الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(119)
28/ 2
عقد الجمعان في شأن حدود البلدان وما يتعلق بها من الضمان
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج احاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط: (أ)
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: "عقد الجمان في شأن حدود البلدان وما يتعلق بها من الضمان".
2 -
موضوع الرسالة: "فقه".
3 -
أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على خير خلقه وأله. وبعد: فانه ورد سؤال من العلامة المحقق، والفهامة المدقق عز الكمال محمد بن أحمد مشحم كثر الله فوائده
…
".
4 -
اخر الرسالة: "
…
وقد يكون بالتضمين وقد يكون بالالتزام، وإلى هنا انتهى الجواب عن السؤال قال في المنقول منه: حرره المجيب غفر الله له في نهار الاثنين رابع شهر الحجة سنة1212 انتهى من خط المؤلف."
5 -
نوع الخط: خط نسخى عادي.
6 -
عدد الصفحات: 14 صفحة + صفحة العنوان.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
وصف المخطوط: (ب)
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: "عقد الجمان في شأن حدود البلدان وما يتعلق بها من الضمان".
2 -
موضوع الرسالة: "فقه".
3 -
أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على خير خلقه وأله. وبعد: فانه ورد سؤال من العلامة المحقق، والفهامة المدقق
…
".
4 -
اخر الرسالة: "
…
قال في المنقولة منه: حرره المجيب غفر الله له في نهار الاثنين رابع شهر الحجة سنة1212 ".
5 -
نوع الخط: نسخى جيد.
6 -
عدد الصفحات: 12 صفحة + صفحة العنوان.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد الأسطر فيها15 سطرا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
[بسم الله الرحمن الرحيم]
الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على خير خلقه وأله.
وبعد:
فإنه ورد سؤال من العلانة المحقق، والفهامة المدقق، غز الكمال محمد بن أحمد مشحم (1) -كثر الله فوائده- وحاصل السؤال عن شأن حدود البلدان، أى قسمة الأودية التي ليست بمحياة، وصبابات السيول والجبال بين اهل القرية المحيطة بها، فيجعل لأهل هذه القرية من بعضها بعضا من ذلك لا يتعداه أهل القرية الأخرى، بل يختص بالكلأ النابت فيه راعيا، واحتطابا، واحتشاشا من جعل له دون غيره. ومضمون السؤال: هل يسوغ ذلك شرعا؟ وإذا ساغ هل يجوز تضمين من يختص بذلك ما وقع فيه من قتل، أو سلب، أو نهب، وإن لم توجد شروط القسامة، ولا تعين الفاعل، تمسكا بما وقع منه تعالى من عقاب عاقر الناقة هو وغيره، ممن لم يوافقه على فعله، وبقوله تعالى:{واتقواْ فتنة لا تصيبن الذين ظلمواْ منكم خاصة} (2) ثم إذا كان ذلك الحد طريق وقع فيها القتيل، أو النهب، ولا يختص بها أهل بحد، فهل يجوز تضمين أهل بحد؟
وإن كانت القسامة الشرعية غير ثابتة، لأن ترك تضمينهم قد يؤدي إلى أنهم يفعلون فى تلك الطريق من الأفاعيل ما يكون سببا لانقطاع المارة عنها؟ هذا حاصل السؤال، وهو مشتمل على ثلاث مسائل:
الأولى: هل يسوغ شرعا قسمة ما لم يسبق إليه أحد باحياء ولا تحجر بين أهل القرى المحيطة به، ومنع كل واحد من الانتفاع بما حد الآخر من النبات المباح؟، وأقول: هذه الحدود الواقعة في غالب الديار اليمنية لما جاءت به الشريعة المطهرة من وجوه:
(1) تقدمت ترجمته.
(2)
[الأنفال: 25].
الوجه الأول: أنها تستلزم عدم الاشتراك في الكلأ، ومنع بعض من ينتفع به، وهو مشترك بين الناس بنص حديث:"المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء والكلأ والنار" أخرجه أحمد (1)، وأبو داود (2) من حديث أبي خداش عن بع الصحابة مرفوعا. وقد رواه أبو نعيم في الصحابة في ترجمة أبي خداش (3)، ولم يذكر عن بع الصحابة.
وسئل أبو حاتم (4) فقال: أبي خداش لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سماه أبو داود (5) في روايته حبان بن زيد، وهو الشرعبي تابعي معروف.
قال الحافظ في بلوغ المرام (6) ورجاله ثقات. وأخرج هذا اللفظ ابن ماجه (7)[1أ] من حديث ابن عباس، وفي إسناده مقال، ولكنه صححه ابن السكن (8) وزاد فيه:"وثمنه حرام". وأخرجه الخطيب (9) عن ابن عمر وزاد (والملح) وفيه عبد الحكم بن ميسرة. وأخرجه .................
(1) في "المسند"(5/ 364).
(2)
في السنن رقم (3477).
(3)
رقم الترجمة (3188) ورقم الحديث (6764).
(4)
في "كتاب المراسيل"(ص 254 رقم 9545) وعنده أبو حراش.
(5)
في "السنن"(3/ 750 رقم 3477): "
…
عن حبان بن زيد الشرعبي ".
(6)
رقم (9/ 872) بتحقيقنا.
قال الألباني في الإرواء (6/ 8): لقد وهم الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى فأورد الحديث في "بلوغ المرام" باللفظ الشاذ يعني "الناس" بدل "المسلمون" من رواية أحمد وأبي داود، ولا أصل له عندهما البتة، فتنبه ". والحديث عندهما "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار".
وهو حديث صحيح.
(7)
في "السنن" رقم (2472) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار، وثمنه حرام".
وهو حديث صحيح دون قوله "وثمنه حرام".
(8)
ذكره ابن حجر في "التلخيص"(3/ 143).
(9)
ذكره ابن حجر في "التلخيص"(3/ 143).
الطبراني (1) عنه أيا بإسناد حسن، وله عنده طريق أخرى، وأخرجه أبو داود (2) عن بهيسة الفزارية رضي الله عنها وهي بمضمومة، وفتح هاء، وسين مهملة و [ .... ](3) عن أبيها.
وفي الباب أحاديث (4) وجميعها قاضية بأن الكلأ مشترك بين الناس لا يحل لأحد أن يمنعه أحدا، وهذه الحدود المذكورة ليس المراد بها إلا قسمة ما ينبت في المباحات من الكلأ، واختصاص كل أحد بما ينبت في حدة، وإذا أراد صاحب الحد أن يرعى سائمته عقرت أو بعضها.
وقد نشأ عن ذلك فتنة تؤدي إلى قتل نفوس، أو سلب أموال، وقطع سبل. وقد شاهدنا من ذلك وقائع شنيعة، وهكذا إذا أراد غير صاحب الحد أن يحتش أو يحتطب فأقل الأحوال سلب بعض ثيابه، وإهانته.
والحاصل أن المحاماة عن صاحب كل حد على حدة أبلغ عن محاماة كل مالك على ملكه، فإن الأملاك لا يترتب عليها ما يترتب على هذه الحدود من الفتن، وإراقة الدماء، وسلب الأرواح، وهتك الحرم. وهكذا يقع ما خولفت فيه الشريعة المطهرة، وظن فاعله أن غيرها أصلح منها، فإنها جرت عادة الله عز وجل في مثل ذلك أنها تعود المصالح التي يخيل إلى فاعلها أنها مسوغة لمخالفة الشريعة مفاسد محضة، وهذا سر من أسرار الشريعة، وليس بيد من يسوغ هذه القسمة، ورسم هذه الحدود المشئومة إلا تخيل أن ذلك نوع من أنواع المناسب المذكور في الأصول، يسميه من لم يكن له درية بذلك العلم مصالح مرسلة (5)، وهو عند من يعرف علم الأصول من المناسب
(1) في "المعجم الصغير"(2/ 7 - 8 رقم 681 - الروض الداني).
(2)
في "السنن" رقم (3476).
(3)
غير واضحة في المخطوط.
(4)
ستأتي في هذه الرسالة والتي بعدها.
(5)
المصلحة المرسلة: هي المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها.
وقيل: هي الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة للناس أو درء مفسدة عنهم.
تقسم المصالح من حيث اعتبار الشارع إلى ثلاثة أقسام:
1 -
المصالح المعتبرة: وهي ما اعتبرها الشارع بأن شرع لها الأحكام الموصلة إليها كحفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض والمال، فقد شرع الشارع الجهاد وقتال المرتد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحد الشرب لحفظ العقل، وحد الزنى والقذف لحفظ العرض، وحد السرقة لحفظ المال. وعلى أساس هذه المصالح المعتبرة وربطها بعللها وجودا وعدما جاء دليل القياس فكل واقعة لم ينص الشارع على حكمها، في علة هذا الحكم. فإنها تأخذ نفس الحكم المنصوص عليه.
2 -
المصالح الملغاة: وهي المصالح التي ليس لها شاهد اعتبار من الشرع بل شهد الشرع بردها وجعلها ملغاة.
وهذا النوع من المصالح مردود، لا سبيل إلى قبوله، ولا خلاف في إهماله بين المسلمين فإذا نص الشارع على حكم في واقعة، لمصلحة استأثر بعلمها، وبدا لبعض الناس حكم فيها، مغاير لحكم الشارع، لمصلحة توهموها، ولأمر ظاهر - تخيلوا أن ربط الحكم به يحقق نفعا أو يدفع ضررا - فإن هذا الحكم مرفوض لأن هذه المصلحة التي توهموها مصلحة ملغاة من الشارع ولا يصح التشريع بناء عليها لأنها معارضة لمقاصد الشارع.
ومن أمثلة هذا النوع: التسوية بين الذكور والإناث في الإرث: فهي مصلحة متوهمة: وهي ملغاة، بدليل قوله تعالى:{يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11].
3 -
المصالح المرسلة: وهي المصالح التي لم ينص الشارع على إلغائها ولا اعتبارها
وهذه هي المصالح المرسلة عند الأصوليين، فهي مصلحة: لأنها تجلب نفعا وتدفع ضرا
…
وهي مرسلة لأنها مطلقة عن اعتبار الشارع أو إلغائه
فهي إذا تكون من الوقائع المسكوت عنها وليس لها نظير منصوص على حكمه حتى نقيسها عليه وفيها وصف مناسب لتشريع حكم معين من شأنه أن يحقق منفعة، أو يدفع مفسدة
…
مثل المصلحة التي اقتضت جمع القرآن.
ضوابط المصلحة المرسلة:
1 -
إندراجها في مقاصد الشارع.
2 -
عدم معارتها لكتاب الله الكريم.
3 -
عدم معارتها لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
4 -
عدم معارتها للقياس الصحيح.
5 -
عدم تقويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها.
مجال العمل بالمصالح المرسلة:
1 -
لم يعمل -القائلون بحجية المصالح المرسلة - بها في جميع الأحوال ولكن اقتصر عملهم بها في نطاق المعاملات وذلك لأن المصلحة يمكن الوقوف عليها في المعاملات إذ هي معقولة المعنى.
2 -
لا خلاف بين العلماء في أن العبادات لا يجري فيها العمل بالمصالح المرسلة، لأن أمور العبادة سبيلها التوقيف، فلا مجال فيها للاجتهاد والرأي، والزيادة عليها ابتداع في الدين والابتداع مذموم.
3 -
انظر: "إرشاد الفحول"(ص 790 - 794)، "تيسير التحرير"(4/ 171)، "الكوكب المنير"(4/ 432 - 436).
الملغي (1)، ولم نسمع عن عالم من علماء الاجتهاد أنه يسوغ هذه الحدود، بل جميع من مال إلى تسويغها مقلدة مع أن محققيهم ينكرون ذلك كما روي عن المفتي والقاضي عامر الذماري، والسيد أحمد بن علي الشامي.
الوجه الثاني: أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن منع الكلأ، فأخرج ابن ماجه (2) بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لا يمنع الماءوالنار والكلأ".
وأخرج الشيخان (3) وغيرهما (4) من حديثه أيا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ" فنهاهم عن منع فضل الماء (5) لتوصلهم
(1) في "السنن"(2473) وهو حديث صحيح.
(2)
في "السنن"(2473) وهو حديث صحيح.
(3)
البخاري في صحيحه رقم (2353) ومسلم رقم (36/ 1566).
(4)
كأحمد (2/ 244) والترمذي رقم (1272) وابن ماجه رقم (2478).
(5)
قال القرطبي في "المفهم"(4/ 442): "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" وفي لفظ "لا يبع" فمعناه أن الإنسان السابق للماء الذي في الفيافي إذا منعه من الماشية فقد منع الكلأ وهو العشب الذي حول ذلك الماء من المرعى، لأن البهائم لا ترعى إلا بعد أن تشرب، وهذه اللام سماها النحويون لام كي فهي لبيان العاقبة، والمآل كما قال تعالى:{فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} [القصص: 8] وهذا الحديث يفيد النهي عن بيع الكلأ، وهو حجة لمالك في القول بسد الذرائع
…
"
بمنعه إلى منع الكلأ، والنهي عن الوسيلة إلى الشيء يستلزم النهي عنه بالأولى.
وأخرج أحمد (1)، والطبراني (2) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم[1ب] قال:"من منع فل مائه أو فضل كلئه منعه الله عز وجل فل يوم القيامة" وفي إسناده ليث بن أبي سليم (3)، وفي الباب أحاديث، وجميعها قاض بالنهي عن منع الكلأ، وحدود البلدان لا يراد بوضعها إلا منع كل صاحب حد لغيره عن الانتفاع بما فيه من الكلأ (4) ونحوه.
الوجه الثالث: أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم المنع من الحمى.
(1) في "المسند"(2/ 221).
(2)
في "المعجم الصغير "(1/ 37) وفي "الأوسط" رقم (1195).
وأورده الهيثمي في "المجمع"(8/ 154) وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه محمد بن الحسن الفردوسي عفه الأزدي بهذا الحديث.
(3)
قال ابن حجر في "التقريب" رقم (5685): "صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك، من السادسة، مات سنة 148 هـ."
(4)
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (10/ 228 - 229) أما النهي عن بيع فضل الماء ليمنع بها الكلأ فمعناه: أن تكون لإنسان بئر مملوكة له بالفلاة وفيها ماء فاضل عن حاجته ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء الا هذه فلا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا اذا حصل لهم السقي من هذه البئر فيحرم عليه منع فضل هذا الماء للماشية ويجب بذله لها بلا عوض لأنه إذا منع بذله امتنع الناس من رعى ذلك الكلأ خوفا على مواشيهم من العطش ويكون بمنعه الماء مانعا من رعي الكلأ ويحتمل أنه في غيره ويكون نهي تنزيه قال أصحابنا يجب بذل فضل الماء بالفلاة وذلك بشروط منها:
1 -
أن لا يكون ماء آخر يستغنى به.
2 -
أن يكون البذل لحاجة الماشية لا لسقي الزرع.
3 -
أن لا يكون مالكه محتاجا إليه.
واعلم أن المذهب الصحيح أن من تبع في ملكه ماء صار مملوكا له وقال بعض أصحابنا لا يملكه.
أما إذا أخذ الماء في إناء من الماء المباح فإنه يملكه هذا هو الصواب وقد نقل بعضهم الإجماع عليه، وقال بعض أصحابنا لا يملكه بل يكون أخص به وهذا غلط ظاهر.
وأما قوله لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ فمعناه أنه إذا كان فضل ماء بالفلاة كما ذكرنا وهناك كلأ لا يمكن رعيه الا إذا تمكنوا من سقي الماشية من هذا الماء فيجب عليه بذل هذا الماء للماشية بلا عوض ويحرم عليه بيعه لأنه إذا باعه كأنه باع الكلأ المباح للناس كلهم الذي ليس مملوكا لهذا البائع وسبب ذلك أن أصحاب الماشية لم يبذلوا الثمن في الماء لمجرد إرادة الماء بل ليتوصلوا به إلى رعي الكلأ فمقصودهم تحصيل الكلأ فصار ببيع الماء كأنه باع الكلأ والله أعلم.
فأخرج البخاري (1) وأحمد (2)، وأبو داود (3) من حديث الصعب بن جثامة أن النبي- صلى الله عليه وسلم حمى النقيع- بالنون- وقال:"لا حمى إلا لله ولرسوله"
وفي الباب احاديث وهي متضمنة لاحتصاص الحمى بالله وبرسول، وأله لا يجوز لأحد من الأمة أن يحمي حمى، ولهذا قال الشافعي (4) ليس لأحد من المسلمين أن يحمي إلا ما حماه النبي- صلى الله عليه وسلم.انتهى.
والعله في منع الحمى أنه يستلزم منع الكلأ عن أهل الحاجة إليه من المسلمين، وهذه
(1) في صحيحه رقم (2370) وطرفه رقم (3013).
(2)
في "المسند"(4/ 37، 71، 73).
(3)
في "السنن"رقم (3083، 3084).
(4)
في"الأم"(4/ 48) وانظر"المعرفة"للبيهقي (9/ 14رقم12194، 1، 12195) ونص قول الشافعي"يحتمل الحديث شيئين:
1 -
ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلا ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
والآخر معناه: إلا على مثل ما حماه عليه النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الأول ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي وعلى الثاني يختص الحمى بمن قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخليفة خاصة. ورجح هذا الثاني ما ذكره البخاري في صحيحه (5/ 44 بعد الحديث رقم2370) عن الزهري تعليقا. أن عمر حمى الشرف والربذة .... ".
الحدود هي نوع من هذا، لأن أهل كل حد يحمي حده من غيره ويقاتل دونه، مع أنه خال عن المصلحة الكائنة في الحمى في بعض الحالات، لأن الحمى قد يكون خيل الجهاد كما فعله النبي- صلى الله عليه وسلم في احتمائه للنقيع، فانه أخراج أحمد (1) من حديث ابن عمر"أن النبي- صلى الله عليه وآهل وسلم-حمى النقيع للخيل خيل المسلمين".
وأخرج البخاري (2) عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر احتمى لذلك، وهكذا الآن، فان بعض أهل البلدان قد يجتمع رأيهم على أن يمنعوا رعاتهم من بعض المواضع المختضة بهم، ويسمون ذلك محجرا، ويجعلونه ذخرا لهم إذا أجدبت أرضهم فهذا وإن كان مخالفا للشريعة المطهرة لكنه لا ينشامنه ما ينشا من الحدود من الفتن الكبار.
الوجه الرابع: أنه قد ثبت عن- صلىالله عليه وآله وسلم- أنه قال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له"أخرجه ............................
(1) في"مسنده"رقم (5655 - شاكر) باسناد صحيح.
(2)
في صحيحه رقم (3059).قلت: وأخرجه أبو عبيد في"الأموال"(ص274رقم741) والبيهقي في"السنن الكبرى"(6/ 146، 147) و"المعرفة"(9/ 14، 15رقم12197) البغوي (8/ 273، 274، 2191) ومالل في"الموطأ"(2/ 1003رقم1) عن زيد بن أسلم عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مول له يدعى هنيا على الحمى فقال: يا هنى اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المسلمين فان دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياي ونعم ابن عوف ونعمابن عفان، فانهما إن تهلك ما شيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتى ببنيه فيقول: يا أمير المؤمنين. أفتاركهم أنا؟ لا أبا لك فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق. وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتم، إنها لبلادهم، فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا".
أبو داود (1) من حديث أسمر بن مضرس، وصححه الضياء في المختار (2) وقال البغوي (3): لا أعلم بهذا الإسناد غير هذا الحديث.
وفي الباب غير ما ذكر، وجمعه يدل على أن من سبق إلى شيء من الكلأ لم يسبق إليه غيره باحياء، ولا تحجر، ولا قطع كان أحق به، والحدود تستلزم أن ما كان في الحد فهو لصاحبه [1أ]، وإن سبق إليه من سبق. هذا جملة ما خطر بالبال عند تحرير هذه الكلمات من الأدلة الدالة على على مخالفة هذه الحدود لما شرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته، وبعضها يكفي في إبطال ما يستند إليه الواضعون لذلك، من كونه مصلحة مرسلة، فإن من شرط المصالح المرسلة (4) عند جميع من قال بها عدم مصادمة الدليل، وهذه قد صادمت هذه الأدلة الكثيرة فلم يكن منها وهكذا جميع أنواع المناسب ما عدا الملغي منه، فإنه المناسب المصادم للدليل (5)، ولهذا ذكرنا فيما تقدم أن حدود البلدان من ذلك، ثم قد تقرر في الأصول من اعتبار المصلحة إنما يكون مؤثرا إذا كانت تلك المصلحة خالصة عن المفسدة، أما إذا كانت غير خالصة عن المفسدة فلا خوف أنها غير معتبرة، لأن دفع المفاسد أول من جلب المصالح. وقد عرفت مما تقدم ما ينشأ عن هذه الحدود من المفاسد.
المسألة الثانية من مسائل السؤال: أنها إذا ساغت الحدود المذكورة، فهل يجوز تضمين من يختص بذلك من قتل، أو سلب، أو نهب؟.
المسألة الثالثة من مسائل السؤال: أنه إذا كان في ذلك الحد طريق وقع فيها القتل والنهب، ولا يختص بها أهل الحد، فهل يجوز تضمين أهل الحدود وإن كانت القسامة.
(1) في "السنن"رقم (3071) وهو حديث ضعيف.
(2)
ذكره ابن حجر في"التلخيص"(3/ 129).
(3)
انظر"مصابيح السنة"(2/ 369رقم2215).
(4)
تقدم ذكر ذلك.
(5)
في المخطوط (لديل) ولعل الصواب ما أثبتناه.
الشرعية غير ثابتة، لأن ترك تضمينهم قد يؤدي ألى أنهم يفعلون في تلك الطريق من الأفاعيل ما يكون سببا لانقطاع المارة عنها؟.
أقول: الجواب عن هاتين المسألتين يحتاج ألى تقديم مقدمة، هى أن الله تعالى تعبد عباده بأحكام أنزل بها كتبه، وأرسل بها أنبياءه، ولم يشرع لهم الاقتداء بأفعاله وصفاتة، فمن قال أنه يسوغ له تعذيب عباد الله أو قتلهم، لأن الله- سبحانه- يبتليهم بالأمراض والمحن، أوقال أنه يجوز له تسليط بعضهم على بعض، أو تسخير بعضهم لبعض، أو ما يعود عليهم ينقص في الأموال والأنفس، لأن الله قد يفعل ذلك، لأن هذا القائل في عدد العلماء، بل لا يكون في عدد العقلاء، فلله المثل الأعلى. قال الله- عز وجل: قال تعالى (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون)(1) ومن هاهنا
(1)[الأنبياء: 23].
قال القرطي في"الجامع لأحكام القرآن"(7/ 391): قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر-بين أظهرهم فيعمهم العذاب، وهذا التأويل تعضده الأحاديث الصحيحة ففي صحيح البخاري رقم (3346) ومسلم رقم (2880) عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، أهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاهم وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقتا في نصيبنا خرقا، ولو نؤذ من فوقنا، فان تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".
أخرجهالبخاري رقم (2493) والترمذي رقم (2173) ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم قال: "فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلن من الأمم، كما في قصة السبت حين هجروا المعاصين وقالوا لانساكنكم وبهذا قال السلف. وروى البخاري في صحيحة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم".
فهذا يدل على أن الهلاك العام منه ما يكون طهرة للمؤمنين ومنه ما يكون نقمة للفاسقين. انظر: "جامع البيان"لابن جرير الطبري (6/ج9/ 318).
تعلم بطلان استدلال بعض المتأخرين على جواز تغريم أهل قرية من القرى، أو مدينة من المدن ما يوجدفي حدودهم أو طرقهم الخاصة بهم، أوالعامة لهم [2ب] ولغيرهم من جنايات، أو أموال منهوبة، أو نفوس مسلوبة، حيث لا يصح القسامة الشرعية بما فعله تعالى من معاقبة قوم عاقر الناقة، وشمول العذاب للفاعل ولغيره، فان هذا فعل من لا يسأل عما يفعل، وأبطل من هذا استدلال من استدل على ذلك بقوله تعالى:(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)(1) فان هذه الأية ليس فيها إلا التحذير عن أسباب الفتن، فانها إذا غلت مراجلها، وسطعت شررها، وأطل قتامها لا تدور على مسعر لهبها، ومثير عجاجها، بل تطحين كل مالاقت، وتدك كل ماتجد، كائنا ما كان. وقد ذكرت العرب هذا في أشعارها كما قال الحارث بن عباد:
لم أكن من جناتها- علم الله-
…
واني لحرها اليوم صالي
وقال الآخر:
وجرم جره سفها قوم
…
فحل بغير جارمه العقاب
فالمراد من الأية الكريمة التحذير لمن يتلبس بأسباب الفتن عن أن يدع الحد والاجتهاد في دفع تلك الأسباب، وهذا هو معنى اتقائها الذي أمرنا الله به، لأن التفريط في هذا الارتقاء يؤدى إلى إصابة الفتن لمن تلبس بأسبابها ومن لم يتلبس، وما كان هذا ماله فما أحقهبأن يتقيه كل أحد، وأكثر ما تكون هذا الإصابة العامة في الفتن الجاهلية، أو ما يلتحق بها من الفتن الواقعة في الإسلام على غير منهج الشرع، وقانون العدل،
(1)[الأنفال: 25].
فكيف يحق الاستدلال بهذه الآية على جواز تعميم العقوبة منا لمن تعلم أنه لم يكن من تلك الجناية في شيء!؟ مع أن الله لم يشرع فيها لأهل الفتن أن يصيبوا بها المذنب وغيره، ولا قال: إنه يحل لهم ذلك، أويجوز بل قال: إن الفتن من شأنها إصابة من كان ظالما، ومن كان غير ظالم مع نهيه عنها وأمره باتقاء أسبابها، بل ثبت عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أنه جعل هذه الفتن التي يكون فيها البريء كغيره من علامات القيامة وآيات قرب الساعة. وأين يقع هذا الستدلال من استدلال من استدل على أصالة المنع بقوله تعالى (ولا تأكلوا أمولكم بينكم بالباطل) (1) وبماصح [3أ] عنه صلى الله عليه وآله وسلم وتواتر تواترا معنويا من قوله- صلى الله عليه وآله وسلم:"إن دماءكم وأموالكم وأعرضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا"ٍ (2) الحديث، وبقوله- صلى الله عليه وآله وسلم:"لا يحل ماء امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه"(3) فهذه الآية قاضية بأنه لايحل من مال أحد من المسلمين مثقال ذرة إلا بحقه، وهو ما ذكره الله تعالى من طيبة نفسه، أوما كان بالحق كما يدل عليه قوله تعالى:(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)(4) وهذه الأدلة الشرعية يعدها الدلالة العقلية، فان أخذ المال من صاحبه بغير وجه شرعي يستلزم إيلام صاحبه وترره في الغالب، ولا سيما إذا أجحف بماله وهو قبيح عقلا. وقد خصصت تلك الأدلة الشرعية بأمور منها: القسامة، فانها مستلزمة لتغريم من لا ذنب له في الغالب، ولهذا عدها أهل العلم مما ورد على خلاف القياس، لأن منهج هذه الشريعة المطهرة أن لا يؤخذ البريء بذنب المذنب. قال الله- عز وجل (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(5)، وقال: .........................
(1)[البقرة: 188].
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
[البقرة: 188].
(5)
[الأنعام: 164].
(لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)(1) وقال: (لتجزى كل نفس بما تسعى)(2) وقال- صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يجني جان إلا على نفسه"(3) وقال- عز وجل في تسويغ المعاقبة {وإن عاقبتهم فعاقبواْ بمثل ما عوقبتم به} (4) وقال: {وجزاء سيئة مثلها} (5) وقال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (6).
(1)[البقرة: 286].،
(2)
[طه: 15].
(3)
أخرجه الترمذي رقم (2248) وأبو داود رقم (3318) وأحمد (4/ 186) والنسائي (6/ 247) وابن ماجه رقم (3055) والطبراني في الكبير (17/ 31\ 32 - رقم58) من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه
…
وهو حديث صحيح.
(4)
[النحل: 126].
(5)
[الشورى: 40].
(6)
[البقرة: 194] قال الشوكاني في "فتح القدير"(2/ 318): في قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} : ومن شدة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه، وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه، ولا يعذب إلا بجنايته فيمكن حمل ما في هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض، ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة، والله أعلم ويمكن أن يقال: إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبات بأسباب كترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فتكون الأسباب المتعدية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم".
وأخرج أبو داود رقم (4338) والترمذي رقم (2168) عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا أيها الناس: إنكم تقرؤون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} [المائدة: 105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".
وهو حديث صحيح.
وانظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (28/ 212 - 215).
وأما ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم من أخذ الجار بالجار، والقريب بالقريب كما في بعض الأحاديث فلعل ذلك كان قبل استقرار الأحكام الإسلامية، وفي مبادىء الإسلام. وقد كانت الجاهلية هكذا فأنزل الله من الأيات القرآنية وأجرى على لسان رسوله من الأحاديث النبوية مالا يبقى بعده ريب لمرتاب. ومن هاهنا يلوح أن هذا الأمور التي تقع في كثير من الأقطار اليمنية، ويتعارف بها كثير من أهلها، ويعمل عليها امراؤها وقضاتها من تغريم اهل قرية من القرى، أو عشيرة من العشائر جميع ما يقع في حدود بلادهم من قتل، او سلب، أو جناية على بدن أو مال بدون وجود المناط الشرعي وهو القسامة، أو ضمان العاقلة ليست من الشرع في قبيل ولا دبير، ولا ورد ولا صدر.
ومن هذا تضمين أهل القرى المحيطة بالطرق العامة التي يسلك فيها الناس من مدينة إلى مدينة، ومن قطر إلى قطر، فان ذلك بلأحكام الطاغوتية أشبه [3ب] منه بالأحكام الشرعية.
فان قلت: إذا لم يقع التضمين انقطعت السيل، وذهبت الأموال والأموال والأرواح، وتسلط شرار الناس على خيارهم حتى يرتفع الأمن بالكلية، ولا سيما مع فساد أديان البدوان، وغالب الأعراب المجاورين للطرقات.
قلت: هذا خيال مختل، ووسوسة شيطانية من عدو الله إبليس أراد أن يزحلق بها هذه الأمة من الأحكام الشرعية إلى الأحكام الشيطانية، فان من تأمل أحوال سلف هذه الأمة وخلقها إلى عصرنا هذا وجد التدبير بالقوانين الشرعية ما كان فيه إلا وكانت من الأمن والدعة بمحل لا يساويها فيه غيره، ومن شك في هذا فليتدبر ما كان في هذه الدول
الإسلامية منذ أيام النبوة الآن، فانك لا ترى ملكا من الملوك، ولا أميرا من الأمراء، ولا إماما من الأئمة يؤمن بالعدل، وحسن السيرة، واقامة حدود الشريعة كما هي إلا ورأيت في بلاده ورعيته من النظام، واستقامة الأمور، وصلاح أحوال العامة والخاصة، وأمن السبل، وذهاب التظالم بالكلية ما يعلم به أن تدبير الشارع هو التدبير المشتمل على مصالح المعاش والمعاد، وبعكس هذا ما يخيل له الشيطان أن تدبير المماليك، وصلاح الأمة بالقوانين الشيطانية، والرسوم الطاغوتيه أصلح لها، وأول من أدخل هذه القوانين الكفرية إلى المماليك الإسلامية جنكيز خان (1) ملك التتر، فانه لما كان هو أهل مملكته لا يرجعون إلى شريعة من الشرائع، ولا ينتمون إلى دين من الأديان اخترع لهم كتابا من عند نفسه سماه"إلياسا"(2) ذكر فيه امورا من التدبيرات الخاصة والعامة، ومراسيم المملوك والرعية، وألزم رعيتهم بها وعملهم عليها بالسيف، ثم إنه أسلم بعض ذريته وبقي
(1) كان اسمه"نمرجي"ثم لما عظم سمي نفسه جنكيز خان، توفي سنة624ه ..... وهو السلطان الأعظم عند التتار وهو الذي وضع للتتار- إلياسا-"بالعربية سياسة"يتحاكمون اليها ويحكمون بها وأكثرها مخالف للشرائع الله تعالى وكتبه فلهذا لا يعرف أب لأن أمه زعمت أنها حملته من شعاع الشمس والظاهر أنه مجهول النسب.
انظر: "البداية والنهاية"(13/ 127 - 130).
وانظر غزو جنكيز خان لمناطق من العالم الإسلامي أحداث سنة 617 هـ
…
في تاريخ ابن الأثير (12/ 137 - 135).
(2)
وقد ذكر علاء الدين الجويني نتفا من (إلياسا) أنه من زنا قتل، محصنا كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل ومن تعمد الكذب قتل ومن سحر قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل ومن أطعم أسيرا أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل .. ومن ذبح حيوانا ذبح مثله .... "وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله، خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى (والياسا)؟؟.
"البداية والنهاية"(13/ 128).
فيهم الملك في أرض الإسلام حتى انفرضوا، وانتقلعنهم إلى غيرهم من سائر بطون التتر، ومن الجراكسة وأشباههم فعملوا فيها بهذا الكتاب في الأمور المتعالمة بالملك، مع إسلامهم وعملهم في غير ذلك بأحكام الشريعة المطهرة. والسبب في ذلك أن الشيطان سول اهم أن الملك لا يصلح بالتدبيرات الشرعية، ولا يقوم بغير تلك الرسوم الكفرية كما ذكر ذلك غير واحد من المتاجمين لتلك الدول كالمقريزي في الخطط والآثار (1) وغيره. وثم إن عامة مصر أدخلوا [4أ] على لفظ ذلك الكتاب شيئا مهما فقالوا سياسيا (2) وبعضهم يقلب الألف الآخرة هاء فيقول سياسة كما هو المعروف الآن، ثم تزايد الشر ووجد الشيطان المجال لما يرومه من الإضلال، فلم يدع مملكة من الممالك، ولا قطر من الأقطار إلا وفيه من هذه القوانين الكفرية نصيب. ومن عرف الأمور كما هي عرف ما وصفناه، وإذا أنكر العالم شيئا من تلك القوانين الطاغوتية على ملك أو أمير أجابه بأن هذه قوانين سلطانية، أو قواعد ملوكية، أو مراسيم دولية، وكأن هذه الشريعة المحمدية لم ترد إلا لتدبير الناس فيما يرجع إلى دينهم دون دنياهم، ولو عقلوا لعلموا علما يقينا أن صلاح أمور الدين والدنيا كله في الهدي المحمدي، والشرع المصطفوي.
وانظر ما وقع من واضع الكتاب إلياسا من التدبير الذي هو التدمير لأكثر العالم خصوصا هذه الأمة المرحومة، فان جنكيز خان- لعنه الله- كاد أن يستاصل الإسلام، وبمحق آثارأهله، فانه خرج من بلاده إلى ما وراء النهر كبخارى، وخوارزم، وسمرقند،
(1)(2/ 220): كلمة أصلها (ياسة) فحرفها أهل مصر وزادوا بأولها سينا فقالوا سياسة وأدخولوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية وما الأمر فيها وقد انتشرت بمصر والشام وذلك أن جينكز خان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه (ياسه) ومن الناس من يسميه (يسق) والأصل في اسمه (ياسه) ولم تمم وضعه كتب ذلك نقشا في صفائح الفولاذ وجعله شريعة لقومه فالتزموه بعده حتى قطع الله دابرهم وكان جنكز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض ...... فصار (الياسه) حكما بقي في أعقابه لا يخرجون عن شيء من حكمه.
(2)
انظر التعليقة السابقة.
وسائر تلك المدائن العظام فكان يقتل الرجال والنساء والصبيان حتى لا يبقى من أهل المحل صغير ولا كبير، ثمثم يخرب الدور ويغور النهور، ويقطع الشجر، ويهدم المساجد والبيع، والكنائس، فلا يخرج من بلد من البلدان، أومدينة من المدن إلاوقد صارت خاويةليس بها منزل ولا نازل. ثماستمر على هذا الأسلوب حتى دمرأكثر الأرض بطولها والعرض خصوصا بلاد الإسلام، ثم وافاه الحكام، وأراح الله منه أهل الأسلام، فلزم طريقته الملعونة، وتدبير المشؤم الممتلك بعده من أولاده، ثم الممتلك بعدهم من ولد ولده، ومنهم المسمى هولاكو (1) فإنه وصل إلى بغداد وقتل من فيها من الإمام والمأموم والعام والخاص الا من تأخرأجله ففر بنفسه ثم اختفى، ثم اقتفى هذى الطريقة القبيحة والتدبير الكفرى تيمورلنك، فأنه لا يعمل فى تدبير ملكه بغير كتاب الياسا، فدمر جميع الممالك التى وراء النهر، واستأصل بالقتل اكثرأهلها، ثم عطف على ممالك الشام والعراق والروم والهند، وكثير من البلاد، ففعل تلك الأفاعيل، وكان من مرسومه انه اذا فتح قطراً من القطار، اومدينة من المدن الكبار يهدي [4ب] إليه كل فرد من أفراد جنده رأسين من رؤس بنى آدم بعد أن يقطعها؛ وجنده حوالى ثلاثمائة ألف، وقد تذيد على ذلك، فكانوا يعطفون على من تحت ايديهم من الأسرى والضعفاء وسائر من بقى فيقتلون فى ساعة من النهار نحو ستمائة ألف شخص، وهذا بعد تأمينه للبلد الذي يفتحه، وخروجه منه. وأماعند فتحه قبل تأمينه فلا تذال السيول جارية من دماء المسلمين، وتيمور هذا هو من اعظم الملوك المتقدمين بأحكام الياسا وقوانينه، فأنظر ما فعله واضع هذا الكتاب من إراقة الدماء، وهتك الحرام، وتخريب الديار، وتغوير الأنهار، وقطع الأشجار، وتعميم جميع القطار بالمخاوف الكبار، حتي انقطعت السبل، وتعطلت المدن، وفقر اكثر العالم، وما نشأ عن تدبيره من المصائب، وما لقى به العباد من المتاعب، وكيف صارت الأرض وأهلها بسببه فى أمر مرتج، ثم انظر ما فعله المقتدون به
(1) انظر"البداية والنهاية" لابن كثير (13/ 40، 247، 253).
من بعده كأولاده واحفاده، وتيمور والجراكسة (1) وأشباههم! فإنها صارت الفتن تغلى كغلى المراجل، ولم يأمن أحد من الناس فى الغالب على دمه ولاعرضه ولا ماله، ثم انظر كيف كان نظام العالم بالتدبير المحمدى! وكيف كانت الأيام النبوية التى هى منشأ الأحكام الشرعية، ثم كيف كان الصحابة ومن بعدهم من المقتدين بشرعة-صلى الله عليه وآله وسلم-لا من خرج عن ذلك الى السياسة الكفرية! ..
والحاصل: أن من تأمل حق الأمور التأمل فيما يرى ويسمع علم علماً لا يخالطه شك، ولاتخالجه شبهة أن السياسات الشرعية، والتدبيرات النبوية هى اصل صلاح الدين والدنيا، ومنبع كل خيرمن خيرى الدارين، وأن غيرها أصل فساد الدين والدنيا، ومنبع كل شر من شري الدارين:
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى
…
ومنهج الحق له واضح
إذا تقرر هذا عرفت ان تغريم العباد لرجاء المصلحة هو عين المفسدة كما قدمنا ذلك فى الكلام علىحدود البلدان، وما أحق العالم العامل بعلمه، الشحيح على دينه بإجتناب هذه الجهالات والفرار عن مهالك هذه الضلالات! إذا لم يتمكن من طمس آثر السياسات الكفرية، وتشييد آثار السياسات النبوية فأقل الأحوال أن يربأ بنفسه عن أن يكون من المقتدين لجنكيز خان ومن [5أ] تبعه من حزب الشيطان، فإنه بلا ريب عن ذلك مسؤول بين يدى رب العزة فى حضور بنى الأمة فإذا قيل له: بأى شرع اخذت مال هذه الأرملة، وهذا الصبى، وهذا [ .... ] أهل هذه القرية؟ فماذايكون جوابه؟ إن قال: اردت التوصل بذلك إلى قمع الأشرار، وصلاح الديار، فأى سرية فى احد هؤلاء الثلاثة! فإن رام المجادلة والمحاجة فهو لايزيد على أن يقول: اخذت بنوع من انواع المناسبة المدونة فى علم الأصول (2)، وما أحقه عند أن يقول هذه المقالة أن يقال
(1) المقصود بهم: غير الموحدين منهم.
(2)
تقدم توضيحه
له: لا حياك الله ولا بياك، كيف استبدلت بنصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة هذا البدل، ورضيت بالدون، وأعطيت الدنية، واستبدلت العين الصحية بالعور! هات عرفنا ما هوهذا المناسب الذى تذعم؟ هل وجدته في كتاب الله، أوأخذته من سنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم، أو هو من ذلك الهذيان المنصوب فى وجه السنة والقرآن؟ ثم هذا المناسب الذى آثرته على النصوص قد صرح أهل الأصول (1) وجميع الأئمة الفحول أنه لايجوذ العمل به فى أدنى حكم من الأحكام الشرعية، فضلاً عن مثل هذا الحكم الذى هو أخذ للمال بلا برهان ولا قرآن، ولاعقل ولانقل، رسموه فى مؤلفاتهم بالمناسب الملغى (2) أى الذى يجب إلغاء العمل به، وترك التعويل عليه بمصادمته للنصوص، فحينئذ تطيح الحجج والأعذار، وتحق الكلمة على من خالف شريعة المختار.
دعوا كل قول عند قول محمد
…
فما آمن فى دينه كمخاطر
فالحاصل أن الحكم بأخذ أموال العباد بدون وجود المناط الشرعى من الحرام البين عند كل من له دربة بأحكام الشرع، وعلى فرض من فعل ذلك، أوقرره، أوأفتى به قاصر الباغ غير متميذ عن طبقة الرعاع، فأقل الأحوال أن يكون قد سمع قوله-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:"والمؤمنون وقافون عند الشبهات"(3)"دع ما يريبك الىمالاً يريبك"(4) اللهم نق كدورات قلوبنا بمياه الشرع، وأصقل مرآة بصائرنابصقيل السمع. فإن قلت: أين لنا كيف يصنع من ولى قطراً من الأقطار، قد تعارف أهله، وإن باب حله وعقده على الإلذام لمن جاور بضمان ما ذهب فيها من دم أو مال، ثم إذا أراد أن يعلمهم السياسة الشرعية فماذا يصنع؟
(1) أنظر: "إرشاد الفحول"
(2)
تقدم توضيحه
(3)
تقدم تخريجه
(4)
تقدم تخريجه
قلت: إن تمكن من قطع تلك الحبائل الشيطانية، وتمهيد [5ب] القواعد القرآنية بأى ممكن فهوالواجب عليه، فليثت الثمرة للعلم إلا حمل الناس على الشريعة الغراءالتى يقول فيها-صلى الله عليه وآله وسلم:"تركتم على الواضحة ليلها كمهارها ولايذيل عنها إلاجاحد، وعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ"(1)
وإذا تعذر عليه ذلك تعذرا تقوم به بحجة بين يدي الله فليعمل بقوله- صلى الله عليه وآله وسلم: "مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت هوى متبعا، وشحا مطاعا، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كالقبض على الجمر، أجر العامل فيهن أجر خمسين بعلا"(2) قيل يا رسول الله، منا أو ممن بعدنا. قال:"منكم".والحديثان صحيحان ثابتان في دواوين الإسلام.
وأما السؤال عن كيفية عمله إذا أراد أن يعرفهم السياسات الشرعية فيقول لهم فيهما ذهب في الطريق من نفس أو مال، أو موطن ولم تكمل شروط القسامة أن الذي جاءت به هذه الشريعة العراء أن هذا غير مضمون على أحد من الناس، وأنه قد قال قائل من أهل الشريعة أنها لا تهدر دماء المسلمين، ةأنه يجب ضمانها من بيت مالهم، ولكن لا يدع جهدا في الكشف والفحص عن الفاعل، فإن هذا الكشف هو من السياسة الشرعية لا الكفرية.
ثم إذا سأله سائل عن إصلاح فساد الطريق كيف يكون، وبأى سبب يتوصل إلى
(1) تقدم تخريجه مرارا. وهو حديث صحيح.
(2)
أخرجه ابن ماجه رقم (4014) والترمذي رقم (3060) وأبو داود رقم (4341) وهو حديث ضعيف.
انظر الضعيفة رقم (1025) لكن فقرة: "أيام صبر .... "فهي ثابتة انظر الصحيحة رقم (494، 957).
ذلك؟ قال: تأمين السبل، والأخذ على يد الظالم هو الذي شرع الله لأجله نصب الملوك، وهو الركن الأعظم من أركان السلطنة، بل الشرط الأهم من شروط الزعامة، بل هو الأمر الذي إذا قام به سلطان المسلمين لم يحتج معه إلى غيره، وهذا وإن استبعده من اعتقد اعتبار شروط كثيرة العدد فهو إن نظر حق النظر لم يخف عليه صحة ما قلناه، وإذا كان الأمر هكذا فإصلاح طرقات المسلمين، وتامين سبلهم من أهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو واجب على السلطان خصوصا (1) وعلى المسلمين عموما،
(1) الآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
1) وقوع الهلاك، وذلك على جهتين:
أ - أن المعاصي التي تظهر ولا تنكر سبب للعقوبات والمصائب.
ب- أن السكوت ذاته يعد معصيه يستحق صاحبها العقوبة كما أنه يدل على التهاون في دين الله تعالى.
هذا إذا كان الساكت عنه فردا من أفراد المجتمع، أما حين يسكت المجتمع بأكمله فإن الغقوبة تعم في هذا الحال.
2) انتفاء وصف الخيرية عن هذه الأمة.
3) أنه يجريء العصاه والفساق على أهل الحق والخير، فينالون منهم ويتطالون عليهم، وهذا مشهد ملموس في هذه الأيام- والله المستعان.
4) أنه سبب لظهور الجهل واندراس العلم: وذلك أنه إذا ظهر المنكر ولم يوجد من ينكره نشأ عليه الصغير وألفه وظن أنه من الحق كما هي الحال في كثير من المنكرات اليوم.
5) أن هذا الأمر تزيينا للمعاصي عند الناس وفي نفوسهم لأن صاحب المنكر كالبعير الأجرب يختلط بالإبل فتجرب جميعا بإذن الله والناس كأسراب القطا قد جبل بعضهم على التشبه ببعض.
هذا بالإضافة الى ما يوجد داخل النفس من الأمر بالسوء، وحب الشهوة وما من وجود المنكر في الخارج.
6) عدم إجابة الدعاء.
7) سبب ظهور غربة الدين واختفاء معالمه وتفشي المنكرات والكفر والظلم، وهذا هو الذى أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"بدأ الإسلام غربيا وسيعود غربيا كما بدا فطوبى للغرباء" أخرجه مسلم رقم (145).
8) إلف المسلم لهذه المنكرات المنتفشية: لكثرة مشاهدته لها، والأمر كما قيل" كثرة المساس تبلد الإحساس"فما تعود للقلب تلك الشفافية والحساسية عند رؤية المنكر.
انظر: "تنبيه الغافلين"(ص93 - 94)، "مجموع الفتاوى"(28/ 138 - 142، 215).
فعليه وعليهم أن يقوموا بذلك أثم القيام، ولو جماعة من المسلمين في جوانب الطرق المخوفة لتأمين المارة، ويدفع إليهم من بيت مال المسلمين، أو من خالص أملاكهم إذا لم يوجد في بيت المال ما يقوم بذلك، فعلى العالم أن يقول هكذا إذا سئل عن ذلك، وينهى الأمر إلى السلطان [6أ] الأعظم، من ينوب عنه، وياخذ نفسه بإنكار ما علمه منكرا، أو الأمر بما علمه معروفا بما يبلغ إليه قدرته، وليس عليه بعد ذلك شىء، وإذا لم يطع فيما يقول فقد حصل له أجر من تكلم بالحق، وفاز بمقام العلماء العالمين، فهذه الطريقة تحفظُ دينَه من المهالكِ، ويستفيدُ في ولايته ربحَ ما يقدرُ على القيام بهِ كما ينبغي، وليس من الورع أن يضيقَ صدرُهُ عند عروض ما يخرجُ عن طاقته، حتى يحملَه ذلك على تركِ ما يدخلُ تحتَ مقدرته، أو تعطيلِ نفسِه عن القيامِ في مركزِ الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فإنَّ ذلك لو كان مسوِّغًًا للتعطيلِ والخروجِ عن المراكزِ الدينيةِ لتعطيل الشريعةِ، إذْ ما من زمانٍ من الأزمنةِ، ولا مكان من أمكنة الأرضِ إلاّ وفيه ما يُعْرَفُ وما يُنكَرُ، اللهم إلَاّ أنْ يكونَ ذلك العالِمُ قد عرف بالتجربةِ وطولِ المدة أنه لا تأثيرَ لبقائه في صغيرٍ ولا كبيرٍ، ولا جليلٍ، ولا خطيرٍ، فليس له في التلبُّسِ أثوابِ الزورِ فائدةٌ، كما أنَّه لا يعودُ إليه مِنْ خيرِها عائدةٌ، والأحوال تختلفُ باختلافِ الإراداتِ، وإنما الأعمال بالنيات. وما ذكرتُم ـ دامت لكم الإفادة ومنكم ـ من أنه إذا ادَّعى ورثةُ رجلٍ على أهل بلدةٍ قَتْلَ مورِّثهم يريدونَ بذلك ثبوتَ القسامةِ عليهم، وخَفَتْ قرائنُ صادقةٌ بوقوعِ القتلِ وصادقَ بعضُ أهل البلدينِ بوقوع القتلِ في بلدهم، فهل يقالُ: مصادقةُ البعض منهم إقرارٌ على من أقروا بشهادةٍ على الباقينَ، فيثبتُ بها وجودُ القتيلِ، وإذا ثبت ثبتِ القسامةُ بشروطها أم لا؟ ثم إذا طلبتَ منهم اليمينَ لا
وُجِدَ قتيلاً في بلادهم، ونكَل البعضُ منهم، هل يكونُ حكمُ النكولِ حكمَ المصادقةِ في كونها شهادةً على الآخرين أم يفترقُ به الحال بين المصادقة والنكول؟ انتهى.
أقول: اعلمْ أنَّ القسامةَ الشرعيةَ لا تثبتُ إلَاّ بعد ثبوتِ وجودِ القتيلِ في محلٍّ يختصُّ بالمدَّعى عليهم قتيلاً أو جريحًا، وثبوتُ الوجودِ يكونُ بأحدِ المناطاتِ الشرعيةِ. إمَّا الإقرارُ من جميع المدّضعى عليهم، أو نكولُ جميعِهم، أو شهادةُ عَدْلَيْنِ، أو رجلٍ وامرأتينِ، أو رجلٍ ويمينِ المدَّعي على وجود القتيلِ هنالِكَ كذلكَ على وجه بحكمِ الحاكمِ بأحد تلك الأمورِ، أو عَلِمَ الحاكمُ بذلك على ما هو الحقُّ كما قررته في غير هذا الموضعِ، فإنْ أقرَّ البعضُ وأنكرَ البعضُ، أو نكلَ البعضُ وحلفَ [6ب] البعضُ من أهل القسامةِ كما في مسألة السؤال.
فاعلم أنَّ إقرارَ من أقروا نكولَ مَنْ نكلَ هو مستنَدٌ للحكم بالوجودِ، والوجودُ أمرٌ واحد، وهو يستلزمُ ثبوتَ القسامةِ على الجميع، فإذا كان ذلك الإقرارُ أو النكولُ بحيث يصلُح مُسْتَنَدًا لحكم الحاكمِ بالوجودِ ثبتتِ القسامةُ بالحكم بالوجود بذلك المستندِ، ولا وجود الشهادةِ، أو عِلْمِ الحاكمِ، لأنَّه قد ترتَّبَ الحكمُ بالوجود على إقرارِ البعضِ، أو نكوله كما ترتَّبَ الحكمُ بالوجودِ على شهادةِ الشهودِ، أو علم الحاكمِ. والعلمُ بالوجودِ هو أمرٌ واحدٌ كما قدمنا، فلا تثبتُ به القسامةُ على بعض أهل القسامةِ دون بعض، بل تثبت على الجميع.
فإن قلتَ: الشهادةُ وعِلْمُ الحاكم هما مناطٌ للحكمِ على المشهودِ عليه بخلافِ الإقرارِ والنكولِ فإنّهما مناطٌ للحكم على المقرِّ والناكلِ دونَ غيرهما.
قلت: قد صحَّ كلُّ واحدٍ منهما مناطًا للحكم بالوجود كما صلحتِ الشهادةُ مناطًا لذلك، ولا يضرُّ إنكار مَنْ أنكر، وحَلْفُ مَنْ حَلَفَ، كما لا يضران إذا كان المناطُ هو الشهادةَ.
فالحاصل: أنَّ المعتبرَ ما يصلحُ مستندًا لحكم الحاكمِ بالوجودِ، هذا من غير نظرٍ إلى
تنزيل إقرارِ المقرِّيْنَ، أو نكولِ الناكلينَ منزلَة الشهادةِ على المنكرينَ أو الحالفينَ، مع أنه لو قيلَ بذلك لكانَ التنزيلُ صحيحًا رجيحًا، فإنَّ المقِرَّ إنما أقرَّ بما قد صحَّ لديه بإحدى الطُّرقِ المفيدةِ لمضمونِ الإقرارِ، فإقرارُهُ إخبارٌ لنا بالوجودِ، وكذلك الناكلُ إنما نَكَلَ عن الحَلِفِ على عدمِ الوجود لكونهِ قد علم نقيضَه، وهو الوجودُ، فكأنه قد أخبرنا بوجود القتيلِ. ولا شكَّ أنَّ هذا أدخلُ في إفادةِ الوجودِ، وانثلاجِ الصدرِ به من شهادةِ بالوجود إذا اتفقتِ الحواملُ على ما وقعَ من المقرينَ والمنكرينَ من محاباةِ المدَّعي أو العداوةِ لأهل المحلِّ، أو نحو ذلك. ولا ريبَ أنَّ الشهادةَ على النفسِ، وعلى الأهل أولى من شهادة الأجانبِ على الأجانبِ. ولم يبقَ إلَاّ المنازعةُ في اشتراطِ لفظِ الشهادةِ، والإقرارُ والنكولُ ليسا من ألفاظِها، وهذه منازعةٌ فقهيةٌ لا ترجعُ إلى دليل شرعيّس ولا عقليٍّ ولا لغويٍّ، فإنَّ الشهادةَ هي الإخبارُ بالشيء بأيّ صيغةٍ [7أ] كانت، ودلالةُ الخبرِ على مدلولهِ قد يكون بالمطابقةِ، وقد يكون بالتضمينِ، وقد يكون بالالتزامِ. وإلى هنا انتهى الجوابُ عن السؤال.
قال في المنقول منه:
حرره المجيبُ ـ غفر الله له ـ في نهار الاثنينِ رابعَ شهرِ الحجةِ سنة 1212 انتهى من خط المؤلف [7ب].