الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(123)
35/ 1
رسالة في: حكم المخابرة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: "رسالة في حكم المخابرة".
2 -
موضوع الرسالة: "فقه".
3 -
أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله الذي ميَّز لنا في المعاملات الحلال من الحرام كما فصَّل لنا في العبادات جميع الشرائع والأحكام
…
".
4 -
آخر الرسالة: "
…
والحمد لله أولاً وآخرًا وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. انتهى من تحرير المجيب محمد بن علي الشوكاني حفظه الله ومد لنا في مدته إنَّه جوادٌ كريم، آمين آمين آمين.
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
عدد الصفحات: 7 صفحات.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 14 سطرًا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
هذا بحثُ شيخِنا العلَمِ، والجوابُ عليه قد تقدَّم قبلَه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي ميَّز لنا في المعاملات الحلالَ من الحرامِ، كما فصَّل لنا في العباداتِ جميعَ الشرائعِ والأحكامِ، نحمدُه على حُسْنِ معاملتِه، وسوابغ إنعامه، وجزيل امتنانه. والصلاةُ والسلام على مَنْ خاطبَ الله العبادَ على لسانِهِ بـ:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) تفخيمًا لشأنه وبعدُ:
فإني تصفَّحْتُ ما حرَّرَهُ الصفيُّ العلامةُ فخرُ الأوانِ، ونبيلُ الأقران محمدُ بنُ عليٍّ الشوكاني ـ لا برح في خلال المحامد ـ، رفيع المباني، مستمدًا من بحر علمه، ومَعينِ تحقيقه القاصي والداني في مسألة المخابرة (2)، وما سَرَدَهُ من أقوالِ العلماء فيها، وإيرادُ حُجَّةِ كلِّ قائلٍ، وما يَرُدُّ عليها، وما ختَمَ به البحثَ مما تفردَ بالمصير إليهِ، فأجاد كل الإجادة، كثر الله فوائده، وشكر سعيه، وجعلني وإياه ممن آثر كلامَ معلّم الشرائع على مَنْ سواه، ولزم هديَهُ. إلَاّ أنَّه لما خُيِّلَ لفهمي القاصر أنَّ الأظهرَ في المقامِ هو المنعُ من المخابرةِ كما هو رأيُ أهل القولِ الأولِ، بمقتضى الأدلةِ التي ساقَها لهم، بعضُها تصريحُ النهي، وبعضُها بما يلزم منه النهيُ عنها، وبعضُها بالوعيدِ على مَنْ يدعْها.
وكان الذي ظهرَ له لم يخلُصْ إلى المنعِ منها مطلقًا، حتى يرتفعَ الخلافُ من البيِّنِ، ويطمئنُّ الخاطرُ باتحاد القولينِ، وتتحققُ فيما بيني وبينَه في ذلك المخابرةُ، ويستريحُ كلّ منا عن نسبةِ ما قاله الآخَرُ إلى المكابرةِ، أحببتُ مراجعتَه بما سَنح لي في هذا القِرطاسِ، فإن يكنْ صوابًا فهوَ الباعثُ عليه من حيثُ إنّ رسالتَه في ذلكَ هي الأساسُ، وإن يكن خطأً فالمأمونُ من كريمٍ سجاياهُ التنبيهُ على ذلكَ، والإيضاحُ بما يزيلُ الالتباسَ.
(1)[الحشر: 7].
(2)
هذه الرسالة التي عليها هذه المناقشة لم تكتب في المجموع (1) بل كتبت في المجموع رقم (2) وقد تقدمت برقم (122).
ومع السلوك معهُ تولَاّه الله في مرجوحية ما عدا القولَ الأولَ، وما رجَحَ لهُ في المسألة آخرًا لا حاجةَ بنا إلى الكلامِ على كّ [قولٍ](1)، من بقية الأقوالِ، وما أورده عليها إذ هو تطويلٌ بما لا طائلةَ تحتَه، ولمَّا كان الأظهرُ في ظنِّي هو القولُ الأولُ لم يكن لي غرضٌ من هذا الرَّقْمِ إلَاّ ذِكرَ ما يؤيدُه، ودفعَ ما يَرُدُّ عليهِ، لكنه استدعى ذلك بيانَ مدلولِ لفظِ المخابرةِ، ليتضحَ ما هو المقصودُ بالنهي من النواهي الصريحةِ المطلقةِ عن التفسير من الراوي، فانحصر مقصودي في بحثينِ:
الأولُ: في بيانِ مدلولِ لفظِ المخابرةِ، وهل هو متَّحدُ المعنى أو متعدِّدُهُ، حقيقةً أو مجازًا.
الثاني: في دفع ما أورد على القولِ الأولِ.
البحثُ الأول: في بيان لفظ المخابرة، أقول: هاهنا أنواعٌ من المعاملةِ أُطْلِقَ لفظُ المخابرةِ، النوع الأول، إكراءُ الأرضِ بنصيبٍ معلومٍ من غِلَّتها كما وقعَ [13] في أراضي خيبرَ، فهذا النوعُ هو المسمَّى بالمخابرةِ حقيقةً، سواءٌ أَطْلقَتْ، أو قيِّدت بشرطٍ أيّ شرطٍ؛ إذ استعمالُ العامِ في الخاص من حيث إنه فردٌ من أفراده حقيقة.
الثاني: بيعُ الكُدُسِ؛ وهو بيعُ ما جُمِعَ من الطعامِ بكذا وكذا صاعًا، كما وقع في حديث جابرٍ (2).
الثالث: إكراءُ الأرضِ بما يكون على السواقي (3) والماذيانات، وفي معناه إكراءُها على أن يكونَ لربّ الأرض هذه، وللأجير هذه.
الرابع: المحاقلةُ (4)، وهي إكراءُ الأرض بالحنطة. فهذه أربعة أنواع من المعاملة قد أطلقَ عليه لفظ المخابرة. الأول منها حقيقة، وما سواهُ مجازٌ؛ إذ لا يتبادرُ عند الإطلاقِ
(1) كلمة قول مكررة في المخطوط.
(2)
كلمة قول مكررة في المخطوط.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1548).
(4)
تقدم ذكر الحديث.
إلَاّ المعنى الأول، والمتبادَرُ علامةُ الحقيقةِ، قال في القاموس (1): المخابرةُ أن يزرعَ على النصفِ ونحوِه، وفي النهاية (2): ونَهَى عن المخابرةِ قيل: هي المزارعةُ على نصيب معيَّنٍ كالثُّلثِ، والرُّبُعِ، وغيرِهِما. وقيلَ أصلَ المخابرةِ من خيبرَ، لأن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أقرَّها في أيدي أهلها على النصف من محصولِها، فقيل خابرَهُم، أي: عاملَهم في خيبرَ انتهى، لا يقالُ يكونُ حقيقةً في الكلّ على جهة الاشتراك، لأنّا نقولُ: القاعدةُ الأصوليةُ (3) إذا تردَّدَ اللفظُ بين المجازِ والاشتراكِ فحملُه على المجازِ أوْلى لوجوهٍ ليسَ هذا موضعَ ذِكْرِها.
إذا عرفتَ هذا فمتى أطلق لفظُ المخابرةِ، ولم يفسِّرْهُ الراوي كما وقع في أكثر الروايات، فإنما ينْصَرِفُ إلى مسمَّى المخابرةِ حقيقةً، وهو النوع الأول، وإذ الأصلُ الحقيقة.
فإن قلتَ: الجميعُ منهيٌّ عنه فلا ضيرَ في فَهْمِ جميعِ الأنواعِ المذكورةِ من نحوِ نهي عن المخابرة.
قلتُ: ذلك مع كونِه مُسْتَغْنَى عنهُ بقيامِ الأدلةِ المانعةِ من كل منها خلطٌ بين الحقيقةِ والمجازِ، ولا ما يخفى ما فيه النزاع. لا يقالُ النَّهيُ عن المخابرة محمولٌ على الكراهةِ كما ذهبَ إليه أهلُ القولِ السادسِ مطلقًا، وكما ذهب إليه صاحبُ الرسالة (4) في مثل المخابرةِ الواقعةِ في حينِه، أما على مذهبِ مَنْ يقولُ: النهيُ حقيقةٌ في الكراهةِ فظاهرٌ،
(1)(ص488).
(2)
(2/ 7).
(3)
قال الشوكاني في "إرشاد الفحول"(ص123 - 124) بعد أن ذكر أقوال العلماء في ذلك.
والحقُّ أن الحملَ على المجاز أولى من الحمل على الاشتراك لعلية المجاز بلا خلاف والحمل على الأعم الأغلب دون القليل النادر متعيِّنٌ.
وانظر: "البحر المحيط"(2/ 241) و"المحصول"(1/ 351).
(4)
انظر الرسالة رقم (122).
وأما على القولِ بأنّه حقيقةٌ في التحريم فالمراد عند عدمِ القرينةِ. وهاهنا القرينةُ فعلُه صلى الله عليه وآله وسلم في خيبر، لأنّا نقولُ: القولُ بأنَّ النهيَ حقيقةٌ في الكراهة مذهبٌ مرجوحٌ. ولو سُلّمَ فالقائل بذلك إنما يقولُ به في مقام لا قرينة في فيدل على إرادة التحريم. وهنا قد وُجِدَتْ؛ وهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لم يذَرِ المخابرةَ فليأذن بحرب من الله ورسولِه"(1) فإنه أفاد هذا الوعيد أنّ النّهي في سائر الروايات مرادٌ منه التحريمُ، ودعوى كونِ ذلكَ مبالغةً في شدةِ الكراهةِ خلافُ الظاهرِ، لا يقولُ به منصفٌ.
البحث الثاني: في دفْعِ ما أوردَهُ صاحبُ الرسالة على القولِ [14].
قوله: هذا وأنتَ خبيرٌ بأن القولَ الأولَ أعني: اختيارَ المنعِ مطلقًا يدفعُهُ موتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو معاملٌ لأهلِ خيبرَ.
أقول: هذا الفعلُ الصادرُ منه صلى الله عليه وآله وسلم معلومٌ أنه ليس جِبِلِّيًّا، ولا بيانًا، لكنه يقالُ: لِمَ لا يكونُ خاصًّا؟ ودليل الخصوصية صرائحُ النهي لمن سواه، وفعلُ غيرها ليس بحجَّةٍ سلَّمنا أنه خصوصيةٍ فكونُ مطلقِ الفعلِ حجَّةً بحل النزاع. قال العلامة ابنُ الإمام: اختُلِفَ في فعلِ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو هو دليلٌ شرعيٌّ على ثبوت مثل ذلك الفعل الواقع في خيبرَ، بوجوه من التأويلات [في حقبا](2) أم لا انتهى، سلّمنا فإنّما يكون حجّةً إذا لم يكن له مَحْمَلٌ غيرَ التشريعِ، وقد يُؤَوَّلُ ذلك الفعلُ الواقعُ في خيبرَ بوجوهٍ من التأويلاتِ، ودعوى أنها متَعَسَّفَةٌ متناقضةٌ خاليةٌ عن برهانٍ سلّمنا، فالواقعُ منه صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو مع يهود خيبر في أراضي مُلِكَتْ بنوعٍ من التملُّكاتِ، فيُقْتصَرُ على ما وردَ ويكونُ ذلك الفعل دليلا على جواز مثله في أرض مُلِكت كذلك مع مَنْ هو بتلكَ الصفةِ. سلّمنا فإثباتُ ذلك الحكمِ
(1) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (3406) وهو حديث ضعيف.
(2)
كذا في المخطوط غير واضحة ولعلها [في حقنا].
للمسلمينَ فيما بينهم في أرضٍ ملكتْ بأي نوع من التملُّكاتِ إنما يكون بطريقِ الإلحاقِ والقياسِ، وهو ما يسميهِ الأصوليون قياسًا في معنى الأصلِ (1)، وقياسًا بالفارق، فيكونُ قياسًا في مقابلةِ النصِّ (2). ولا يخفى بطلانُهُ.
فإنْ قلتَ: ليس الحجّةُ في هذا المقامِ فعلُه، بل الحجةُ تقريرُه لما وقع من بعضِ الصحابةِ من مثلِ ذلك الفعلِ.
قلتُ: هذا مع كونه لم يُسْتَنَدْ إليهِ في مقامِ الاستدلالِ لا يَتِمُّ المطلوبُ، لأنه يكونُ ذلكَ التقريرُ على القول بحجيّته تخصيصًا لعمومِ النهي عن المخابرة لأولئك الذين قرَّرَهُم. وأما غيرُهم ففيه أنه قال العلامةُ ابنُ الإمام في بحثِ التخصيص بالتقرير ما صورتُه: فإذا قَدَر واحدٌ من المكلّفينَ على خلافِ مقتضَى العامّ كان مخصِّصًا له عند الأكثرينَ، وإذا ثبتَ الجوازُ في حقّ ذلك الواحد، فإنْ تبيَّنَ معنى هو العلةُ لتقريرِه الحقّ بهِ مشاركةً في ذلك المعنى، إما بالقياس، وإما بنحوٍ حكميٍّ على الواحدِ (3)، حكميّ على الجماعة إن
(1) واعملوا أنهم جعلوا القياس من أصله ينقسم من أصله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ - قياس علة: وهو صُرِّح فيه بالعلة كما يقال في النبيذ: إنّه مسكرٌ فيحرم كالخمر.
ب- وقياس دلالة: وهو أن لا يذكر فيه العلّة بل وصف ملازم لها كما لو عُلّل في قياس النبيذ على الخمر برائحة المُشتدّ.
جـ- قياس في معنى الأصل: هو أن يجمع بين الأصل والفرع بنفي الفارق. وهو تنقيح المناط وهو إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق بأن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحمك لاشتراكهما في الموجب له. كقياس الأمة على العبد في السِّراية فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة وهو ملغي بالإجماع، إذ لا مدخل له في العلية.
قال الغزالي في "المستصفى"(3/ 488)، "المحصول"(5/ 231)، "الكوكب المنير"(4/ 199).
(2)
انظر التعليقة السابقة.
(3)
تقدم تخريجه.
ثبتَ، وقولُه (1) صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة حَجَّةِ الوداعِ:"هل بلّغتُ؟ " قالوا: نعم، قال:"فَلْيُبَلّغِ الشاهدُ منكمُ الغائب" انتهى، وقد عرفتَ أن القياسَ في مقابلةِ النصِّ مُطَّرَحٌ.
وقوله: حكميٌّ على الواحدِ إلخ، حديثٌ فيهِ مقالٌ مشهورٌ، فكيف يُسْتَنَدُ إليه! وتُهْمَلُ عموماتُ صرائحِ النهي في الأحاديثِ الصحيحةِ، وأما قولُه صلى الله عليه وآله وسلم:"فَلْيُبَلِّغِ الشاهدُ منكم الغائب"، فالمُراد يبلغُ الشاهدُ ما وقعَ في تلك الخطبةِ، أو ما سمعهُ من الأحكامِ بقرينةِ قولِه في آخرِ الحديثِ:"فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع" وعلى التقديرينِ لا يفيدُ المطلوبَ.
قوله: ودعوى النسخِ باطلةٌ بموتِهِ صلى الله عليه وآله وسلم [15]ـ على بُعْدِ هذهِ المعاملةِ.
أقول: لم يسبقْ منه نسبةُ هذه الدعوى لأهلِ القولِ الأولِ في مقامِ الاستدلال لهم، حتى ترتَّبَ إبطالُها عليه هاهنا، وعلى فرض صدورها منهم هي لا تتمُّ كما ذكرهُ لكنْ مع ما ذكرنَاهُ لا حاجَة إليها، إذا عرفتَ هذا علمتَ ما في الاحتجاجِ بالفعلِ الصادرِ منه صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذا المقام، وكذلك ما صدر من بعض الصحابة في زمنه، وحينئذٍ يتعيَّنُ المصيرُ إلى القولِ. وبهذا يندفعُ ما أوردَ على القولِ الأولِ.
هذا وأنتَ إذا تحقَّقتَ ما سقته في هذين البحثين خصوصًا التالي عرفت موجوحية ما سوى القول الأول على الإطلاق، وأن قول من وُجِّه إليه هذا الخطاب، والذي ظهر للحقي تحريم كل مخابرةٍ وتفصيله لهذه الكلية بذكر كل نوع بدليله كلامٌ مسلّمٌ مرضيّ، وأن قولَه: ويبقى الإشكالُ في تأجير الأرضِ بشطرٍ معلومٍ من الثمرة من ثُلُثٍ، أو رُبُعٍ، أو نحوِ ذلكَ. وساقَ الكلام حتى حمل النهي النواهي القاضية بالتحريم المدفوع عنها احتمال الكراهة بذلك الوعيد الشديد على خلاف ظاهرها كما هو مذهب الأكثر كلامٌ
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (147/ 1218).
غير مسلم، وتعرف أيضًا أن قوله في غضون ذلك البحث: قد استمرّ على ذلك الفعل الصحابة في حياته، وبعد موته إن أراد جميع الصحابة ناقض ما حكاه عن أهل القول الأول، فقد قال به جماعةٌ من الصحابة كما سبق له، وإن أراد البعض فإنْ كان في حياتِه صلى الله عليه وآله وسلم وسلّمنا اطّلاعَه على ذلك كان تقريرًا، وفيه ما سمعتَه، وإن يكن بعد موتِهِ فالحجَّةُ إنما هي قولُه وتقريرُه وفعلُه إنْ لم يعارِضْهُ صريحُ القولِ على أنه قد نقَلَ رجوعَ ابن عمرَ عنها، فلا يَبْعُدُ رجوعُ غيرِهِ. ولم يُنْقَلْ هذا.
واعلم أن تفرَّدَ صاحبِ الرسالةِ بما ذهبَ إليه مبنيٌّ على القولِ بجوازِ إحداث قولٍ في المسألةِ بعد استقرارِ (1) قول المجتهدينَ، وإن كان قول الأكثر بخلافه الأظهر.
والمسألة مبسوطةٌ في أصول الفقهِ معروفةٌ، والله ولي التوفيق، ونسأله الهدايةَ إلى خير طريقٍ، وصلى الله وسلم على محمد الأمينِ، وآله الأكرمينَ آمينَ.
(1) انظر "البحر المحيط"(4/ 492)، "المسودة"(ص320).
هذا جوابٌ مني عن بحثِ شيخِنا العلَمِ رحمه الله الذي سيأتي، وله في الورقةِ الثالثةِ بعدَ هذهِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله والطاهرين، وعلى صحبه الراشدينَ، وبعدُ.
فإنَّها لما وصلتْ هذه الرسالةُ التي سمحَ بها متدَفِّقُ بحر علمِ شيخِنا المحققِ، المدققِ، العلامة المجتهد، إمام المعقول والمنقول، حِبْر الفروع والأصول، علَم الجَهابِذَةِ الأعلام، وحِبر شرائع الإسلام، مَنْ لا أُسميه إجلالا وتَكْرِمَةً؛ إذ قدْرُهُ المتعلي عن ذاكَ يكفينا إلى تلميذه الحقير، أسير التقصير، أذْهَبْت ـ كما علم الله ـ عن ذهنه الجامد ما تعلَّق به من ضدِّ المخابرةِ، وأوجبت لما اشتملت على تحقيق التحقيق سلبُ المناظرةِ والمكابرةِ، ولم أجدْ فيها ما يَحتملُ القيلَ والقالَ، والمراجعةَ والجدالَ.
فأقول: قولُه ـ حفظه الله ـ: لأنا نقولُ: القولُ بأنَّ النَّهيَ حقيقةٌ في الكراهة مذهب مرجوح لا يناسبُهُ (1).
قوله: ولو سُلِّم فهذا الفعلُ المدَّعى كونُه قرينةً، لأنَّ ذلك التسليم في قوة سلَّمنا أنَّ القول أبان حقيقةً في الكراهة راجحٌ، وبعدَ ثبوت ذلكَ لا يُحتاجُ إلى القرينة، لأنَّ القرينة إنما جابَها المدَّعي للصرف (2) عن التحريمِ إلى الكراهةِ (3)، فكانَ الأنسبُ أن يقولَ: لأنَّا
(1) في حاشية المخطوط ما نصه:
هذا الاعتراض صحيح ـ أحسن الله جزاكم ـ وقد صلح في الأصل إلى ما ترون.
(2)
في حاشية المخطوط ما نصه: أما ما في هذا التصويب فهو لا يلزم القائلَ أنَّ النهي حقيقةٌ في الكراهةِ، إذ يصير الجواب عليه بما يومه* هذا تغيره.
(*): غير واضحة في المخطوط (الحاشية).
(3)
في حاشية ما نصه. فعال الصحابةُ القائلون بالمنع من المخابرة هل خفي عليهم ما وقع في خيبر فما هو جوابكم فهو جوابنا. قال الشوكاني في "إرشاد الفحول (ص384): اختلفوا في معنى انلهي الحقيقيِّ فذهب الجمهور إلى أن معناه الحقيقيّ هو التحريم وهو الحقُّ.
ويرد فيما عداه مجازًا كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا في مبارك الإبل" فإنَّه للكراهة. وكما في قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} فإنَّه للدعاء.
وكما في قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} فإنَّه للإرشاد.
وكما في قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} فإنَّه للتحقير.
انظر: "تيسير التحرير"(1/ 375)، "المسودة"(ص81)، "الكوكب المنير"(3/ 81).
نقولُ أنَّ النهي حقيقةٌ (1) في التحريمِ، ولا نسلِّم ذلكَ الفعلَ المدعى قرينة إلخ.
قوله: لِمَ لا يكون خاصًا به؟ ودليلُ الخصوصيةِ، إلى قولِه: وفعلُ غيرِه ليسَ بحجيَّةٍِ.
أقول: نعمْ لا حُجَّةَ في فعلِ غيره، لكنَّ خفاء الخصوصيةِ على مثلِ أكابرِ الصحابةِ كعليٍّ، وعمرَ، ومعاذٍ، وابن مسعود، وجميع أهلِ المدينة بعيدٌ، لا سيَّما وقدِ استمرَّ على ذلك بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت في حديث ابن عمر عند الخمسة (2) أنَّ عمرًا لما وُلِّيَ خيرَ أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنْ يقطع لهنَّ الأرض والماء، أو يضمن لحصن الأوساق في كل عام
…
الحديث، وكما أخرجه البخاري (3) أيضًا عن عمر أنه عامل الناس على أنْ جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاؤا [17] بالبذرِ فلهم كذا. وكما أجرجه ابن ماجه (4) أن معاذًا أكْرَى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ رضي الله عنهم على الثُّلُث، والرُّبُع.
قوله: فكون مطلق الفعل الخ
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 149) والبخاري رقم (2238) ومسلم رقم (6/ 1551) وأبو داود رقم (3008) وابن ماجه رقم (2467).
(3)
في صحيحه (5/ 10 رقم الباب 8). معلقًا وقد تقدم.
(4)
في "السنن" رقم (2463) وهو حديث صحيح.
أقول: قولُ الله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) والمأتيُّ به أعمُّ أن يكون قولاً، وفعلاً، وقوله:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} : [الأحزاب: 21]. (2): أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى سبعة أقسام:
1 -
ماكان من هواجس النفس وحركات البشرية كتصرُّف الأعضاء وحركات الجسد فهذا القسم لا يتعلق به أمرٌ باتباع ولا نهيٌ عن مخالفته وليس فيه أسوة ولكنه يفيد أن مثل ذلك مباح.
قال سبحانه وتعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93].
2 -
ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة، كالقيام والقعود ونحوهما فليس في تأس ولا به اقتداءٌ ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور.
3 -
ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلى التشريع بمواظبته عليه على وجه معروف وهيئةٍ مخصوصة كالأكل والشرب واللُّبس والنوم فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة وفوق ما ظهر في أمر الجبلة على فرض أنَّه لم يثبت فيه إلا مجرَّد الفعل، وأما إذا وقع منه صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى بعض الهيئات كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيئات الأكل والشرب فهذا خارج عن هذا القسم داخل فيما سيأتي.
4 -
ما علم اختصاصه به صلى الله عليه وسلم كالوصال والزيادة على أربع فهو خاص لا يشاركه فيه غيره.
5 -
ما أبهمه صلى الله عليه وسلم لانتظار الوحي كعدم تعيين نوع الحج مثلاً، فقيل يقتدي به في ذلك وقيل لا.
6 -
ما يفعله مع غيره عقوبة له كالتصرف في أملاك غيره عقوبةً له اختلفوا هل يُقتدى به فيه أم لا فقيل يجوز وقيل لا يجوز وقيل هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب، وهذا هو الحقُّ فإن وضح لنا السبب الذي فعله لأجله كان لنا أن نفعل مثل فعله عندوجود مثل ذلك السبب وإن لم يظهر السبب لم يجز، وأمَّا فعله بين شخصين متداعيين فهو جار مجرى القضاء فتعين علينا القضاء بما قضى به.
7 -
الفعل المجرد عما سبق، فإن ورد بيانًا كقوله صلى الله عليه وسلم:"صلُّوا كما رأيتموني أصلي" فلا خلاف أنّه دليلٌ في حقنا وواجبٌ علينا وإن ورد بيانًا لمجمل كان حكمه حكم ذلك المجمع من وجوب وندبٍ كأفعال الحج وأفعال العمرة وصلاة الفرض وصلاة الكسوف.
وإن لم يكن كذلك بل ورد ابتداءً، فإن علمت صفته في حقه من وجوب أو ندب أو إباحة فاختلفوا في ذلك على أقوال:
الأول: أن أمته مثله في ذلك الفعل إلا أن يدلُّ على اختصاصه به وهذا هو الحقُّ.
الثاني: أن أمته مثله في العبادات دون غيرها.
الثالث: الوقف.
الرابع: لا يكون شرعًا لنا إلا بدليل.
وإن لم تعلم صفته في حقه وظهر في قصد القربة فاختلفوا فيه على أقوال.
انظر: "البحر المحيط"(4/ 180)، "المحصول"(3/ 229)، "إرشاد الفحول"(ص157 - 165)"المعتمد"(1/ 348).
(1)[آل عمران: 31] وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} : [الحشر: 7].
(2)
ورجوعُ الصحابةِ إلى فعلِه من غير تصحيحِ باب دونَ بابٍ، وأبحاثُهم لكثيرٍ من الواجباتِ بمجردِ فعلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم لها مما يشهدُ بأن فعله
ـ صلى الله عليه وآله وسلم دليلٌ شرعيٌّ إن لم يكن (1) جِبِليًّا (2).
قوله: ودعوى أنها متناقضةٌ متعسَّفةٌ خاليةٌ عن برهان.
أقول: برهان التناقض أنَّ أحد التأويلات أثبت أنهم مملكون (3) لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأرض أرضه، والآخر أثبت حريتهم (4) والأرض لهم، وهذا تناقض ظاهرٌ، وبرهان التعسف أن أخرج الشيخان (5) لما ظهر رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم على خيبر سألته اليهود أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها، ولهم نصف الثمرة فقال:"نقرِّكم بها على ذلك ما شئنا" وهذا صريحٌ بأنَّ المأخوذَ في مقابلةِ ............
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2)
في حاشية المخطوط ما نصه: "يقال المراد أن الفعل من حيث هو فيه الخلاف، وأما القول فمتفقٌ على كونه دليلاً، كيف يترك المتفق عليه ويعدل إلى غيره؟.
(3)
تقدم التعليق على ذلك. انظر الرسالة (122).
(4)
أما هذا فليس بتأويل، فكيف يجعل من قضائه. حاشية المخطوط.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2338) ومسلم رقم (6/ 155).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3008) وابن ماجه رقم (2467).
العمل (1) فالقول بأنَّ المأخوذ جزية (2) تعسفٌ ظاهرٌ، وكذا القول بأن نفعه مخالف لما وقع في لفظ الحديث من أنه عامل أهل خيبر بشطرِ ما يخرج عند الجماعة كلهم، لأن المعاملة المؤاجرة، وكذا سائر التأويلات.
قوله: فيُقْتَصَرُ على ما ورَدَ.
أقول: هذا جمعٌ حسنٌ، ولكنه مخالفٌ لما ذكره شيخُنا ـ حفظه الله ـ في أولِ الرسالة (3) من أن الراجحَ عندهُ القولُ الأولُ، لأنَّ القائلَ به لا يجيز ذلكَ.
قوله: فإثباتُ ذلكَ الحكمِ للمسلمينَ إلى قوله: ولا يخفَى بطلانُهُ.
أقول: بل لا بدَّ لشيخِنا ـ حفظه الله ـ في تعميمِ التحريمِ من سلوكِ هذه الطريقةِ إنْ مشى على مذهبِ الأكثرِ أنَّ لفظَ نهى عن المخابرة (4)، نهى عن بيع الحصاة (5)، نهى عن الغَرَرِ (6)(7) لا يعمُّ كما حكاه المحقق ابن الإمام.
(1) في حاشية المخطوط: لا يدفع ذلك كون هذا العمل مساقاةً، كما قد قيل من وجوه التأويل.
(2)
تقدم رد هذا القول. انظر الرسالة (122).
(3)
في حاشية المخطوط: هذا غير مخالفٍ لما ذكر أولاً، لأن ما ذكر ههنا تنزلٌ، ومشيٌ مع مَنْ جعلَ ذلك الفعل دليلاً في هذا المقام، أي إذا جعلت الفعل دليلاً فاقْتَصِر إلخ. فلا يصلح لغير ذلك، فكيف يُدَّعى زيادة عليه.
(4)
تقدم ذكر الحديث وتخريجه.
(5)
تقدم ذكره. انظر الرسالة رقم (110).
(6)
انظر الرسالة رقم (110).
(7)
أقول على تسليم عدما لعموم لا مانع من سلوك تلك الطرق، أي: طريق القياس، حيث لا نص يقابله كما وقع هنا، فالفرق واضح.
وقوله: بعد هذا، أقول: هذا من باب التخصيص بالقياس، وهو سابغ رائع يقال: قد عرف أن التخصيص بالقياس إخراج بعض أفراد ما دلّ عليه العام به، ومثله: شارح الكافل بمثل أن يقول الشارع: لا تبيعوا الموزون بالموزون متفاضلا، ثم يقول: بيعوا الحديد كيف شئتم. فيُقاسُ النحاسُ والرصاصُ عليه بجامعِ الانطباعِ. وأما ما نحنُ فيه فالقياسُ على تسليمِ وجودِ الجامعِ بين مَنْ قرَّرَه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وغيره يؤول إلى إبطال العام بالكلية، فلذا قيل: إنه عملٌ بالقياس في مقابلة النص لا تخصيص.
قوله: ولكن يشهد له حديث: ما قولي لامرأةٍ واحدةٍ.
أقول: هذا ورد في البيعة، فإن قلتم: لا يُقْصَرُ على سببه، فالواقع في ما قولي، ولم يقل ما تقريري حتى يتم الاستشهاد به.
قوله: أقول: التبليغ يكون بالقول والفعل، إذ المبلغ قوله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله. ثم يقال: المدعي بلاغة هذا التقرير، وليس بقول ولا فعل، وإن قلتم: بل المبلغ لفعل الذي سكت عنه فجعل قصر ما وقع في خطبة الوداع على المسموع تسديد، وتعليله بأن صورة الفعل نوعا، وحكايته تسمع غير تسديد، لأنَّ الظاهر مع قوله:"فرُب مبلَّغ أوعى من سامع"، بل صريحة إنما هو في ما سمع، والأقوال ودعوى شمول ذلك للأفعال خلافُ الظاهر، يحتاجُ إلى دليل واضح.
قوله: خصَّ الجوازَ بمثل تلك الأرض، وبمثل أولئك النفر إلخ.
يقال على القول الأول: إنما تكلّموا على حكم المسألة بالنسبة إليه نفسها بأكثر، وبما وقعَ في تلك الأرض لأولائك النَّفَر من الصحابة، وإنما تأولوا العقل في الواقع من نبيِّنا صلى الله عليه وآله وسلم الذي فعله حجَّةٌ، فلما وقع الاستدلال بأفعال الصحابة فقيل قبلها ما قيل على حسب ما ظهر حمْلاً بخير القرون على أحسن المحامل، على وجهٍ لا يكون فيه حُجَّةً لمن سواهم، فهذه الزيادةُ لا تُخْرِجُ القائلَ بها إلى المخالفةِ لأصلِ القولِ الأولِ: ولو سُئلوا عمَّا وقع من الصحابة ما وسِعَهُم سوى الحملِ لِفِعْلِهم على وجهِ صِحَّةٍ إحسانًا للظنِّ. هذا مما تظهرُ وفوقَ كلِّ ذي علمٍ عليمٌ.
وأما حديثُ (1) من لم يَذَرِ المخابرةَ، فهو وإن كان عامًا إلا أنه ـ حفظه الله ـ قد خصَّصَهُ فضعفتْ حُجِّيَّتُهُ، ولهذا ذهبَ جماعةٌ من أهلِ الأصولِ (2) إلى أنَّهُ بعدَ التخصيصِ
(1) تقدم وهو حديث ضعيف.
(2)
اختلفوا في العام بعد تخصيصه هل يكون حجة أم لا؟؟.
إذا خصَّ بمبهم كما لو قال، فلا يحتج به على شيء من الأفراد بلا خلاف. ومحل الخلاف إذا خصَّ بمبين على أقوال:
الأول: أنه حجة في الباقي وإليه ذهب الجمهور واختاره الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من محققي المتأخرين. "الإحكام"(2/ 252 - 254)، "التبصرة"(ص122)، "تيسير التحرير"(1/ 308).
قال الشوكاني في "إرشاد الفحول"(ص466 - 467): وهو الحقُّ الذي لا شك فيه ولا شبهة، لأن اللفظ العام كان متناولاً للكل فيكون حجةً فيكل واحدٍ من أقسام ذلك الكل، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية، فإخراجُ البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ولا يرفع التعبد به، ولو توقف كونه حجةً في البعض على كونه حجةً في الكل للزم الدَّور وهو محال.
وأيضًا المقتضي للعمل به فيما بقي موجودٌ وهو دلالة اللفظ عليه والمعارض مفقودٌ فوجد المقتضي وعدما لمانع فوجب ثبوت الحكم.
وأيضًا قد ثبت عن سلف هذه الأمة ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة وشاع ذلك وذاع.
الثاني: أنَّه ليس بحجة فيما بقي وإليه ذهب عيسى بن أبان وابو ثور كما حكاه عنهما صاحب المحصول وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق، وحكاه الغزالي عن القدرية.
قال إمام الحرمين في "البرهان"(1/ 410): ذهب كثيرٌ من الفقهاء: الشافعية والمالكية والحنفية والجبائيُّ وابنه إلى الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصَّت مجملة، ولا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات إلا بدليل كسائر المجازات.
واستدلوا بأن معنى العموم حقيقةٌ غير مرادة مع تخصيص البعض، وسائر ما تحته من المراتب مجازاتٌ وإذا كانت الحقيقة غير مرادةٍ وتعددت المجازات كان اللفظ مجملاً فيها فلا يحمل على شيء منها والباقي أحد المجازات كان اللفظ مجملاً فيها فلا يحمل على شيء منها.
قال الشوكاني: إنَّما يكون إذا كانت المجازات متساويةً ولا دليل على تعين أحدها. وما قدمنا من الأدلة في القول الأول دلت على حمله على الباقي فيصار إليه.
الثالث: أنَّه إن خصَّ بمتصل كالشرط والاستثناء والصفة فهو حجة فيما بقي، وإن خصَّ بمنفصل فلا، بل يصير مجملاً.
الرابع: أن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم بالاسم وتعلّقه بظاهره جاز التعلق به كما في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]. لأن قيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين. وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العامّ ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلُّق به كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب، والحرز وكون المسروق لا شبهة فيه للسارق يمنع من تعلق الحكم وهو القطع بعموم اسم السارق ويوجب تعلّقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ. وإليه ذهب أبو عبد الله البصريُّ.
قال الشوكاني: ويجاب عنه بأن محلّ النزاع دلالةُ اللفظ العام على ما بقي بعد التخصيص وهي كائنة في الموضعين والاختلاف بكون الدلالة في البعض أظهر منها في البعض الآخر ـ باعتبار أمر خارج ـ لا يقتضي ما ذكره من التفرقة المفضية إلى سقوط دلالة الدالّ أصلاً وظاهرًا.
الخامس: إن كان لا يتوقف على البيان قبل التخصيص ولا يحتاج إليه كاقتلوا المشركين فهو حجة لأن مراده بينٌ قبل إخراج الذميّ وإن كان يتوقف على البيان ويحتاج إليه قبل التخصيص فليس بحجة كقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72]. فإنه يحتاج إلى البيان قبل إخراج الحائض ونحوها وإليه ذهب عبد الجبار.
قال الشوكاني: وليس هو بشيء ولم يدلّ عليه دليلٌ من عقل ولا نقل.
السادس: أنه يجوز التمسك به في أقلّ الجمع لأنه المتعين ولا يجوز فيما زاد هكذا حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر والغزالي وابن القشيريِّ وقال إنَّه تحكُّمٌ.
وقد استدلوا لهذا القول بأن أقلّ الجمع هو المتيقنُ، والباقي مشكوكٌ فيه.
قال الشوكاني وردّ: بمنع كون الباقي مشكوكًا فيه لما تقدم من الأدلة.
السابع: أنه يتمسك به في (واحد) فقط حكاه في "المنخول"(ص153) عن أبي هاشم وهو أشدُّ تحكمًا مما قبله.
الثامن: الوقف فلا يعمل به إلا بدليل حكاه أبو الحسين بن القطان وجعله مغاايرًا لقول عيسى بن أبان ومن معه، وهو مدفوع بأن الوقف إنَّما يحسُن عند توازن الحجج وتعارض الأدلة وليس هنا شيء من ذلك.
انظر: "البحر المحيط"(3/ 271)، "المستصفى"(3/ 254)، "تيسير التحرير"(1/ 313)، "إرشاد الفحول"(ص465 - 470).
ليسَ بِحُجَّةٍ. وذهب آخرونَ إلى أنه لا يكونُ حجةً إلَاّ في .....................................
أقلَّ الجمع (1). ومع هذا فتناولُهُ لما بقيَ ليسَ إلا بطريقِ المجازِ على المذاهبِ المختارِ.
قوله: وقد عرفتَ أنَّ القياسَ في ..............................
(1) انظر التعليقة السابقة.
في مقابلةِ النصِّ مطرح (1).
أقول: هذا من باب التخصيصِ بالقياسِ، وهو شايعٌ ذائعٌ، وليس من قبيلِ القياسِ في مقابلةِ النصِّ؛ فإنْ كانَ شيخُنا يمنعُ التخصيصَ بالقياسِ فلا بأسَ.
قوله: حديثٌ فيه مقابلةٌ مشهورٌ.
أقول: نعم، ولكن يشهدُ له حديث:"ما قولي لامرأةٍ واحدةٍ إلا كقولي لمائة امرأة" عند النسائيِّ (2)، وهو عند الترمذيِّ (3) بلفظ [18]:"إنما قولي لمائة امرأةٍ كقولي لامرأةٍ واحدة". وقال حسَنٌ صحيحٌ.
وهو أيضًا في مسندِ (4) أحمدَ. وعمَلُ الصحابةِ فإنهم حكموا على الكلِّ لما حكَمَ به النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على البعضِ، كضربِهِمُ الجزية على كل مجوسيّ لضربه الجزية على مجوس هَجَرَ، وشاع وذاع فكان إجماعًا. ويشهدُ له ايضًا قولُه صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بُرْدَةَ ف يالتضحيةِ بالجَذْعَةِ:"تجزيكَ ولا تُجزي عن أحدٍ بعدَك"(5) فلولا أنَّ لفظَ تجزيكَ قد أفادَ العمومَ لم يكن لذلكَ القولِ فايدةٌ، وكذا تخصيصه خزيمة (6) بقبول شهادته وحده.
قوله: فالمراد يبلغُ الشاهدُ ما وقعَ في تلكَ الخُطْبَةِ.
أقول: التبليغ يكونُ بالقولِ والفعلِ لا محالة، وقَصْرُهُ على ما وقع في تلك الخطبة أو ما سُمِعَ من الأحكام بقرينة: فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع غيرُ سديد، لأن صورة الفعل
(1) تقدم ذكره.
(2)
في "السنن"(7/ 149).
(3)
في "السنن" رقم (1597).
(4)
في "المسند"(6/ 357).
من حديث أميمة بنت رُقيقة وهو حديث صحيح. وقد تقدم.
(5)
تقدم تخريجه مرارًا.
(6)
تقدم مرارًا.
تُوعى وحكايتُهُ تُسْمَعُ.
قوله: هذا واعلم أنّ صاحب الرسالة إلخ.
أقولُ: قدِ اتفقَ صاحبُ الرسالة وشيخُهُ ـ متع الله به ـ على التفرد، فإنْ يَعْلَمْ ـ متع الله به ـ خصَّ الجوازَ بمثلِ تلكَ الأرضِ، ولمثل أولئكَ النَّفَرِ من الصحابة وسكتَ على ذلك، وهو خارجٌ عن القول الأول، وعن سائرِ تلكَ الأقوالِ والجميعُ مبنيّ على جوازِ إحداث قولٍ في المسألة بعدَ استقرارِ أقوالِ المجتهدينَ فيها، وهو الراجحُ لا سيَّما مع الأخذِ من كلِّ قولٍِ بطَرَفٍ. والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله عليه وآله وسلَّم على سيِّدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. انتهى من تحرير المجيبِ محمد بن علي الشوكانيّ ـ حفظه الله ومد لنا في مدته ـ إنه جوادٌ كريمٌ، آمينَ آمينَ آمينَ.