المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المباحث الوفية في الشركة العرفية - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٨

[الشوكاني]

الفصل: ‌المباحث الوفية في الشركة العرفية

(128)

27/ 2

‌المباحث الوفيّة في الشركة العرفية

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حقَّقه وعلَّق عليه وخرّج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 3973

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: "المباحث الوفيّة في الشركة العرفية".

2 -

موضوع الرسالة: "فقه".

3 -

أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله والطاهرين ورضي الله عن أصحابه الراشدين.

فإنه سأل سيدي العلامة

".

4 -

آخر الرسالة: "

وإن لم يحصل التراضي عليه فلا حكم له ولا اعتبار به.

وإلى هنا انتهى الجواب على سؤال السائل ـ كثر الله فوائده ـ وكان الفراغ من تحريره نهار الأحد سلخ شهر محرَّم سنة 1221هـ.

5 -

نوع الخط: خط نسخي مقبول.

6 -

عدد الصفحات: 10 صفحات + صفحة العنوان.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 4 أسطر.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 10 - 11 كلمات.

9 -

الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 3975

على صورة الغلاف ما نصُّهُ:

الحمدُ لله:

لما اطلعتُ على هذا الجوابِ الشافي، وتأمَّلْتُهُ قلتُ مرتجِلاً:

إليَّ أبحاثٌ أتتْ وفيَّة

مفيدةٌ في الشركةِ العُرفيةِ

كأنها الرياضُ في الذاتية

أو الفصوصُ في السَّنا الياقوتيةِ

أو حُسْنُ هيفا واصلتْ عشيةً

فاقت بِدّلِّها على البريّةِ

فصَّلها بالفصلِ والجنسيةِ

العالم الفردُ بأحوذيةِ

محمدٌ مخلصُ حسن النيةِ

الشمسُ في علومنا الدينيةِ

والبدرُ في الإغلاسِ وفي العشيةِ

جوزي بها الأياديَ السنيَّةِ

في داره الأولى والأُخرويةِ

ص: 3979

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمدٍ وآله الطاهرينَ، ورضي الله عن أصحابه الراشدين.

وبعدُ:

فإنه سأل سيدي العلامةُ المفضالُ، صفيُّ الكمالِ أحمدُ بن يوسفَ زباره (1) ـ لا برح في حماية ذي الجلال ـ فقال ـ كثر الله فوائده ـ في جميع الأحوال ـ:

المطلوبُ أيضاحُ ما أشكلَ في شأن الشركة العرفية، وما وقع به التعاملُ من المشتركات في المكتَسَبات، والتأجيرات ونحوِها مما تشملُه التسميةُ.

أولاً: ما حكمُ الاشتراك بين جماعة اشتركوا في أعمالٍ من دون عقدٍ، بل مثلاً اجتمعُوا في مكانٍ، ثم مازالوا يكتسبونَ بتأجيرٍ أو سؤالٍ حتى نَمَى له مالٌ، فهل هذا يسوغُ الذي هو مجرَّدُ الاجتماعِ أن يُقَالَ له: اشتراكٌ أم لا؟ وهل يسوغُ مثلاً أن يستأثِرَ أحدُهم بزائدِ المكْتسبِ أو من لم يكن له بسعي ولا طلب؟ أم ماذا يكون الحكمُ؟

الثاني: مثلاً من كان لهم مالٌ مشتركٌ وأنصباؤهم متفاوتةٌ، وسعيهم مختلِفٌ بالقوة والضعفِ، هل يعتبرُ مثلاً المساواةُ فيما نَمَى من الكسْبِ، أو يعتبرُ تفصيلُ مَنْ مالُهُ أكْثَرُ، أو مَنْ سعيه أكْثَرُ أم ماذا يكون الحكمُ؟

الثالث: ما حكم من تساوَوْا مالاً وكَسْبًا، ولكن كان أحدُهم صاحبَ عائلة وتكليفٍ، والبعض عازبٌ لا تكليفَ له؟

الرابع: مَنْ كان له دخلٌ خاصٌّ من غير ما حصلَ التكافي عليهِ، بل له جرايةٌ، أو نذورٌ، أو هِباتٌ، ماذا يكون حكمُ الخاصِّ؟

الخامس: لو اكْتُسِبَتْ من نماء المشترك، وأضاف لنفسه ماذا يكون حكم الإضافة؟

(1) تقدمت ترجمته.

ص: 3980

السادسُ: لو كان ثمَّ صبيٌّ قاصرٌ هل يسوغُ مثلاً للوصيِّ أن يبقيَهُ على الشركةِ بين المكلَّفين، أو يقسمَه على الورثةِ، أو يتعيَّن عليه نظرُ الأصلحِ، وإذا التبسَ عليه ماذا يكونُ الحكم؟

السابعُ: لو اختلفَ المجتمعونَ فقال البعضُ: متكافئونَ، وقال البعض: لا يكافئ، بل أنتَ لا كَسْبَ لك، بل ينفقُ من مالي، وما فعلتَ فهو إلى مقابل الإنفاق؟

الثامن: إذا ماتَ أحدٌ المكتسبينَ المشتركينَ، أو تزوَّجَ، أو غابَ وَمَّ مالٌ والتبسَ بعدَه هل من غِلَاّتِ المالِ، أو من كَسِْبِ الباقين، هل يشركُ ورثَته أي الغائبَ في النامي، أو نقول: الظاهرُ مع الباقينَ ثابتي اليدِ في النماءِ الحادث؟

التاسعُ: لو تزوَّج، أو جنى، أو تأدب بأدب عليه خاصٍّ، هل يحسبُ عليه خاصٌّ، أو نقولُ يتسامحُ بذلك فيحسبُ على الجميع؟.

العاشرُ: لو وقع شرطٌ بين المتشاركينَ أنَّ مثلاً لفلان نصفَ الكسبِ، ولفلان ثُلُثٌ، ولفلانٍ عُشْرٌ هل يصحُّ هذا الشرطُ أم لا؟ وكذلكَ لو فُضِّلَ غيرُ العامِل.

فافضلوا بإيضاحِ الأطرافِ، فليس السؤالُ على جهة الامتحانِ، بل هذه أطرافٌ حادثةٌ في هذا الزمن وقبلَه، أحسن الله جزاءكم وتولاكم. انتهى بلفظه. [1أ]

أقول ـ وبالله التوفيق، وعليه التوكُّل ـ: اعلم أنَّ ما سأل عنه السائلُ ـ كثر الله فوائده ـ من الأحكامِ المتعلِّقة بالشركةِ العُرفية فإيضاحُ الكلامِ فيها متوقِّفٌ على إيضاحِه في بيان ماهيَّة الشركة العُرفية. ولنقدِّم نقل ما ذكره أهلُ العلم في شأن الشركة، ثم نُتْبِعُهُ بما عندي فيها، ثم بالكلام على كلِّ بحثٍ من أبحاث السؤال فنقولُ:

اعلم أنه لم يتكلَّمِ المتقدمونَ من أهل العلم على هذه الشركة، ولا دوّنوها في مصنَّفاتهم، ولكنه تكلَّم عليها بعضُ المتأخِّرينَ من العلماء الموجودين بعد الألفِ من الهجرة وقبلَه بقليلٍ، ألْجَأهم إلى ذلك وقوعُ الخصام فيها بين من يرثونَ رجلاً، ويتركون القسمة حتى يحصل لهم مكتسباتٌ من أموالٍ أو غيرها من غِلَاّت تلك الأموال المتروكة

ص: 3981

لهم ميراثًا من مورِّثهم، وهم الحارثونَ لها، العاملون فيها جميعًا، أو كانوا يعملون أعمالاً مع غيرهم، فيجتمعُ لهم مالٌ يكتسبون به مكتسباتٍ، ويتنازعونَ فيها بعد ذلك. فيقولُ بعضُهم: إنه يريدُ أن يكون قسمةُ المكتسباتِ على قَدْرِ أنصباءِ الميراثِ إن كانت من غلّة الأموال الموروثة، أو على قَدْرِ السعي والعملِ إن كانت حاصلةً بالسعي والعمل، فيقولُ الآخرُ: يُقْسَمُ على السويَّةِ بلا تفضيلٍ للبعض على البعض، فهذا معنى الشركة العُرفية.

وموجبُ كلام المتأخرين من أهل العلم على أبحاثها، وليست في أحد الشرك المدوّنة في كتب الفقه حتى يرد ما ورد من الخصومات المتعلقة بها إليها.

قال شارح المسائل المرتضاة ناقلاً عن القاضي العلامة عبد الله بن يحيى الناظري (1)، ولفظُهُ: إذا كان جماعةٌ إخوةٌ أو غَيْرُهم مشتركينَ في الأعمالِ فكان بعضُهم يعمل المالُ، وبعضهم يخدمُ البقرَ، ويعلِفُهنَّ، وبعضهم لحوائج البيت وإصلاحه، وبعضُهم للبيع والشراء في الأسواق، فكلُّ واحد منهم لم ينتظم الحالُ في عمله إلَاّ بكافيه الآخرِ له في العلمِ، فإذا كان كذلك فهذه شركةُ أبدان، فكلُّ ما حصلَ من الصالح مع كلِّ واحد مشتركٌ بينَهم الجميعُ لا فضلَ لأحدٍ منهم [1ب] على أحدٍ، لأن ذلك حكمُ شركةِ الأبدان انتهى.

أقولُ: قوله أولاً: فهذه شركةُ أبدانٍ (2)، ثم قولُه ثانيًا: إن ذلكَ حكمُ شركة الأبدانِ

(1) عبد الله بن يحيى بن محمد الناظريم الظفيري اليمني، عالم فقيه كان من أصحاب الإمام المنصور بالله محمد بن علي السراجي.

من مؤلفاته: - "شرح الكافية" لابن الحاجب. -

" شرح المفتاح ".

انظر: "أعلام المؤلفين الزيدية" رقم (649).

"أئمة اليمن"(1/ 382).

(2)

شركة الأبدان: أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم كالصناع ويشتركون على أن يعملوا في صناعتهم. فما رزق الله فهو بينهم وإن اشتركوا فيما يكتسبون من المباح. كالحطب، والحشيش، والثمار المأخوذة من الجبال والمعادن فهذا جائز نص عليه أحمد وفي رواية أبي طالب فقال: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم، وليس لهم مال، مثل الصيَّادين والنَّقالين والحمَّالين.

وقال الماوردي في "الحاوي"(8/ 164): شركة الأبدان: وهو أن يشترك صانعان ليعملا بأبدانهما ويشتركان في كسبهما، فهذه شركة باطلة.

وقال مالك: تجوز إذاكانا متفقي الصنعة، ولا تجوز إذا كان مختلفي الصنعة.

قال أبو حنيفة: تجوز مع اتفاق الصنعة واختلافها، ولا تجوز في الأعيان المستفادة بالعمل كالاصطياد والاحتطاب.

وقال أحمد: تجوز في كل ذلك، كما تقدم.

انظر: "الأم"(7/ 286)، "المغني"(7/ 110).

قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوي"(30/ 73، 99): شركة الأبدان وتسمى (شركة الصنائع) و (شركة التقبل) وهي أن يتفق شخصان أو أكثر على تقبل الأعمال وعملها والأجر بينهم على ما شرطوا.

أنواعها: شركة الأبدان نوعين:

1 -

أن يكون الاشتراك فيما يتقبلانه من العمل في ذمتهما كالنجارين والخياطين الذين تقدر أجرتهم بالعمل لا بالزمن ـ وهو الأجير العام ـ ولا فرق بين أن تكون هذه الشركة في تقبل الأعمال بأجر كالنجارين ونحوهم أو في تحصيل المباحات كالاشتراك في الاحتطاب والاصطياد بحيث يخلط ما اصطاداه ثم يقتسمانه على ما شرطا.

وكل واحد من الشريكين يتصرف لنفسه بحكم الملك ولشريكه بالوكالة فما عقده من العقود عقد لنفسه ولشريكه وما قبضه قبضه لنفسه ولشريكه.

2 -

أن يكون الاشتراك فيما يؤجران فيه بأبدانهما ودابتيهما، ويكون الأجر مقدرًا بالزمن لا بالعمل، وهو الأجير الخاص.

3 -

توزيع عائداتها: مطلق عقد الشركة يعني المساواة في الأجر والعمل فإن عمل أحدهم أكثر جاز له أن يطالب بقية الشركاء بأجر ما زاد من علمه وإن اشترط أحدهم أن تكون له زيادة عنهم في الأجر جاز. انظر: "مجموع الفتاوى"(30/ 74، 81، 99).

ص: 3982

ليسَ على ما ينبغي؛ فإن الأول يفيد أن هذه الشركة شركةُ أبدان، والثاني يفيد أنها غيرها، ولكنها مُلْحَقَةٌ بها قياسًا، والكلُّ ممنوعٌ، أما كونها عينَ شركة الأبدان فلا شك في بطلانه، فإن هذا المتكلم إنما تكلم على مقتضى ما ذكره أصحابنا في الفروع، وهم مصرِّحون بأن شركة الأبدان ماهيتُها: وقوعُ التوكيل من كلِّ من الصانعين للآخر أن يتقبَّل ويعمل عنه في قدر معلومٍ مما استُؤجِر عليه مع تعيين الصنعةِ، وصرَّحوا بأن هذه الشركة هي من باب الوكالةِ (1).

فتقرر بهذا أنَّ الشركة العرفية ليست عين شركة الأبدان، بل لا يصح قياسُها، لوجود الفارق، فضلا عن أن يكون عينَها، ثم ما حَكَمَ به آخرًا من أنَّ لكلِّ واحدٍ من المصالِح مثلُ الآخرِ لا يفضلُ أحدٌ على أحد، وتصريحُهُ بأن ذلك حكمُ شركةِ الأبدانِ مخالفٌ لما قرروهُ في شركة الأبدان كما عرفتَ؛ فإن الرِّبْحَ فيها على قَدَرِ الثقيل كما هو مصرَّحٌ به، ومع هذا فقد قرَّرَ المتأخرونَ كلام الناظري هذا، وعملوا عليه، فإنه قال شيخ مشايخنا العلامةُ الحسنُ بن أحمد الشبيبي رحمه الله: أنَّ المختارَ كلامُ العرف، وهو الذي جرت له فتاوى مولانا المتوكِّل على الله، وبه عملَ المتأخرون، فما كسبه أحدُ الشركاء فهو للجميعِ وعلى الجميعِ، ولو أضافه إلى نفسه. هكذا قال: وهو الذي يختاره شيوخُ المذهبِ الموجودونَ في عصرِنا الآنَ، فانظر كيف وقعَ العملُ على كلام الناظري، وأطبقَ عليه المتأخرونَ مع أنَّه لم يقلْ ذلك اجتهادًا، بل قاله زاعمًا أنَّ الشركة العرفية هي شركةُ أبدان، أو كشركة الأبدان.

وقد تقرَّر أنها ليست بشركة أبدان، لا في الماهية، ولا في اللوازم. ثم لو فُرِضَ أنها شركة أبدان لم يكن للجزم بالاستواء وَجْهٌ، فإنَّ شركة الأبدان كما عرَّفناك الرِّبْحُ (2) فيها

(1) انظر التعليقة السابقة.

(2)

قال ابن قدامة في "المغي"(7/ 113) والرِّبح في شركة الأبدان علىما اتفقوا عليه، من مساواةٍ أو تفاضل، لأنَّ العمل يستحقُّ به الربح، ويجوز تفاضلهما في العمل، فجاز تفاضلهما في الرِّبح الحاصل به ولكلِّ واحدٍ منهما المطالبة بالأجرة، وللمستأجر دفعُها إلى كل واحدٍ منهما وإلى أيهما دفعها برئ منها".

ص: 3984

تابعٌ للتقبُّلِ. وعلى فَرَضِ أن العمل قائمٌ مقامَ التقبُّل فالربح فيها يتبع العمل، وأيضا قد صرَّحوا بأن القولَ لكلٍّ فيما هو في يدِه في هذه الشركةِ، بل وفي غيرها، فكيف يكونُ ما ذكره صحيحًا! وقد حمل العلامةُ أحمدُ بن علي الشامي صاحبُ الحواشي في شرح الأزهارِ [2أ] والبيانِ كلامَ الناظري هذا علىأ، ه لم يعتبر الإضافة من أحد المشتركين إلى نفسه، واعترضه شيخُ مشايخنا المذكور سابقًا بما تقدم من العرف، وفتاوى المتأخرين.

وبالجملة فليس المرادُ هاهنا إلَاّ بيان بطلان ما زعمه الناظريُّ من أن ذلك شركة أبدانٍ، أو كشركة الأبدانِ. وإذا تبيَّن ذلك علمت أن ما أفتى به ليس هو منقولاً عن كتب أهل المذهب، ولا عن غيرهم من أهل المذاهب، وإنما هو كلام جرى منه على طريق الفتوى التي يفعلها أمثاله، ولم يصح ما زعمه من أنها شركة أبدان، أو كشركة الأبدان. وستعرف ـ إن شاء الله ـ ما هو الحقُّ الذي ينبغي اعتمادُه، والعملُ عليه بعد الفراغ من نقل ما قاله المتأخرونَ في هذه الشركة العُرْفيَّة.

ومن جملة ذلك ما حكاه أيضًا شارحُ المسائل المرتقاة عن فتاوى الإمام شرف الدين فإنه قال ـ بعد نقله لكلام الناظري (1) السابق ـ ما لفظُهُ: ومثل هذا نُقِلَ عن فتاوى الإمام شرف الدين (2) في قصة تَقْرُب من هذا. قال: وسواء كانتِ الشركة صحيحة أو فاسدة، أما مع الصحة فظاهرٌ، وأما مع الفساد فالواجبُ أُجرةُ المِثْل، وهي هنا حِصَّتُهُ مما يخرجُ إذا قُسِّمَ على الرؤوس، ولو كان عملُ بعضهم أكثرَ من بعض (3)، لأن من عمل أكْثَر فقد

(1) تقدمت ترجمته.

(2)

تقدمت ترجمته.

(3)

قال ابن قدامة في "المغني"(7/ 114) وإنْ عمل أحدهما دون صاحبه فالكسب بينهما، قال ابن عقيل: نصَّ عليه أحمد في رواية إسحاق بن هانئ وقد سئل عن الرَّجلين يشتركان في عمل الأبدان، فيأتي أحدهما بشيء ولا يأتي الآخر بشيء؟ قال: نعم، هذا بمنزلة حديث سعد: وابن مسعود يعني حيث اشتركوا، فجاء سعدٌ بأسيرين وأخفق الآخران، ولأنّض العمل مضمونٌ عليهما معًا، وبضمانهما له وجبت الأجرة، فيكون لهما كما كان الضّمان عليهما ويكون العامل عونًا لصاحبه في حصَّته. ولا يمنع ذلك استحقاقه.

ص: 3985

رضي بمشاركة ذي العمل الأقل، والعرف جار بالاستواء في ذلك. قال انتهى بلفظه.

أقولُ: قوله سواء كانت الشركةُ صحيحةً أو فاسدةً إنما يتمُّ بعد معرفة ماهيَّة الشركة العرفية الصحيحة والفاسدة، ولم يقع التدوين لشء مما يتعلق بها من الشروط والأركان، حتى يُقال: هذه صحيحةٌ، وهذه فاسدةٌ. فإن كان جازمًا بأنها راجعةٌ إلى أحدِ الشِّرَكِ المدونة في كتب الفقهِ فما هي؟ وإن كان بناءً على كلام الناظري من أنها شركة أبدان، أو كشركة الأبدان فقد تقدم بيانُ بطلان ذلك.

وأما قوله: لأن من عمل أكْثر فقد رضي بمشاركة ذي العمل بالأقلّ.

فأقولُ: إن كان هذا الرِّضى معلومًا عند التنازع فهو المناطُ في تحليل ذلك، وإن يكن معلومصا فلا وجْهَ للتسوية على فرض الاختلاف في العمل أو المال.

وبالجملة فكلامُ الإمام شرف الدين هذا رجوعٌ إلى الرضى، وهو باب آخرُ غيرُ باب الشركة كما سيأتي بيانُه إن شاء الله.

وأما قولُه: والعرف جارٍ كالاستواء فلعلَّه يجعل ذلك دليلا على حصول التراضي، ولا شك أنه يُسْتَفَادُ منه كون الظاهر الرِّضى إذا كان معلوما لكل واحدٍ منهم، والإطباقُ عليه كائنٌ بين الناس، أما إذا لم يكن معلومًا [2ب] للمشتركينَ، أو كان العرفُ مختلفًا كما نشاهدُه الآن فلا يتمُّ ما ذكره من الاستدلال بالعرف، وأيضًا هو ليس بمناط شرعيٍّ، بل هو قرينةٌ على وجود المناط الشرعيِّ أعني: التراضيَ، هذا على فَرَضِ الإطباقِ، وعدم الاختلاف فيه، فكيف إذاكان مختلفًا غاية الاختلاف كما نشاهده فيما يردُ من الخصومات والسؤالات! فإن المعلوم من أحوال الناس في هذه الأزمنة أنه لو علم الأكثرُ نصيبًا في المال، أو الأكثرُ عملاً في مداخل الرزق وأسبابه أنّ من كان أقلّ منه

ص: 3986

نصيبًا أو دونَه سعيًا في المكتسبات لم يرض بالاشتراك لحظةً من اللحظات، فضلاً عن أزمنة متطاولةٍ. دع عنك لو عَلِمَ أن الإناثَ يشاركنه ويَفُزْنَ بمثل نصيبه، فإن كان هذا العرفُ المدَّعى عرفًا لأهل عصرِ الإمام شرف الدين فهو لا يجوزُ الحكمُ به على أهل هذه الأزمنة للعلم بأنه غير موجود لديهم، ولا شائعٌ بينهم، ولا يحلُّ الحكمُ على قوم بأعراف قومٍ آخرين بلا خلافٍ بين المسوِّغينَ للعمل بالعرف والعادة.

ومن جملة كلام أهل العلم في الشركة العرفية ما نقله شارح المسائل المرتضاة عن العلامة الحسن بن يحيى حابس (1) ولفظه: اعلم أن تصرف عنه وعن غيره له ثلاثة أحوال:

الأول: أن يكون التصرف من جماعة متصادقين على الشركة في متصرفاتهم، فهذا لا إشكال فيه.

الثاني: أن يكون جماعة يتصرفون بحكم الظاهر، كل واحد عنه وعن الجميع، حتى علم ذلك من ظاهر الحال، فالواجب في مثل هذا أن يحكم بالشركة للجميع في جميع ما جرى به التصرف، ولا سبيل إلى نقض شيء منه لما تقدم، وليس لأحدهم أن يستند بشيء من شركائه، فلو وجد شيء مما اكتسبه منسوبًا غليه في الصكوك ولا .... ..... (2) لشركائه فيه حكم به للجميع، ولا يجعل لنسبته إليه حكم.

الثالث: أن يعلم أن يصرف كل واحد عن نفسه (3)، ويصرفه عن شركائه إنما كان بأمر خاص، وهذا لا إشكال فيه، وأنه يحتاج إلى تثبيت الوكالة في كل فرد فرد انتهى.

وأقول: أما الطرف الأول وهو التصادق على الشركة في التصرفات، فإن أراد أن التصادق بينهم كائن على أن ما حصل لهم من الربح كان مقسومًا بينهم على كذا، وما

(1) تقدمت ترجمته.

(2)

كلمة غير واضحة في المخطوط.

(3)

انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (30/ 73، 76، 77)"الاختيارات للبعلي"(ص253).

ص: 3987

حصل من الخُسْرِ كان عليهم على كذا فلا شكَّ أن هذا لا إشكالَ فيه، أولا خصومة [3أ] بين المتصاقينَ بهذه المصادقة، وإن أراد التصادُقَ الكائنَ منهم هو مجردُ التصادق على الاجتماع في الحاصل والمستفاد فهذا تصادقٌ لا يقطعُ خصومةً، ولا يقال إنه لا إشكال فيه، لأنه لا تلازُمَ بين هذا التصادق وبين كيفية قسمة الربحِ والخسرِ بين المشتركين، لا شرعًا، ولا عُرْفًا، ولا عقلاً.

وأما ما ذكره من الوجه الثاني من أنه يُحْكَمُ بالشركة للجميع في جميع ما جرى به التصرفُ، فيقال له: هلِ المرادُ مجردُ الاشتراك أعمُّ من أن يكونَ على الاستواء أو على الاختلافِ فلا جدوى في هذا الكلام، وإن كان المراد خصوصَ الاشتراكِ وهو الكائنُ على طريق التساوي بين الأقلّ مالاً، أو سعيًا، والأكثرِ مالاً أو سعيًا، فما هو المسوِّغُ الشرعي لمثل هذا؟ مع فرض اختلافِ قَدْرِ المال، وتبايُنِ صفةِ الأعمالِ؟ إن قال: إنْ ذلك لدليلٌ فأينَ هو؟ وإن قال: هذا هو راجعٌ إلى نوع من أنواع الشركة فما هو؟ وإن كان ذلك مجرد اجتهاد مجتهدٍ، أو تقليد مقلِّدٍ فلا تقومُ به الحجةُ، ولا يلزمُ قبولُه من حاكمٍ، ولا مخاصِمٍ، فكلُّ ما لم يُرْبَطْ بدليل تنتهضُ به الحجةُ لا تقومُ به الحجةُ. ومع هذا فلا نشكُّ أن هذا القائلَ رحمه الله لم يتكلَّمْ هاهنا على ما يقتضيه الاجتهادُ، بل على مقتضى ما قرره أصحابُنا، وقد عرفتَ أنهم صرَّحوا بأن الربحَ (1) والخسرَ في شركة الأبدان على قدرِ التقبُّل، وصرَّحوا بأن القولَ في تلك الأنواعِ المحرَّرةِ في كتبهم في شركة المكاسبِ لكلٍّ من الشريكين فيما هو في ديه فكلامُهم هذا الذي تكلَّم ابن حابس على مقتضاهُ يخالفُ فتواهُ، ويباينُ ما أبداه.

وأما ما ذكره من الطرف الثالث فواضحٌ، وذلك وكالةٌ لا شركةٌ، وهو خارجٌ عن محلِّ النِّزاع، وهو مستفادٌ من كلام الإمام المتوكِّل على الله في المسائل المرتضاة حيث قال: إن الحاكمَ إذا عَلِمَ من حال الشركاء والأخوةِ التصرفَ عن الجميع فلا ينقضُ ما فعلَه

(1) انظر "المغني"(7/ 113) وقد تقدم.

ص: 3988

أحدُهم، والظاهرُ أنه وكيلٌ مفوَّضٌ. انتهى.

وهذا كلامٌ صحيحٌ، لأن غايةَ ما فيه إن عَلِمَ الحاكمُ بأن ذلك التصرفَ الكائنَ على تلك الصفةِ يستفاد منه وقوعُ التوكيلِ والتفويضِ، وليس فيه ما يدلُّ على أن ذلك الذي وقع التصرفُ فيه [3ب] يكون للجميعِ، إما على الاستواء، أو على الاختلاف، بل هو أو قيمتُه لصاحبه، ولا يخرجُها عن ملكهِ ما وقع منه من قوائنِ التوكيلِ والتفويضِ، بل ذلك يوجبُ صِحَّةَ التصرُّف فقط، فإذا كان في الشراء كان ذلك الشيءُ المشترى لمن دفعَ الثمنَ، وإذا كان في البيع كانت قيمةُ ذلك المبيعِ لمالكه، لا لمن تصرَّف فيه بالوكالة المدلولِ عليها بالقرائن التي أفادت الحاكمَ العِلْمَ.

ومن جملة كلامِ المتأخرينَ من أهل العلم في الشركة العُرفيةِ ما قاله شارحُ المسائلِ المرتضاة ولفظهُ: قلتُ: وما أحقَّ الحكامَ بين الناس بمعرفةِ هذه المسألةِ لكثرة حصورِ هذا الاشتراكِ على هذه الصفةِ، لا سيما بين الإخوة والقراباتِ، ويشارِكهُم في ذلك النساءُ، كالأخواتِ، والبناتِ، والزوجات بقيامهنَّ بعمل البيوتِ، وعمل الطعام، بطحنه وصَنعته، وتحصيل مَؤُنَةٍ من ماء، وحطبٍ، وغير ذلك مما لا تقومُ به الرجالُ، ولا ينتظم لهم مالُ الاكتسابِ والأعمال من حرثٍ وغيره، إلَاّ بقيام النساء بذلك. وقد يكون معهم أو مع أحدهم أولاد، ويقومُ كلُّ واحد منهم بعملٍ، ثم قد يحصل بعد ذلك تشاجُرٌ وترافعٌ إلى الحكام عند القِسْمَةِ، وترك الاشتراك، وانفراد كلٍّ منهم بعمله، وخاصَّةِ نفسه، ويريدُ بعضُهم الاختصاص بشيء من المكتسبات، أو أن يجعلَ أكثَرَ من أنصباءِ شركائِه، ويدلي بكثرة العمل من قبله، أو يكون عملُه أنفعَ، أو أجْلَبَ للمصالح التي يرتزقُ منها كالبيع والشراء، وقد يريد الجميع أو البعضُ حِرْمان النساء، ويعتقدون أنه لا حَظَّ لهنَّ في الاشتراك مع قيامهنَّ بما ذكر من أمر البيوتُ الذي لا عمل أنفعُ، ولا أجلبُ للاكتساب منه، وكلُّ ذلك لاي قتضي شيئًا من الاختصاص ولا التفصيل، وإنما يُقْسَمُ الكلُّ على لؤوس المشتركين المجتمعين على التعاون في الأعمال، وقيام كلٍّ منهم بعملٍ من الرجال والنساء، وإن حصلَ في الأعمال تفاوتٌ بجهةِ كثرةِ عملِ أحدهم، أو

ص: 3989

زيادة نفعه فلا تأثيرَ له، لما ذكره الإمامُ شرفُ الدين عليه السلام من وقوع التراضي بمشاركة ذي الأقل في العمل، وجرى العرفُ بالاستواء، ويمكن أن يُحتَجَّ لذلك بما روى عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام أن رجلين كانا شريكين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان أحدُهما مواظبًا على السوق والتجارة، والآخر مواظبًا على المسجد والصلاة، فلما كان وقتُ [4أ] قسمةِ الربح قال صاحب السوق: فضِّلْني في الربح؛ فإني كنت مواظبًا على التجارة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"إنما كنت ترزقُ بمواظبة صاحبك على المسجد" رواه في الشفاء (1)، ونحوه في أصول الأحكام والمجموع الذي في الجامع عن أنس قال: كان أخوانِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان أحدهما يحترفُ، وكان الآخر يلزمُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتعلَّمُ منه، فشكى المتحرفُ أخاه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:"لعلك به ترزقُ" رواه الترمذيُّ (2)، وينبغي للشركاء تخصيصُ ذي الأكثر عملاً بشيء، أو تفضيلُه مكافأةً له وتطييبًا لنفسه، لأنه محسنٌ، وما جزاءُ الإحسانِ إلَاّ الإحسانُ، والله أعلم. انتهى.

أقول: محصّضلُ كلامشه هذا أنه يُقْسَمُ الحاصلُ على الرؤوس، من غير فرقٍ بين الكبير والصغير، والذكر والأنثى، وصاحب المال ومن لا مال له، وصاحبِ العمل الكثير ومن لا عمل له، وغيرُ خافٍ عليك أن الأصلَ في أموال المسلمين العصمةُ، وأنها لا تحلُّ إلا بطيبة نفس، ولا تؤكل بالباطل كما صرَّح به الكتابُ العزيز والسُّنَّةُ المطهرة "إنما أموالكم ودماءكم عليكم حرامٌ"(3) كما صحَّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف يَحِلُّ لمن لا مالَ له مثلاً أنْ يشارك صاحب المال في المكتسبات من

(1)"شفاء الأوام"(3/ 36) بدون سند.

(2)

في "السنن" رقم (2345) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وهو حديث صحيح.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 3990

ذلك المالِ، أو يحلُّ لمن لا سعيَ له أن يشاركَ من له سعيٌ في عملٍ بتحصيلٍ منه مكتسباتٍ لا عمل لغيره فيها! وتكون تلك المشاركةُ بمجرد أ، هم يجتمعونَ في تحصيل الطعام والشرابِ، ويقومُ كلٌّ منهم بشيء منه، ويجتمعون على أكله، أوا شتركوا في غيره اشتراكًا لا يوجبُ التسويةَ، كأن يكون لأحدهم من المستغلات ما يتحصلُّ ألفَ درهم، وللآخَرِ ما يتحصلُ منه درهمٌ، أو يسعى أحدُهم سعيًا يكون الحاصلُ منه مثلُ عُشْرِ معشارِ الحاصلِ من سعي الآخرِ! فهل يوجبُ العدلُ الذي قامت به السمواتُ والأرضُ أن يُقْسَمَ الحاصلُ بينهما على السوية؟ وما الوجه في الحكمِ بهذا؟ إن كان لدليل من كتاب أو سنة يقتضي ذلكفما هو؟ وإن كان لحصول المناط الشرعي، وهو الرضى وطيبةُ النفس، فالمفروض أنَّهم في الخصومة، وكلُّ واحد منهم يطلبُ ما يوجبهُ الشرع، وينكرُ الرضى بغيره، وإن كان ذلك تقليدًا للإمام شرف الدين من وقوع التراضي بمشاركة الأقلِّ في العمل، وجرى العرفُ [4ب] بالاستواء، فقد عرَّفْنَاكَ فيما سلف على كلام الإمام شرف الدين بما يغني عن الإعادة، ويستقلُّ بالإفادة؛ إذ المفروضُ في هذه الشركة العرفية الواقعة في هذه الأزمنة أنه لا تراضي، وأن العُرْفَ المدعَى غيرُ كائنٍ، ولو سلَّمَ وجودُهُ في تلك الأزمنةِ فوجُودُهُ في هذه الأزمنة غيرُ مسلَّمٍ كما قدمنا تقريرَهُ.

ولا يخفى على مَنْ له ممارسةٌ لأحوال الناس، وخبرةٌ بما يجري بينهم أنه لو عَلِمَ صاحبُ المال والسعي الكثيرِ أن من لا مالَ له، أو له سعيٌ حقيرٌ سيشارِكُه في المكتسباتِ الحاصلةِ من غِلَاّتِ أمواله، أو من سعيه، ويأخذُ مثلَ نصيبهِ بمجرَّدِ المشاركةِ له في أيسرِ عمل، وأحقرِ سعي لم يرضَ بالشركةِ قطُّ، بل المعلومُ أنه كان سيفرُّ منها فِرارًا شديدًا، ويأباها إباءً عظيمًا، وكيف يحسنُ بالعالمِ بل العاقلِ أن يحكمَ جزمًا، ويقطعَ بتًّا بأن من كان له مثلاً من المستغلاتِ أو الأعمالِ ما يحصلُ منه في العام ألوفٌ مؤلَّفَةٌ من الدنانير يرضى بمشاركة من لا يحصلُ له درهم ولا دينارٌ! وليس له إلَاّ مجردُ سعيٍ خفيفٍ، ومعاونةٍ في أمر حقير! فهل يقولُ بهذا قائلٌ، أو يسوِّغه عقلُ عاقلٍ! حتى يجزمَ بأنه

ص: 3991

الظاهرُ ويرتبُ عليه قسمةُ المالِ على السويةِ! فإن العاقلَ إذا رجع في مثل هذا إلى عقلِه علمَ الأمرَ بالعكس، وأن الأصل والظاهرَ يشهدانِ بخلاف ذلك، والمتشرعُ، إذا رجع إلى الشرعِ علمَ أن الشرعَ قاضٍ بعصمة الأموالِ {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1)، "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ"(2)، "لا يحلُّ مالُ امرئ مسلم إلاّض بطيبة من نفسه"(3). فأقلُّ الأحوال أن يكون القولُ قولَ صاحبِ المال الكثيرِ، أو السعي الواسعِ بأنه لم يرضَ بمصير شيءٍ منه إلى غيره حتى يقومَ البرهانُ على وقوع الرضى منه، وحصولِ طيبةِ النفسِ به، مع أن عدمَ الوقوعِ يُسْتَفادُ من العقل، وهو كون الأصل عدمَ وقوع الرضى، لاتفاقِ العقلاءِ على أن المَلَكاتِ مسبوقةٌ بالعدمِ، وأن الأصلَ في كل شيء له وجودٌ خارجيٌّ أو ذِهنيٌّ إذا حصل النزاعُ في وجوده أنه غيرُ موجودٍ، حتى يقومَ الدليلُ على وجوده قيامًا يقبله الخصمُ، والإمامُ شرفُ الدين رحمه الله إن كان كلامُهُ في الخصومات التي قد تقرر حصولُ الرضى من أهل الشركةِ العُرفية فيها بالاستواء في جميع المكتسبات كما يدلُّ عليه ظاهر كلامِه السابِق الذي نقلناه عنه فهذا مسلَّمٌ لا ينبغي النزاع فيه، ولا المخالفةُ له. وإن كان في كل شركةٍ عُرفيةٍ سواءٌ حصلَ الرضى [5أ] أو لم يحصلْ استدلالاً بما ذكره من جَرْي العُرْفِ بالاستواء فقد عرفناك أن جريَ مثلِ هذا العرفِ في زمنه لا يستلزمُ جَرْيَهُ في غيره من الأزمنة، لا سيَّما الأزمنةُ التي قد عُلِمَ من أحوال أهلها ما يخالفُ ذلكَ، وعرفناك أن الإجماعَ كائنٌ على أنه لا يُحٍْكَمُ بعرفٍ جرى بين قومٍ على قوم آخرينَ لم يجرِ بينهم ذلك العرفُ، فإنه لو جرى العرفُ بين طائفةٍ من الناس في قطر من الأقطار أن الإدامَ تختصُّ عند الإطلاقِ بالسمنِ، وعند آخرينَ في قطر آخرَ أن الإدامَ إذا أُطْلِقَ اختصَّ بالزيت لم يقل قائلٌ من أهل العلم أن من حلفَ: لا آكلُ

(1)[البقرة: 188].

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 3992

طعامًا مأدومًا من إحدى الطائفتين يحنثُ بما يُسَمَّى إدامًا عند الطائفة الأخرى، وهذا أمرٌ يستغني عن الإيضاح، ولا يحتاجُ إلى البيان.

ولكنا أردنا بمثل هذه التكريرات والترديدات اشتراكَ المقصِّرِ والكاملِ في الانتفاع بمثل هذ البحث، لكثرة ورود هذه الشركة العرفية في هذه الأزمنة، فالإمام شرفُ الدين أجلُّ قدرًا، وأعلى محلاً أن يقولَ بأصله الرضى في مثل ذلك، أو يحكمَ بِعُرف يخالفه، فليس لأحد أني قول في قضيةٍ اختصمَ فيها جماعةٌ بينهم شركةٌ عرفيةٌ لم يثبتْ بينهم فيها تراضٍ، ولا جرت فيها أعرافٌ أنه قال الإمامُ شرف الدين كذا، ومن قال ذلك فهو لا يفهم كيفيةَ التقليد، فضلاً عن أن يكون مفتيًا أو قاضيًا، بل لا يفهم كلامَ أهلَ العلم.

فإن قلتَ: قدر أشار صاحبُ الكلام السابقِ بأنه يمكن أن يحتجَّ لما ذكره من التسويةِ بين المشركين شركةً عرفيةً بقصةِ الرجلينِ المشركينِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان أحدهما مواظبًا على السوق والتجارة، والآخرُ مواظبًا على المسجد في الصلاة، فلما كان وقتُ قسمةِ الربح قال صاحب السوق: فضِّلْني في الربح، فإني كنت مواظبًا على التجارة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"إنما كنتَ تُرْزَقُ بمواظبة صاحبك على المسجد"(1).

فيقال للمستدلّ بهذا الحديثِ: أخبرنا ما هذه الشركةُ التي دخلَ فيها هذان الرجلان؟. إن قلت: هي الشركةُ العرفيةُ التي كلامنا الآن فيها طالبناك بالدليل على ذلك، فإن هذه الشركةَ العرفيةَ لم يسمعْ بها الموجودونَ قبل القرن العاشرِ، فضلاً عن أن يسمعَ بها [5ب] أهلُ عصرِ النبوَّة.

وإن قلتَ: إنها شركة من شرك المكاسبِ المعروفةِ، وليست بالشركة العرفية فهذا لا

(1) تقدم تخريجه: وهو حديث صحيح.

ص: 3993

ينفعُكَ ولا يضرُّنا؛ فإن شركَة المفاوضةِ (1) قد حصلَ فيه التراضي المسوِّغُ للاشتراك في

(1) سمي هذا النوع من الشركة مفاوضة لاعتبار المساواة في رأس المال والربح وفي القدرة على التصرف وغيرها.

وقيل: لأنَّها شركة عامة في جميع التجارات، يفوض كل واحد من الشريكين أمر الشركة إلى صاحبه على الإطلاق.

وقيل: هي من التفويض لأن كل واحد منهما يفوض التصرف إلى صاحبه على كل حال في غيبته وحضوره.

وقال المالكية والشافعية: سميت مفاوضة من تفاوض الرجلان في الحديث شرعا فيه جميعًا.

وفي الاصطلاح: أن يتعاقد اثنان فأكثر على أن يشتركا في عمل بشرط أن يكونا متساويين في رأس مالهما وتصرفهما ودينهما أي (ملتهما) ويكون كل واحد منهما كفيلاً عن الآخر فيما يجب عليه من شراء وبيع، أي أن كل شريك ملزم بما ألزم شريكه الآخر من حقوق ما يتجران فيه، وما يجب لكل واحد منهما يجب للآخر، أي أنهما متضامنان في الحقوق والواجبات المتعلقة بما يتاجران فيه ويكون كل واحد منهما فيما يجب لصاحبه بمنزلة الوكيل له وفيما يجب عليه بمنزلة الكفيل عنه.

فهما يتساويان في رأس المال وفي الربح، فلا يصح أن يكون أ؛ دهما أكثر مالاً من الآخر، كأن يملك أحدهما ألف دينار والآخر خمس مئة ولو لم يكن المبلغ مستعملاً في التجارة، أي أنّه لا يجوز أن يبقيا شيئًا من جنس مال الشركة إلا ويدخلانه في الشركة، ويشترط التساوي في التصرف فلا تصح بين صبي وبالغ ولا بين مسلم وكافر.

ولا يصح أن يكون تصرف أحدهما أكثر من تصرف الآخر.

فإذا تحققت المساواة الكاملة انعقدت الشركة، وكان كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه وكفيلاً عنه يطالب بما يعقده صاحبه، ويسأل عن جميع تصرفاته.

فإذا اختل شرط من هذه الشروط، أو تملك أحد الشريكين مالاً يصلح أن يكون رأس مال لشركة العقد، تحولت الشركة إلى شركة عنان، لعدم تحقق المساواة.

وعلى هذا فإن هذه الشركة تتطلب الاشتراك بين الشريكين في كل مالهما من الحقوق كإرث نقدي وركاز ولقطة، وما عليهما من الواجبات التي يلتزم بها كل واحد من دين بسب التجارة واستقراض وضمان عصب وقيمة متلف وأرش جناية على الدابة أو الثوب مثلاً ونحوها من مغارم الأحوال في قول أبي حنيفة ومحمد. وقد أجاز الحنفية والزيدية هذه الشركة.

- والواقع أن شركة المفاوضة بالمعنى المذكور عند الحنفية غير متيسرة الوجود إن لم تكن متعذرة التحقيق.

- أما المالكية: فأجازوا شركة المفاوضة: وهو أن تعقد الشركة على أن يكون كل شريك مطلق التصرف في رأس المال استقلالا، دون حاجة إلى أخذ رأي شركائه، حاضرين أم غائبين، بيعا وشراء وأخذا وعطاء ....

" وهذا المفهوم شركة المفاوضة عند المالكية لا خلاف فيه عند الفقهاء.

- أما شركة المفاوضة بالمعنى الذي ذكره الحنفية والزيدية، فلا يجيزها الشافعية. والحنابلة وجمهور الفقهاء:

1 -

لأنه عقد لم يرد الشرع بمثله.

2 -

لأن تحقق المساواة بالمعنى المطلوب في هذه الشركة أمر عسير.

3 -

لأن فيها غررًا كثيرًا وجهالة لما فيها من الوكالة بالمجهول والكفالة به فلم تصح كبيع الغرر.

قال الشافعي رضي الله عنه: "إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فلا باطل أعرفه في الدنيا".

"الأم"(7/ 286).

انظر: "المغني"(7/ 122 - 125)، "البدائع"(6/ 58)، "المبسوط"(11/ 153، 177).

ص: 3994

الربح على السوية، ثم العقد بالرضى أتم إشعار، وشركة العنان (1) قد حصل فيها أيضًا من هو من أعظم أدلة الرضى، وهو العقد والخلط، مع أن الربح والخسر فيها يتبعان المال، فيكون لكل واحد بقدر ماله من غير نظر إلى العمل، وشركة الوجوه (2) قد حصل

(1) قال ابن قدامة في "المغني"(7/ 122 - 123).

شركة العنان: أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيهما بأبدانهما والربح بينهما. وهي جائزة بالإجماع. ذكر ابن المنذر. وإنما اختلف في بعض شروطها.

واختلف في علة تسميتها شركة العنان:

فقيل: سميت بذلك لأنهما يتساويان في المال والتصرف. كالفارسين إذا سويا بين فرسيهما وتساويا في السير. فإن عنانيهما يكونان سواء.

وانظر: "مجموع الفتاوى"(25/ 62)، "المبسوط"(11/ 151).

(2)

شركة الوجوه: وهي أن يشترك الرجلان ولا مال لهما، فيشتريان السلع بالدين بناء على ثقة التجار بهما، أي بوجاهتهما، ويبيعان، وما يرزق الله من الربح فهو بينهما على ما شرطا. وهي جائزة. انظر "مجموع الفتاوى"(30/ 74، 81)، "المجموع"(14/ 63 - 64).

ص: 3995

التراضي فيها على أن يكونَ أحدُهما وكيلاً للآخرِ يجعلُ له فيما اشترى أو استدانَ حرًا معلومًا، ويتَّجر فيه، والربحُ والخسر فيها يكونان على قدر ما أضيفَ إلى كل واحد منهما من ذلك المال المشترى أو نحوه، وشكرةُ الأبدان قد حصل التراضي أيضًا بين أهلِها. وقد تقدم بيانُ ماهيَّتِها فعرفتَ أن هذه الشِرَكَ الأربعَ الرضى فيها موجودٌ، والمفروض في الشركة العرُرفية عدم وجوده، بل وجود الخصومة فيه.

فإن قلتَ: ما الذي ينبغي أن يُحْمَلَ عليه الحديثُ من هذه الشركة؟

قلت: ينبغي أن يُحْمَلَ على الشركة التي كان الناسُ يتعاملونَ بها في زمن النبوة، وهي شركة العنانِ، بل وقعت من روس الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أخرجه أهل السننِ (1) إلَاّ الترمذيَّ أن السائبَ بنَ أبي السائب كان شريكَ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في أول الإسلام في التجارةِ، فلما كان يومُ الفتح قال:"مرحبًا بأخي وشريكي، ولا يداري ولا يماري".

وأخرجه أيضًا أبو نعيم في المعرفة (2)، والطبرانيُّ في الكبير (3)، والحاكم (4)، وصحَّحَهُ؛ فإن هذه الشركة وسائر الشرك التي كان يفعلُها الصحابة، بل وأهل الجاهلية قبلهم هي أن يجمع الشريكان ما معهما من النقد، ويجعلاهُ ثمنًا لشيء من أنواع التجارة، على أن يكون الربح بينهما على قَدْرِ المالِ، وقد يقع نادرًا بين الصحابةِ شركةُ الوجوهِ كما

(1) أبو داود في "السنن" رقم (4836) وابن ماجه رقم (2287) والنسائي عزاه إليه المنذري في المختصر (7/ 187 رقم 4669).

(2)

"معرفة الصحابة" رقم (3456).

(3)

رقم (6618).

(4)

في المستدرك (2/ 61).

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وخلاصة القول أن الحديث صحيح والله أعلم.

ص: 3996

أخرجه البخاريُّ (1) من حديث زهرةَ بن معبدٍ عن جدِّه عبدِ الله بن هشام، وكان قد أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا له بالبركة أنَّ ابنَ عمرَ، وابنَ الزبير كانا يليقيانِه في السوقِ فيقولان له: أشرِكْنا فيما شريتَ؛ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قد دعا لك بالبركة، فيشرِكُهُما، فربما أصاب الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل.

فإذا عرفت أن الشركة [6أ] المذكورة في الحديث هي الشركة المعروفة بالعنان في لسان أهل الفقه، لأنها هي الأعمُّ الأغلبُ في شركة العرب لم يكن في ذلك دليلٌ على ما نحن فيه من الشركة العرفية، لأن شركة العنان الربح والخسر فيها على قدر المال، والمستدلُّ بالحديث يقول في الشركة العرفية أنَّ الربح يُقْسَمُ على التسوية من غير تفضيل، وإن كان المال متفاضلاً، بل وإن كان أحدُ الشركاء لا مالَ له إذا قام بعملٍ من الأعمال وإن قلّ، ومما يفيد أن الشركة المذكورة في الحديث هي شركةُ العنان قولُه فيه: فلما كان وقتُ قسمة الربحِ؛ فإنَّه يشعِرُ بأن لقسمة الربح وقتًا معلومًا عندهما، وهذا لا يكون في الشركةِ العرفية إنما يكونُ غالبًا في شركة العنان، ووجهٌ آخرُ أيضا، وهو أن وجود الربح مشعرٌ بوجود رأس مال ينشأ عنه الربح.

فإن قلتَ: إذا كان الأمرُ على ما تقولُه فالربحُ والخسرُ يتبعان المالَ، فما وجه طلب من كان مقيمًا في السوق أن يفضِّلَهُ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على صاحبه؟

قلتُ: وجههُ أنه لما كان هو العاملُ وحدَه في تحصيل سببِ الربحِ له ولشريكه اعتقدَ أنه يستحقُّ زيادةً بسبب انفراده بالسعي، على أن هاهنا مانعًا من استدلال مَنِ استدلَّ بالحديث المذكور على ما يزعمُهُ من الاستواء في الشركة العرفية، وهو أنّ الحديث قد دلّ على ثبوت الشركة العرفية على فرض صحة حمله عليها، وإن لم يكن لأحدِ الشركاء عملاً أصلاً كما كان الذي هو ملازمٌ للمسجد، وهم يجعلون ماهيَّتها التكافؤ في

(1) في صحيحه رقم (2501) و (2502) وطرفه رقم (7210، 6353).

ص: 3997

الأعمال.

فإن قلتَ: إذاكان معنى الحديثِ باللفظ المذكور هو ما ذكرتَِ، فهل يكون محمولاً باعتبار لفظه الآخر الذي ساقَه المستدلُّ به حاكيًا له عنا لترمذي من حديث أنس قال: كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان أ؛ دُهما يحترفُ وكان الآخر يلزمُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتعلَّم منه، فشكى المحترفُ أخاُ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:"لعلكَ به تُرْزَقُ" على ما حُمِلَ الحديثُ الأولُ؟.

قلتُ: لا؛ فإن الروايةَ ليس فيها ما يدلُّ على اشتراكٍ أصلاً، ولا ما يشعر بربح، ولا مُكْتَسَبٍ، بل غاية ما فيها أن أحدَ الأخوين كان يعاني المعاشَ، ويلازمُ الاكتساب فيما يسدُّ فاقَتَهُ هو وأخوه [6أ]، ويقومُ بما يحتاجان إليه مع من يَعُولانِ، فشكى القائم بالحرفة المشتغل بالمعاش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طالبًا منه أن يُلْزِمَ أخاه يعاونَه في تحصيل ما يحتاجان إليه، ويجعلَ لنصيبه من الدنيا وحصّتِه من أسبابا الرزق نصيبًا من أوقاته، فرغَّبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترغيبًا لا حَتْمَ فيه، ولا إلزامَ بأن يدع أخاه يلزمُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويُفَرِّغَ نفسه للآخرة، معللاً ذلك بأنه قد يكون مجلبةً للرزق، قائلاً ذلك على طريق الترجي، قائمًا مقامَ الترغيب، فليس فيهذا من الدلالة على نوع من أنواع الشِّرَك شيءٌ، لا شِرَكُ المكاسب، ولا الشركةُ العرفية كما لا يخفى علىمن له فهمٌ لفقد ماهية كلّش واحدة منها، أما ماهية شِرَكِ المكاسب الأربع فظاهرٌ، وأما ماهيةُ الشركةِ العرفية ولا وجودَ للمكافأة في الأعمال، بل غايةُ ما فيه الترغيبُ للقادرِ على الكسبِ المتصدِّي له أن يدعَ مَنْ كان مشنْ قرابته مشتغلاً بالطاعةِ، ويقومَ بما يحتاجُ إليه من النفقة، وما يتبعُها؛ فإن ذلك باب الصِّلَةِ لِرَحِمِهِ، والإعناة لطالب الخير على مطلبه.

فإن قلتَ: قد تعقَّبْتَه بما تكلَّم به المتأخرونَ على الشركة العرفية بهذه التعقبات، وأوضحت عدم انطباق بعض منه على محلِّ النزاع، وخروج البعض الآخر عن دائرة

ص: 3998

الإنصاف، وعدم صلاحية ما جعلوه دليلاً على ما قالوه للاستدلال، فما الذي ينبغي اعتمادُه على ما تقتضيه الأدلةُ الشرعيةُ، وتوجبه الملَّةُ الإسلامية، وتوافقه المسالكُ الاجتهادية؟

قلتُ: قد تقرَّر بالأدلة الشرعية، والضرورة الدينية أن أموالَ العباد معصومةً، لا يحلُّ منها شيءٌ إلاّ بالمناط الشرعيّ، أما كونُها معصومةً لقوله تعال:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1)، ولما ورد من الأدلة كتابًا وسنةً في لزوم العدل، وتقبيح الظلم، والنهي عنه، ووصف الآكلين لأموال اليتامى بأنهم {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (2)، وما صحّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم في خُطْبَة الوداع قائلاً:"إنما دماءكم وأموالكم عليكم حرامُ"(3)، وقوله:"لا يحلّث مالُ امرئ مسلم إلاّض بطيبةٍ من نفسه"(4).

وأما المناط الشرعيّ الذي تحلّ به هذه العصمةُ فما ذكره الله عز وجل من التراضي في قوله: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} ، وما ذكره النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث من طيبةِ [7أ] النفسِ، وهذا ليس فيه خلافٌ بين المسلمين أجمعينَ، بل هو إجماعٌ معلومٌ لكلِّ مشتغل بالعلم. ولا ينافي ذلك اشتراط من اشترطَ في بعض التصرفات ألفاظًا مخصوصة، أو صفاتٍ معينةً.

وإذا تقرر هذا علمتَ أن مجرد اجتماع جماعةٍ في بيت يتكافؤن في تحصيل أسباب المعاش، وهذا الاجتماعُ المذكور هو المعروفُ بالشركةِ العرفيةِ لا يوجب خروجَ ما هو في ملك أحدِهم من الغلَاّت الحاصلةِ له من أموالِه، أو ما حصلَ من المكاسبِ بسعيهِ

(1)[البقرة: 188].

(2)

[النساء: 10].

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 3999

المختصّ به إلاّ بحصول المناط الشرعيّ، وهو الرضى، وطيبة النفس، فإن كان هذا المناط حاصلا إما بوقوع المصادقة من أهل الشركة العرفية على أنّهم تراضَوْا على الاشتراك في جمع ما يحصُلُ من سعيهم، وغِلَاّتِ أموالهم بأن يكونَ بينَهم على السويةِ، أو يكونَ بينهم على صفةٍ من صفات القِسمة يتضمَّنُ تفضيلَ البعض على البعض، أو يكون هذا المناطُ حاصلاً بقيام مُستَنَدًا للأحكام الشرعية فلا شكَّ ولا شبهةَ أن ما حصل لهم بعد التراضي يكونُ مشتركًا بينَهم على حسب ما تراضوا عليه، ولا يزال كذلك حتى يرجعوا أو بعضُهم عن ذلك التراضي، فإذا وقع الرجوعُ ارتفعَ المناط، وعادت أموالُهم أو أموالُ مَنْ رجع إلى تلك العصمة، فيكون له منوقت الرجوع ما حصل من غِلَاّتِ أمواله، وما استفاد من سعيه، وهذا أعني: كون التراضي مناطًا محلّلاً لما حصل لهم مشروطًا بأن لا يكونَ فيه حيلةٌ على صبيٍّ، أو امرأةٍ، أو مَنْ لا درايةَ له من الرجالِ.

أما إذا كان كذلك بطلَ منه ما تضمنتْه الحيلةُ، وصح ما عداه، وفي حكم هذه المصادقةِ على التراضي أن يكونَ بين أهل ذلك المحلِّ عُرْفٌ يعلمُهُ كلُّ واحد من أولئك المشتركين على وجهٍ لا يخفى ولا يلتبسُ بأن من اجمتعوا هذا الاجتماع، واشتركوا هذه الشركة كان ما حصل من أموالهم، أو كَسْبِهم مقسومًا بينهم على السوية، أو على حسبِ الأموال والسعي، فإذا كانا لعرفُ كائنًا على الصفة المذكورة كان دخولُهم في الشركة المذكوة بمنزلة التراضي بما يقتضيه العرفُ، ويكونُ هذا بمنزلةِ الألفاظ المشعِرَةِ بالتراضي في دلالتها [7ب] على ما في النفس، لأن الرضيى هو أمرٌ قلبيٌّ، وليستِ الألفاظُ المشعِرَةُ به إلَاّ دوالاًّ عليه، ولا تختصُّ الدلالةُ على هذا الأمرِ القلبيّ بالأمور اللفظية، بل كل مالَه دلالةٌ على ذلك الأمر القلبيِّ فله حكمُ اللفظ، كالإشارة المفهِمة، وما يقوم مقامَها، فهكذا الأعرافُ الجاريةُ المعلومةُ التي لا تختلف، ويشترك في العلم بها كلّ فردٍ من أفراد المشتركين، فإنها لا تُفَسَّرُ في كونها دالةً على الأمر القلبيِّ عن الألفاظ والإشاراتِ والكتاباتِ، أما إذا لم يكن ثَمَّ تراضٍ ولا عُرْفٌ، أو وُجِدَتْ أعرافٌ

ص: 4000

مختلفةٌ غيرُ مؤتلفةٍ فاجتماعُ جماعةٍ على الشركة العرفية لا يخرجُ ما حصلَ لكل واحد منهم عن العصمة، بل الواجب عند الخصومة إرجاعُ ما هو من غلات كلّ واحد منهم إليه بعينه إن كان باقيًا، أو مثلُه إن كان مثلَها، أو قيمتُه إن كان قيِّمًا، وهكذا يجب إرجاعُ ما حصَّلَه كلُّ واحد منهم من كسبِه بعد أن يُحْسَب عليه منه ما قدِ استهلكَهُ لنفسه ولمن يجبُ عليه إنفاقُه.

فإن قتلتَ: إذا كانوا قدِ استمرُّوا على الشركةِ أزمنةً متطاولةً، وخلطوا ما حصلَ لكلِّ واحد منهم من الجهتين، واستنفقوا منه ما استنفقوا، وبقيت منه بقايا بأعيانها، أو كانوا قد اكتسبوا بما يفضُلُ عن كفايتهم مكتسباتس من منقولٍ أو غير منقول؟.

قلتُ: يُقْسَمُ ذلك بينهم على قَدَرِ ما يحصلُ لكل واحد منهم من أملاكه وسعيه، فيكون لصاحبه النصيب الفاضل بقدر نصيبه، ولصاحب النصيب المفضول بقدر نصيبه، هذا إذا كان الدخول من مجموع غِلَاّت الأملاك والسعي، وإن كان من أحدهما فقط فبحسبه، وكثيرًا ما تعرضُ الخصومةُ بين جماعة مشتركينَ شركةً عرفيةً قد كسبوا بما فضُلَ عن نفقتِهم أموالاً، ولا سعي يختصُّ به أحدُهم، بل جميعُ سعينهم فيما يتعلَّق بحرث تلك الأملاك وإصلاحها، وحفظ غِلَاّتها عن الضياع، كما فعلُه الزُّراعُ، ومثل هذا ينبغي أن يَنْظُرَ الحاكمُ ما يقابل عمل العاملين، فيعطي كلَّ واحد منهم من تلك المكتسبات فاضُل الغلات بقدر عمله، ثم ينظرُ بعد أخراج أُجْرَةِ العاملينَ إلى ما بقي فيقسِمُهُ لأهل الأملاكِ التي حصلتْ منها الغلّةُ لكل واحد منهم بقدرِ مالِه، ويجهدُ نفسَه في الاستقصاء والتقريب والتحرِّي، فهذا هو العدلُ الذي يقتضيه الشرعُ، ولا عدلَ غيرُه، ولا شرعَ سواه [8أ]، لأنه إذا تعذّر إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقّه عَيْنًا أو مِثْلاً أو قيمَةً وجبَ الرجوعُ مع الاختلاطِ إلى القسمةِ التي شرعَها الله عز وجل بعد إسقاط ما استغرَقهُ كلُّ واحد منهم لنفقةٍ أو كسوةٍ أو غرامةٍ في نكاحٍ أو غيرِه من نصيبِه، وكذلك ما استغرقه مَنْ يجب عليه نفقتُه كما قدمنا.

فإن قلت: قد يصعُبُ إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه بالقسمة على فرض اختلاف

ص: 4001

المتغَلَاّتِ، واختلاف صفة السَّعي في المكاسب، فربَّما كان بعضُهم عاملاً في إصلاح المستغَلَاّتِ وتثميرِها، وبعضُهم كاسبًا بالتجارةِ، وبعضهم بأعمال يعملُها مع الملوك وأعوانِهم، ويكون لكلِ واحد من الدخولات ما يصعبُ ضبطهُ، ومن المستغرقات ما يبعدُ الوقوفُ عليه.

قلتُ: ليس على من يتولَّى خصومتَهم، ويتصدَّرُ لِقِسْمَتِهم إلَاّ إبلاغُ الجهدِ، وإمعانُ النظرِ على وجهٍ لا يكون غيرُه أقرب منه، وليس عليه غيرُ ذلك، ولا يُكلَّفُ بما يخرجُ عن طاقتِهِ، فينظرُ غالبَ ما يحصِّلُه كلُّ واحد منهم من كسبه، وغالبَ ما يستغرقُهُ من الأرباح، ويعمل على ذلك. ومن ادَّعى زيادةً على ما هو الغالب، أو نقصًا كان عليه البيِّنةُ.

وإذا أضافَ بعضُ المشتركينَ شيئًا من المكتسبات إلى نفسه فهذا على وجهين:

أحدُهما: أن يكون قد سبقَ التراضي بينَهم على أن يكون ما كسبُوه بينهم على الاستواء، أو أن يكونَ لكل واحد منهم نصيبٌ معلومٌ.

الثاني: أن لا يكون قد سبق بينهم تراض، ولا وُجِدَ عُرْفٌ مُتَّفقٌ عليه، معمولٌ به.

فالوجه الأول: يكون العمل فيه على التراضي، ولا حُكْمَ لما وقع من الإضافات المخالفةِ له، بل هي لاغيةٌ باطلةٌ، لأنَّ المضيفَ قد سبق منه ما هو مناطٌ شرعيٌّ مخالفٌ لما خصَّ به نفسَه من الحِيَل الباطلة، والاستبدادِ المردود. ومَنْ جَعَلَ لتلكَ الإضافة المخالفةِ للتراضي حكمًا فهو لا يعقلُ ما توجِبُهُ المناطاتُ الشرعيةُ من بطلان ما يردُّ عليها مما يخالفُها، فيشتركُ المجتمعون في الأعيان المكسوبةِ على قدرِ ما تراضَوْا عليه، ولا اعتبارَ بالتخصيص.

وأما الوجهُ الثاني: وهو عدمُ وجودِ التراضي بينَهم على صفة معلومةٍ في قسمة ما حصلَ لهم، فمن أضاف إلى نفسه شيئًا صار ملكًا له، لأن تلك الإضافة مناطٌ شرعيٌّ غيرُ مسبوقٍ بمناطٍ يخالفُه، فيختصُّ المضيفُ بما أضافه إلى نفسه كائنًا ما كان، ويحسب عند قسمة ما استفادُوهُ معهم من نصيب المضيف الحاصلِ له من مجموع ما حصلَ لهم من

ص: 4002

الفوائد [8ب]، فإن كان ما أضافه إلى نفسه زائدًا على نصيبه من مجموع ما هو بينهم كان عليه تسليم ما يقابل نصيب غيره من ذلك الزائد ثمنًا لا عينا.

وإذا خسر أحدهم، أو جنى، أو ظلم لغير وجه، فإن كان ذلك بسبب يختص به وجده لا يرجع إلى الجميع بوجه فهو محسوب عليه وحده من نصيبه، وإن كان لسبب يرجع إلى الجميع بوجه يقتضيه الشرع فهو على الجميع.

فهذا جواب ما سأل عنه السائل ـ كثر الله فوائده ـ على طريقة الإجمال، وبه تحصل الفائدة في كل وجه من تلك الوجوه التي سأل عنها، ولا بأس بذكر كل وجه منها، وجوابه وإن حصل بذلك التكرير ففيه زيادة إيضاح، وتمام فائدة.

أما الوجه الأول: أعني قوله: ما حكم الاشتراك بين جماعة اشتركوا في أعمال من دون عقد

إلخ؟

فأقول: جوابه على التفصيل السابق فإن كانوا قد تراضوا على صفة من الصفات، وهيئة من الهيئات كان ما حصل لهم من النماء على ما تراضوا عليه، ولا فرق بين الفاضل كسبه وسعيه والمفضول، وإن لم يكن ثم تراض، ولا ما يقوم مقامه كان لكل واحد منهم بقدر سعيه وكسبه على الوجه الذي قدمناه.

وأما الوجه الثاني: أعني قوله: من كان لهم مال مشترك، وأنصباؤهم متفاوتة، وسعيهم مختلف

إلخ.

فالجواب أنه يكون الحاصل من النماء بينهم على قدر الأموال والسعي؛ فيكون للفاضل مالا أو سعيا بقدر ماله وسعيه، وللمفضول بقدر ماله وسعيه ما لم يتراضو على صفة من الصفات لزمهم الوقوف عليها.

وأما الوجه الثالث: أعني قوله: ما حكم من تساووا مالا وكسبا ولكن كان أحدهم صاحب عائلة

إلخ؟

أقول: إذا لم يحصل التراضي كان ما استغرقه صاحب العائلة لنفسه ولعائلته محسوبًا

ص: 4003

من نصيبه كما قدمنا.

وأما الوجه الرابع: أعني قوله: من كان له دخل خاص

إلخ.

فالجواب: أنه إذا قد رضي بشيء لزمه ما رضي به وإن لم يرض كان له بمقدار ما دخل له مما يخصه إما عينًا، أو مثلا، أو قيمة، أو يقدره مما قد كسبوه.

وأما الوجه الخامس: أعني قوله: لو اكتسب من نمى المشترك، وأضاف لنفسه

إلخ.

فجوابه: ما قدمنا من الفرق بين تقدم التراضي بينهم وعدمه فمع تقدم التراضي لا حكم للإضافة، بل يشتركون في عين ما أضافه، ومع عدمها يكون له محسوبًا عليه من نصيبه، فإن زاد على نصيبه حاسب بالزائد قيمة لا عينا [9أ].

وأما الوجه السادس: أعني قوله: لو كان ثم صبي

إلخ.

أقول: ليس على ولي الصبي إلا إمعان النظر في مصلحته بحسب ما يظهر له، فإن كانت المصلحة فيما يظهر له في ترك الصبي في الشركة العرفية تركه، وذلك بأن يكون أهلها من أهل الأمانة أو لهم أموال وسعي يكون بسبب ذلك انتفاع الصبي بما يفضل من غلات ماله انتفاعه زائدًا على ما يحصل له من النفع مع الانفراد، وأما إذا كانوا على غير هذه الصفات على وجه يحصل الظن بأنه لا نفع للصبي في البقاء معهم، أو أن نفعه أقل من نفعه مع الانفراد فإخراجه من تلك الشركة متحتم على وليه، وإذا حصل التقصير من ولي الصبي في طلب المصلحة له لم يلزمه ما وقع التراضي عليه بين المشتركين من المكلفين بل يحسب عليه ما يقوم بنفقته وكسوته ومؤن أمواله، ويرجع بالباقي على المشتركين.

وأما ما ذكره في الوجه السابع: أعني قوله: لو اختلف المجتمعون

إلخ.

فأقول: إن كان الظاهر يشهد لما قاله أحد المختلفين كان القول قوله، والبينة على من يخالفه، وإن لم يكن ثم ظاهر بالبينة على مدعي أن له كسبا، وعلى مدعي أنه متفق من ماله فلا يثبت كسب مدعي الكسب إلا بالبرهان، ولا يثبت إنفاق مدعي الإنفاق إلا

ص: 4004

بالبرهان، فإذا برهن كل واحد منهم على دعواه كان لصاحب الكسب قَدْرُ كسبه على ما يقوله العُدولُ المختبرون، وعليه قدرُ ما استنفقَه على ما تقتضيه العادةُ، فإن أقام مدعي الإنفاق البرهان على أنه رضي ذلك الكاسبُ بأن يكون ما استنفقَه أُجْرَةً له كان الرضى معمولاً عليه، ولا يستحق غيرَ ما رضي به، فالرِّضى مناطٌ كما عرفناك سابقًا، ودعْ عنك النَّظر إلى غيرِ هذا مما يُقَالُ إنه يقتضي فسادَ الإجارةِ أو صِحَّتَها فليس بعد الرِّضى من المكلَّف شيءٌ.

وأما الوجه الثامنُ: أعني قولَه: إذا مات أحدُ المتسبينَ والمشتركيَ، أو تزوجَ، أو غابَ، وثَمَّ مالٌ، والتبس ما كُسِبَ بعدَه

إلخ.

فالجوابُ: أن القولَ قولُ المباشرينَ للاكتساب المحصِّلينَ لتلك الفوائدِ الثابتينَ عليها، فمنِ ادَّعى من ورثة مَنْ مات أو خرجَ من شَرِكَتِهم أنَّ له حقًّا فيها مع كونها حاصلةً بعد موتِه أو خروجِه فهو يدَّعي خلاف الظاهر فعليه البيِّنة، والقول قول المشتركين. هذا على فَرَضِ أنه [9ب] لم يكن ثَمَّ ظاهرٌ يخالفُ ذلك، فإن كان موجودًا فالقولُ قولُ من هو مستمسك بالظاهر، والبينة على مَنْ يخالِفُه هذا إذا كان للمتسبينَ سعيٌ تتحصل به فوائده من غير الأموال المشتركة بين ورثة مَنْ ماتَ أو خرجَ عن الشركة، وبينَهم كأهلِ التجاراتِ ونحوِها.

أما إذا كان لا مدخَل للمشتركين إلَاّ من غِلَاّتِ الأموال التي نصيبُ مَنْ مات أو خرجَ عن الشركةِ فيها، فلا قبولَ لدعوى من يدَّعي الاختصاصَ، بل الظاهرُ قولُ من قال: أن له نصيبًا من الكسائب بقدر مالِ موروثه، أو بقدر ماله المتروك في أيديهم بعد خروجه من الشركة، فَيُقْسَمُ ما هو راجعٌ إلى المال على قدرِ الأموالِ. وما هو راجعٌ إلى العمل فيها على قدر العمل بين العاملين.

وأما الوجه التاسعُ: أعني قولَه: لو تزوج أو جنى

إلخ.

فالجواب: أنَّ الشرعَ يفضي بلزوم ما صدرَ عن أحدِهم لمن صدر عنه، ولا يلزم غَيْرَهُ

ص: 4005

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (1) كما نطق به الكتاب العزيز: وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يجن جان إلا على نفسه"(2)، وقال لرجل مع ولده:"لا جيني عليك، ولا تجني عليه"(3) كما في دواوين الإسلام، فمن جنى من الشركاء حتى لزمه الأرش، أو فعل ما يوجب عليه غرامة في المال فذلك عله، إلا أن يتقدم التراضي بين أهل الشركة على أنهم يغرمون مع من لزمه مغرم من أرش جناية أو غيرها كان ذلك عليهم على حسب التراضي فهو محكم معمول به، وهكذا إذا لزم أحدهم مغرم بسبب يرجع إلى الجميع، أما باعتبار الأشخاص أو المال فهو على الجميع وبالجملة فلا يختص أحدهم بالمغرم الراجع إلى ما تجمعهم كما لا يختص بالمغنم.

وأما الوجه العاشر: أعني قوله: لو وقع شرط بين المتشاركين أن لفلان نصف

إلخ.

فجوابه: أنه إذا حصل التراضي [10أ] على ذلك صح ولزم كما قدمنا تحريره وتقريره، وإن لم يحصل التراضي عليه فلا حكم له ولا اعتبار به.

وإلى هنا انتهى الجواب على سؤال السائل ـ كثر الله فوائده ـ وكان الفراغ من تحريره نهار الأحد سلخ شهر محرم سنة 1221. [10ب]

(1)[الأنعام 164، الإسراء 15، فاطر 18].

(2)

أخرجه الترمذي رقم (3087) من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص وقال: حديث حسن صحيح وهو كما قال.

(3)

أخرجه أحمد (2/ 227، 228) وأبو داود رقم (4495) رقم (4832) والحاكم (2/ 425) من حديث أبي رمثة.

وهو حديث صحيح.

ص: 4006

(129)

21، 22، 23/ 2

أسئلة (1) من العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي من كوكبان وتشمل على:

1 -

بحث في بيع المشاع من غير تعيين.

2 -

بحث فيمن وقف على أولاده دون زوجته.

3 -

بحث في إنشاءات النساء.

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديث

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

(1) للرسالة عنوان آخر "أسئلة من محروس كوكبان وقعت فيها مراجعة بين العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي وبين حكام كوكبان. وجواب الإمام الشوكاني عليها"(50/ 1).

ص: 4007

وصف المخطوط (أ):

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: "أسئلة من العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي من كوكبان .... .... ".

2 -

موضوع الرسالة: "فقه".

3 -

أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد: وصلت إلى أسئلة من محروس كوكبان

". 4 - آخر الرسالة: " وهجر الكثير الغالب خروج عن قوانين الاستدلال هذا ما يظهر لي، والله أعلم.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

عدد الصفحات: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 7 صفحات.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأولى فعدد الأسطر فيها 7 أسطر والصفحة الأخيرة عدد أسطرها 12 سطرًا.

9 -

عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.

10 -

الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 4009

وصف المخطوط (ب):

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: "أسئلة من محروس كوكبان ....

.. ". 2 - موضوع الرسالة: "فقه".

3 -

أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد: فإنها وصلت إليَّ أسئلة من محروس كوكبان .... ".

4 -

آخر الرسالة: " وهجر الكثير الغالب خروجٌ عن قواني الاستدلال هذا ما يظهر لي، والله أعلم .....

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

عدد الصفحات: 8 صفحات.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 13 - 15 كلمة.

9 -

الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 4012

[بسم الله الرحمن الرحيم](1)

الحمدُ لله. [وحده، وصلى الله على من لا نبيَّ بعدَه، وآله وصحبه، وبعد:](2) وصلتْ إليّ أسئلةٌ من محروس كوكبان، وقعتْ فيها مراجعةٌ بين سيدي العلامةِ شرف الإسلام الحسين بن عبد الله الكبسي (3)، وبين حُكَّامِ كوكبان.

[بحثٌ في بيعِ المَشَاعِ من غيرِ تعيينٍ]

السؤالُ الأولُ: فيمن باع خمسَ لَبنٍ مشاعًا، ولم يعيِّن مكانًا مخصوصًا من الأرض، هل يصحُّ ذلك أم لا؟ فأجاب حاكمان من حُكَّامِ كوكبان أن التقييدَ بلفظ المشاع يوجبُ صِحَّةَ البيع. وردَّ عليهما السيدّ المذكورُ ردًا حسنًا، وأجبت بما لفظُهُ:

الحمدُ لله وحدَه، وبعدُ:

فإني وقفت [1/ب] على هذا البحثِ النفيسِ، وقد استوفى محرِّرُهُ، بارك الله في علومه ـ أطرافَهُ، ولا أعرف قائلاً يقول بأنَّ مجرَّد التقييدِ بلفظِ المشاعِ مطلقًا يوجبُ صحةَ بيع ما كان لولا ذلك التقييدُ غيرُ صحيح، ولا من علماء الزيدية، ولا من غيرهم، اللهم إلَاّ أن يكون ذلك المشاعُ مرادًا للمتابعين، مقصودًا لكل واحد منهما؛ فإن البعضَ (4) قد جعل ذلك مصحَّحًا إذا وقع التصادقُ عليه، لأنه بذلك القصدِ، وتلك الإرادة يَؤولُ إلى بيع جزءٍ معلومٍ باعتبار الانتساب إلى الكلِّ، وهذا مما لا نزاعَ فيه، وله نظائرُ كبيع مجهولِ العينِ مع الخيارِ (5)، وبيعِ ميراثٍ عُلِمَ جنسًا ونصيبًا، وأما مطلقُ التقييدِ بالمشاع من غير انضمامِ قصدٍ إليه، فمع كونِه لم يقلْ به أحدٌ كما عرفتَ هو أيضًا مخالفٌ

(1) في هامش المخطوط (أ، ب) ما نصه: "كما صرح بذلك في التذكرة والرياض".

(2)

في هامش المخطوط (أ، ب) ما نصه: "كما صرح بذلك في التذكرة والرياض".

(3)

تقدمت ترجمته

(4)

في (ب) كما صرَّح بذلك في التذكرة والرياض عن المؤلف.

(5)

انظر الرسالة رقم (110).

ص: 4015

لنصوص المذهبِ في مواطنَ منها:

اشتراطُهم في بيع بعض الصُّبرة مشاعًا (1) في المزروع المختلِفِ (2) أن تكون جهتُه معيّنةً، ولا شك أنَّ ذلك أمرٌ زائد على مجرد الشياعِ، مع أن ظاهر ما علَّلوا به قولَهم باشتراط التعيين في المختلف من تأديته إلى الشِّجار أنّه لا فرق بين السمتوي والمختلِف، لأنّ عدم التعيين قد يفضي في المستوي إلى الشجار كما يفضي إليه في المختلِف، وأكثريةُ الإفضاء في المختلف لا يستلزمُ الاختصاص به، كما ذلك معلومٌ لكل عارفٍ، والدليلُ على أن المستوي كالمختلِف في الإفضاء إلى الشجار ما عُلِمَ من اختلاف الأعراض بحسب اختلاف الحالات، مثلاً الموضعُ المستوي إذا كان له جارانِ فاشتري كلُّ واحد منهما خَمْسَ لِبَنٍ منه، فلا شك أن كلَّ واحد منهم يتعلَّق غَرضُه بأن يكون نصيبُه متَّصلاً بِمُلْكِهِ القديم،

(1) في (ب) اشتراط تعين الجهةِ إنَّما هو المقدَّر لا في المشاع كما هو ظاهرُ كلام أهل المذهب فيُنظرُ.

(2)

أنَّ بيع الصبرة جزافًا خع جهل البائع والمشتري بقدرها مباح وبهذا قال: أبو حنيفة والشافعيُّ. ولا نعلم له خلافًا.

وقد نص عليه أحمد، ولدَّ عليه قول ابن عمر. كنَّا نشتري الطَّعام من الرُّكبان جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه" متفق عليه.

ولأنَّه معلومٌ بالرؤية، فصح بيعه، كالثياب والحيوان، ولا يضرُّ عدم مشاهدة باطن الصبرة فإن ذلك يشقُّ، لكون الحبِّ بعضه على بعض ولا يمكن بسطها حبةً حبَّةً. ولأنَّ الحب تتساوى أجزاؤه في الظاهر.

فاكتفى برؤية ظاهره، بخلاف الثَّوب، فإنَّ نشرَه لا يشقُّ، ولم تختلف أجزاؤه، ولا يحتاج إلى معرفة قدرها مع المشاهدة لأنَّه علم ما اشترى بأبلغ الطرق. وهو الرؤية.

وكذلك لو قال بعتُك نصف هذه الصبرة أوثلثها، أو جزءً منها معلومًا جاز، لأنَّ ما جاز بيع جملته. جاز بيع بعضه، كالحيوان، ولأنَّ جملتها ملعومة بالمشاهدة، فكذلك جُزؤها.

قال ابن عقيل: ولا يصحُّ هذا إلا أن تكون الصبرة متساوية الأجزاء فإن كانت مختلفة، مثل صبرة بقَّال القرية، لم يصحَّ. ويحتمل أنْ يصح لأنَّه يشتري منها جزءًا مشاعًا، فيستحقُّ من جيِّدها ورديئها بقسطهِ.

انظر: "المجموع"(9/ 376 - 377)، "المغني"(6/ 207 - 209).

ص: 4016

فيقع النزاعُ بينَهما وبينَ البائع، وما يشاكلُ ذلكَ من الأغراض.

وأما قولُ الحاكِمَيْنِ أنّه لا فرق بين قولِنا ربعٌ، أو نصفٌ، أو ثلثٌ، أو خُمْسُ لِبَنٍ مشاعًا

إلخ فليسَ كما ينبغي؛ فإنّ الفرقَ [بين المقيَّد بالمشاع (1) مطلقًا، وبينَ المقيَّد بخصوصِ الجُزْءِ المعلومِ من ثلثٍ، أو رُبُعٍ كالفرق](2) بين العامِّ والخاصِّ، لصدق اسم المشاع على ما كان مُنتَسِبًا إلى الأصل بجزءٍ معلوم، وعلى غيرِه. وعلى الجملةِ فالأصلُ الأصيلُ أن يكون المبيعُ معلومَ القَدْرِ، مُعَيَّنَ الجهةِ، لأنّ ما لم يكن كذلك في عِداد بيع الغَرَر (3) الذي نهى عنه الشارعُ، وأيضًا الرِّضا (4) الذي هو المناطُ للبيع المأذونِ فيه إنما يُتَصَوَّرُ على وجه الصِّحَّةِ فيما كان كذلك، فإذا وقع العقدُ على شيء غيرِ المقدارِ، أو الجهةِ فالرضا [1ب] المعتَبَرُ منتفٍ، وما يُظَنُّ من أنَّه قد يمكن الرِّضا مع عدم الأمرينِ

(1) إذا قال بعتك ربع هذه الدار أو ثلثها، فيصح قطعًا، سواء علما ذرعانها أم لا. وإن قال: بعتك من هذه الدار كل ذراع بدرهم لم يصح قطعًا ولا يجيء فيه الوجه السابق في نظيره من الصبرة عن مربح أنّه يصح في صاع واحد. لأن أجزاء الدار تختلف بخلاف الصبرة ولو قال: بعتك من هذه الدار عشرة أذرع كل ذراع بدرهم، فإن كانت ذرعانها مجهولة لهما أو لأهدهما لم يصح البيع بلا خلاف. بخلاف نظيره من الصبرة، فإنّه يصح على الأصح، والفرق ما ذكرناه الآن من اختلاف أجزاء الدار دون الصبرة، وإن كانت ذرعانها معلومة لهما صح البيع عندنا.

وحمل الإشاعة، فإذا كانت مائة ذراع كان المبيع عشرها مشاعًا وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة: لا يصح، وهو جه لبعض أصحابنا حكاه الرافعي. والصحيح المشهور الصحة، وبه قطع الأصحاب قال إمام الحرمين: إلا أن يقصد أذرعًا معينة فيبطل البيع كشاة من القطيع. "

المجموع" (6/ 209).

وقال ابن قدامة في "المغني"(6/ 2098): ولو باع ما لا تتساوى أجزاؤه، كالأرض والثوب والقطيع من الغنم ففيه نحو من مسائل الصُّبَرِ.

وإن قال: بعتك هذه الأرض أو هذه الدار أو هذا الثوب، أو هذا القطيع بألفٍ صح. أو قال بعتك نصفه أو ثلثه، أو ربعه، بكذا صحَّ أيضًا،

(2)

زيادة من (ب).

(3)

تقدم مرارًا.

(4)

تقدم مرارًا.

ص: 4017

أو أحدِهما فوهْمٌ ناشئ عن التباس الرضى المقيَّد المعتَبَرِ بما يصدُقُ عليه مطلقُ الرضا، وحينئذٍ لا يجوزُ بيعُ ما كان فيه نوعٌ من أنواع الغَرَرِ، كبيع المجهول قَدْرًا أو جِهَةً (1)، فإنه إن لم يكن مظنةً للغَرَر كان مظنَّةً، ولا بيعَ ماله يحصل فيه الرِّضا المعتَبَرُ شرعًا إلَاّ بدليل يدلُّ على ذلك بخصوصه، فإن لم يوجد الدليل فالواجب البقاءُ على المنع. وقد ورد ما يدلُّ على جواز بيع ما فيه بعضُ جَهَالةٍ، كحديث جابر عند مسلم (2)، والنسائي (3) قال:"نهى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الصُّبْرَةِ من التمر، لا يُعْلَمُ كيلُها بالكيل المسَّى من التمر"، فإنه يدلُّ بمفهومِه على أنه لو باعها بخنسٍ غير التمرِ لجاز، فمن أجاز العمل بمثل هذا المفهوم أجاز التخصيصَ به، ومن لم يُجِزْ لم يُجِزْ.

والحاصلُ أن لا يجوزُ بيعُ شيء مما يتعلَّق به نوعٌ من أنواع الجَهَالةِ وإن قلَّ إلَاّ بدليل يخصُّه من عموم النَّهي عن بيع الغَرَر، ومن مُطْلَقِ الرِّضى المعتبرِ.

وبيعُ المشاعِ (4) على الصورة التي وقعَ فيها النزاعُ من القبيل الممنوعِ لتناول العمومِ له. والله أعلمُ.

(1) في حاشية المخطوط ما نصه: ينظر في اشتراط تعيين الجهة فإنَّ الميراث المعلوم حسًا ونصًا يصحُّ بيعه مع المشاع من غير تعيين الجهة وما الفرق بين مشاع ومشاع مع معرفة القدر فليتأمل.

(2)

في صحيحه رقم (42/ 1530).

(3)

في "السنن"(7/ 269، 270).

(4)

انظر تفصيل ذلك في "المغني"(6/ 209 - 210).

ص: 4018

[بحث فيمن وقف على أولاده دون زوجته]

السؤال الثاني: فيمن وقف (1) على أولاده دونَ زوجتِه، هل يصحُّ أم لا؟

فأجاب بعضُ أهلِ كوكبانَ بأنَّ إخراج الزوجة منافٍ للقُرْبَة.

وأجاب السيدُ المذكور بأن ذلك غيرُ منافٍ، وأطال الكلامَ في ذلك.

وأجبتُ بما لفظُهُ:

الحمد لله وحده، وبعد:

فإني وقفت على هذا البحث الشريف، وقد صار مستغنيًا عن التكميل والوقفُ على بعض الورثة (2) دونَ بعض الخلافُ فيه معروفٌ مشهورٌ، والذي يظهر لي أنَّ الوقفَ على

(1) الوقف: هو لغة الحبس. يقال: وقفت كذا، أي حبسته وهو شرعًا: حبس مالٍ يمكن الانتفاع به مع بقاء عيينه بقطع التصرف في رقبته على مصرفٍ مباح.

الوقف: مستحب، ومعناه تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة.

والأصل فيه ما رواه ابن عمر قال: "أصاب عمر بخيبر أرضًا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبتُ أرضًا لم أصبت مالاً قطٌ أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت بها، فتصدَّق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث في الفقراء والقُربى والرِّقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم غير متموِّل فيه".

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2772) وأطرافه (2764، 2772) ومسلم رقم (1632) وأبو داود رقم (2878) والترمذي رقم (1375) والنسائي رقم (3599) وابن ماجه رقم (2396) وأحمد (2/ 12 - 13، 55) وغيرهم.

(2)

انظر "المغني"(8/ 194 - 206).

قال ابن قدامة في "المغني"(8/ 206) والمستحب أن يقسم الوقف على أولاده، على حسب قسمة الله تعالى الميراث بينهم، للذَّكر مثل حظ الأنيين.

قال القاضي: المستحب التسوية بين الذكر والأنثى، لأنَّ القصد القُربةُ على وجه الدوام. وقد استووا في القرابة.

قال ابن قدامة: ولنا أنّه إيصالٌ للمال إليهم، فينبغي أن يكون بينهم على حسب الميراث كالعطيَّة، ولأنَّ الذّكر في مظنَّه ـ الحاجة أكثر من الأنثى، لأنّ كل واحدٍ منهما في العادة يتزوّج، ويكون له الولد، فالذّكر تجب عليه نفقة امرأته وأولاده، والمرأة ينفق عليها زوجها ولا يلزمها نفقة أولادها، وقد فضّل الله الذّكر على الأنثى في الميراث على وفق هذا المعنى، فيصح تعليله به .....

فإن خالف فسوَّى بين الذكر والأنثى، أو فضَّلها عليه، أو فضَّل عليه أو فضَّل بعض البنين أو بعض البنات على بعض أو خصَّ بعضهم بالوقف دون بعض، قال أحمد، في رواية محمد بن الحكم: إن كان على طريق الأثرة فأكرهه، وإن كان على أنَّ بعضهم له عيال وبه حاجةً. يعني فلا بأس به ووجه ذلك أن الزبير خصَّ المردودة من بناته دون المستغنية منهنَّ بصدقته.".

انظر "المجموع"(16/ 245 - 247).

ص: 4019

هذه الصِّفة لا تكون بمجرَّده باطلاً، بل لا بد من انضمام مانع من الصحةِ إليه، وهو ما لا يمكن قصدُ القُرْبَة معه قصدًا معتَبَرًا، وذلك كإرادة تخصيص بعض الورثة بذلك دون بعض بدونِ مخصِّص، بل لمجرَّد محضِ الهوى، وميل النفس إلى تأثير مَنْ تميل إليه، وإحرامِ من ينفُرُ عنه، فلا ريب أن هذه الإرادةَ لا يمكن وجودُ القُربة معها، وهكذا كلُّ صوره تصلُح لنسبة المانعيةِ إليها ويقدحُ في المقتَضَى الذي لا بد منه، فما كان من الأوقاف كذلك فالقضاءُ ببطلانِهِ متعيِّنٌ، لأنَّه قد عدم فيه المقتضي، وهو قَصْدُ القُرْبَةِ، وَوُجِدَ المانعُ، وهو الأمرُ المنافي لقصدها، وهذا إذا تبيَّن وجودَ المانع بقرينة حالٍ أو مقالٍ، فإن لم يتبيَّنْ فالأصلُ عدمُهُ، ويُنْظَرُ عند ذلك إلى المقتضى، فإن كان موجودًا فالقضاء بِصِحَّة الوقفِ متوجِّهٌ، لأنَّ كلَّ أمرٍ وُجِدَ فيه المقتضي وانتفى عنه المانعُ فهو صحيحٌ معتبرٌ شرعًا.

والحاصل أنه إما أن يُعْلَمَ أو يُظَنَّ وجودُ المقتضي أو عدمُهُ.

وعلى الثاني لا شك في عدم صِحَّةِ الوقف سواءٌ وُجِدَ المانعُ أو لم يوجد، وعلى الأول [2أ] إما أن يُعْلَمَ أو يُظَنَّ وجودُ المانعِ أو عدمَهُ أولا يعلمُ أصلاً، فإن كان الأول وفرضْنا إمكانَ اجتماعِ المانعِ والمقتضي في مسألة السؤالِ فالمقتضي من باب جلْبِ المصالحِ، وهو مما يجب إلغاؤهُ عند وجود مَفْسَدَةٍ راجحةٍ، أو مساويةٍ بلا نزاعٍ، وعند وجودِ مفسدةٍ

ص: 4020

مرجوحة أيضًا على نزاع فيه: ولا شكّ أنّ وجود المانع مستلزمٌ لوجود المفسدة مطلقًا، وإلا لما كان مانعًا.

وإن كان الثاني فالمتوجَّهُ القضاء بالصحةِ لما سلف. لا يقالُ تخصيصُ بعضِ الورثةِ إن لم يكن مانعًا مستقلاً فلا أقلَّ من أن يكون مظنَّةً لوجودِ المانعِ، ومظنَّةُ الشيءِ منزَّلةٌ منزلتَه غالبًا، فكيف صحَّ الجزمُ بعدم المانع في مثل مسألة السؤال، لأنَّا نقول لا نسلِّمُ أنّ ذلك التخصيص كذلك، فإنك لا تشكُّ أنّ من كان له ورثةٌ أغنياء، وورثة فقراء، فخصَّصَ الفقراء بالوقْفِ عليه (1)، وكذلك مَنْ كان له ورثةٌ قادرين على التكسُّب، وغيرُ قادرينَ فخصَّصَ غيرَ القادرينَ بذلك، وكذلك مَنْ كان له ورثةٌ أصِحَّاءُ ومَرْضَى فخصَّصَ المرضَى بذلك، فإنه لا يكون التخصيصُ المذكورُ مُنَافِيًا للقُرْبَة أصلاً، بل ربما كان من أقوى الأدلة الدالةِ عليها، فكيف يكون مانعًا أو مظنةً للمانع، وإن كان الثالثُ فالواجبُ القضاءُ بالصحة لأنّه قد وُجِدَ المقتضي، ولا يصح معارضَتُهُ بالشكِّ في وجود

(1) قال ابن قدامة في "المغني"(8/ 206 - 207): "

لو خصَّ المشتغلين بالعمل من أولاده بوقفه تحريضًا لهم على طلب العلم.

أو ذا الدِّين دون الفُسَّاق. أو المريض، أو من له فضلٌ من أجل فضيلته، فلا بأس.

وقد دلَّ على على صحَّة هذا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، نحل عائشة جِذاذ عشرين وسقًا دون سائر ولده ـ أخرجه مالك في الموطأ (2/ 752)، والبيهقي (6/ 170، 178).

وحديث عمر أنَّه كتب: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به عبد الله أمير المؤمنين، إن حدَثَ به حَدَثٌ، أن ثمغًا وصرمةَ بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم النبي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، الذي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالواد، تليه حفصةُ ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها أن لا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم، وذوي القربى لا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقًا منه".

أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (2879) وهو صحيح وجادة قاله الألباني في صحيح أبي داود. وفيه دليل على تخصيص حفصة دون إخوتها وأخواتها.

انظر: "المجموع"(16/ 250)، "المغني"(8/ 207).

ص: 4021

المانع على فَرَض أنه يترجَّح جانبُ عدمِه على جانب وجودِه، فكيف إذا كان عدمُهُ راجحًا كما نحن فيه! فإنّه لا شك أن الأصل عدمُ المانعِ، لأنّ الظاهر أنّ الرجل المعلوم إسلامُهُ ولا سيَّما إذا كان من أهل التمييز والتقوى لا يتقرَّبُ بأمرٍ في الظاهر، وثمَّ مانعٌ يبطلُ عنه ذلك التقرُّبَ، ويبقى الكلامُ هاهنا في صورة، وهي حيثُ لم تكنِ المقتضى معلومًا وجودُهُ ولا عدمُهُ.

ولا شكَّ أن المانع إذا كان معلومًا أو مظنونًا مقدَّمٌ عليه، وإنما الإشكالُ فيما إذا كان المانعُ غَيْرَ معلوم وجودُهُ ولا عدَمُهُ، فهل يُجْعَلُ الأصلُ وجودَ المقتضي فيجبُ القضاءُ بالصحةِ، أو الأصلُ عدَمُهُ فيجبُ القضاءُ بعدمِها، أو يكون ذلك محلَّ تردُّدٍ؟ ويمكنُ أنْ يُقَالَ: الأصلُ العدمُ، لأنَّه السابقُ على الوجود، فإذا لم يَقُمْ دليلٌ يدلُّ على أن المقتضي موجودٌ فالواجبُ استصحابُ ذلك المتيقَّنِ، ولا يُتَنَقَّلُ عنه إلَاّ بناقلٍ، ولكن هاهنا أمرٌ آخَرُ يوجبُ المصيرَ إلى أنَّ المقتضي في تلك الحالِ موجودٌ، وهو الظاهر المرجَّحُ على الأصل عند التعارضُ، فإنه لا ريبَ أنَّ المسلمَ إذا فعلَ فِعْلاً من أفعال العباداتِ والقُرَبِ كان الظاهرُ أنَّه لم يفعل ذلك عَبَثًا بل فعلَه لمقتضٍ هو إرادةُ التقرُّب إلى الله تعالى، لأن الإسلام بمجرَّده باعثٌ على ذلك فضلاً عن الإيمانِ والعِرفَانِ، ولا ينبغي أن يُظَنَّ بمسلم من المسلمينَ أنَّه يُلْبَسُ ببعض القُرَبِ المقربة إلى الله تعالى غَيْرَ مستحضرٍ في تلك الحالِ لماهية ما تقرَّبَ به.

فإن قلتَ: قد قامتِ الأدلةُ الصحيحةُ الصريحةُ القاضيةُ [2ب] بمشروعيته وقد ذكر السيدُ العلامةُ في جوابه على هذا السؤالِ شطرًا منها، وهو مذهب الجماهير من أهل العلم، حتى قال الترمذي (1): لا يَعْلَمُ بينَ الصحابةِ والمتقدَّمينَ من أهل العلم خلافًا في جواز وقفِ الأرضينَ، وجاء عن شُرَيْحٍ (2) أنه أنكر الوقفَ، وقد تأوَّل ذلك جماعةٌ من

(1) في "السنن"(3/ 660).

(2)

ذكره ابن قدامة في "المغني"(5/ 185): قال: ولم ير شريح الوقف، وقال لا حبس عن فرائض الله. قال أحمد: وهذا مذهب أهل الكوفة.

ص: 4022

أهل العلم، وأما أبو حنيفةَ (1) فلم يقل بعدم مشروعيته بل قال بعدم لزومه، وخالفَه في ذلك جميع أصحابه إلَاّ زفرَ بنَ الهذيلِ.

وحكى الطحاويُّ (2) عن عيسى بن أبان قال: كان أبو يوسُفَ يجيزُ بيع الوقف، فبلغهُ حديث عمر يعني الذي في أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال له:"حبِّس الأصل، وسبِّلِ الثمرة" فقال: مَنْ سمعَ هذا من ابن عون؟ فحدثه به ابن عليَّةَ فقال: هذا لا يسعُ أحدًا خلافُهُ، ولو بلغ أبو حنيفة لقال به، فرجعَ عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلافَ فيه بين أحد.

وأما ما روى الطحاويُّ (3)، وابن عبد البَرِّ (4) من طريق مالكٍ عن ابن شهاب قال: قال عمرُ لولا أني ذكرت صدَقَتي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لردَدْتُها. فلا يدلُّ على جواز الرجوعِ في الوقف، وعدمِ لزومِه، لأنَّ قول عمرَ ليس بحُجَّةٍ، ولا سيَّما إذا عارض المرفوعَ. وقد ثبتَ من قوله صلى الله عليه وآله وسلم الأمرُ بالتحبيس. ومفهومُ التحبيس لغةً مانعٌ من النقضِ، وأيضًا هو منقطعٌ، فإنَّ ابنَ شهاب لم يدركْ عمرَ.

وأما ما روي عن الطحاويّ (5) أيضًا من أنَّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمرَ:

(1) ذكره ابن قدامة في "المغني"(8/ 185): "وذهب أبو حنيفة إلى أنَّ الوقف لا يلزم بمجرَّده، وللواقف الرجوع فيه، إلَاّ أن يوصى به بعد موته. فيلزم، أو يحكم بلزومه حاكم. وحكاه بعضهم عن علي وابن مسعود، وابن عباس. وخالفه صاحباه، فقالا كقول سائر أهل العلم".

وانظر: "التمهيد"(1/ 213 - 214).

(2)

في "شرح معاني الآثار"(4/ 95).

(3)

في "شرح معاني الآثار"(4/ 96).

(4)

في "التمهيد"(1/ 214).

(5)

في "شرح معاني الآثار"(4/ 95).

ص: 4023

"حبِّس الأصلَ وسبِّلِ الثمرةَ" لا يستلزم التأييدَ، بل يحتملُ أن يكون أراد مدة اختيارِه لذلك، ففي غاية الضعف، فإنه لا يُفْهَمُ لغةً وعرفًا التحبيس إلَاّ التأبيدُ (1).

ويدلُّ على ذلك ما ثبت عند الدارقطني (2) من طريق عبيد الله بن عمرَ العمريّ، عن نافع مرفوعًا بلفظ:"حبّس ما دامتِ السمواتُ والأرضُ".

وأما ما رواه البيهقيُّ (3) من حديث ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا حَبْسَ بعدَ سورةِ النساءِ" ففي إسناده ابنُ لهيعةُ. وعلى فَرَض صلاحيتهِ للاحتجاج فقد فسَّره أئمةُ اللغة بأنَّ المراد به أنَّها لا تُحْبَسُ فريضةٌ عن الذي فرضَها الله له. وعلى فَرَض أن الحَبْسَ المذكورَ في الحديث يشملُ حَبْسَ الوقفِ لأ، ه نكرةٌ في سياق النفي فَنَعَم، ولا يُقْصَرُ على السبب، فعمومُهُ مخصوصٌ بما ورد في مشروعية الوقف من الأحاديث الصحيحةِ، لأنّ الوقفَ حَبْسٌ خاصٌّ.

وبهذا القَدْرِ يتبينُ لك أنه لا متمسَّكَ بيد مَنْ قال بعدم مشروعيتِ الوقفِ مطلقًا، أو بعدم لزومِه بعد إيقاعه.

قال القرطبيُّ (4): ردُّ الوقف مخالفٌ للإجماع فلا يُلْتَفَتُ إليه (5)، وأحسنُ ما يُعْتَذَرُ به عمن ردّه ما قال أبو يوسُفَ (6) من أنه لم يبلغِ الدليلُ أبا حنيفة، وهو أعلم بأبي حنيفةَ من

(1) انظر "فتح الباري"(3/ 403).

(2)

في "السنن"(4/ 192 رقم 16).

(3)

في "السنن الكبرى"(6/ 162).

(4)

في "المفهم"(4/ 600).

(5)

ذكره الحافظ في "الفتح"(5/ 403)، "المغني"(8/ 207).

ثم علل القرطبي قوله "وهذا خلافٌ لا يلتفت إليه، فإنّ قائله خرق إجماع المسلمين في المساجد والسّقايات إذ لا خلاف في ذلك

".

وذهب الشافعي إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام، أي وقف الأراضي والعقار، قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهلية، وحقيقة الوقف شرعًا ورود صيغة تقطع تصدق الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به وتثبت صرف منفعته في جهة خير.

"الأم"(8/ 176 - 180)، "فتح الباري"(5/ 403).

(6)

ذكره الحافظ في "الفتح"(5/ 403)، "المغني"(8/ 207).

ثم علل القرطبي قوله "وهذا خلافٌ لا يلتفت إليه، فإنّ قائله خرق إجماع المسلمين في المساجد والسّقايات إذ لا خلاف في ذلك

". وذهب الشافعي إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام، أي وقف الأراضي والعقار، قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهلية، وحقيقة الوقف شرعًا ورود صيغة تقطع تصدق الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به وتثبت صرف منفعته في جهة خير.

"الأم"(8/ 176 - 180)، "فتح الباري"(5/ 403).

ص: 4024

غيره.

وإذا تقررتْ مشروعيةُ الوقف، وأنه من القُرَب (1) فلا يتفاوتُ بتفاوت المصرِفِ، سواء كان مسجدًا أو فقيرًا أو غيرَهما، وسواءٌ كان الفقيرُ قريبًا، أو أجنبيًّا. ولنقتصر على هذا المقدارِ ففيه كفايةٌ.

وأما لفظ الذرية فالظاهر [3أ] أنّ الرجلَ إذا قال: وقفتُ هذا على ذريتي كان لمن يصدقُ عليه اسمُ الذريةِ لغةً، أو شرعًا، أو عرفًا. ولا فرقَ (2) بين الذَّكَرِ والأنثى، والعالي والسافل، لأنّ الصيغةَ عامَّةٌ (3)، فإن وُجِدَ أمرٌ يفضي بتخصيصِ هذا العمومِ من قرينةحالٍ أو مقالٍ فذاك، وإلَاّ فالعملُ بما يدلُّ عليه ذلك اللفظُ وهو المتعيَّنُ. والله أعلم.

(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2737) ومسلم رقم (1632) وأحمد (2/ 12) وأبو داود رقم (2878) والترمذي رقم (1375) والنسائي (6/ 230) وابن ماجه رقم (296) من حديث ابن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر ـ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر لم أُصب مالاً قطّ هو أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال:"إنْ شئت حبَّست أصلها وتصدَّقت بها" قال: فتصدق بها عمر: أنّه لا يباع أصلها، ولا يورث، ولا يوهب، قال: فتصدّق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل والضعيف، ولا جناحعلى من ولياه أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متمولٍ فيه وفي رواية غير متأثلٍ مالاً.

وانظر: "فتح الباري"(3/ 402 - 404).

(2)

في حاشية المخطوط ما نصه:

"ينظر لو خالف العرف الشرع أو اللغة في ما يصدق عليه اسم الذرية فما يُقدَّم هل الشرع أو عرف الواقع؟ فالمقام محتاج إلى تفصيل".

"لا حاجة إلى التفصيل فالحقيقة الشرعية مقدمّة على اللغوية، فبالأولى العرفية فترك التفصيل للظهور".

(3)

انظر "الأم"(8/ 177).

ص: 4025

[بحثٌ في إنشاءات النساء]

السؤالُ الثالثُ: فيما يفعلُه النساءُ من الإنشاءات، هل يصحُّ رجوعُهُنَّ إذا رجعْنَ عنها؟، فأجاب بعضُ حكّامِ كوكبانَ بأ، ه يصحُّ رجوعُهُنَّ في جميع ما فعلْنَهُ، وإن تماليكَهُنَّ ونحوَها لا تنفذُ إلَاّ بالموت، وأجاب السيدُ المذكور بأن حكمهنَّ حكمُ الرجالِ، إلَاّ أن يتبينَ وقوعُ التغريرِ والتلبيسِ عليهنَّ، ونحوُ ذلك.

وأجبتُ بما لفظُهُ:

الحمدُ لله.

لا مزيدَ على ما حرَّرَهُ السيدُ العلامةُ في هذا البحث النفيسِ، ولا شك أنّ للنساء حُكْمَ سائرِ المكلَّفينَ من الذكور، لشمول الأحكامِ الشرعيةِ لهنَّ في الجملة، وخروجهن عن البعض خروجًا بمخصص، ولكنَّ الغالبَ في هذه الأزمان أن الواحدةَ منهنَّ لا تسمحُ بشطرٍ من مالها لقريبٍ أو غيره إلَاّ لحيلة منصوبةٍ من ذلك المسموح له، يتسببُ بها إلى اقتناص مالِ تلك المسكينةِ لما جُبِلَتْ عليه من الخَوَرِ، وضَعْفِ العقلِ، وسوءِ التصرُّفِ، وهذا مشاهدٌ معروفٌ لا يمتري فيه من له أدنى ممارسةٍ لأحوال الناسِ، فكثيرًا ما نشاهدُ النساءَ يَخْرُجْن من أملاكهنَّ بأدنى ترغيب أوترهيب، حتى صار هذا الأمرُ هو الأعمَّ الأغلبَ عليهنَّ، وإن وقع من واحدة منهنَّ ما تخالفُ ذلك فعلى سبيل الندورِ الذي لا ينبغي التعويلُ عليه. وما أ، فعَ ما رواهُ لنا بعضُ الأعلامِ من شيوخنا عن بعض الأعلام من شيوخِه أنها جاءتْ إليها امرأةٌ تقرُّ لديه أنها قد ملّكَتْ بعضَ قرابتها جميع ما تملكُ، فاستفصلَها عن ذلك ففصلتْ وأقرَّتْ مرَّاتٍ أنها قد ملَّكَتْ ذلك القريبَ كلَّ ما تملِكُهُ من الأموال والدُّورِ والمنقولاتِ، فقال لها ـ وقد رأى في يدها خاتمًا ـ: وهذا الخاتَمُ من جملة ذلكَ؟ فقالت: لا أما هذا فهو حقِّي. فانظر هذه المسكينةَ كيف جعلتْ كلَّ ما غاب عن عينها من أملاكِها في حكمِ الخارجِ عن مُلْكِها.

والحاصلُ أنه لا ينبغي لمن يُصَدَّرُ لإيرادِ الأحكامِ وإصدارِها، أو دارت عليه رحَى

ص: 4026

الفتاوى أن يجرِّدَ نظرَهُ إلى أن الأصلَ أنَّ حُكْمِ الرجال في نفاذ التصرُّفِ، وعدمِ صحةِ الرجوعِ، بل ينبغي إمعانُ النظرِ وإعمالُ الفكرِ، وإكمالُ البحثِ عن صفة ذلك التصرُّفِ، والتفتيشُ عن الأمر [3ب] الحاملِ عليه، وملاحظةُ تلك المرأةِ التي وقع منها التمليكُ في حسن عقلها، وجَوْدَةِ اختيارِها، ومعرفتِها بمداركِ التصرفاتِ، فإنْ وجدَها لا تعرفُ لوازمَ التمليكِ بأي نوع من الأنواع، ولا تدري أن ذلك من موجباتِ انتقال المال عن ملكها بعد ذلك اللفظِ، رضيتْ أم كرهتْ، كما هو شأنُ أكثرِ النساءِ الساكناتِ في البوادي، بل وكثيرٌ من نساء الأمصارِ، فالواجب عليه القضاءُ ببطلانِ ذلك التصرُّف، وإرجاعِ المُلْكِ إلى مالكهِ، لأنَّ الله ـ سبحانه ـ قد أخبرنا بأنَّ الرِّضى معتبرٌ، وأخبرنا رسولُهُ صلى الله عليه وآله وسلم بأنه "لا يحلُّ مالُ امرئ مسلم إلَاّ بطيبةٍ من نفسه"(1).

وهذه المسكينةُ لا تعرفُ ما يلزمُها بلفظ التمليكِ الذي أوقعتْه، فضلاً عن أن تكون راضيةً به، طيبةً به نفسُها، فلا شكَّ ولا ريبَ أن القضاءَ بنفوذِ التصرف الخالي عن العِوَضِ على مَنْ كانت بهذه الصفةِ استنادًا إلى ما هو الأصلُ من أنَّ حكمَ المرأة حكمُ الرجلِ من الظلمِ البيِّن الذي لا يمتري فيه ممترٍ.

وهكذا إذا كانت المرأة المذكورةُ عارفةً بلازم ما أوقعتْه من لفظ الهبة والنذرِ ونحوِهما، ولكنها إنما جعلتْ ذلك لحيلة ناشئةٍ عن ترغيب أو ترهيب، فإن ذلك من البطلان بمكانٍ لا ينبغي لأحد أن يشكَّ فيه، لما تقرَّر شرعًا من بطلان الحيلِ (2)، ومضادَّتِها للشريعة

(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

(2)

قال الحافظ في "الفتح"(12/ 326): الحيل: جمع حيلة وهي وهي ما يتوصل به إلى المقصود بطريق خفي. وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام أو إلى إثبات حق او دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة.

ومن أدلة من أجاز الحيل مطلقًا:

قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} وقد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم في حق الضعيف الذي زنى، وهو حديث أبي أمامة بن سهل.

ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء، فإن فيه تخليصًا من الحنث وكذلك الشروط كلها فإن سلامة من الوقوع في الحرج

".

وأدلة من أبطل الحيل مطلقًا:

- قصة أصحاب السبت وحديث "حرمت عليهم الشحوم فجمَّلوها فباعوها وأكلو ثمنها" وحديث النهي عن النجش وحديث: "لعن المحلل والمحلل له

".

وانظر: أدلة تحريم الحيل مفصلاً في "إعلام الموقعين"(3/ 159 ـ وما بعدها).

ص: 4027

المطهرة إلَاّ ما خصَّ، والنساءُ أسرعُ الناس انخداعًا، وأقلُّهم نظرًا في العواقب، وأوّلُهم إجابة إلى ما لا يجيبُ إليه العقلاءُ، ولا يُنْفَقُ على مَنْ له أدنى تمييز من الرجال، وهكذا إذا كانت المرأةُ المذكورةُ عارفةً بمدلول ما وقعَ منها من التصرفات، فاهمةً لما يلزم عن ذلك، ولكنها أرادت بذلك استجلاب عِشْرَةِ العشير أو غيرَهُ من القرائنِ، أو إزالةَ ما تجدُهُ من وحشة أخلاقهِ، فإن هذا ارتضاءٌ من النوع الذي ينبغي القضاءُ ببطلانهِ، لأن الرضى المعتبرَ شرعًا، وطيبةَ النَّفسِ مفقودانِ، وللنساء من هذه الأمور عجائبُ وغرائبُ تمنعُ المتديِّنَ أن يجزِمَ عليهنَّ بأمرٍ بمجرَّد أصالةِ صِحَّةِ التصرفِ، وكثيرًا ما ترى المرأة إذا كلَّمها القريبُ بكلمة حسنةٍ، وأظْهَرَ لها أدنى محبةٍ كانت في تلك الحالة طيبةَ النفسِ بأن تصيرَ إليه جميعُ ما تملكُه وإن كان بآلاف مؤلفةٍ، وإذا أظهر لها أدنى خشونةٍ، وأبدى لها بعضَ الميلِ عنها كانت أشدَّ الناسِ عداوةً له وبغضًا، وربما تمنَّتْ حالَ فورةِ غضبها نزولَ العظائم به التي لو نزلَ عليه بعضُها في تلك الحالِ وهي ثائرةَ الغضب [4أ] لعادتْ باكيةً عليه.

وقد أرشدَ الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الأمرِ من خُلُقِ النساء، فأخبرنا أنَّ الواحدَ منَّا لو أحسن إلى إحداهنَّ الأيامَ المتطاولةَ، ثم لم يحسنْ إليها

ص: 4028

في وقت من الأوقات لقالتْ: ما رأيتُ منك خيرًا قط، كما ثبت في الحديث الصحيحِ (1): ما ذاك إلَاّ أنَّ النساء يَعْتَبِرْنَ الوقت الذي هنَّ فيه، ولا يفكِّرْنَ في العواقب، ولا يحفظن العهود السالفةَ. وقليلاً ما تجدُ المرأةَ تعملُ على خلاف ذلك، فإذا كان الأعمُّ الأغلبُ من حالِ النساء هو ما أسلفنا، ووقوعُ خلافِه منهنَّ في حيِّز النُّدْرةِ، فينبغي عند التردُّدِ الرجوعُ إلى ما هو الأعمُّ الأغلبُ، ولا يتحوَّلُ عنه إلَاّ بدليل، لأنَّ المصير إلى النادر، وهَجْرُ الكثيرِ الغالبِ خروجٌ عن قوانين الاستدلالِ.

هذا ما يظهر لي، والله أعلمُ. (2).

حرره المجيبُ محمدَ بن علي الشوكاني في شهر جُمَادى الأُولى سنةَ 1208 [4ب].

(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (4/ 885) من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه "

تصدَّقنَ، فإنَّ أكثركنَّ حطب جهنم" فقامت امرأةٌ من سطة النِّساء سفعاءُ الخدَّين، فقالت: لِم يا رسول الله؟ قال: "لأنكنَّ تُكثرنَ الشكاة، وتكفُرنَ العشير ".

(2)

في الحاشية للمخطوط ما نصُّهُ:

"تحصَّلَ مما حرره الإمام الحُجَّةُ المجيبُ ـ دامت إفادته ـ تأييدُ ما أجاب به عالم كوكبانَ، وترجيحُ كلام السيد الحسين، وإن كان يتراءى في أول الكلام السالف على كلام الحسين، فقد أغرقَه في بحار الغلطِ بما يفحمُه في غضون الأبحاثِ المسددة ـ زاده الله كمالاً وجمالاً ورفعةً وجلالاً ـ.

ص: 4029