المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحث في حديث (فدين الله أحق أن يقضى) - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٨

[الشوكاني]

الفصل: ‌بحث في حديث (فدين الله أحق أن يقضى)

(133)

25/ 2

‌بحث في حديث (فدَين الله أحق أن يقضى)

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 4131

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في حديث "فدَين الله أحق أن يقضى".

2 -

موضوع الرسالة: "فقه".

3 -

أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين وبعد: فإنه ورد من سيدي العلامة

4 -

آخر الرسالة: وليس ذلك من الدعاء كما لا يخفى.

وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هداية والله ولي التوفيق كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له.

5 -

نوع الخط: خط نسخي مقبول.

6 -

عدد الصفحات: 7 صفحات.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.

9 -

الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.

10 -

الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

11 -

ملحوظة: فقدت مخطوطة السؤال بعد كتابته.

ص: 4133

[بسم الله الرحمن الرحيم]

[نص السؤال]

الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم. سأل لعهدة المسلمين اللامة الربّاني محمد بن علي بن محمد الشوكاني ـ كثر الله فوائده ـ وأطال مدَّته: هل يُقدَّمُ حقُّ الله تعالى على حق المخلوق، كما يدل عليه "فَدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقْضَى"(1) أمِ العكسُ للإجماع على هجر ظاهر الدليل المذكور، فيما لو أن رجلاً مات ومالُه مستغرَقٌ بِدَيْنِهِ، وقد وجب عليه الحجُّ وقال: يُحَجُّ عنِّي، فالإجماع حاصلٌ على تقديم الدِّين المستغرَق على الحجِّ، ثم لفظ:"فدَينُ الله" من حديث الخثعميةِ (2)، وفيه اضطرابٌ من حيث إنَّ في رواية السائل رجلاً، وفي أخرى امرأة، وفي الصحيحين بغير زيادة: "أرأيت لو كان على أبيك دَيْنٌ

إلخ" وفي غيرهما بها، وفيه أيضًا مغايرةٌ من الركوبَ على الراحلة، وفي القصة التي فيها الزيادةُ أنه مات. ويعارضُه أيضًا حديثُ المنع عن ابن عمرَ بلفظ: "لا يحجُّ أحدٌ عن أحد" ونحوُه، ثم هو ورد في الحج، وهو من محلّ النزاع، لأنه حقٌّ لله تعالى، فهل يُقَدِّمُ كما هو مدلول أفْعَلَ التفضيل أم لا؟ لكونه إنما ثبت قياسًا للمختلَف فيه على المتَّفق عليه، كما أفاده المسئولُ ـ كثر الله فوائده ـ في شرح المنتقى (3) له.

وإذا تقرر كونُه أحقَّ، وانتفتِ المعارضةُ، فهل يلحقُ، ومن الولد فقط، كما في حديث الخثعمية أم منه، ومن الأخ، أو القريب، كما في حديث ابن عباس: "حُجَّ عن نفسك عن ...........................

(1) سيأتي تخريجه.

(2)

"نيل الأوطار"(2/ 252).

(3)

"نيل الأوطار"(2/ 252).

ص: 4137

شِبْرِمَةَ" (1) أم يتعدَّى إلى الغير، فما هو الدليلُ؟ وإذا كان الغيرُ ممنوعًا، فهل لمن أذِنَ له تأخيرُ غيره أم لا؟ فظاهر الأدلة المنع، وهل للوصية فائدةٌ، ويجب امتثالُها؟ فالذي في البحر (2) عن العترة، وأبي حنيفة (3) وأصحابه، ومالكٍ (4) أنه يسقطُ وجوبُ الحجِّ بالموت، وكذلك سائرُ ما ورد في مثل الصلاة، والصوم، ونحوِهما، هل يصحُّ لقول النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات وعليه صومٌ فليصمْ عنه وليُّه" وهو أعمُّ من الولد وغيره، والحديث متَّفقٌ عليه (5) من حديث عائشةَ، وصححه أحمدُ (6)، وزاد البزَّار (7) إن شاء، وضُعِّفَتْ، وله شاهدٌ من حديث بريدةَ عند أحمدَ (8)، ومسلمٍ (9) أم لا يصحُّ؟ فظاهرُ قولِ الله تعالى: ...............................

(1) أخرجه أبو داود رقم (1811) وابن ماجه رقم (2903) والدارقطني (2/ 270).

عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة قال: "من شبرمة؟ " قال: أخٌ لي، أو قريبٌ لي، قال:"حججت عن نفسك؟ " قال: لا، قال:"حجَّ عن نفسك ثم حُجّ عن شبرمة".

وعند ابن ماجه قال: "فاجعل هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة".

وعند الدارقطني فيه: "قال: هذه عنك، وحُجَّ عن شبرمة".

وهو حديث صحيح.

(2)

(2/ 395).

(3)

انظر "البناية في شرح الهداية"(4/ 430 - 431).

(4)

انظر: "المفهم"(3/ 444).

(5)

أخرجه البخاري رقم (1952) ومسلم رقم (1147).

(6)

في "المسند"(6/ 609).

(7)

في "مسنده"(2/ 481 - 482 رقم 1023 ـ كشف).

وقال الهيثمي في "المجمع"(3/ 179) هو في الصحيح خلا قوله إن شاء الله رواه البزار وإسناده حسن.

(8)

في "المسند"(5/ 359).

(9)

في "صحيحه" رقم (1149).

ص: 4138

{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (1) ولكونه قد ورد النَّهيُ عن ذلك بلفظ: "لا يصلِّ أحدٌ عن أحد، ولا يصم أحدٌ عن أحد" رواه النَّسائي (2) عن ابن عباس، ومثلُه عن ابن عمرَ (3). وفي البخاري (4) في بال النَّذر (5) عنهما تعليقًا مثلُه، فقد اضطربَ الكلامُ، وحصلتِ المعارضةُ والمغايرةُ، وقوي الإشكال والكشفُ عن تلك الإفادة مطلوبةٌ ـ كثر الله فوائده ـ آمين.

بقلم كاتبه. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم آمينَ.

(1)[النجم: 39].

(2)

في "السنن الكبرى"(2/ 175 رقم 2918/ 7).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(9/ 61 رقم 16346).

(4)

في "صحيحه"(4/ 192 ـ مع الفتح).

(5)

الباب رقم (42).

ص: 4139

[نصُّ الجواب]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين.

وبعد:

فإنه ورد سؤال من سيدي العلامة المِفْضال يحيى بن مطهر (1) بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم رحمهم الله جميعًا وإياي ـ عن حديث: "فَدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقْضَى"، وحاصلُ السؤال: هل يدلُّ على أن دَيْنَ الله مقدَّمٌ على دَيْنِ الآدميِّ؟ وهل يصح أن يحج عن الميت غير قريبه بأُجرة وغير أجرة، أم ذلك مختصٌّ بالقريب؟ وهل يلحق الإنسان ما فعله غيرُه من القُرَبِ أم ذلك مختصٌّ ببعض القُرَبِ، وببعض الأشخاص؟.

وأقولُ: الجوابُ عن السؤال عن كون دَيْنِ الله مقدَّمٌ على دَيْن الآدميّ أم العكسُ، أنّ حديث ابن عباس الثابتَ في الصحيح (2) وغيرِه (3) أنّ امرأةً من جُهَيْنَةَ جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالتْ: إنّ أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال:"نعم حجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دينٌ أكنتِ قاضِيته؟ اقضوا الله؛ فالله أحقُّ الوفاء".

وقد روي هذا من طرق عن ابن عباس، ففي بعضها امرأةٌ من جهينَة كما في الرواية السابقة (4)، وفي بعض الألفاظ من حديثه أنَّ امرأةً من خُثْعُمَ قالت: يا رسول الله، إنّ أبي أدركته فريضةُ الله في الحج شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يستويى على ظهر بعيره، قال:"فحجِّي عنه"، وهذا ثابتٌ في الصحيحين (5) ......................................

(1) تقدمت ترجمته.

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(1852).

(3)

كأحمد (1/ 329)، والنسائي (5/ 116).

(4)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(1852).

(5)

البخاري رقم (1513) ومسلم رقم (1335).

ص: 4140

وغيرِهما (1).

وأخرج هذه القصة عن الخثعمية أحمد (2)، والترمذيُّ (3) وصححهمن طريق عليِّ ـ كرم الله وجهه ـ.

وأخرجها أيضًا أحمدُ (4)، والنسائي (5) بإسناد صالح من حديث عبد الله بن الزبير، وفي لفظ: من حديث ابن عباس قال: "جاء رجل فقال: إنّ أختي نرت أن تحجَّ"(6).

وأخرج النَّسائيّ (7)، والشافعي (8)، وابن ماجه (9)، والدارقطني (10) من حديث ابن عباس أيضًا قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ فقال: إنَّ أبي مات وعليه حَجَّةُ الإسلام، أفأحُجُّ عنه؟ قال:"أرأيت لو أنَّ أباك ترك دَيْنًا عليه أقضيتَه عنه؟ " قال: نعم، قال:"فاحْجُجْ عن أبيك". [1أ]

فقد دلّت هذه الأحاديثُ، وما ورد في معناها أنَّ القريبَ يحجُّ عن قريبه (11)، سواءٌ أوصى، أو لم يوصِ، إذا طلب القريبُ ذلك وأراده.

(1) كأحمد (1/ 213) وأبو داود رقم (1809) والترمذي رقم (885) والنسائي (5/ 118) وابن ماجه رقم (2907).

(2)

في "المسند"(1/ 76).

(3)

في "السنن"(885) وقال: حديث علي حديث حسن صحيح.

وهو حديث صحيح إن شاء الله.

(4)

في "المسند"(4/ 5).

(5)

"السنن"(5/ 118).

(6)

أخرجه البخاري رقم (6699) وأحمد (1/ 329).

(7)

في "السنن"(5/ 118).

(8)

(1/ 385 - 386 رقم 992 ترتيب المسند).

(9)

في "السنن" رقم (2904).

(10)

في "السنن"(2/ 260).

(11)

انظر "المغني"(5/ 38 - 39).

ص: 4141

وأما حجُّ الأجنبيَّ عن الأجنبيِ فلم يأت ما يدلُّ على ذلك، فإنّ حديث (1) ابن عباس عند أبي داود (2)، وابن ماجه (3)، وابن حِبَّان (4)، وصححه، والبيهقيُّ (5) وقال: إسناده صحيحٌ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شِبْرِمَةَ، قال:"مَنْ شِبْرِمَةُ؟ " قال: أخٌ لي، أو قريبٌ لي، قال:"حججتَ عن نفسك؟ " قال: لا، قال:"حُجَّ عن نفسك، ثم حُجَّ عن شبرمة".

ولفظُ ابن ماجه: "فاجعل هذه عن نفسك، ثم احْجُجْ عن شبرمةَ"، ولفظ الدارقطنيِّ (6) قال:"هذه عنك، وحُجَّ عن شبرمةَ" فيه التصريح بما يفيد القرابة بينهما، وقد أُعِلَّ الحديث بأنه موقوفٌ (7)، وليس ذلك بعلَّة، لأنّ الرفعَ زيادةٌ يتعيّنُ قبولُها على ما ذهب إليه أهلُ الأصول، وبعضُ أهل الحديث، وهو الحقُّ إذا جاءت الزيادةُ (8) من طريق ثقةٍ، وهي هاهنا كذلك؛ فإن الذي رفع الحديثَ عبده بنُ سليمانَ، وهو ثقةٌ من رجال الصحيح، وقد تابعه على ذلك محمدُ بن بشرٍ، ومحمد بن عُبَيْد الله الأنصاريّ.

وقد اختلف أئمة الحديث في ترجح الرفع على الوقف، أو العكس (9)، فرجَّح الأول عبدُ الحقِّ، وابنُ القطَّان، ورجَّحَ الثاني ......................

(1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه.

(2)

في "السنن" رقم (1811).

(3)

في "السنن"(رقم 2903).

(4)

في صحيحه رقم (3988).

(5)

في "السنن الكبرى"(4/ 336)، (5/ 179 - 180).

(6)

في "السنن"(2/ 270، 271).

(7)

قال الزيلعي في "نصب الراية"(3/ 155): عن ابن القطان في كتابه أنّه قال: وحديث شبرمة علَّله بعضهم بأنّه قد روي موقوفًا والذي أسنده ثقة فلا يضره.

(8)

ذكره البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 336).

وانظر: "تلخيص الحبير"(2/ 426 - 427).

(9)

انظر: "تلخيص الحبير"(2/ 426).

ص: 4142

الطحاويُّ (1).

والحقُّ ما عرفتَ. وقد قيل (2): إنّ اسم الملبي نبيشةُ، وقيل: هو اسمُ الملبِّي عنه. وقد استدلَّ بعضُ القائلين بأنه يحجُّ الأجنبيُّ عن الأجنبيِّ بحديث ابن عباس هذا. وقد عرفت أنه صرَّح فيه بأنه أخٌ له، أو قريبٌ، فلا يصحُّ الاستدلالُ به على ذلك.

وقد روى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه "لا يحجُ أحدٌ عن أحد"(3) ونحوَه عن مالك والليث.

وروي عن مالك أنّه إن أوصى بذلك فليحجَّ عنه، وإلَاّ فلا (4).

(1) في "شرح مشكل الآثار"(6/ 384).

(2)

أخرجه الدارقطني في "السنن"(2/ 268 رقم 145، 146، 147).

عن الحسن بن عمارة عن عبد الملك عن طاوس عن ابن عباس قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يلبي عن نبيشة، فقال: أيها الملبي عن نبيشة هل حججت؟ " قال: لا. قال: "فهذه عن نبيشة وحج عن نفسك".

- وهذا وهم وقد بينه الدارقطني في الحديث رقم (148) عن الحسن بن عمارة، عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس، عن ابن عباس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من شبرمة؟ " قال: أخ لي، قال:"هل حججت"، قال: لا، قال:"حج عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة".

قال الدارقطني عقب هذا الحديث: "هذا هو الصحيح عن ابن عباس والذي قبله وهم، يقال إن الحسن بن عمارة كان يرويه ثم رجع عنه إلى الصواب فحدث به على الصواب موافقًا لرواية غيره عن ابن عباس، وهو متروك الحديث على كل حال.

وانظر: "الحاوي الكبير"(5/ 27).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

ذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(26/ 14 - 17).

وانظر: "المغني"(5/ 36).

قال القرطبي في "المفهم"(3/ 443 - 444): وقد اختلف العلماء في النيابة في الحجِّ قديمًا وحديثًا، فحكى عن النخعي وبعض السلف: لا يحج أحدٌ عن أحد جملةٌ من غير تفصيل. وحكى مثله عن مالك.

وقال جمهور الفقهاء: يجوز أن يحج عن الميت، عن فرضه، ونذره، وإن لم يوص به، ويجزئ عنه. واختلف قول الشافعيّ رحمه الله في الإجزاء عن الفرض.

ومذهب مالك، والليث، والحسن بن حييِّ: أنَّه لا يحجُّ أحدٌ عن أحدٍ إلا عن ميِّتٍ لم يحجّ حجَّة الإسلام. ولا ينوب عن فرضه.

قال مالك: إذا أوصى به. وكذلك عنده يتطوّع بالحج عن الميّت إذا أوصى به، وأجاز أبو حنيفة والثوري وصية الصحيح بالحجِّ عنه تطوُّعًا وروي مثله عن مالك.

وانظر: "مجموع الفتاوي" لابن تيمية (26/ 17).

ص: 4143

وإذا تقرّر هذا فقولُه صلى الله عليه وآله وسلم: "فَدَيْنُ اللهِ أحقُّ بالوفاء"، وفي رواية:"فدين الله أحقُّ بالقضاء" يدلُّ على أن كل دَيْنٍ لله تثبتُ مشروعيةُ قضائه فهو أحقُّ بأن يُقْضَى (1)، وأقدمُ من حقوق الآدميينَ، لأنَّ ذلك مدلول أفعل التفضيل، والمفضَّلُ عليه مقدَّرٌ، وتقديره: فَدَيْنُ الله أحقُّ بأن يُقْضَى من كل دَيْن، لما تقرَّر في علم المعاني أن حذف المتعلّق (2) مشعِرٌ بالتعميم في المقامات الخطابية [1ب].

وعلى فرض أنه قد تقدَّم ما يخصُّه ببعض الدُّيون لقوله: "أرأيتَ لو كان على أبيك

(1) قال الحافظ في "الفتح"(4/ 66)"أكنت قاضيته" كذا للأكثر بضمير يعود على الدّين وللكشميهني قاضية يوزن فاعله على حذف المفعول. وفيه أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه.

فقد أجمعوا على أنّ دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء.

ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أوزكاة أو غير ذلك وفي قوله: "فالله أحق بالوفاء" دليل على أنَّه مقدم على دين الآدمي. وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل بالعكس. وقيل هما سواء.

قال الطيبي: في الحديث إشعار بأن المسؤول عنه خلف مالاً فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن حق الله مقدم على حق العباد وأوجب عليه الحج عنه والجامع علة المالية. قلت ـ أي البخاري ـ ولم يتمتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالاً كما زعم لأن قوله: "أكنت قاضيته" أعم من أن يكون المراد مما خلفه أو تبرعًا.

(2)

قال الحافظ في "الفتح"(4/ 66)"أكنت قاضيته" كذا للأكثر بضمير يعود على الدّين وللكشميهني قاضية يوزن فاعله على حذف المفعول. وفيه أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه.

فقد أجمعوا على أنّ دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء.

ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أوزكاة أو غير ذلك وفي قوله: "فالله أحق بالوفاء" دليل على أنَّه مقدم على دين الآدمي. وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل بالعكس. وقيل هما سواء.

قال الطيبي: في الحديث إشعار بأن المسؤول عنه خلف مالاً فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن حق الله مقدم على حق العباد وأوجب عليه الحج عنه والجامع علة المالية. قلت ـ أي البخاري ـ ولم يتمتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالاً كما زعم لأن قوله: "أكنت قاضيته" أعم من أن يكون المراد مما خلفه أوتبرعًا.

ص: 4144

دَيْنٌ"، وسلّمنا أنه لا عمومَ في هذه الصيغة، بل هي خاصة بِدَيْنِ الآدميّ فيكون المقدّرُ: فدَيْنُ اللهِ أحقُّ بأن يقضى، أو أحقُّ بالوفاء من دَيْنِ الآدمي، وهو المطلوب على أنّ الدَّيْنَ لا يكون إلاّ لله، أو لآدمي، فالعموم المستفاد من حذف المتعلّق هو كهذا الخاصّ الذي دل على سياق الكلام.

وإنما قلنا: ثبتت مشروعية قضائه، لأن بعض حقوق الله الواجبة على العباد لم تثبت مشروعية قضائها إذا عجز مَنْ هي عليه عنها، أو مات.

وبعضها ثبت مشروعية قضائها على صفة مخصوصة، كالحج، فإنه إنما ورد قضاؤه من القريب كما عرفت، وكذلك الصيامُ، فإنّه إنما ورد "أنّ مَنْ مات وعليه صوم، وصامَ عنه وليُّه"(1). ولم يَرِدْ ما يدلّ على أنه يصوم عنه غيرُ وليه.

إذا تقرّر هذا فالقريب إذا قضى عن قريبه فريضة الحج كان ذلك صحيحًا مجزيًا إجزاءً أحقَّ من إجزاء قضاء القريب عن قريبه ما كان دينًا لبني آدم.

وأما الحجُّ عن العاجز والميت إذا وقع من غير قريب، بل من أجنبيّ بأُجرة، أو بغير أجرة، فهذا لم يأتِ ما يدلُّ على أنه يجري حتى يكون من حقِّ الله الذي هو أحقُّ بأن

(1) أخرجه أحمد (6/ 69) والبخاري رقم (1952) ومسلم رقم (1147) وأبو داود رقم (2400) عن عائشة رضي الله عنها.

قال الحافظ في "الفتح"(4/ 194) واختلف المجيزون في المراد بقوله: "وليه"، فقيل: كل قريب، وقيل: الوارث خاصة، وقيل: عصمته، والأول أرجح، والثاني قريب. ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها.

واختلفوا أيضًا هل يختص ذلك بالولي؟ لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية، ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في الحياة فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه الدليل فيقتصر على ما ورد فيه ويبقى الباقي على الأصل وهذا هو الراجح.

وقيل يختص بالولي فلو أمر أجنبيًّا بأن يصوم عنه أجزأ كما في الحج.

وقيل يصح استقلال الأجنبي بذلك وذكر الولي لكونه الغالب، وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الأخير، وبه جزم أبو الطيب الطبري وقواه بتشبيهه صلى الله عليه وسلم ذلك بالدن والدين لا يختص بالقريب.

ص: 4145

يُقْضَى من دَيْنِ بني آدَم (1).

وحاصلُ الكلام أن يقالَ: نحن نمنعُ أن يكون فعلُ الحجِّ من غير القريب بأُجرةٍ أو غيرِها مجزيًا، فضلاً عن أن يكون حقًّا من حقوق الله يجبُ قضاؤه، فلا يتمُّ إدراج مثل ذلك في حديث:"فَدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقْضَى" إلَاّ بعد إثبات أنه يجري، وإثبات أنه دَيْنٌ من ديون الله التي يجب قضاؤها ببرهانٍ صحيح، لا بمجرد القياسات التي لا تقوم بها حُجَّةٌ، والمناسبات التي ليست من الأدلة في وِرْدٍ ولا صَدْرٍ، فمن جاءنا بالحُجَّةِ المقبولة فيها ونِعْمَتْ، ومن لم يأت بذلك فلا يُتْعِبْ نفسَه، ويتعب عباد الله بما لم يَشْرَعْهُ الله، ولا أوجبه [2أ]. وقد ظهر بما كرنا الجواب عن السؤال الأول، والسؤال الثاني من الثلاثة الأسئلة المتقدمة.

وأما الجواب عن السؤال الثالث: وهو هل يلحق الإنسن ما فعله غيره من القرب؟ أم لك مختصٌّ ببعض القرب، وببعض الأشخاص؟

فنقول: اعلم أنّ العمومات القرآنية كقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (2) ونحو هذه الآية قد أفاد أنه يكون للإنسان شيءٌ من العمل إلاّ ما هو من سعيه، وقد خُصِّصَ هذا العمومُ بمخصَّصاتٍ.

فمنها ما تقدم من حج القريب (3) عن قريبه.

ومنها ما ثبت في الصحيح (4) من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات

(1) قال ابن قدامة في "المغني"(5/ 23): وفي الاستئجار على الحجِّ والأذان، وتعليم القرآن والفقه، ونحوه ممّا يتعدّى نفعه، ويختصّ فاعله أن يكون من أهل القربة روايتان:

إحداهما: لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة، وإسحاق.

الأخرى: يجوز. وهو مذهب مالك والشَّافعي وابن المنذر.

وانظر: "مجموع الفتاوى"(26/ 14 - 17).

(2)

[النجم: 39].

(3)

وهو حديث صحيح. وقد تقدم.

(4)

وهو حديث صحيح. وقد تقدم.

ص: 4146

وعليه صومٌ صام عنه وليُّه".

ومنها الصدقةُ من الولد، لما أخرجه مسلم (1)، وأحمدُ (2) والنسائيّ (3)، وابن ماجه (4) من حديث أبي هريرة أنّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:"إن أمي افتلتتْ نفسها، وأراها لو تكلّمت تصدقتْ، فهل لها أجرٌ إن تصدقتُ عنها؟ قال: (نعم) "(5)، ومثلُه عد البخاري (6) من حديث ابن عباس، وعند أحمدَ (7) والنسائي (8) أن السائلَ هو سعد بن عبادة، وفي البخاري (9) ما يفيد ذلك أيضًا.

ومنها أيضًا العتق من الولد، كما وقع في .....................................

(1) في "صحيحه" رقم (1630).

(2)

في "المسند"(2/ 371).

(3)

في "السنن"(6/ 252).

(4)

في "السنن" رقم (2716).

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنّ أبي مات ولم يوص، أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال:"نعم".

(5)

أمّا لفظ المصنف فهو من حديث عائشة أخرجه البخاري رقم (2760) ومسلم رقم (1004) وأحمد (6/ 51).

(6)

في "صحيحه" رقم (2770). عن ابن عباس: أنّ رجلاً قال للرسول صلى الله عليه وسلم إنّ أُمي توفيت، أينفعها إن تصدَّقت عنها، قال:"نعم" فإنّ لي مخرافًا، فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها.

(7)

في "المسند"(5/ 285).

(8)

في "السنن"(5/ 255).

(9)

في "صحيحه" رقم (2761) وطرفاه (6698، 6959).

- افتلتت: أي ماتت فلتةً، أي فجأة ورواه ابن قتيبة: اقتتلت: بالقاف وفسَّره: بأنه كلمة تقال لمن مات فجأة وتقال أيضًا لمن قتلته الجن، والعشق.

"المفهم"(3/ 49).

وقال الحافظ في "الفتح"(5/ 389) افتلتت بضم المثناة بعد الفاء الساكنة وكسراللام أي أخذت فلتة أي بغتة وقوله نفسها بالضم عن الأشهر وبالفتح أيضًا وهوموت الفجأة بالنفس والروح.

ص: 4147

البخاري (1) من حديث سعد.

ومنها الصلاةُ من الولد، لما روَى الدارقطني (2) أن رجلاً قال: يا رسول الله، إنه كان لي أبوان أبرّهما في حال حياتِهما، فكيف لي بِبِرِّهما بعد موتهما؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:"إنّ من البِرِّ أن تصلِّي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك".

ومنها الدعاء من الولد: لما أخرجه مسلم (3)، وأهل السنن (4) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا مات الإنسانُ انقطعَ عملُه إلَاّ من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنْتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ [2ب] يدعو له".

ومنها الدعاءُ من الغير، لحديث فضل الدعاء للأخ بظهر الغيب (5)، وأن المَلَكَ يقول: ولكَ مثلُ ذلك، ولقوله تعالى: & وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ

(1) لم أجده في صحيح البخاري بل أخرجه في "الأدب المفرد" كما سيأتي.

ولكن أخرج مسلم في صحيحه رقم (25/ 1510) وأحمد (2/ 230، 445) وأبو داود رقم (5137) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (10) والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 109) والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 289) من طرق عن سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقهُ".

وهو حديث صحيح.

(2)

لم أجده في سننه.

(3)

في "صحيحه" رقم (1631).

(4)

أبو داود رقم (2880) والترمذي (1376) وقال حديث حسن صحيح والنسائي (6/ 251 رقم 3651) من حديث أبي هريرة.

وهو حديث صحيح.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2732) وأبو داود رقم (1534) عن أمّ الدرداء قالت: حدّثني سيدي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دعا الرَّجلُ لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة: ولك بمثلٍ".

وهو حديث صحيح.

ص: 4148

لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ {(1)، ولما ثبت من الدعاء للميِّت عند الزيارة، كما في الصحيح (2) وغيرِه (3)، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلِّمُ الصحابَة أن يقولوا عند زيادة القبور:"السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكمُ العافية"، وقد حكى النوويُّ (4) الإجماع على وصول الدعاء إلى الميت، وكذا حكى الإجماع على أن الصدقة تقعُ عن الميت ويصلُه ثوابُها، ولم يقيِّد ذلك بالولد، وكذلك حكى الإجماعَ (5) على لحوق قضاء الدَّيْنِ، ويدلُّ عليه حديثُ: من تبرَّع عن الميت المديونِ الذي امتنع النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة عليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:"الآن بردتْ عليه جِلْدَتُهُ"(6)، وهو حديث معروفٌ.

ومنها جميعُ أنواع البِرِّ من الولد، لحديث "وَلَدُ الإنسانِ من سَعْيهِ"(7).

والحاصلُ أن كلَّ عمل من قول، أو فعل ورد في الشريعة المطهرة أنه يجزئ فعلُه من قريب أو غيرِه، بوصية أو غيرها، فهو مخصِّصٌ لعموم الآية الكريمة، ومخصصٌ لعموم حديث:"إذا مات الإنسانُ انقطعَ عملُه إلَاّ من ثلاث ..... "(8)، فمن وجدَ من الأدلة غيرَ ما ذكرناه في هذه الورقات فليُلحِقه بها، ويجعله من جملة المخصِّصاتِ لتلك العمومات إذا خرج من مخرج معمول به، وأما ما لم يرد فيه دليلٌ يخصُّه، فالحقُّ أنه باق تحت عموم:} وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى & (9) ونحوِها، وتحت عموم حديث:"إذا مات الإنسان انقطع عملُه"(10) وهذا [3أ] هو الحقُّ الذي لا ينبغي العدولُ عنه، وبه يحصلُ الجمعُ بين الأدلة.

ومن قال بعدم اللحوقِ مطلقًا مستدلاً بالآية الكريمة، كالمعتزلةِ (11) فقد أهمل هذه المخصَّصات الصحيحة المقبولة.

وكذلك مَنْ قال: إنه يلحقُ كلُّ عمل من كل شخص كما قال في شرح الكنز: أنَّ للإنسان أن يجعلَ ثواب عمله لغيره، صلاةً كان أو صومًا، أو حجًّا، أو صدقة، أو قراءة قرآن، أو غيرَ ذلك، من جميع أنواع البِرِّ، ويصلُ ذلك إلى الميت، وينفعُه عند أهل السنة انتهى.

فقد أهمل العمومات، وخصَّصها بغير مخصِّص، فإنْ قال: إنه خصَّصَ ذلك بالقياس، ولا يخفى أن القياس في أكثر هذه المخصَّصات لا يصح، كقياس الأجنبي على القريب (12)، وغير الولد على الولد، وغير الدعاء على الدعاء، والمشهور من مذهب الشافعيّ، وجماعة من أصحابه أنّه لا يصل إلى الميت ثوابُ قراءة القرآن، وذهب أحمدُ بن حنبلٍ، وجماعةٌ من العلماء، وجماعةٌ من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل. كذا ذكره النووي في الأذكار (13)، وفي شرح المنهاج لابن النحوي لا يصل إلى الميت عندنا ثوابُ القراءة على المشهور، والمختارُ الوصولُ إذا شاء إيصال ثواب قراءته، كذا قال علة

(1)[الحشر: 10].

(2)

"صحيح مسلم" رقم (104/ 975).

(3)

كأحمد في "المسند"(5/ 353، 360) والنسائي (4/ 94 رقم 2040) وابن ماجه رقم (1547) والبغوي في "شرح السنة" رقم (1555) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.

وهو حديث صحيح.

(4)

في "المجموع"(5/ 294).

(5)

انظر "المجموع"(5/ 109 - 110)

(6)

أخرجه أحمد (3/ 330) والطيالسي رقم (1673) والبيهقي (6/ 75) والبزار رقم (1334) من حديث جابر بن عبد الله وسنده حسن.

(7)

تقدم تخريجه.

(8)

تقدم تخريجه.

(9)

[النجم: 39].

(10)

تقدم تخريجه.

(11)

تقدم التعريف بها.

(12)

تقدم ذكره.

(13)

(ص278).

ص: 4149

لجوازه عند الوصية.

وعندي أنّ الميت إذا أوصى بذلك لحق وإلاّ فلا، لأنه قد ورد الإذن بالاستئجار على تلاوة القرآن، كما ورد في الصحيح (1):"إن أحق ما أخذتُم عليه أجرًا كتاب الله"، وفي حديث (2) الذي رقى بالفاتحة، وأخذ قطيعًا من الغنم، وسوَّغ له ذلك النبيُّ ـ صلى

(1) تقدم تخريجه مرارًا.

(2)

تقدم تخريجه.

انظر: "فتح الباري"(4/ 70).

خلاصة:

اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين:

أحدهما: ما تسبَّب إليه الميت في حياته.

والثاني: دعاءُ المسلمين واستغفارهم له، والصدقة والحج على نزاع فيما يصل من ثواب الحج. فعن محمد بن الحسن أنه إنّما يصل إلى الميت ثواب النفقة والحجُّ للحاج، وعند عامة العلماء ثواب الحج للمحجوج عنه، وهو الصحيح.

واختلف في العبادات البدنية كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، والذكر فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها، والمشهور من مذهب الشافعي. ومالك عدمُ وصولها.

وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء البتة، لا غيره. وقولهم مردود بالكتاب والسنة لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [يس: 54]. وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده" ـ تقدم ـ.

فأخبر أنّه إنّما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة، وما لم يكن تسبَّب فيه في الحياة فهو منقطع عنه. الدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه:

الكتاب: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10].

فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم فدلَّ على انتفاعه باستغفار الأحياء.

وقد دل انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأُمة على الدعاء في صلاة الجنازة والأدعية التي وردت بها النسة في صلاة الجنازة مستفيضة، وكذا الدعاء له بعد الدفن ـ من حديث عثمان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال:"استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت فإنّه الآن يُسأل" ـ أخرجه أبو داود رقم (3221) وكذلك الدعاء لهم عند زيارة القبور: وقد تقدم آنفًا.

وكذلك وصول ثواب الصدقة ـ تقدم ذكر الأحاديث خلال الرسالة.

وكذلك وصول ثواب الصوم. تقدمت أحاديثه.

وذلك وصول ثواب الحج. وقد تقدمت أحاديثه.

وكذلك أجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت ولو كان من أجنبي ومن غير تركته. تقدم ذكر الحديث.

وكلّ ذلك جارٍ على قواعد الشرع وهو محضُ القياس، فإن الثواب حقٌّ العامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك تمام يمنع من هبة ماله له في حياته وإبرائه له من بعد وفاته.

وقد نبَّه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية يوضحه: أن الصوم كف النفس عن المفطرات بالنية وقد نص الشارع عن وصول ثوابه إلى الميت فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية.

والجواب عمّا استدلوا به من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وقد أجاب العلماء بأجوبة أصحها جوابان:

1 -

أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء وأولد الأولاد، ونكح الأزواج وأسدى الخير، وتودَّد إلى الناس، فترحموا عليه، ودعوا له وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كلٍّ من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم

2 -

وهو أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى.

فأخبر سبحانه أنّه لا يملك إلا سعيه وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه فإن شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه.

وقوله سبحانه: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 38 - 39] آيتان محكمتان تقتضيان العدل الرباني.

1 -

الأولى: تقتضي أنّه لا يُعاقِب أحدًا بجرم غيره، ولا يؤخذه بجريرة غيره كما يفعله ملوك الدنيا.

2 -

الثانية: تقتضي أنّه لا يفلح إلا بعمله، ليقطع طعمه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب وهو سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى.

وكذلك قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286] وقوله تعالى: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54] على أن سياق هذه الآية على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره. فإنّه سبحانه قال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54].

انظر: "شرحا لعقيدة الطحاوية"(2/ 664 - 671) لعلي بن أبي العز "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/ 306، 313، 324، 366)، "الروح" لابن القيم (ص 159 - 193).

وانظر: "البناية في شرح الهداية"(5/ 422 - 428). "المجموع"(5/ 293)، "فتح الباري"(4/ 69 - 70).

ص: 4151

الله عليه وآله وسلم ـ، وهو حديث صحيحٌ.

ووجهُ الاستدلال بذلك أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لما سوّغ الأجر على التلاوة أفاد ذلك أنه يلحقُ من سلَّم الأجر ثوابُ التلاوة، أوما هو مقصود بها.

وأما ما قيل من أن تلاوة القرآن دعاء، وأنه يلحقُ مطلقًا كما تقدم من الإجماع على لحوق الدعاء [3ب] فغير مسلم أنه دعاءٌ، بل هو تلاوةٌ للفظٍ مخصوص، فيه أحكام شرعية وقصص، ومواعظ وعبر، وزواجر، وترغيبات، وترهيبات؛ وليس ذلك من الدعاء كما لا يخفى.

وفي هذا كفايةٌ لمن له هدايةٌ. والله ولي التوفيق.

كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له.

ص: 4153

(134)

26/ 2

بدر شعبان (1) الطالع في سماء العرفان

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

(1) على صورة الغلاف ما نصه: وجه هذه التسمية أن هذه الرسالة جواب مذاكرة من بعض علماء العصر في شأن رجل يقال له شعبان ملّك بعض أولاده حانوتًا. ا. هـ

ص: 4155

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: بدر شعبان الطالع في سماء العرفان.

2 -

موضوع الرسالة: "فقه".

3 -

أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. أحمدُك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، وأصلي وأسلم على رسول وآل رسولك.

وبعد

فهذا بحثٌ تمسُّ الحاجةُ إليه، ويكثر اللَّبس فيه لا سيما على المتصدرين للقضاء

4 -

آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هدايةٌ، والله وليُّ التوفيق.

حرر في الثلث الأوسط من ليلة الخميس لعلَّه يوم عشرين من شهر صفر سنة 1216 بقلم جامعه غفر الله له.

5 -

نوع الخط: خط نسخي مقبول.

6 -

عدد الصفحات: 15 صفحات.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 19 سطرًا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات.

9 -

الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 4157

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمدُك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولكَ.

وبعدُ:

فهذا بحثٌ تمسُّ الحاجةُ إليه، ويكثرُ اللَّبْسُ فيه، لا سيَّما على المتصدِّرين للقضاء والفُتْيَا فيما يفعلُه الإنسان لبعض أولاده من هبةٍ، أو تمليكٍ، أو نَذْرٍ في حال صحته، وجوازِ تصرُّفه، ويظهرُ الانسلاخُ عنه، والتنفيذُ له، فهذا قد يعتقد كثيرٌ من الناس أنه نافذٌ لا يتطرَّق إلى اختلافله متطرِّقٌ، ولا يطرقُهُ من الموانع طارقٌ، بل ربَّما يعتقدُ الغالبُ منا لناس أنَّ هذا متفقٌ عليه بين أهل العلم، وأنَّ القائل بخلافه خارجٌ عن القوانين الشرعية، والرسوم المرضية.

وأقولُ: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من طرق يصعبُ حصرُها، حتى صارَ أصلُ هذا الحديث متواترًا تواتُرًا معنويًّا (1) مُتَلَقَّى بالقبول عند جميع طوائف الإسلام أنَّ امرأة بشيرٍ قالتْ لزوجها: انحلْ ابني غلامًا وأشهدْ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن ابنةَ فلان سألتني أن أنْحَلَ ابنَها غلامي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:"له إخوةٌ؟ " قال: نعم. قال: "فكلُّهم أعطيت مثلَ ما أعطيتَه؟ " قال: لا. قال: "فليس يصحُّ هذا"، أو "إني لا أشهدُ إلَاّ على حقّ" ............................

(1) المتواتر المعنوي: هو ما اختلف في لفظه ومعناه مع رجوعه لمعنى كليِّ. وذلك بأن يخبروا عن وقائع مختلفة تشترك كلها في أمر واحد فالأمر المشترك المتفق عليه بين الكل هو المتواتر فنمه أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم نحو مئة حديث في رفع يديه في الدعاء لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع.

انظر: "المسودة"(ص233).

ص: 4161

وهذا اللفظ في الصحيح (1).

وفي رواية أنّه قال: "لا تُشْهِدْني على جَوْرٍ"؛ إن [1أ] لِبَنِيكَ من الحقِّ أن تعدلَ بينهَم".

وفي لفظ متفقٍ عليه (2) عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني نحلتُ ابني هذا غلامًا كان لي". فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَكُلَّ ولدِك نحلتَ مثلَ هذا؟ " فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فارجعه".

وفي رواية عن النعمان بن بشير قال: تصدَّقَ عليّ أبي ببعض مالِه، فقالت أمي عَمْرَةُ بنتُ رواحةَ: لا أرضى حتى تُشْهِدَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلق بي إليه يُشْهِدُهُ على صَدَقتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"أفعلت هذا بولدِك كلِّهم؟ " فقال: لا، فقال:"اتقوا الله واعدِلُوا في أولادكم"، فرجع أبي في تلك الصدقة. وهذا اللفظ أيضًا في الصحيح (3)

وفي لفظٍ العطيةُ مكان الصدقةِ.

وفي لفظ (4): "اعدِلوا بين أولادِكم، اعدِلوا بين أولادِكم".

ولهذا الحديث ألفاظٌ كثيرٌ، وطرقٌ متعددةٌ في دواوين الإسلام وغيرِها.

وقد أوردها أئمتُنا عليهم السلام في كتبهم الحديثيةِ والفقهية، قال الإمام أحمد بن

(1) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (19/ 1624).

(2)

أخرجه البخاري رقم (2586) ومسلم رقم (1623).

قلت: وأخرجه أحمد (4/ 268) وأبو داود رقم (3542) والترمذي رقم (1367) والنسائي رقم (258، 259) وابن ماجه رقم (2375) والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 85، 86) وابن حبان في صحيحه رقم (5098، 5099)، والبيهقي (6/ 176، 177).

(3)

أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (13/ 1623).

(4)

أخرجه أبو داود رقم (3544) والنسائي رقم (3717).

ص: 4162

سليمان (1) في أصول الأحكام (2) ما لفظُهُ: خبرٌ: وعن النعمان بن بشير أن أباه نَحَلَهُ غلامًا، فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:"أكلَّ ولدك نحلتَه؟ " قال: لا، فامتنع.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأخبار: "ارتجعْهُ (3)، وفي بعضها (4): "أشهِدْ عليه [1ب] غيري"، وفي بعضها (5): "إني لا أشهد إلَاّ على حقّ".

قال الإمام أحمد بن سليمان ـ بعد ذكره هذه الألفاظَ ـ دلَّ على أنه لا يجوز إلَاّ التسويةُ بين الأولاد، ثم ذكر التخصيصَ بالبرِّ، وهو عندي تخصيصٌ بغير مخصِّص،

(1) هو الإمام أحمد بن سليمان بن محمد الحسني، اليمني، ينتهي نسبه إلى الإمام الهادي ولد سنة 500هـ.

من مؤلفاته:-

- أصول الأحكام في الحلال والحرام.

- حقائق المعرفة.

- الحكمة الدُّرية والدلالة النورية.

توفي سنة 566هـ.

"أعلام المؤلفين الزيدية"(ص114 رقم 85).

(2)

وهو أصول الأحكام في الحلال والحرام.

فيه ما يزيد على ثلاثة آلاف وثلاثمائة حديث في الحلال والحرام من الأحكام الفقهية، وهو مقسم على الكتب مبدوءًا بكتاب الطهارة الأخبار محذوفة الأسانيد

(3)

عند مسلم في "صحيحه" رقم (9/ 1623).

(4)

أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (17/ 1623).

قلت: وأخرجه أحمد (4/ 269، 270) وأبو داود في "السنن" رقم (3542).

وهو حديث صحيح.

(5)

أخرجه مسلم رقم (19/ 1624)، وأبو داود رقم (3545).

وهو حديث صحيح.

ص: 4163

وذلك لأنَّ الأمر بالتسوية عامٌّ فلا يجوز تخصيصُه إلَاّ بمخصِّص، ولم يرِدْ ما يدلُّ على جواز تخصيصِ البارِّ بشيء دون غيرِه، وكيف يسوغُ ذلك وهذا التخصيصُ هو سبب العقوق! وقد أشار إلى ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال في سياق أمرِه اللبشير بالتسوية:"إن أحببتَ أن يكونوا لك في البِرِّ سواء"(1)، فأرشَد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن عدمَ التسوية تسبَّبُ العقوق والقطيعة.

ثم أورد الإمام أحمدُ بن سليمان هذا الحديثَ بلفظ آخَرَ من حديث ابن عباس فقال: (خبرٌ): وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سَوُّوا بين أولادكم في العطيَّة، فلو كنتُ مفضِّلاً فضَّلْتُ البناتِ"(2). قال الإمام أحمد بن سليمان ـ بعدهذا السياق ـ ما لفظُهُ: دل على ما قلناه، ولا خلاف في هذا بين العلماء، وإنما اختلفُوا في كيفية التسوية، فذهب أبو يوسُفَ إلى أنه يساوي بين الأنثى والذكر في العطية، وقال محمد: يجب أن يسوَّى بينهم على حسبِ المواريث: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (3)، ولا نصَّ ليحيى في هذ الَاّ أن مسائلَة تدل على أن التسوية بحسب المواريث ما ذهب إليه محمدٌ، ووجهه أنه لو ماتَ ولم يُعط لاستحقُّوا المالَ على هذا السبيل انتهى.

فانظر كيف حكى إجماعَ العلماء على ما دلّ عليه [2أ] الحديثُ من التسوية، ثم

(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

(2)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 177) ومن طريقة الطبراني في "الكبير"(11/ 354 رقم 11997).

وأورده الهيثمي في "المجمع"(4/ 153) وقال: وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث قال عبد الملك بن شعيب ثقة مأمون ورفع من شأنه وضعفه أحمد وغيره.

وقال الحافظ في "الفتح"(5/ 214) إسناده حسن.

وضعفه في التلخيص (3/ 73). وكذلك المحدث الألباني في الإرواء (6/ 67).

(3)

[النساء: 11].

ص: 4164

أعاد الإمام أحمد بن سليمانَ هذا الحديثَ بلفظ آخرَ فقال: خبرٌ: وعن جابر قال: قالتِ امرأةُ بشير لبشير: انحلِ ابني غلامَك، وأشْهِدْ لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحكى قولَ زوجتِه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:"له إخوةٌ"؟ قال: نعم، قال:"فكلُّهم أعطيتَه؟ " قال: لا، قال:"فإن هذا لا يصلُح، وإني لا أشهدُ إلَاّ على حقّ"(1)، وفي بعض الأخبار:"لا أشهدُ على جَوْرٍ"(2)، وفي بعض الأخبارِ قال:"أيسرُّك أن يكونوا في البِرِّ لك سواءٌ؟ "(3).

ثم ذكر الإمام أحمد بن سليمانَ مَنْ قال: بأن التسويةَ ليست بواجبةٍ، بل مندوبةٍ، ومَنْ قال أنها واجبةٌ، وأنَّ مَنْ لم يسوِّ بين أولاده كان ما فعلَهُ باطلاً، ثم قال: ولم يُخْتَلَفْ في الخبر، وإنما اختُلِفَ في تفسيره. فقال قومٌ: هو على وجه الكراهةِ، وقال قوم ببطلانِ الزيادة على ما تقدم. انتهى.

وقد ذكر الأمير الحسينُ في الشِّفاء (4) هذه الروايات التي ذكرها الإمام أحمد بن سليمان، ثم قال الأمير في آخر البحث: دلَّ ذلك على وجوب المساواة والعدل، لأنه أورده مورِدَ الأمرِ، والأمرُ يقتضي الوجوبَ، ثم ذكر بعد ذلك كيفية التسوية هل على حسب الميراث أم على الرؤوس؟ وذكر مذهب الإمام الهادي كما ذكره الإمام أحمد بن سليمان في ذلك، وهكذا سائر أئمة أهل البيت عليهم السلام أوردُوا هذا الحديثَ في مصنَّفاتهم الشريفة، وتكلَّموا في ذلك [2ب] بما يشفي ويكفي، ومن أحبَّ الاستقصاءَ راجعَها، وإنما ذكرنا ما ذكره هذان الإمامان لأنَّ كتابَيْهِما هما العُمْدَةُ لأهل المذهب

(1) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (19/ 1624).

(2)

أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (14، 15/ 1623).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

(3/ 59 - 62).

ص: 4165

الشريف في الحديث، في هذه الديار، وهذه الأعصارِ، ولِيَعْلَمَ الواقفُ على هذا البحث أن الحديث متفقٌ عليه بين طوائف المسلمين، وأنه لم يُخْتَلَفْ فيه وإنما اختُلفَ في تفسيره كما قاله الإمام أحمد بنُ سليمان في كلامه السابق، وقاله غيرُهُ، وحينئذٍ فالواجبُ على العالم الذي يعلمُ أنه مسئولٌ عمَّا يقول أن يجعل هذه الحُجَّة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتفاق المسلمين نُصْبَ عينيهِ في قضائه وإفتائه وعملِه في خُوَيْصة نفسه، ثم ينظر في تفسيرها على الوجه المطابق للُغَةِ العربِ، ولقواعد الأصولِ، حتى يترجَّح له أحدُ القولينِ، فإنَّ العلماء أجمعَ أكتعَ لم يقل أحدٌ منهم بأن تركَ التسويةِ جائزٌ من غير كراهةٍ، بل قالت طائفة منهم بالتحريم (1)، وأن من أعطى أحدَ أولاده عطيَّةً دونَ الآخرين فهي باطلةٌ مردودةٌ (2)، من غير فرق بين أن يكون الذي أعطاهُ بارًّا أو غير بارٍّ، وقالت طائفة أخرى: إن ترك التسوية حرامٌ إلَاّ أن يكون الذي وقع له التخصيصُ بالعطيَّةِ بارًّا، أو عاجزًا، .....................................

(1) قال ابن قدامة في "المغني"(8/ 257) بعد ذكر حديث النعمان وهو دليلٌ على التحريم لأنَّه سمَّاه جَورًا، وأمر بردِّه، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرام والأمرُ يقتضي الوجوب، ولأنَّ تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمنع منه. كتوازج المراة على عمتها أو خالتها.

قال القرطبي في "المفهم"(4/ 586): أنَّه لا يجوز أنْ يخصَّ بعض ولد بعطاءٍ ابتداءً، وهل ذلك على جهة التحريم، أو الكراهة؟ قولان لأهل العلم. وإلى التحريم ذهب طاووس، ومجاهد، والثوريّ وأحمد وإسحاق وأنّ ذلك يُفسخ إن وقع.

وذهب الجمهور: مالك في المشهور عنه والشافعيُّ وأبو حنيفة وغيرهم: إلى أنَّ ذلك لا يُفسخ إذا وقع.

وقد حكى ابن المنذر عن مالك وغيره جواز ذلك ولو إعطاه ماله كله.

(2)

قال ابن قدامة في "المغني"(8/ 256) وجملة ذلك أنَّه يجب على الإنسان التَّسوية بين أولاده في العطية، إذا لم يختصّ أحدهم بمعنى يبيح التفضيل. فإن خصّ بعضهم بعطيّته، أو فاضل بينهم فيها أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين، إمّا ردُّ ما فضلّ به البعض، وإمّا نصيب الآخر.

قال طاووس: لا يجوز ذلك، ولا رغيفٌ محترقٌ وبه قال ابن المبارك.

ص: 4166

أو أنثى (1).

وقالت طائفةٌ: إنَّ تركَ التسويةِ مكروهٌ [3أ] فقط (2).

وها نحن نوضِّح لك ما هو الحقَّ الذي يرضاه كلُّ واقف عليه من أهل العلم فنقول:

اعلم أن الراويات السابقة التي سُقناها قدِ اشتملتْ على ألفاظٍ إذا نظرتَ في معانيها ظهرَ لك الحقُّ ظهورًا بيِّنًا.

فمن ذلك قولُهُ صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الأول: "فليس يَصِحُّ هذا"؛ فإن هذا فيه التصريحُ منه صلى الله عليه وآله وسلم بنفي الصِّحَّة الشرعية، وما لم يصحّ فليس من هذه الشريعة، بل هو باطل ردٌّ على صاحبه. وقد تقرر في الأصول أنَّ الصِّحَّة هي ترتُّبُ الآثار (3) وإذا انتفت الصِّحَّةُ انتفت الآثارُ، والآثارُ في مثل تمليك الابن لذلك الغلامِ هي أن ينتفعَ به من صار في ملكِه بالبيع والاستخدام ويغر ذلك من الآثار، فلما قال صلى الله عليه وآله وسلم:"ليس يصحُّ هذا" فكأنه قال: هذا لا تترتَّبُ عليه الآثارُ، فلا ينتفعُ به مَن صار إليه بأي وجهٍ، وإذا انتفتِ الآثار انتفى المُلْكُ، فكان الغلامُ باقيًا على ملك مالكه، وهو الأبُ.

وهذا تحريرٌ لا ينكره مَنْ يعرِفُ عِلْمَ الأصولِ، وأصولُ أئمَّتنا مصرِّحةٌ بهذا، ومن أنكر ذلك فعليه بغايةِ السُول (4) وشرحِها، والمعيارِ وشروحِه. وإذا تقرر هذا فقوله صلى الله عليه وآله وسلم:"فليس يصحُّ هذا" قد أفاد بطلانَ ذلك التمليكِ إفادةً

(1) انظر "فتح الباري"(5/ 214 - 215)، "المغني"(8/ 258).

(2)

انظر "فتح الباري"(5/ 214 - 215)، "المغني"(8/ 258).

(3)

قال صاحب "الكوب المنير"(1/ 468): فبصحة عقد يترتب أثره من التمكن من التصرف فيها هو له. كالبيع إذا صحَّ العقد ترتب أثره من ملكٍ، وجواز التصرف فيه من هبةٍ ووقفٍ وأكل ولبسٍ وانتفاع وغيره ذلك، وكذا إذا صحَّ عقدُ النكاح والإجارة والوقف وغيرها من العقود، ترتب عليها أثرها مما أباحه الشرع له به فينشأ ذلك عن العقد.

وانظر: "تيسير التحرير"(2/ 238)، "نهاية السول"(1/ 199).

(4)

(1/ 199).

ص: 4167

واضحةً لا تخفى.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق [3ب]: "إني لا أشهدُ إلَاّ على حقّ" فمعناه: أن هذا غيرُ حقّ، يعني تلك النِّحلَة، ولو كانت حقًّا لشهدَ عليها، وما كان غيرَ حقّ فهو باطلٌ، فتلك النِّحلة باطلةٌ، وما أظنُّه يلتبسُ على من له أدنى فَهْمٍ أن مرادَهُ صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحصرِ التعريضُ ببطلانِ تلك النِّحلةِ، وهذا هو الدليلُ الثاني على أن تخصيصَ بعض الأولاد في حال الصحة بشيء باطلٌ غيرُ موافقٍ للشريعةِ المطهَّرة.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق: "لا تُشْهِدْني على جَوْرٍ"؛ فإنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صرَّح بأن ما فعله بشيرٌ من تخصيص ولدِهِ النعمان في حال صحته جَوْرٌ، والجورُ باطلٌ بنصوصِ الشريعة الكلية والجزئية، وهذا دليلٌ ثالثٌ على البُطلان.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق: "إن لبنيكَ عليك من الحقّ أن تعدِل بينَهم" فجعل صلى الله عليه وآله وسلم العدلَ بين الأولاد حقًّا لهم على أبيهم، وإذا كان ذلك حقًّا فهو واجبٌ عليه، وإذا وقعَ منه خلافُ ذلك كان الواجبُ علينا إيصال أولادِه بمالِهم من الحقِّ عليه أبيهم، وإبطالَ ما فعلَه مخالِفًا للحق الذي صرَّح به الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا دليلٌ رابعٌ على البطلان.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق: "فأرجعْهُ" فهذا أمرٌ منه صلى الله عليه وآله وسلم لبشير بإرجاع ما قد كان نَحَلَه ولدَهُ [4أ]، ولا شك أن الأمرَ بالإرجاع يدلُّ على أن ما فعله غيرُ صحيحٍ، ولو كان صحيحًا لما أمره بإرجاعه، وهذا دليلٌ (1) قاهرٌ لا يحتاج إلى تقريرٍ، بل قد أرشدنا الشارع ـ صلى الله عليه

(1) انظر "فتح الباري"(5/ 211 - 212)

ص: 4168

وآله وسلم ـ أن يقول لكلِّ مَنْ فعل هذا الفعل: "أرجِعْهُ" فإن كان متمكِّنًا من الإرجاع وجب عليه الامتثالُ، فإن لم يفعلْ أكرهْنَاه على ذلك، وإن كان قد مات أرجعناه وأبطلناه، وهذا دليلٌ خامسٌ على البطلان (1).

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق: "اتقوا الله واعدُلوا بين أولادكم" فانظر كيف قدَّم الأمرَ بتقوى الله، ثم عطفَ على ذلك الأمر بالعدل، فظاهره أنَّ مَنْ لم يعدِل بين أولادِه لم يتق الله، وقد أفاد الأمرُ، وهو قوله:"واعدُلوا بين أولادكم"(2) الوجوبَ، لأنَّه المعنى الحقيقيّ، وأفاد جَعْلَهُ مقترِنًا بالتقوى زيادةَ التأكيد، ومن فعلَ فِعلاً يخالفُ به أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويخرج به عن التقوى فقد جاء بما يخالِفُ الشريعة المطهرة، ويُضادُّها. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:"كل أمرٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"(3) وهذا أمرٌ ليس عليه أمرُ رسول الله، فهو ردٌّ على صاحبه، وذلك معنى البطلان، وهذا دليل سادسٌ على البطلان.

ومن ذلك قولُ النعمان في الحديث السابق: "فرجعَ [4ب] أبي في تلك الصدقة" فإن هذا يدلُّ على أنه امتثل ما فهمه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عدم جوازِ ذلك، وهو صاحب القصةِ، وعربيُّ اللسان والفهم، فهو أولى مِنْ فَهْمِ مَنْ فَهِمَ

(1) قال الحافظ في "الفتح"(5/ 214): "أن قوله "أرجعه" دليل على الصحة، ولو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع، وإنما أمره بالرجوع لأن للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده وغن كان الأفضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك أمره به.

قال الحافظ ابن حجر ردًا على ذلك: وفي الاحتجاج بذلك نظرًا والذي يظهر أن معنى قوله "أرجعه" أي لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة.

(2)

تقدم تخريجه".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2697) ومسلم رقم (18/ 1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14).

ص: 4169

غيرَ ذلك، وهذا دليل سابع على البطلان.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق: "اعدُلوا بين أولادكم، اعدُلوا بين أولادكم"(1)؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كرَّر هذه الصيغة المتضمنَة للأمر، وهذا التكرارُ يفيدُ التأكيدَ، وقد تقرر في الأصول أن الأمر الصيغة المتضمنة للأمر، وهذا التكرار يفيد التأكيد، وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه (2)، والنَّهيُ عن الشيء يستلزمُ الفساد المرادف للبطلان (3)، وكل هذا معروف في الأصول، وهذا هو الدليل الثامن على البطلان.

ومن ذلك قولُه صلى الله عليه وآله وسلم: "أَشْهِد عليه غيري"(4) فلا يخفى ما في هذه الصيغة من التهديد المشعِرِ بأن هذا الأمر ليس مما يسوغ عنده صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا قال محمد بن منصور المراديُّ حافظُ آل محمد في الجامع: أنه ليس المرادُ من قوله: "أشهدْ عليه غيري" الأمرَ له بالشهادة، وإنما هو أمرُ تهديد على سبيل الإنكار، نحو قوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (5) انتهى. فعرفتَ أن هذا اللفظ دليلٌ على بطلان ذلك، وهذا هو الدليل [أ5] التاسعُ على البطلان.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق: "ساووا بين

(1) تقدم تخريجه.

(2)

انظر الرسالة رقم (66).

(3)

تقدم ذكره.

وانظر: "الكوكب المنير"(1/ 474).

(4)

قال الحافظ في "الفتح"(5/ 215): ردًّا على ـ من قال: أنقوله: "أشهد على ذلك غيري" إذن بالإشهاد على ذلك ـ فليس كذلك بل هو للتوضيح لما يدل عليه بقية ألفاظ الحديث وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع. وقال ابن حبان: قوله: "أشهِد" صيغة أمر المراد به نفي الجواز وهو كقوله لعائشة: "اشترطي لهم الولاء".

(5)

[فصلت: 40].

انظر: "إرشاد الفحول"(ص348).

ص: 4170

أولادكم في العطية" (1)؛ فإنه أمرٌ، والأمر قد تقدم معناه الحقيقيُّ، وهذا دليل عاشرٌ على البطلان.

ومن ذلك قولُه صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق: "فإنّ هذا لا يصلُحُ" فلا يخفى أن هذا نفيٌ للصلاحيةِ الشرعيةِ، وما ليس بصالحٍ شرعًا فهو باطلٌ، وهذا الدليل الحادي عشرَ على البطلان.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أيسرُّك أن يكون في البِرّ لك سواءٌ"(2)؛ فإن هذا إرشادٌ منه صلى الله عليه وآله وسلم إلى التفضيلَ بين الأولاد سببٌ للعقوق، والعقوقُ من أكبر الكبائر (3)، فما كان سببًا له من أبطل الباطلاتِ، وأحرِم المحرِّماتِ، وهذا الدليل الثاني عَشَرَ على البطلان.

فهذه اثنا عشر دليلاً مأخوذةٌ من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث الذي اتفق على أصله جميعُ المسلمين، ولم يقدحْ فيه قادحٌ، ولا تكلَّم عليه متكلّمٌ، ولا زاعمٌ بأنه منسوخٌ، بل اتفقوا كلهم على وجوب العمل به، وإنما اختلفوا في تفسيره، وها نحن قد شرحناه [5ب] شرحًا ما أظن أحدًا من أهل الإنصاف العارفينَ بكيفية الاستدلال، المطّلعين على العربية والأصول يخالف في ذلك، بل ما أظن أحدًا ممن هو قاصرٌ عن هذه الرتبة يلتبسُ عليه صحةُ ما ذكرناه، وجَرْيُهُ على قانون الإنصاف وتَنكُّبُهُ عن مسالك الاعتساف، وكل واحد من هذه الأدلة يدلُّك على أن تخصيص الرجل لبعض أولاده دون بعض بشيء من مالِه باطلٌ يجبُ على من وقَفَ عليه تغييرُهُ وردُّه

(1) تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

انظر "فتح الباري"(5/ 215): حيث قال: وفي الحديث أيضًا الندب إلى التأليف بين الأخوة، وترك ما يوقع بينهم الشحناء أو يورث العقوق للآباء.

ص: 4171

إلى الشريعة المطهَّرة، وهذا إنما فيمن فعلَ ذلك صحيحًا من غير فرقٍ بين أوائل عُمْرِهِ، أو أوسَطِهِ، أو آخرِه، فإن بشيرًا الذي هو سبب الحديث المذكور جاء بولده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحملُه على ظهره كما ورد في بعض الروايات، وإذا لم يكن في هذه الحالة ـ في حال الصحة ـ، فلا أدري ما هي الصحة، ولا فرق بين ما كان قاصدًا للتوليج والضِّرار، وبين من لم يكن قاصدًا لذلك، فإن من ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنَزَّلُ منزلَة العموم في المقال كما تقرر [6أ] في الأصول (1)، ولم يثبت أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال له: هل قصدت الضِّرار؟ هل أردت التوليج؟ بل أرشدَه إلى ما أرشد، وخوَّفه وحذَّره وهدَّده، وسمَّى ذلك جورًا تارةً، وغير حقٍّ أخرى وغير صحيح تارةً، وغير صالح أخرى، وأمرَه بالارتجاع تارةً، وبالردّ أخرى، فهذا حكمٌ شرعيٌّ شرعه لنا من شرَعَ لنا الصلاةَ والزكاةَ، وجاءنا به مَنْ جاءنا بأركان الإسلام، ومن زعم أنه مخصِّصٌ بشيء من المخصِّصات، أو مقيَّدٌ بشيء من القيود فهذا مقام الإفادة والاستفادة، ومن زعم أن له رخصةً عن العمل بالأدلة الأثنى عشر التي أسلفناها فالرخصة له في ترك سائر الأحكام الشرعية أظهرُ، فإن غالبَ المسائل ثبتت بقياس (2) متنازع فيه، أو استصحاب (3) أو ..............................

(1) انظر "إرشاد الفحول"(ص452)، "المحصول"(2/ 386 - 387).

(2)

تقدم تعريفه.

(3)

الاستصحاب لغة: استفعال من الصحبة وهي الملازمة.

قال في "المصباح المنير"(ص127): "وكل شيء لازم شيئًا فقد استصحبه واستصحب الكتاب وغيره. حملته صحبني. ومن هنا قيل: استصحب الحال إذا تمسكت بما كان ثابتًا، كأنك جعلت تلك الحالة مصاحبة غير مفارقة.

الاستصحاب اصطلاحًا:

قال العضد: الاستصحاب: أن الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه وكل ما هو كذلك فهو مظنون البقاء. "شرح العضد لمختصر" ابن الحاجب

(2/ 284). وقال الغزالي في " المستصفى"(2/ 410): الاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي وليس راجعًا إلى عدم العلم بالدليل، بل إلى دليل مع العلم بانتفاء المغير ـ أو مع ظن انتفاء المغير ـ عند بذل الجهد في البحث والطلب.

-واختلفوا هل هو حجةً عند عدم الدليل على أقوال:

الأول: أنه حجة وبه قالت الحنابلةُ والمالكية وأكثر الشافعية والظاهرية سواء كان في النفي أو الإثبات.

الثاني: أنّه ليس بحجة وإليه ذهب أكثر الحنفية والمتكلمين كأبي الحسن البصري.

والاستصحاب عند الأصوليين أنواع انظرها في "إرشاد الفحول"(ص773)، "الكوكب المنير"(4/ 403).

ص: 4172

اجتهاد (1)، والقليلُ منها ثبتَ بمثل دليلٍ واحد من هذه الأدلة الاثنى عشر أو دونَه بمراحل في الصحة، فعلى من كان مجتهدًا أو متمكنًا من الترجيح والموازنة بين الأدلة أن يُمْعِنَ النَّظر فيما حرَّرناه، ويتقيَّدُ به إن رآه راجحًا [6ب]، وما أظنه بعد إمعان النظر يعدلُ عنه إلى غيره، فإن ما أورده القائلون بمجرد الكراهة من دون تحريم لا ينتهض شيء منه لمعارضة دليل من هذه الأدلة، فضلاً عن أن يكون مساويًا، فضلاً عن أن يكون راجحًا. وقد بسطتُ ما قالوه في شرحي للمنتقى (2) في كلام طويل، وكل ذلك مجردُ تأويلٍ (3) لم يلجئ إليه ملجئ، ولا دعت إليه ضرورةٌ، ولا سوَّغته حاجةٌ كقولهم: إن الموهوبَ للنعمان كان جميعَ مالِ بشير، وهذا تأويل فاسدٌ يرُدُّه التصريحُ في الحديث بأنه غلامٌ، وفي لفظ آخر: تصدَّقَ عليَّ أبي ببعض ماله، كما في صحيح .......................................

(1) انظر الرسالة رقم (61).

(2)

ك وهو نيل الأوطار (4/ 19).

(3)

قال القرطبي في "المفهم"(4/ 588): ومن أبعد تأويلات ذلك الحديث قول من قال: إنَّ النهي فيه إنّما يتناول من وهب ماله كّله لبعض ولده، وكأنّه لم يسمع في الحديث نفسه: إنّ الموهوب كان غلامًا فقط، وإنّما وهبه له لما سألته أمُّه بعض الموهبة من ماله. وهذا يعلم منه على القطع: أنّه كان له مالٌ غيره.

ص: 4173

مسلم (1)، وكقولهم: إن قولَه: "أشهِدْ على هذا غيري"، أذنَ به بالإشهاد (2)، وهذا فاسدٌ، فإنه كما تقدم تهديدٌ بدليل قوله:"لا أشهدُ على جَوْرٍ"، وقوله:"إني لا أشهدُ إلَاّ على حقّ"، وكذلك سائر ما ذكروه مما هو أضعفُ من هذا (3)، وقد أوضحت فسادَ ذلك جميعَه في الشرح المذكور.

نعم استدلّ بعضُ العلماء على الجواز مع الكراهة للبارّ بقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (4) وهذا استدلالٌ لا يقعُ مثلُه لمتيقِّظٍ، فإنه عارضَ الدليل [7أ] الخاصّ، وهو التسويةُ بين الأولاد بالدليل العام، ولم يقنع بذلك حتى رجَّحه عليه، وقدِ اتَّفق أهلُ الأصول أجمعُ أكتعُ أنه يُبنى العامّ على الخاص، فهذا الاستدلال مخالفٌ لإجماع أئمتنا وسائر المسلمين أجمعين.

واستدل بعضُهم على جواز نِحْلَةِ البارّ مع كراهةٍ بما روي من نِحْلَةِ بعضِ الصحابة لبعض أولادهم دون بعض (5)، وهذا أيضًا مدفوعٌ من وجوه:

(1) رقم (13/ 1623).

(2)

قال القرطبي في "المفهم"(4/ 587) ليس إذنًا في الشهادة وإنّما هو زجرٌ عنها، لأنَّه صلى الله عليه وسلم قد سمّاه جورًا وامتنع الشهادة فيه، فلا يمكن أن يشهد أحدٌ من المسلمين في ذلك بوجه.

وانظر: "المغني"(8/ 257).

(3)

انظر "فتح الباري"(5/ 214 - 215).

(4)

[الرحمن: 60].

(5)

قال الحافظ في "الفتح"(5/ 215): "

عمل الخليفتين أبي بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب".

- أما أبو بكر فرواه مالك في "الموطأ" بإسناد صحيح عن عائشة أن أبا بكر قال لها في مرض موته، "إني كنت نحلتك فلو كنت اخترتيه لكان لك، وإنما هو اليوم للوارث".

- وأما عمر فذكر الطحاوي وغيره أنَّه نحل ابنه عاصم دون سائر ولده قال ابن حجر: "وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك ويجاب بمثلها عن قصة عمر".

أخرج الأثرين البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 178).

وانظر: "الحاوي الكبير"(6/ 412) و"المغني"(8/ 259).

ص: 4174

الأول: المنعُ من كونهم فعلُوا ذلك، فما الدليل على أنهم فعلوه؟ ومَنِ الذي فعله منهم؟ فإنّه يبعد كلّ البعد أن يخالفوا ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الثاني: أنه لا بدّ أن يأتي المدّعي بالبرهان على ذلك، ويعيِّنَ فاعلَه، وأنه فعله من دون رضى سائر أولاده.

الثالث: أنه على فرض وقوع ذلكمن واحد منهم، أو جماعة، فليسوا بحجة على الأمة، إنما الحجةُ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به عن الله، وكيف يُعارض بأفعالهم قول رسول الله الثابت عنه ثبوتًا متفقًا عليه! وأيّ قائل من أهل العلم قد قال بهذا! أو سبق إليه! فإنه خلافُ إجماع أهل البيت، وسائر المسلمين.

ثم هذه المسألة [7ب] قد قدمنا الإشارة إلى ما فيها من الخلاف بين أهل العلم، ذكرنا ما ذكره الإمامُ أحمدُ بن سليمان من اتفاق العلماء على ثبوت الحديث، وعلى دلالته على المنع، وتصريحه بأنّ الخلاف إنما هو في مجرّد التفسير والتأويل، وإذا كان الأمر كذلك فمَنْ أحقّ بالنجاة، وأولى بالحقّ هل العاملُ باثني عشر دليلاً ثابتةً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمتقدي بجمهور أهل البيت ـ سلام الله عليهم ـ وسائر علماء المسلمين رحمهم الله، أم العاملُ بمجرد الخيالات من التأويلات والتعسُّفات من التفسيرات! مع شذوذ القائلِ بمقاله؟ ولعمري إن هذه موازنةٌ لا تلتبسُ على مَنْ لم يعرفِ العِلْمَ، فكيف بمن عرفَه!.

بعد الفراغ من هذا خطر دليلٌ ثالثَ عشرَ وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو كنت مفضِّلاً أحدًا لفضَّلْتُ البنات" كما سبق نقلُ ذلك، فإن لو حرف امتناع، فمعنى ذلك: لكني لا أفضِّلُ أحدًا، فلا أفضِّلُ البناتِ، وهذا يفيدُ نفيَ التفضيلِ، ويدلُّ

ص: 4175

على بطلانه من الأصل (1).

وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هدايةٌ، والله وليُّ التوفيق.

حرر في الثلث الأوسط من ليلة الخميس، لعله يوم عشرين من شهر صفر سنة 1216 بقلم جامعه ـ غفر الله له ـ.

(1) قال الحافظ في "الفتح"(5/ 215 - 216) وفي الحديث:

1 -

الندب إلى التأليف بين الأخوة وترك ما يوقع بينهم الشحناء أو يورث العقوق للآباء.

2 -

أن عطية الأب لابنه الصغير في حجره لا تحتاج إلى قبض، وأن الإشهاد فيها يغني عنا لقبض وقد قيل إن كانت الهبة ذهبًا أو فضة فلا بد من عزلها وإفرازها.

3 -

فيه كراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح وأن الإشهاد في الهبة مشروع وليس واجب.

4 -

وفيه جواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات دون البعض وإن وجبت التسوية بينهم في غير ذلك.

5 -

أن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة، وتظهر فائدتها إما ليحكم في ذلك بعلمه عند من يجيزه أو يؤديه عند بعض نوابه.

6 -

فيه مشروعية استفصال الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال لقوله: "ألك ولد غيره" فلما قال "نعم" قال: "أفكلهم أعطيت مثله" فلما قال: "لا" قال: لا أشهد" فيفهم منه أنه لو قال نعم لشهد.

7 -

فيه جواز تسمية الهبة صدقة.

8 -

أن للإمام كلامًا في مصلحة الولد، والمباداة إلى قبول الحق.

9 -

أمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال.

10 -

فيه إشارة إلى سوء العاقبة الحرص والتنطع. لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه، فلما اشتد حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه.

11 -

فيه أن للإمام أن يرد الهبة والوصية ممن يعرف منه هروبًا عن بعض الورثة.

انظر: "المفهم"(4/ 584)، "المغني"(8/ 256 - 260).

ص: 4176