل هذه الأمة برهة بسنة رسول الله ثم يعملون بالرأي فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا» [38]. وأخرجه (2) أيضًا بإسناد آخر فيه جبارة بن المغلس وفيه مقال.
وروى (3) أيضًا بإسناده إلى عمر بن الخطاب أنه قال وهو على المنبر: يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم مُصيبًا لأن الله كان يُريه، وإنما هو منا الظن والتكلف. وأخرجه أيضًا البيهقي في المدخل (4) وروى ابن عبد البر (5) بإسناده إلى عمر أيضًا أنه قال أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت ممنهم أن يرووها فاشتقوا الرأي».
وروى (6) ابن عبد البر بإسناده إليه أيضًا قال: اتقوا الرأي في دينكم.
وروى (7) عنه أيضًا قال إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين يسألون أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم.
وأخرج ابن عبد البر (8) بإسناده إلى ابن مسعود قال: ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عامٌ أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب.
(1) في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1039 رقم 1998)
(2)
أي ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 1040 رقم 1999) وهو حديث ضعيف.
(3)
ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 1041 رقم 2000) وهو أثر صحيح.
(4)
(ص189 رقم 210). قلت: وأخرجه في «السنن الكبرى» (10/ 117).
(5)
في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1041 رقم 2002) وهو أثر صحيح.
(6)
في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1041 رقم 2002).
(7)
في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1042 رقم 2003).
(8)
«في جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1043 رقم 2008).
خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم. وأخرجه البيهقي (1) بإسناده ورجاله ثقات.
وأخرج أيضًا ابن عبد البر (2) عن ابن عباس قال: إنما هو كتاب الله وسنة رسوله فمن قال بعد ذلك برأيه فما أدري أفي حسناته أم في سيئاته.
وأخرج (3) أيضًا عن ابن عباس أنه قال: تمتع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس: أرااهم سيهلكون أقول قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم ويقول قال أبو بكر وعمر.
وأخرج (4) أيضًا عن أبي الدرداء أنه قال: من يعذرني من معاوية أحدثه عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم ويخبرني برأيه ومثله عن عباده.
وأخرج (5) أيضًا عن عمر رضي الله عنه (6) قال: السنة ما سنة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة.
وأخرج (7) أيضًا عن عروة بن الزبير أنه قال: لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيمًا حتى أدركت فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني إسرائيل.
وأخرج (8) أيضًا عن الشعبي أنه قال: إياكم والمقايسة فو الذي نفسي بيده لئن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال، ولكن ما بلغكم ممن حفظ عن أصحاب رسول
(1) في «المدخل» (ص 186 رقم 205).
(2)
«في جامع بيان العلم» (2/ 1046 رقم 2013) بإسناد ضعيف.
(3)
في «جامع بيان العلم» (2/ 210 رقم 2381).
(4)
في «جامع بيان العلم» (2/ 1210 رقم 2379).
(5)
في «جامع بيان العلم» (2/ 1047 رقم 2014).
(6)
زيادة من (ب).
(7)
في «جامع بيان العلم» (2/ 1047 رقم 2015) بإسناد صحيح.
(8)
في «جامع بيان العلم» (2/ 1047 رقم 2016) بإسناد ضعيف جدًا.
الله- صلى الله عليه وآله وسلم فاحفظوه. وروى ابن عبد البر أيضًا ذم الرأي والتبرؤ منه والتنفير عنه بكلمات تقارب هذه الكلمات عن مسروق (1) وابن سيرين (2)، وعبد الله ابن المبارك (3)، وسفيان (4)، وشريح (5)، والحسن البصري (6)، وابن شهاب (7).
وذكر الطبري [39] في كتاب تهذيب الآثار له بإسناد إلى مالك (8) قال: قال مالك: قبض رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن تتبع آثار رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم ولا تتبع الرأي فإنه من أتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فاتبعته فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته. أرى هذا لا يتم.
وروى ابن عبد البر (9) عن مالك بن دينارٍ أنه قال لقتادة: اتدري أي علمٍ رفعت،
(1) رقم (2018) بإسناد ضعيف. عن الشعبي عن مسروق قال: لا أقيس شيئًا بشيء، قلت لمه؟ قال: أخاف أن تزل قدميث.
(2)
رقم (2019، 2020). كلاهما بإسناد صحيح.
(3)
رقم (2021) بإسناد صحيح عن عبد الله بن المبارك قال لرجل:» إن ابتليت بالقضاء فعليك بالأثر»
(4)
رقم (2022) بإسناد صحيح، عن سفيان قال:«إنما الدين بالآثار» » إنما الدين بالآثار»
(5)
رقم (2022) بإسناد صحيح عن شريح أنه قال: «إن السنة سبقت قياسكم، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإنكم لن تضلوا ما أخذتم بالأثر»
(6)
رقم (2026) عن الحسن قال: «إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق، فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلّوا وأضلّوا» .
(7)
رقم (2028) بإسناد ضعيف. عن ابن عشاب قال: وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن فقال: «إنّ اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي كان بأيديهم حين استبقوا الرأي وأخذوا فيه» .
(8)
عزاه إليه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (2072).
(9)
في «جامع بيان العلم» رقم (2074).
قمت بين الله وبين عباده، فقلت هذا لا يصلح وهذا يصلح.
وروى ابن عبد البر (1) أيضًا عن الأوزاعي أنه قال: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول.
وروى (2) أيضًا عن مالك أنه قال: ما علمته فقل به ودل عليه وما لم تعلم فاسكت وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء.
وروى (3) أيضًا عن القعنبي أنه دخل على مالك فوجده يبكي فقال: ما الذي يبكيك؟ فقال: يا ابن قعنب إنا لله على ما فرط مني، ليتني جلدت بكل كلمةٍ تكلمت بها في هذا الأمر سوطًا ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي وهذه المسائل وقد كانت لي سعة فيما سبقت إليه.
وروى (4) أيضًا عن سحنون أنه قال: ما أدري ما هذا الرأي سفكت به الدماء واستحلت به الفروج واستحقت به الحقوق.
وروى (5) أيضًا عن أيوب أنه قيل له مالك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب قيل للحمار مالك لا تجتر؟ قال أكره مضغ الباطل!.
وروى (6) عن الشعبي أيضًا أنه قال: «والله لقد بغّض إلى هؤلاء القومن المسجد حتى لهو أبغض من كناسة داري، قيل له من هم. قال هؤلاء الآرائيون وكان في ذلك المسجد الحكم وحماد وأصحابهم» .
(1) في «جامع بيان العلم» رقم (2077) بإسناد حسن.
(2)
في «جامع بيان العلم» رقم (2080) بإسناد صحيح.
(3)
في «جامع بيان العلم» رقم (2081) وهو أثر صحيح.
(4)
في «جامع بيان العلم» رقم (2082) وهو أثر صحيح.
(5)
في «جامع بيان العلم» رقم (2085) بإسناد صحيح.
(6)
في «جامع بيان العلم» رقم (2089) بإسناد ضعيف.
وذكر ابن (1) وهب أنه سمع مالكًا يقول: «لم يكن من أمر الناس [40] ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدًا أقتدى به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام ما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون نكرة هذا ونرى هذا حسنًا ويبقى هذا ولا نرى هذا» . وزاد بعض أصحاب مالك عنه في هذا الكلام أنه قال: «ولا يقولون حلال ولا حرام. أما سمعت قول الله عز وجل: {قل أرءيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون} (2)» .
الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرّمه الله ورسوله.
وروى ابن عبد البر (3) أيضًا عن أحمد بن حنبل أنه قال: رأى الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء إنما الحجة في الآثار.
وروى (4) أيضًا عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: ما أحدث أحد في العلم شيئًا إلا سئل عنه يوم القيامة فإن وافق السنة سلم وإلا فهو العطب.
وقال الشافعي في تفسير البدعة المذكورة في الحديث الثابت في الصحيح (5) من قوله صلى الله عليه وسلم: «خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعةٍ ضلالة» : إن المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث يخالف كتابًا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه البدعة الضلالة.
والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذه الامة وهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر في قيام شهر رمضان نعمت (6) البدعة هذه.
(1) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (2091) بإسناد ضعيف.
(2)
[يونس: 59].
(3)
في «جامع بيان العلم» رقم (2107) بإسناد صحيح.
(4)
أي ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (2116).
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (592/ 867).
(6)
أخرج الأثر مالك في «الموطأ» (1/ 114) والبخاري في صحيحه رقم (2010).
وأخرج البيهقي في المدخل (1) عن ابن مسعود أنه قال: اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
وأخرج (2) عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يكون بعدي رجالٌ يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله، ولا تعملوا برأيكم» .
وأخرج (3) عن عمر أنه قال: اتقوا الرأي في دينكم.
(1)(ص 186 رقم 204) بإسناد صحيح.
قلت: وأخرجه الطبراني في «الكبير» (9/ 198 رقم 8771) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 181) وقال رجاله رجال الصحيح.
(2)
أي البيهقي في «المدخل» (ص 187 رقم 206).
قلت: ورواه أحمد (5/ 325) بنحوه من طريق الحكم بن نافع، عن أبي اليمان، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن خيثم به وإسناده ضعيف لضعف إسماعيل بن عياش في روايته عن غير أهل بلده، وهذا منها.
وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في «زوائد المسند» (5/ 329) من طريق سويد بن سعيد، عن يحيى بن سليم، عن ابن خيثم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه عبيد، عن عبادة بن الصامت، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 356) من طريق عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عبادة.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: تفرّد به عبد الله بن واقد وهو ضعيف.
وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أحمد (1/ 399 - 400) وابن ماجه (2/ 956 رقم 2865) ولفظه: «يلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها» ، فقلت: يا رسول الله، إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال:«تسألني يا عبد الله كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله» .
قلت: حديث عبادة بن الصامت صحيح وكذلك حديث ابن مسعود أيضًا صحيح.
وانظر: «الصحيحة» رقم (590).
(3)
أي البيهقي في «المدخل» (ص 190 رقم 210).
وأخرج (1) عنه أيضًا بسند رجاله ثقات أنه قال: يا أيها الناس أتهموا [41] الرأي على الدين.
وأخرج (2) أيضًا عن عليّ ابن علي بن أبي طالب أنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحقَّ بالمسح من ظاهرهما ولكن رأيت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على ظاهرهما. وهو أثر مشهور أخرجه غير (3) البيهقي أيضًا.
وأخرج البيهقي أيضًا ما يفيد الإرشاد إلى ا تباع الأثر والتنفيرعن اتباع الرأي عن ابن عمر (4) وابن سيرين (5) والحسن (6) والشعبي (7) وابن عون (8) والأوزاعي (9) وسفيان
(1) أي البيهقي في «المدخل» (ص 192 - 193) رقم (217، 218).
(2)
البيهقي في «المدخل» (ص 193 رقم 219).
(3)
كأبي داود رقم (162)، والدارقطني (1/ 199 رقم 23) والبيهقي (1/ 292) والدارمي (1/ 181) وابن أبي شيبة (1/ 181). من رواية عبد خير عن علي رضي الله عنه. وهو حديث حسن.
(4)
قال ابن عمر: «لا يزال الناس على الطريق ما اتبعوا الأثر» . أخرجه البيهقي في «المدخل» رقم (220).
(5)
وأخرج البيهقي في «المدخل» رقم (223) عن ابن سيرين قال: أول من قاس إبليس، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس.
(6)
أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (224) عن الحسن أنه كان يقول: اتهموا أهواءكم ورأيكم على دين الله، وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم ودينكم. وانتصحوا: قال شيخنا: أي تقبلوا النصيحة- كما في الهامش.
(7)
أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (225): عن الشعبي قال: «أما والله لئن اتخذتم بالمقايسة لتحرمن الحلال، ولتحلن الحرام» .
(8)
أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (231) عن ابن عون عن محمد، عن شريح قال: إنما اقتفى الأثر يعني آثار النبي صلى الله عليه وسلم.
(9)
أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (233) عن الأوزاعي قال: عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال، وإن زخرفوه بالقول، فإن الأمر ينجلي، وأنت منه على طريق مستقيم.
الثوري (1) والشافعي (2) وابن المبارك (3) وعبد العزيز (4) بن أبي سلمة وأبي حنيفة (5) ويحي بن آدم (6) ومجاهد (7).
وأخرج أبو داود (8) وابن ماجه (9) والحاكم (10) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
(1) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (235): عن سفيان الثوري قال: «إنما العلم كله العلم بالآثار» .
(2)
أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (249). قال الشافعي: «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت» .
(3)
أخرج البيهفي في «المدخل» رقم (240): عن ابن المبارك قال: «ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث» .
(4)
أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (242): عن عبد العزيز بن أبي سلمة، قال: لما جئت العراق، جاءني أهل العراق، فقالوا: حدثنا عن ربيعة الرأي، قال: فقلت: يا أهل العراق! تقولون ربيعة الرأي لا والله، ما رأيت أحدًا أحفظ لسنه منه.
(5)
أخرجه البيهقي في «المدخل» رقم (245) عن يحي بن ضريس قال: شهدت سفيان، فأتاه رجل، فقال له: ما تنقم على أبي حنيفة؟ قال: وما له؟ قال: سمعته يقول: آخذ بكتاب الله فما لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم
…
».
(6)
أخرج البيهفي في «المدخل» رقم (29) عن يحيى ابن آدم قال: لا يحتاج مع قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد».
(7)
أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (30) عن مجاهد قال: ليس أحدٌ إلا يؤخذ من قوله، ويترك من قوله إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
عزا هذه الآثار الحافظ في «الفتح» (3/ 289): للبيهقي في «المدخل» وابن عبد البر وحكم على أسانيدها بأنها جيادٌ.
وانظر: «إعلام الموقعين» (1/ 73 - 79).
(8)
في «السنن» رقم (2885).
(9)
في «السنن» رقم (54).
(10)
في «المستدرك» (4/ 332). وهو حديث ضعيف.
أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم قال: «العلم ثلاثة فما سوى ذلك فضلٌ: آية محكمة وسنة قائمة وفريضة عادلة» . وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد الأفريقي وعبد الرحمن بن رافع وفيهما مقال.
قال ابن عبد البر (1): السنة القائمة الثابتة الدائمة المحافظ عليها معمولًا بها لقيام إسنادها.
والفريضة العادلة المساوية للقرآن في وجوب العمل بها وفي كونها صدقًا وصوابًا وأخرج الديلمي في مسند الفردوس (2) وأبو نعيم (3) والطبراني في الأوسط (4) والخطيب (5) والدارقطني (6) وابن عبد البر (7) عن ابن عمر بن الخطاب موقوفًا: «العلم ثلاثة أشياء: كتابٌ ناطقٌ، وسنة ماضية، ولا أدري» وإسناده حسن.
وأخرج ابن عبد البر (8) عن ابن عباس أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنما الأمور ثلاثة: أمر تبيّن لك رشده فاتبعه، وأمرٌ تبين لك زيغة فاجتنبه وأمر اختلف فيه فكله إلى عالمه» .
والحاصل أن كون الرأي ليس من العلم لا خلاف فيه بين الصحابة والتابعين وتابعيهم
(1) انظر: «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 752).
(2)
رقم (4197).
(3)
عزاه إليه العراقي في «تخريج الإحياء» (1/ 204).
(4)
(1/ 299 رقم 1001). وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 172) وقال: فيه حصين غير منسوب رواه عن مالك بن أنس، وروى عنه إبراهيم بن المنذر، ولم أر من ترجمه».
(5)
في أسماء من روى عن مالك من رواية عمر بن عصام عن مالك عن نافع عن ابن عمر موقوفًا عليه» تخريج الإحياء» (1/ 203 رقم 184).
(6)
في «السنن» (4/ 68).
(7)
في «جامع بيان العلم وفضله» رقم (1387).
(8)
في «جامع بيان العلم» رقم (1388) بإسناد ضعيف جدًا.
[42]
قال ابن عبد البر (1): ولا أعلم بين متقدَّمي علماء هذه الأمة وسلفها خلافًا أن الرأي ليس بعلم حقيقة، وأما أصول العلم فالكتاب والسنة
…
انتهى.
وقال ابن عبد البر (2): حد العلم عند العلماء والمتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنته وتبيَّنته، وكل من استيقن شيئًا وتبينَّه فقد علمه. وعلى هذا من لم يستيقن الشيء وقال به تقليدًا فلم يعلم.
والتقليد عند جماعة العلماء غير الأتباع لأن الأتباع هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا وجه القول ولا معناه، وتأبى من سواه. أو أن يتبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه، وأنت قد بان لك فساد قوله وهذا يحرم القول به في دين الله سبحانه انتهى.
ومما يدل على ما أجمع عليه السلف من أن الرأي بعلم قول الله عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (3) قال عطاء بن أبي رباح (4) وميمون بن مهران (5) وغيرهما: الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الله هو الرد إلى سنته بعد موته.
وعن عطاء (6) في قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (7) قال طاعة الله ورسوله اتباع الكتاب والسنة «وأولي الأمر منكم» قال أولي العلم والفقه وكذا قال مجاهدٌ (8).
(1)(2/ 765).
(2)
(2/ 765).
(3)
[النساء: 59].
(4)
أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (1413).
(5)
أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» . رقم (1414) بإسناد حسن.
(6)
أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (1417) بإسناد حسن.
(7)
[النساء: 59].
(8)
أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (1418). بسند ضعيف.
ويدل على ذلك من السنة حديث العرباض بن سارية وهو ثابت (1) ورجاله رجال الصحيح قال وعظنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا عضّوا عليها [43] بالنواجذ فإنما المؤمن كالجمل الآنف كلما قيد انقاد» .
وأخرجه أيضًا ابن عبد البر (2) بإسناد صحيح وزاد: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة»
…
وفي رواية (3): «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا ويكفي في دفع الرأي وأنه ليس من الدين قوله الله عز وجل: {أكملت لكم دينكم وأتتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} (4).
فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيه [صلى الله عليه وآله وسلم](5) فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟ إن كان من الدين في اعتقادهم فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم وهذا فيه رد للقرآن، وإن لم يكن من الدين فأي فائدة في الاشتغال بما ليس من الدين.
(1) تقدم مرارًا وهو حديث صحيح.
(2)
في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1164 رقم 2305) بسند صحيح.
(3)
انظر: «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1164).
(4)
[المائدة: 3].
(5)
زيادة من (ب).
وهذه حجة قاهرة ودليل عظيم لا يمكن صاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدًا فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي وترغم به آنافهم، وتدحض به حججهم فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه ولم يمت رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل. فمن جاءنا بشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له الله أصدق منك فاذهب فلا حاجة لنا في رأيك.
وليت المقلدة فهموا هذا الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويُريحوا. ومع هذا فقد أخبرنا في كتابه أنه أحاط بكل شيء فقال: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (1) وقال: [تعالى](2): {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة} (3) ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال: {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} (4) وقال: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا} (5) وقال: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خيبر الفاصلين} (6) وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (7) وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (8) وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (9) وأمر
(1) الأنعام: 38
(2)
زيادة من (ب)
(3)
[النحل: 89]
(4)
[المائدة: 49]
(5)
[النساء: 105]
(6)
[الأنعام: 57]
(7)
[المائدة: 44]
(8)
[المائدة: 45]
(9)
[المائدة: 47]
عباده أيضًا في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم قال سبحانه: {وما آتاكم الرسول فخذوه [44] وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله أن الله شديد العقاب} (1) وقال: {قل إن كنتم تحبونالله فاتبعوني يحببكم الله} (2) وقال: {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} (3) وقال: {أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} (4) وقال: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا} (5) وقال: {من يطع الرسول فقط أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا} (6) وقال: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا} (7) وقال: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين} (8) وقال: {وأطيعوا الله وأطيعوا
(1)[الحشر:7]
(2)
[آل عمران: 31]
(3)
[آل عمران: 132]
(4)
[آل عمران: 32]
(5)
[النساء: 69]
(6)
[النساء: 80]
(7)
[النساء: 59]
(8)
[النساء: 13 - 14]
الرسول وأحذروا فإن توليتم فاعملوا أنما على رسولنا البلاغ المبين} (1) وقال: {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} (2). وقال: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} (3) وقال: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (4) وقال: {وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} (5) وقال: {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا} (6) وقال: {يأ أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} (7) وقال: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} (8) وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (9).
والاستكثار من الاستدلال على وجوب طاعة الله ورسوله لا يأتي بفائدة زائدة فليس أحدٌ من المسلمين يخالف في ذلك، ومن أنكره فهو كافرٌ خارج عن حزب المسلمين. إنما
(1)[المائدة: 92]
(2)
[الأنفال: 1]
(3)
[الأنفال: 46]
(4)
[النور: 54]
(5)
[النور: 56]
(6)
[الأحزاب: 71]
(7)
[سورة محمد: 33]
(8)
[النور: 51]
(9)
[الأحزاب: 21]
أوردنا هذه الآيات الشريفة لقصد تليين قلب المقلد الذي قد جمد وصار كالجلمد فإنه إذا سمع [45] مثل هذه الأوامر القرآنية ربما امتثلها وأخذ دينه عن كتاب الله وسنة رسوله طاعة لأوامر الله تعالى. فإن هذه الطاعة وإن كانت معلومة لكل مسلم كما تقدم لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع القرآنية والزواجر النبوية فإذا ذكر بها ذكر ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين على غير متزحزحين عنه، فإنه يقع في قلبه أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه وما كان مخالفًا له فليس من الإسلام في شيء فإذا راجع نفسه رجع. ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ثم سمع قبل أن يتمرن بالعلم ويعرف ما قاله الناس خلافًا يخالف ذلك المألوف استنكره وأباه قلبه ونفر عنه طبعه، وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس من لا يأتي عليه الحصر، ولكن إذا وازن العاقل بعقله بين من أتّبع أحد أئمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلد ولا مستند لذلك العالم فيها بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل، وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن أو السنة أفاده العقل أن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل بل لا جامع بينهما لأن من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة أولها وآخرها وحيِّها وميتها، وأحدهم هذا العالم الذي تمسك المقلد له بمحض رأيه وهذا العالم هو محكوم عليه بالشريعة لا أنه حاكم فيها وهو تابعٌ لها لا متبوعٌ فيها فهو كمن تبعه في أن كل واحدٍ منهما فرضه الأخذ بما جاء عن الشارع لا فرق بينهما إلا في كون المتبوع عالمًا والتابع جاهلاً.
فالعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون [46] أن يرجع إلى غيره لأنه قد استعد لذلك بما اشتغل به من الطلب والوقوف بين يدي أهل العلم والتخرج بهم في معارف الاجتهاد، والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة على طريقة طلب الدليل واسترواء النص وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها فهم رواة وهو مسترو وهذا عاملٌ بالرواية لا بالرأي،
والمقلد عامل بالراي لا بالرواية لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة. وذلك هو في سؤاله مطالب بالحجة لا بالرأي فهو قبل رواية الغير لا رأيه وهما من هذه الحيثية متقابلان.
فانظر كم الفرق بين المنزلتين. فإن العالم الذي قلده غيره إذا كان قد أجهد نفسه في طلب الدليل ولم يجده ثم اجتهد رأيه فهو معذور. وهكذا إذا أخطأ في اجتهاده فإنه معذورٌ بل مأجورٌ للحديث المتفق عليه (1): «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» .
فإذا وقف بين يدي الله وتبين خطأه كان بيده هذه الحجة الصحيحة بخلاف المقلد له فإنه لا يجد حجدة يدلي بها عند السؤال في موقف الحساب لأنه قلد في دين الله من هو مخطي، وعدم مؤاخذه المجتهد على خطئه لا يستلزم عدم مؤاخذة من قلده في ذلك الخطأ لا عقلاً ولا شرعًا ولا عادةً، فإن استروح المقلد إلى مسألة تصويب المجتهد فالقائل بها إنما قال إن المجتهد مصيب بمعنى أنه لا يأثم بالخطأ بل يؤجر على الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه ولم يقل [47] أنه مصيبٌ للحق الذي هو حكم الله في المسألة، فإن هذا خلاف ما نطق به رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] (2) فيه هذا الحديث حيث قال:«إن أجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ» فانظر هذه العبارة النبوية في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه عند أهل الصحيح والمتلقي بالقبول بين جميع الفرق فإنه قال «وإن اجتهد فأخطأ .. » فقسم ما يصدر عن المجتهد في مسائل الدين إلى قسمين: أحدهما هو فيه (3) مصيب والآخر هو فيه مخطئ فكيف يقول قائلٌ إنه مصيبٌ للحق سواءً أصاب أو أخطأ وقد سماه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم مخطئًا فمن زعم أن مراد
(1) أخرجه البخاري رقم (7352) ومسلم رقم (1716) وقد تقدم.
(2)
زيادة من (ب).
(3)
تقدم توضيح ذلك
القائل بتصويب المجتهدين الإصابة للحق مطبقًا فقد غلط عليهم غلطًا بينًا، ونسب إليهم ما هم عنه براء. ولهذا أوضح جماعة من المحققين مراد القائلين بتصويب المجتهدين بأن مقصودهم أنهم مُصيبون من الصواب الذي لا ينافي الخطأ لا من الإصابة التي هي مقابلة للخطأ فإن تسمية المخطئ مصيبًا هي باعتبار قيام النص على أنه مأجور في (1) خطئه لا باعتبار أنه لم يخطئ فهذا لا يقول به عالم، ومن لم يفهم هذا المعنى فعليه أن يتهم نفسه ويحيل الذنب على قصوره ويقب ما أوضحه له من هو أعرف منه بفهم كلام العلماء.
وإن استروح المقلد إلى الاستدلال بقوله تعالى: {فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (2).
فهو يقتصر على سؤال أهل العلم عن الحكم الثابت في كتاب الله وسنة رسوله حتى يبينوه له كما أخذ الله عليهم من بيان أحكامه لعباده فإن معنى هذا السؤال الذي شرعه الله هو السؤال عن الحجة الشرعية وطلبها من العالم [48] فيكون روايًا وهذا السائل مسترويًا، والمقلد يقر على نفسه بأنه يقبل قول العالم ولا يطالبه بالحجة، فالآية هي دليل الأتباع لا دليل التقليد وقد أوضحنا الفرق (3) بينهما فيما سلف هذا على فرض أن المراد
(1) تقدم ذلك في بداية الرسالة.
(2)
[الأنبياء: 7]
(3)
الفرق بين الأتباع والتقليد:
أن الاتباع هو اتباع الدليل والعمل بالوحي، فقد سمي الله العمل بالوحي اتباعًا في مواضع كثيرة منها: قوله تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} [الأعراف:3] وقوله تعالى: {اتبع ما أوحي إليك من ربك} [الأنعام: 106].
فحمل الاتباع إذن هو كل حكم ظهر دليله من الكتاب والسنة والإجماع، أما محل التقليد فهو محل الاجتهاد فلا اجتهاد ولا تقليد في نصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة، السالمة من المعارض.
ولا يشترط في الاتباع والعمل بالوحي سوى العلم بما يعمل، ولا يتوقف ذلك على تحصيل شروط الاجتهاد.
انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 190 - 201)، و «إرشاد الفحول» (ص881).
بها السؤال العام، وقد قدّمنا أن السياق يفيد أن المراد بها السؤال الخاص لأن الله يقول:{وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (1) وقد قدّمنا طرفًا من تفسير أهل العلم لهذه الآية (2) وبهذا يظهر لك أن هذه الحجة التي احتج بها المقلد هي حجة داحضةٌ على فرض أن المراد المعنى الخاص وهي عليه لا له على فرض أن المراد المعنى العام.
(1)[الأنبياء: 7].
(2)
تقدم في بداية الرسالة.
[أسئلة للمقلدين]
ثم نقول للمقلد أيضًا أنت في تقليدك للعالم في مسائل العبادات والمعاملات إما أن تكون في أصل مسألة جواز التقليد مقلدًا أو مجتهدًا: إن كنت مقلدًا فقد قلدت في مسألة لا يجيز إمامك التقليد فيها لأنها مسألة أصوليةٌ والتقليدُ إنما هو في مسائل الفروع فمذا صنعت في نفسك يا مسكين؟.
وكيف وقعت في هذه الهوة المظلمة وأنت تجد عنها فرجًا ومخرجًا.
وإن كنت في أصل هذه المسألة مجتهدًا فلا يجوز لك التقليد لأنك لا تقدر على الاجتهاد في مثل هذه المسألة الأصولية المتشعبة المشكلة إلا وأنت ممن علّمه الله علمًا نافعًا تخرج به من الظلمات إلى النور.
فما بلك توقع نفسك فيما لا يجوز لها وتقلّد الرجال في دين الله بعد أن أراحك الاله منه واقدرك على الخروج منه.
هذا على ما هو الحق من أن الاجتهاد (1) لا يتبعّض، وأنه لا يقدر على الاجتهد في بعض المسائل إلا من قدر على الاجتهاد في جميعها لأن الاجتهاد [49] هو ملكة تحصل لنفس عند الإحاطة بمعارفه المعتبرة ولا ملكة لمن لم يعرف إلا البعض من ذلك.
فإن استروحت إلى أن الاجتهاد يتبعّض أعدنا عليك السؤال فنقول. هل عرفت أن الاجتهاد يتبعض بالاجتهاد أم بالتقليد؟. فإن كنت عرفت ذلك بالتقليد فالمسألة أصولية لا يجوز التقليد فيها باعترافك واعتراف إمامك. وإن كنت عرفت ذلك بالاجتهاد فهذه
(1) أنظر تفصيل ذلك مفصلًا في «الكوكب المنير» (4/ 473 - 475)، «تيسير التحرير» (4/ 183).
* القول بتجزأ الاجتهاد هو لأكثر المتكلمين والمعتزلة وأكثر الفقهاء، وقال به الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأيده الآمدي وابن الحاجب وابن دقيق العبد وابن السبكي.
انظر إعلام الموقعين (4/ 275) الإحكام الآمدي (2/ 386).
* وقيل لا يتجزأ وقيل يتجزأ في باب لا في مسألةٍ وقيل في الفرائض لا في غيرها.
انظر: إعلام الموقعين (4/ 275).
أيضًا مسألة أخرى من مسائل الأصول أقدرك الله على الاجتهاد فيها فهلا صنعت هذا الصنع في مسائل الفروع فإنك على الاجتهاد فيها أقدر منك على الاجتهاد في مسائل الأصول.
فاصنع من مسائل الفروع هكذا واستكثر من علوم الاجتهاد حتى تصير من أهله ويفرج الله عنك هذه الغمة ويكشف عنك بما علّمك هذه الظلمة فإنك إذا رفعت نفسك إلى الاجتهاد الأكبر فالمسافة قريبة، ومن قدر على بعض قدر على الكل.
ومن عرف الحق في المعارك الأصولية عرفه في المسائل الفروعية وستعرف بعد أن تعرف علوم الاجتهاد كما ينبغي بطلان ما تظنه الآن من جواز التقليد ومن تبعض الاجتهاد، بل لو طرحت عنك العصبية وجردت نفسك لفهم ما حررته لك في هذه الورقات من أوله إلى آخره لقادك عقلك وفهمك إلى أنه الصواب قبل أن تجمع معارف الاجتهاد، فالفهم قد تفضل الله به على غالب عباده والحق لا يحتجب عن أهل التوفيق والإنصاف شاهد صدق على وجدان الحق، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:» أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس» [50] وهو حديث أخرجه الحاكم في مستدركه (1) وصححه وأخرجه أيضًا (2) غيره.
فإن طال بك اللجاج وسلكت من جهالتك في فجاج، وتوقحت غير محتشم، وأقدمت غير محجم، فقلت إن مسألة جواز التقليد هي وإن كانت مسألة أصولية وقد أطبق الناس على أنه لا يجوز التقليد في مسائل الأصول وصار هذا معروفًا عند أبناء جنسي من المقلّدين لكني أقول بأن التقليد فيها وفي سائر مسائل الأصول جائز.
فنقول ومن أين عرفت جواز التقليد في مسائل الأصول هل كان هذا منك تقليدًا أم
(1)(2/ 480) من حديث ابن مسعود وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: ليس بصحيح فإن الصعق وإن كان وثق فإن شيخه منكر الحديث. قاله البخاري.
(2)
كالعقيلي في الضعفاء (3/ 408) في ترجمة عقيل الجعدي من طريق الصعق به.
اجتهادًا؟ فإن قلت تقليدًا فنقول ومن ذاك الذي قلدته فإن قد حكينا لك فيما سبق أن أئمة المذاهب يمنعون التقليد كما يمنعه غيرهم في مسائل الفروع فرضًا عن مسائل الأصول، فإن قلت قلدتهم أو قلدت واحدًا منهم وهو الذي التزمت مذهبه في جميع ما قاله من دون أن تطالبه بحجة فقد كذبت عليه وعللت نفسك بالأباطيل، فإن غيرك ممن هو أعلم منك بمذهبه وأعرف بنصوصه قد نقل عنه أنه يمنع التقليد وإن قلت قلدت غيره فمن هو؟ ثم كيف سمحت نفسك في هذه المسألة بخصوصها بالخروج عن مذهبه وتقليد غيره.
وبالجملة فمن تلاعب بنفسه وبدينه إلى هذا الحد فهو بالبهيمة أشبه، وليت أن هؤلاء المقلدة قلّدوا أئمتهم في جميع ما يقولونه، فإنهم لو فعلوا كذلك لزمهم أن يقلدوهم في مسألة التقليد، وهم يقولون بعدم جوازه كما عرفت سابقًا، وحينئذ يقتدون بهم في هذه المسألة ولا يتم لهم ذلك إلا بترك التقليد في جميع المسائل فيريحون أنفسهم [51] ويخلصون من هذه الشبكة بالوقوع في حبل من حبالها.
ثم نقول لهذا المقلد أيضًا من أين عرفت إن إمامك الذي قلدته مجتهد فإن قال عرفت أنه جامع لعلوم الاجتهاد، فنقول له ومن أين لك هذه المعرفة يا مسكين فأنت تقر على نفسك بالجهل وتكذبها في هذه الدعوى ولولا جهلك لم تقلد غيرك، وإن قال عرفتها بإخبار أهل العلم أن إمامي قد جمع علوم الاجتهاد فنقول هذا الذي أخبرك هل هو مقلد أم مجتهد؟ إن قلت هو مقلد فمن أين للمقلد هذه المعرفة وهو مقر على نفسه بما أقررت به على نفسك من الجهل وإن قلت أخبرك بذلك رجل مجتهد فنقول من أين عرفت أنه مجتهدٌ وأنت مقر على نفسك بالجهل ثم نعود عليك بالسؤال الأول إلى ما لا نهاية له.
ثم نقول للمقلد من أين عرفت أن احلق بيد هذا الإمام (1) الذي قلدته وأنت تعلم أن غيره من العلماء قد خالفه في كل مسألة من مسائل الخلاف إن قلت عرفت ذلك تقليدًا
(1) انظر: إعلام الموقعين (2/ 208 - 211)
فمن أين للمقلد معرفة الحق والمحقين وهو مقر على نفسه بأنه لا يطالب بالحجة ولا يعقلها إذا جاءته فمالك يا مسكين وللكذب على نفسك بما يشهد عليك ببطلانه لسانك، بل يشهد عليك كل مجتهدٍ ومقلد بخلاف دعواك، وإن قلت عرفت ذلك بالاجتهاد فلست حينئذ مقلدًا ولا من أهل التقليد بل التقليد عليك حرام فمالك تغمط نعمة الله عليك وتنكرها والله يقول:{وأما بنعمة ربك فحدث} (1) ورسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» (2) وأثر نعمة العلم أن يعمل العالم بعلمه ويأخذ ما تعبده الله به من الجهة التي أمره الله بالأخذ منها في محكم كتابه وعلى لسان رسوله تلك الجهة هي الكتاب والسنة وكما تقدم سرد أدلة ذلك، وهو أمرٌ متفقٌ عليه لا خلاف فيه [52].
وعلى كل حال فإنت بتقليدك مع كونك قاصرًا ممن عمل في دين الله بغير بصيرة وترك ما لا شك فيه إلى ما فيه شك واستبدل بالحق شيئًا لا يدري ما هو، وإن كنت مجتهدًا فأنت مما أضله الله على علم وختم على سمعه وبصره فلم ينفعه علمه وصار ما علمه حجة عليه ورجع من النور إلى الظلمات ومن اليقين إلى الشك ومن الثريا إلى الثرى فلالعًا لك بل لليدين وللفم.
(1)[الضحى: 11].
(2)
أخرجه الترمذي رقم (2819) بهذا اللفظ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقال: حديث حسن. وهو كما قال.
وأخرجه النسائي (8/ 196 رقم 5294) وأبو داود رقم (4063) والحاكم (4/ 181) وأحمد (3/ 473) وابن سعد (6/ 28) والبيهقي (10/ 10) من طرق عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال:«ألك مال» ؟ قال: نعم، قال:«من أي المال» ؟ قال: قد أتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: «فإذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته» .
وهو حديث صحيح.
هذا إن كان ذلك المقلد يدعي إن إمامه على حق في جميع ما قاله وإن كان يقر بأن في قوله الحق والبالط وأنه بشرٌ يخطئ ويصيب لا سيما في محض الرأي الذي هو على شفا جرف هار فنقول له إن كنت قائلًا بهذا فقد أصبت وهو الذي يقوله إمامك لو سأله سائل عن مذهبه وجميع ما دونه من مسائله، ولكن أخبرنا ما حملك أن تجعل ما هو مشتمل على الحق والباطل قلادة في عنقك وتلتزمه وتدين به غير تارك لشيء منه فإن الخطأ من إمامك قد عذره الله فيه بل جعل له أجرًا في مقابلته كما تقدم تقريره لأنه مجتهد وللمجتهد إن أخطأ أجرٌ كما صرح بذلك رسول (1) الله- صلى الله عليه وآله وسلم فأنت من أخبرك بأنك معذور في اتباع الخطأ؟ وأي حجة قامت لك على ذلك، فإن قلت إنك لو تركت التقليد وسألت أهل العلم عن النصوص لكنت غير قاطع بالصواب بل يجتمل أن الذي أخذت به وسألت عنه هو حق ويحتمل أنه باطل فنقول ليس الأمر كذلك فإن التمسك بالدليل الصحيح كله حق وليس شيء منه بباطل، والمفروض أنك ستسأل عن دينك في عباداتك ومعاملاتك علماء الكتاب والسنة وهم أتقى الله من [53] إن يفتوك بغير ما سألت عنه فإنك إنما سألتهم عن كتاب الله أو سنة رسوله في ذلك الحكم الذي أردت العمل به، وهم بل جميع المسلمين يعلمون أن كتاب الله وسنة رسوله حق لا باطل وهدى لا ضلالة، ولو فرضنا أن المسؤول قصّر في البحث فأفتاك مثلا بحديث ضعيفٍ وترك الصحيح أو بالآية المنسوخة وترك المحكمة لم يكن ع ليك في ذلك بأس فإنك قد فعلت ما هو فرضك واسترويت أهل العلم عن الشريعة المطهرة لا عن آراء الرجال، وليس للمقلد أن يقول كمقالك هذا فيزعم أن إمامة أتقى الله من أن يقول بقول باطل لأنا نقول هو معترف أن بعض رأيه خطأ ولم يأمرك بأن تتبعه في خطئه بل نهاك عن تقليده ومنعك من ذلك كما تقدم تحريره عن أئمة المذاهب وعن سائر المسلمين، بخلاف من سألته عن الكتاب والسنة فأفتاك بذلك فإنه يعلم أن جميع ما في الكتاب والسنة حق
(1) تقدم تخريجه.
وصد وهدى ونور وأنت لم تسأله إلا عن ذلك.
ثم نقول لك أيها المقلد ما بالك تعترف في كل مسألة من مسائل الفروع (1) التي أنت مقلد فيها بأنك لا تدري ما هو احلق فيها ثم لما أرشدناك إلى ما أنت عليه من التقليد غير جائم في دين الله أقمت نفسك مقامًا لا تستحقه ونصبت نفسك في منصب لم تتأهل له فأخذت في المخاصمة والاستدلال لجواز التقليد وجئت بالشبهة الساقطة التي قد قدمنا دفعها في هذا المؤلف فهلا نزلت نفسك في هذه المسألة الأصولية العظيمة المتشعبة [54] تلك المنزلة التي كنت تنزلها في مسائل الفروع فمالك وللنزول في منازل الفحول والسلوك في مسالك أهل الأيدي المتبالغة في الطول، فما هلك امرؤ عرف قدر نفسه فقل هاهنا لا أدري إنما سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فنقول هكذا سيكون جوابك لنكير ومنكر بعد أن تقبر ويقال لك لا دريت ولا تليت كما ثبت بذلك النص الصحيح (2) وإذا كنت معترفًا بأنك لا تدري فشفاء (3) العي السؤال فاسأل من تثق بدينه وعلمه وإنصافه في
(1) انظر: «المسودة» (458 - 460)، «تنقيح الفصول» (ص442)، «الكواكب المنير» (4/ 539).
(2)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (4751) عن أنس بن مالك، قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم دخل نخلا لبني النجار، فسمع صوتا ففزع، فقال:«من أصحاب هذه القبور؟» قالوا: يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية، فقال:«تعوذوا باله من عذاب النار، ومن فتنة الدجال» قالوا ومم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك فيقول له: ما كنت تعبد؟ فإن الله هداه قال: كنت أعبد الله، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، فما يسأل عن شيء غيرها، فينطلق به إلى بيت كان له في النار فيقال له، هذا بيتك كان لك في النار ولكن الله عصمك ورحمك فأبدلك به بيتا في الجنة، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشرأهلي، فيقال له: اسكن، وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره فيقول له: ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيقال له: فما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: كنت أقول ما يقول الناس، فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه، فيصبح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين» .
وهو حديث صحيح.
(3)
تقدم تخريجه.
مسألة التقليد حتى تكون على بصيرة ولو كان إمامك الذي تقلّده حيًا لأرشدناك إليه وأمرناك بالتعويل عليه فإنه أول ناه لك عن التقليد كما عرَّفناك فيما سبق ولكنه قد صار رهين البلى وتحت أطباق الثرى فاسأل غيره من العلماء الموجودين وهم بحمد الله في كل صقع من بلاد الإسلام فالله سبحانه حافظ دينه بهم وحجته قائمة على عباده بوجودهم، وإن كتموا الحق في بعض الأحوال إما لتقيةٍ مسوغة كما قال تعالى:{إلا أن تتقوا منهم تقاه} (1) أو لمداهنة أو طمع في جاه أو مال، ولكنهم على كل حال إذا عرفوا من هو طالب للحق راغب فيه سائل عن دينه سالكٌ مسالك الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكتموا عليه الحق ولا زاغوا عنه فإن كنت لا تثق بأحد من العلماء وثوقك بإمامك الذي نشأت على مذهبه فأرجع إلى نصوصه التي قدّمنا لك الإشارة إلى بعضها وفيها ما ينقع الغلة ويشفي العلة.
(1)[آل عمران: 28].
[نصحية نافعة لمن يتصدر للفتيا والقضاء من المقلّدين]
واعلم أرشدك الله أيها المقلد أنك إن أنصفت من نفسك وخليت بين عقلك وفهمك وبين ما حرَّرناه في هذا المؤلف لم يبق معك شك في أنك على خطر عظيم هذا إن كنت مقتصرًا في التقليد على ما تدعو إليه حاجتك مما يتعلّق به أمر عبادتك ومعاملتك، أما إذا كنت مع كونك في هذه الرتبة [55] الساقطة مرشحًا نفسك لفتيا السائلين وللقضاء على المتخاصمين فاعلم أنك ممتحن وممتحن بك، ومبتلى ومبتلى بك، لأنك تريق الدماء بأحكامك وتنقل الأملاك والحقوق من أهلها وتحلل الحرام لهم وتحرم الحلال وتقول على الله ما لم يقل غير مستد إلى كتاب الله وسنة رسوله بل بشيء لا تدري أحق هو أم باطل باعترافك على نفسك بأنك كذلك، فماذا يكون جوابك بين يدي الله فإن الله إنما أمر حكام العباد أن يحموا بينهم بما أنز الله وأ، ت لا تعرف ما أنزل الله على الوجه الذي يراد به وأمرهم أن يحكموا بالحق وأنت لا تدري بالحق وإنما سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وأمرهم أن يحكموا بينهم بالعدل وأ، ت لا تدري بالعدل من الجور، لأن العدل هو ما وافق ما شرعه الله والجور ما خالفه، فهذه الأوامر لم تتناول مثلك بل المأمور بها غيرك فيكف قمت بشي لم تؤمر به ولا ندبت إليه وكيف أقدمت على الدخول في الحكم بغير ما أنزل الله حتى تكون مما ممن قال فيه:{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (1)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (2)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (3).
(1)[المائدة: 45]
(2)
[المائدة: 47]
(3)
[المائدة: 44]
فهذه الآيات الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله، وأنت لا تدّعي أنك حكمت بما أنزل الله. بل تقر أنك حكمت بقول العالم الفلاني ولا تدري هل ذلك الحكم الذي حكم به هو من محض رأيه أم من المسائل التي استدل عليها بالدليل ثم لا يدري أهو أصاب في الاستدلال أم أخطأ وهل أخذ بالدليل القوي أم الضعيف فانظر يا مسكين ما صنعت بنفسك فإنك لم يكن جهلك مقصورًا عليك بل جهلت على عباد الله فأرقت الدماء وأقمت الحدود وهتكت الحرم بما لا تدري فقبح الله الجهل ولا سيما إذا جعله صاحبه شرعًا ودينًا له وللمسلمين فإنه طاغوت عند التحقيق [56] وإن ستر من التلبيس بستر رقيق فيا أيها القاضي المقلد أخبرنا أي القضاة الثلاثة أنت الذين قال فيهم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم القضاء ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة» (1) والذي في الجنة قاض قضى بالحق وهو يعمل أنه الحق فبالله عليك هل قضيت بالحق وأنت تعلم أنه الحق؟ إن قلت نعم فأنت وسائر أهل العلم تشهدون بأنك كاذب لأنك معترفٌ بأنك لا تعلم بالحق وكذلك سائر الناس يحكمون عليك بهذا من غير فرقٍ بين مجتهدٍ
(1) أخرجه أبو داود رقم (3573) والترمذي رقم (1322) وابن ماجه رقم (2315). والنسائي في «السنن الكبرى» (3/ 461 رقم 5922/ 1) والحاكم في «المستدرك» (4/ 90) وقال: «صحيح الإسناد» ورده الذهبي بقوله: «ابن كثير الغنوي منكر الحديث» .
قال الألباني في الإرواء (8/ 236): «وشيخه حكيم بن جبير مثله أو شر منه فقال فيه الدارقطني: متروك، ولم يوثقه أحد بخلاف البغوي فقد قال الساجي: «من أهل الصدق، وليس بالقوي وذكر له ابن عدي مناكير وهذا كل ما جرح به، وذكره ابن حبان في الثقات» .
فقول الذهبي: منكر الحديث لا يخلو من مبالغة، وقد قال في «الضعفاء»:«ضعفوه ولم يترك» . وهو حديث صحيح.
عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: أثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجلٌ لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار» .
ومقلد وإن قتل بل قضيت بما قاله إمامك ولا تدري أحق هو أم باطل كما هو شأن كل مقدل على وجه الأرض فأنت بإقرارك هذا أحد رجلين: إما قضيت بالحق ولا تعلم بأنه الحق أو قضيت بغير الحق لأن ذلك الحكم الذي حكمت به هو لا يخلو عن أحد الأمرين: إما أن يكون حقصا وإما أن يكون غير حق وعلى كلا التقديرين فأنت من قضاة النار بنص المختار، وهذا ما أظن يتردد فيه أحدٌ من أهل الفهم لأمرين: أحدهما: أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل القضاة ثلاثة وبين صفة كل واحد منهم ببيان يفهمه المقصر والكامل والعالم والجاهل الثاني: أن المقلد لا يدّعي أنه يعلم بما هو حق من لام إمامه ولا بما هو باطل بل يقر على نفسه أنه يقبل قول الغير ولا يطالبه بحجة ويقر على نفسه أنه لا يعقل الحجة إذا جاءته فأفاد هذا أنه حكم بشيء لا يدري ما هو فإن وافق الحق فهو قضى بالحق ولا يدري أنه الحق وإن لم يوافق الحق فهو قضى بغير الحق وهذان هما القاضيان اللذان في النار فالقاضي المقلد على كلا حالتيه يتقلب في نار جهنم فهو كما قال الشاعر:
خذا بطن هرشي (1) أو قفاها فإنه
…
كلا جانبي هرشي لهن طريق (2)
وكما تقول العرب في الشر خيارٌ ولقد خاب وخسر من لا ينجو [57] على كل حال من النار، فيا أيها القاضي المقلد ما الذي أوقعك في هذه الورطة وألجأك إلى هذه العهدة التي صرت فيها على كل حال من أهل النار؟ إذا دمت على قضائك، ولم تتب فإن أهل المعاصي والبطالة على اختلاف أنواعهم هم أرجى لله منك وأخوف له لأنهم يقدمون على المعاصي وهم على عزم التوبة والإقلاع والرجوع وكل واحدٍ منهم يسأله الله المغفرة والتوبة ويلوم نفسه على ما فرط منه ويحب أن لا يأتيه الموت إلا بعد أن يطهر نفسه من
(1) قال الجوهري: في الصحاح (3/ 1027): هرشي ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يُرى منها البحر، ولها طريقان فكل من سلكهما كان مصيبًا.
(2)
ذكره صاحب اللسان (15/ 76).
أدران كل معصية، ولو دعا بأن الله يبقيه على ما هو متلبس به من البطالة والمعصية إلى الموت ليعلم هو وكل سامع إنه يدعو عليه لا له.
ولو علم أنه يبقى على ما هو عليه إلى الموت ويلقى الله وهو متلبس به لضاقت عليه الأرض بما رحبت لأنه يعلم أن هذا البقاء هو من موجبات النار بخلاف هذا القاضي المسكين فإنه ربما دعا الله في خلواته وبعد صلواته أن يديم عليه تلك النعمة ويحرسها عن الزوال ويصرف عنه كيد الكائدين وحسد الحاسدين حتى لا يقدروا على عزله ولا يتمكنوا من فصله وقد يبذل المخذول في استمراره على ذلك نفائس الأموال ويدفع الرشا والبراطيل والرغائب لمن كان له في أمره مدخلا فيجمع بين خسراني الدنيا والآخرة وتسمح نفسه بها جميعًا في حصول ذلك فيشتري بهما النار، والعلة الغائبة والمقصد الأسنى والمطلب الأبعد لهذا المغبون ليس إلا اجتماع العامة عليه وصراخهم بين يديه ولو عقل لعلم أنه لم يكن في رياسة عالية ولا في مكان رفيع ولا في مرتبة جليلة فإنه يشاركه في اجتماع هؤلاء العوام وتطاولهم إليه وتزاحمهم عليه كل من يراد إهانته إما بإقامة حد عليه أو قصاص أو تعزير فإنه يجتمع على واحد من هؤلاء مالا يجتمع على القاضي عشر معشاره بل يجتمع على أهل اللعب والمجون والسخرية وأهل الزمر والرقص والضرب بالطبل أضعاف أضعاف [58] من يجتمع على ذلك القاضي، وهو إذا زهى بركوب دابة أو مشى خادم أو خادمين في ركابه فليعلم أن العبد المملوك والجندي الجاهل والمولد من أبناء اليهود والنصارى يركب دواب أفره من دابته ويمشي معه من الخدم أكثر ممن يمشي معه، وإذا كان وقوعه في هذا العمل الذي هو من أسباب النار على كل حال طلب المعاش واستدرار ما يدفع إليه من الجراية من السحت فليعلم أن أهل المهن الدنيوية كالحائك والحجّام والجّزار والإسكافي أنعم منه فهم يتلذذون بدنياهم ويتمتعون بنفوسهم ويتقلّبون في تنعّمهم هذا باعتبار الحياة الدنيا وأما باعتبار الآخرة
فخواطرهم مطمئنة لأنهم لا يخشون العقوبة بسبب من الأسباب التي هي قوام المعاش ونظام الحياة لأن مكسبهم
حلال وأيديهم مكفوفة عن الظلم فلا يخافون السؤال عن دم أو مال بل قلوبهم متعلقة بالرجاء كل واحد منهم يرجو الانتقال من دار شقوة وكدر إلى دار نعمةٍ وتفضل، وأما ذلك القاضي المقلد فهو منغَّص العيش منكد النعمة مكدَّرة اللذة لانه - لما يرد عليه من خصومة الخصوم ومعارضة المعارضين ومصادرة المتمنّعين من قبول أحكامه وامتثال حله وإبرامه - في هموم وغموم ومكابدة ومناهدة، ومجاهدة ومع هذا فهو متوقعٌ لتحول الحال والاستبدال به وغروب شمسه وركود ربحه وذهاب سعده عن نفسه وشماته أعدائه ومساءة أوليائه فلا تصفو له راحة ولا تخلص له نعمة، بل هو ما دام في الحية في أشد الغم وأعظم النكد كما قال المتنبي (1):
أشد الغم عندي في سرور
…
تيقن عنه صاحبه انتقالا
ولا سيما إذا كان محسودًا معارضًا من أمثاله فإنه لا يطرق سمعه إلا ما يكمده، فحينًا يقال له: الناس يتحدثون أنك غلطت وجهلت وحينًا يقال له قد خالفك القاضي الفلاني أو المفتي الفلاني فنقض حكمك وهدم علمك [59] وغض من قدرك وحط من رتبتك وقد يأتيه المحكوم له منه فيقول له جهاراً وكفاحًا فلان قال لا عمل على حكمك ونحو ذلك من العبارات الخشنة فإن قام وناضل عن حكمه ودافع فهي قومة جاهلية ومدافعة شيطانية طاغوتية قد تكون لحراسة المنصب وحفظ المرتبة والفرار من انحطاط القدر وسقوط الجاه ومع ذلك فهو لا يدري هل الحق بيده أم بيد من نقض عليه حكمه لأن المسكين لا يدري بالحق بإقراره وجميع المتخاصمين إليه بين متسرع إلى ذمه والتشكي منه وهو المحكوم عليه يدّعي أنه حكم عليه بالباطل أو ارتشى من خصمه أو داهنه ويتقرر هذا عنده بما يُلقيه إليه من ينافس هذا المقلد من أبناء جنسه من المقلدة الطامعين في منصبه أو
(1) انظر ديوانه (3/ 224) بشرح أبي البقاء العكبري. ط: دار المعرفة.
أشد الغم: هو السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه، لأنه يراعي وقت زواله، ولا يطيب له السرور، وهذا من أبلغ الكلام وأوعظه فهو يحث على الزهد في الدنيا لمن رزق فيها سرورًا ومكانة لعلمه أنه زائل عنها.
الراجين لرفده أو النيابة عنه في بعض ما يتصرف فيه فإنه يذهب يستفتيهم ويشكو عليهم فيطلبون غرائب الوجوه ونوادر الخلاف ويكتبون له خطوطهم بمخالفة ما حكم به القاضي وقد يعبِّرون في مكاتبهم بعبارات تؤلم القاضي وتوحشه فيزداد لذلك ألمه ويكثر عنده همه وغمه.
هذا يفعله أبناء جنسه من المقلدين، وأما العلماء المجتهدون فهم يعتقدون أنه مبطل في جميع ما يأتي به لأنه من قضاة النار فلا يرفعون لما يصدر عنه من الأحكام رأسًا ولا يعتقدون أنه قاضٍ لأنه قد قام الدليل عندهم على أن القاضي (1) لا يكون إلا مجتهدًا وأن المقلد وإن بلغ في الورع والعفاف والتقوى إلى مبالغ الأولياء فهو عندهم بنفس استمراره على القضاء مصر على المعصية وينزلون جميع ما يصدر عنه منزلة ما يصدر عنه العامة الذين ليسوا بقضاة ولا مفتين فجميع سجلاته التي يكتب عليها اسمه ويحلل فيها الحرام ويحرم الحلال باطلة لا تعد شيئًا بل لو كانت موافقة للصواب لم تعد عندهم شيئًا لأنها صادرة من قاض حكم بالحق وهو لا يعلم به فهو من أهل النار في الآخرة وممن لا يستحق اسم القضاء في الدنيا ولا يحل تنزيله منزلة القضاة المجتهدين في شيء [60].
وبعد هذا كله فهذا القاضي المشؤوم يحتاج إلى مداهنة السلطان وأعوانه المقبولين لديه ويهين نفسه لهم ويخضع لهم ويتردد إلى أبوابهم ويتمرغ على عتباتهم، وإذا لم يفعل ذلك على الدوام والاستمرار ناكدوه مناكدة تجرح صدره وتوهن قدره، ومع هذا فأعوانه الذين هم مستدرون لفوائده والمقتنصون للأموال على يده وإن عظّموه وفخّموه وقاموا بقيامه وقعدوا بقعوده فهم أضّر عليه من أعدائه، لأنهم يتكالبون على أموال الناس ويتم
(1) قال الشيرازي في «المهذب» (20/ 128 - التكملة الثانية للمجموع): «فصل: ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه لقومه عز وجل: {فاحكم بين الناس بالحق} [ص: 26] والحق ما دل عليه دليل، وذلك لا يتعين في مذهب بعينه، فإن قلد عن هذا الشرط بطلت التولية، لأنه علقها على شرط، وقد بطل الشرط فبطلت التولية» .
لهم ذلك بقوة يده ولا سيما إذا كان مغفلاً غير حازم ولا متطلع للأمور فتعظم القالة على الاقضي وينسب ذنبهم إليه ويحمل جورهم عليه فتارة ينسب إلى التقصير في البحث وتارة إلى التغفيل وعدم التيقظ وتارة إلى أن ما أخذه الأعوان فله فيه منفعة تعود إليه لولا ذلك لم يطلق لهم الرشا ولا خلى بينهم وبين الناس وأيضًا أعظم من يذمه ويستحل عرضه هؤلاء الأعوان فإن كل واحد منهم يطمع في أن تكون كل الفوائد له فإذا عرضت فائدة فيها نفع لهم من قسمة تركة أو نظر مكان مشتجر فيه فالقاضي المسكين لابد أن يصيره إلى أحدهم فيوغر بذلك صدور جميعهم ويخرجون وصدورهم قد ملئت غيظًا فينطقون بذمه في المحافل ولا سيما بين أعدائه والمنافسين له وينعون عليه ما قضى فيه من الخصومات الواقعة لديه بمحضرهم ويحرفون الكلام وينسبونه إلى الغلط تارة والجهل أخزى، والتكالبُ على المال حينًا والمداهنة حينًا.
وبالجملة فإنه لا يقدر على إرضاء الجميع بل لابد لهم من ثلبه على كل حالٍ وهو لا يستغنى عنهم فيناله منهم محنٌ وبلايا.
هذا وهم أهل مودته وبطانته والمستفيدون بأمره ونهيه والمنتفعون بقضائه وما أحقهم بما كان يقوله بعض القضاة المتقدمين فإنه كان لا يسمّيهم الأمناء بل يسمّيهم الكمناء، ولا يخرج عن هذه الأوصاف إلا القليل النادر منهم فإن الزمن قد يتنفس في بعض الأحوال بمن لا يتِّصف بهذه الصفة
[61]
.
فهذا حال القاضي المقلد في دنياه وأما حاله في أخراه فقد عرفت أنه أحد القاضيين اللذين في النار ولا مخرج له عن ذلك بحال من الأحوال كما سبق تحقيقه وتقريره فهو في الدنيا مع ما ذكرناه سابقًا من القلاقل والزلازل في نعمه باعتبار ما يخافه من الآخرة من أحكامه في دماء العباد وأموالهم بلا برهان ولا قرآن ولا سنةٍ بل بمجرد جهل وتقليدٍ وعدم بصيرة في جميع ما يأتي ويذر ويصدر ويورد مع ورود القرآن الصحيح الصريح بالنهي عن العمل بما ليس بعلم كقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به
علم} (1) والآيات في هذا المعنى وفي النهي عن اتباع الظن كثيرة جدًا والمقلد لا علم له ولا ظن صحيح ولو لم يكن من الزواجر عن هذا إلا ما قدّمنا من الآيات القرآنية في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (2)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (3)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (4) مع ما في الآيات الأخرى من الأمر بالحكم بما أنزل الله وبالحق وبالعدل ومع ما ثبت من أن من حكم بغير الحق أو بالحق وهو لا يعلم أنه الحق أنه من قضاة النار.
فإن قلت إذا كان المقلد لا يصلح للقضاء ولا يلح له أن يتولى ذلك ولا لغيره أن يوليه فما تقول في المفتي (5) المقلد؟.
أقول: إن كنت تسأل عن القيل والقال ومذاهب الرجال فالكلام في شروط المفتي وما يُعتبر فيه مبسوط في كتب الأصول (6) والفقه، وإن كنت تسأل عن الذي أعتقده وأراه صوابًا فعندي أن المفتي المقلد لا يحل له أن يفتي من سأله عن حكم الله أو حكم رسوله أو عن الحق أو عن الثابت في الشريعة أو عما يحل له أو يُحرم له أو يُحرم عليه لأن
(1)[الإسراء: 36]
(2)
[المائدة: 44]
(3)
[المائدة: 47]
(4)
[المائدة: 45]
(5)
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 195): لا يجوز للمقلد أن يفتي في دين الله بما هو مقلد فيه وليس على بصيرة فيه سوى أنه قول من قلده دينه، هذا إجماع من السلف كلهم، وصرح بهم الإمام أحمد والشافعي رضي الله عنهما وغيرهما.
وانظر: بقية الآراء في الكوكب المنير (4/ 557)
(6)
انظر: «الكوكب المنير» (4/ 550 - 553)«المسودة» (ص545)«إعلام الموقعين» (4/ 254) وما بعدها.
المقّلد لا يدري بواحد من هذه الأمور على التحقيق بل لا يعرفها إلا المجتهد، وهكذا إذا سأله السائل سؤالاً مطلقًا من غير أن يقيِّده [62] بأحد الأمور المتقدّمة فلا يحلّ للمقلد أن يفتيه بشيء من ذلك لأن السؤال المطلق ينصرف إلى الشريعة المطهّرة لا إلى قول قائل أو رأي صاحب رأي. وأما إذا سأله سائل عن قول فلان أو رأي فلان (1) أو ما ذكره فلان فلا بأس بأن ينقل له المقلد ذلك ويرويه له إن كان عارفًا بمذهب (2) العالم الذيب وقع السؤال عن قوله أو رأيه أو مذهبه، لأنه سئل عن أمر يمكنه نقله وليس ذلك من التقول على الله بما لم يقل ولا من التعريف بالكتاب والسنة، وهذا التفصيل هو الصواب الذي لا ينكره منصف.
فإن قلت هل يجوز (3) للمجتهد أن يفتي من سأله عن مذهب رجل معيِّن وينقله له.
قلت يجوز ذلك بشرط أن يقول بعد نقل ذلك الرأي أو المذهب إذا كانا على غير الصواب مقالاً يُصرح به أو يلوح أن الحق خلاف ذلك فإن الله أخذ على العلماء البيان للناس وهذا منه لا سيما إذا كان يعرف أن السائل سيعتقد ذلك الرأي المخالف للصواب وأيضًا في نقل هذا العالم لذلك المذهب المخالف للصواب وسكوته عن اعتراضه إيهام للمقصرين بأنهه حق وفي هذا مفسدة عظيمة فإن كان يخشى على نفسه من بيان فساد ذلك المذهب فليدع الجواب ويحيل على غيره، فإنه لم يسأل عن شيء يجب عليه بيانه فإن ألجأته الضرورة ولم يتمكن من التصريح بالصواب فعليه أن يصرح تصريحًا لا يبقى فيه شك لمن يقف عليه أن هذا مذهب فلان أو رأي فلان الذي سأل عنه السائل ولم يسأل عن غيره.
انتهى ما أردت تحريره بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله له [63].
(1) انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 253 - 273)
(2)
انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 261 - 266).
(3)
انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 261 - 266)