المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إرشاد الأعيان إلى تصحيح ما في عقد الجمان - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٨

[الشوكاني]

الفصل: ‌إرشاد الأعيان إلى تصحيح ما في عقد الجمان

(121)

[30/ 2]

‌إرشاد الأعيان إلى تصحيح ما في عقد الجمان

تأليف محمد بن علي الشوكاني

حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 3815

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: "إرشادالأعيان إلى تصحيح ما في عقد الجمان".

2 -

موضوع الرسالة: "فقه".

3 -

أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله ربِّ العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين

،

4 -

آخر الرسالة: "كان تحرير هذه الأحرف في النصف الأول من ليلة الاثنين إحدى ليالي شهر جمادى الآخرة سنة 1214هـ.

بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما، وتجاوز عنهما وعن جميع المسلمين آمين.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

عدد الصفحات: 22 صفحة + صفحة العنوان.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.

9 -

الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.

10 -

الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 3817

بسم الله الرحمن الرحيم الله

الحمدُ لله رب العالمينَ، وصلاتُه وسلامُه على سيدنا محمد الأمينَ وآله الطاهرينَ.

وبعدُ:

فإني وقفتُ على ما حرره مولاي السيد السَّنَدُ، العلامةُ الأوحدُ، بقيةُ الأعلام، حسَنَةُ الآلِ الكرام الحسينُ بن يحيى الديلمي (1) ـ كثر الله فوائده وبارك للمسلمين في أيامه ـ من الأبحاث النفيسة المقبولة على رسالتي المسماة "عِقْدُ الجمانِ في شأن حدود البلدانِ وما يتبعها من الضمان". ولما كانتِ المذاكرةُ العلمية من أعظم القُرَبِ المقرِّبة إلى الله ـ سبحانه ـ حداني ذلك إلى الكلام معه ـ عافاه الله ـ في بعض ما حرره من المباحث.

قال ـ كثر الله فوائده ـ: ورأيتُ كلامًا ذكره القاضي أحمدُ بن يحيى حابس (2)، وهو ممن عاصر الإمامَ القاسمَ بنَ محمد.

أقول: القاضي المذكورُ أدرك أيام الإمام عليه السلام في إبَّانِ شبابه، ولم يصر رأسًا في العلم والتدريس والتأليف إلَاّ بعد موتِ الإمام سنة 1029، ومات القاضي سنةَ 1041 كما حرَّرتُ ذلك في "البدر الطالع" بمحاسنِ مَنْ بعدَ القرن السابع (3) وبهذا يتبينُ

(1) تقدمت ترجمته.

(2)

أحمد بن يحيى حابس الصعدي اليماني أحد مشاهير علماء الزيدية. وله مشايخ منهم الإمام القاسم بن محمد.

من مصنفاته: "شرح تكملة الأحكام"، "شرح الشافية" لابن الحاجب، "شرح الكافل وتكميل شرح الأزهار".

تولى القضاء بصعدة واستمر فيه حتى مات سنة 1061هـ.

" البدر الطالع" رقم (78)، "هدية العارفين"(1/ 159).

* تحذير: وله بدع. انظر "صعقة الزلزال"(1/ 94 - 96) للشيخ مقبل بن هادي الوادعي.

(3)

رقم (381).

وهو القاسم بن محمد بن علي بن محمد الرشيد ولد سنة 967هـ.

انظر: "مصادر الفكر"(ص610 - 617). "أعلام المؤلفين الزيدية"(ص777 رقم 839).

ص: 3821

صحةُ ما ذكره الشرفي ـ عافاه الله ـ من معاصرة القاضي الإمام.

قوله: قال في المقصد الحسن: وإجراءُ المحاجرِ مجرى الأملاك

إلخ.

أقول: اعلم أن رسالتنا في الحدود الموضوعةِ بين قريتينِ أو أكْثَرَ بحيثُ يكون المستحقُّ من الكلأ والماء لأهل هذه القرية إلى مكان معلوم، ولأهل القرية الأخرى إلى مكانٍ كذلك لا يتعدّى هؤلاء إلى حدِّ هؤلاء، ولا هؤلاء إلى حدِّ هؤلاء.

وأما المحاجرُ فهي في العُرْف غيرُ الحدودِ، فإنها تواطؤُ أهلِ قريةٍ من القرى على أن يمنعون رِعْيانَهم من بعض أوديتِهم أو جبالِهم ليتوفَّر الكلأُ في ذلك المكان، ويكون مدَّخرًا لهم من أيام الخِصْبِ إلى أيام الجَدْبِ، فيرعَونَ فيه سوائِمَهم عند الحاجة إليه. فالذي تكلَّم عليه ابنُ حابس هو هذا، وهو غير الحدودِ التي كلامنا فيها [1أ]. وفَرْقٌ بين المحاجرِ والحدودِ؛ فإن المحاجِرَ ليس فيها المنعُ من الكلأ المباح إلَاّ لمصلحة راجعة إلى الممنوعينَ، وهي انتفاعُهم به في أيام الحاجة إليه، وهو باقٍ لهم مُدَّخَرٌ لمواشيهم بخلاف الحدود بين البلدانِ، فإن وضْعَها لمنع بعض المواضعِ عن البعض الآخرِ منعًا مطلقًا، وتخصيصَ استحقاقِه بالبعض الآخر، وهذا هو المنع الذي تردُّه تلك الأحاديث التي حررناها في الرسالة (1) المذكورة، وهذا الذي يسمونه مَحْجَرًا عُرْفًا هو الذي كانت العربُ تسميه حِمًى، وقد ذكرنا في الوجه الثالث من الأدلة في "عقد الجمان" الأدلةَ القاضية بتسويغه، والقاضيةَ بمنعه، وفرَّقنا بينه وبين الحدود، فلْيُرَاجِعِ الشرفيُّ ذلك ـ كثر الله فوائده ـ وبالجملةِ فكلامُ ابن حابسٍ الذي نقله الشرفي مستدلاً به على ما قاله في تلك الأبحاثِ، مصرِّحًا بأنه لم يقف في المسألة على كلام لأحد من المجتهدينَ سواهُ هو في غير ما نحن بصدده من الحدود، فحينئذ لم يبقَ قائلٌ من أهل الاجتهاد يقول بتسويغ الحدودِ المعروفةِ باعتراف مولانا الشرفي ـ كثر الله فوائده.

(1) رقم (119).

ص: 3822

وأما قول ابن حابس رحمه الله بأنَّ ضربَ الأعلام فيها التي يعتادونَها يوجبُ الملكَ لأنَّ للعُرفِ مجالٌ، وأيُّ مجال، أو من باب النظرُ في تسكين الدهماء!.

فأقولُ: اعلم أن التخصيص بالأعراف (1) للأدلة الشرعية عند مَنْ قال به مختصٌ بالأعراف التي لأهل الشرع عند نزول القرآن الكريم، مع وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانِيْهم، فما كان من الأعراف بهذه المثابةِ فقد قال قائل من أهل الأصول بصلاحيته، لتخصيص عمومات الأدلةِ الشرعيةِ.

ووجهُ ذلك ما ذكروه من أن الخطاباتِ الواردةِ في التفريعات هي لقوم قد تعارفوا بكذا، فكان المرادُ منها ما استقر في عُرْفِهم، ولكنَّ الحقَّ عندي عدمُ صلاحية العُرْفِ الكائنِ على هذه الصفةِ للتخصيص حسبما قرَّرَتُ ذلك في غير هذا الموطنِ، وهذا في الأعراف الثابتةِ للمخاطبينَ بالخطابات الشرعية عند حدوث الشريعة، وأما الأعرافُ الحادثةُ بعد انقراض الصدر الأول فلا يقولُ قائل بحمل الخطاباتِ الشارعِ عليها، وكيف يقول بذلك والأعراف اصطلاحيةٌ! لكل أحد [1ب] من الناس أن يتعارفَ هو وقومُهُ بما شاء، فإذا حدثَ مثلاً بعد انقطاع الوحي، وموتِ صاحبِ عُرْفٍ لقوم اصطلحوا عليه، فهل يتجاسرُ عالِمٌ على حمل الخطابات الشرعيةِ على هذا العرفِ الحادثِ في الاصطلاح، أو على تخصيص الأدلة الشرعية (2)

والحقُّ أ، ها لا تخصَّص لأن الحجة في لفظ الشارع وهو عامٌّ والعادةُ ليسن بحجة حتى تكون معارضةً له.

انظر: "تيسير التحرير"(1/ 317) و"المسودة"(124 - 126).؟ وهو شيء اخترعتُه طائفة من الطوائف، وابتدعته

(1) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول"(ص532): والحقُّ أن تلك العادة إنكانت مشتهرة في زمن النبوة بحيث يعلم أن اللفظ إذا أطلق كان المراد ما جرت عليه دون غيره فهي مخصِّصةٌ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس بما يفهمون، وهم لا يفهمون إلا ما جرى عليه التعارف بينهم. وإن لم تكن العادةُ كذلك فلا حكم لها ولا التفات إليها. والعجب ممن يخصِّص كلام الكتاب والسُّنة بعادة حادثةٍ بعد انقراض زمن النبوة تواطأ عليها قومٌ وتعارفوا بها ولم تكن كذلك في العصر الذي تكلم في الشارع فإن هذا من الخطأ البيِّن والغلط الفاحش.

انظر: "البحر المحيط"(3/ 392)، "اللمع"(ص21).

(2)

ذهب الجمهور إلى عدم جوام التخصيص بها، وذهب الحنفية إلى جواز التخصيص بها.

ص: 3823

فرقةٌ من الفِرق! هذا هو العجبُ ولو كان صحيحًا لكانت الشريعةُ دائرةً بين الاصطلاحات الحادثة المتجددِّة تابعةً لها، فمن رامَ المخالفةَ لحكمٍ من أحكام الشريعة تواضَعَ هو وقومُهُ على شيء من الأعراف المخالفةِ للشرع، واستراحوا منا لتعب، وألْقَوْا عن أعناقهم ما يثقل عليهم من الشرعيات. فرحم الله ابن حابس كيف جرى قلمُه بقوله: للعرف مجالٌ وأيُّ مجال. وأيُّ مجال لعرفٍ حدث بعد ألف سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! فإنْ كان يريد العرف في الحِمَى الذي كان ثابتًا في أيام الصحابة رضي الله عنهم فكان يغنيه عن هذا أن يستدلَّ بما أخرجه البخاري، وأحمد، وأبو داود من حديث الصَّعبِ بن جُثامَةَ (1) أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم حَمَى النقيع، وكذلك أخرجه أحمد من حديث ابن عمر (2) فما بالُه عوَّل على مجرد العرف. وفي المقام سُنَّةٌ ثابتةٌ.

نعم الأعرافُ محكمةٌ فيما يتجاوزُ به جماعةٌ إذا تكلَّموا بشيء فيما بينهم حمل على أعرافهم، مثلاً إذا حلفَ الحالفُ على شيء حُمل على عُرْف بلده، وكذلك إذا وهب أو ملَّكَ أو نحو ذلك. وأما حمل الخطابات الشرعية على [الأعراف](3) الحادثة فهذا لم يقل به أحدٌ من المسلمين، وما ذكره أهل الأصول في العرْفيات العامَّة، والعرفيات الخاصَّة، فهو مرادٌ به ما ذكرناه.

وأما قول ابن حابس: أو من باب النظر في تسكين الدَّهْمَاء.

فأقولُ: قد قررنا في تلك الرسالةِ (4) أنَّ هذه الحدود صارت من أعظم أسباب الفتنِ

(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

(2)

تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

(3)

مكررة في المخطوط

(4)

رقم (119).

ص: 3824

والمِحن، وأوضحنا ذكل بما لا مزيدَ عليه، فليس في الحدود إلا إثارةُ الفتن وتحريكُ الدهماء، وإراقة الدماء، وتهييج الشحناء، فإن التبسَ [2أ] عليك هذا فها نحن نوضح لك الأمر في صورة معلومة عند كل أحد، وهي أن أكثر ما يحدث من الفتن بين الناس إنما يكون بعد قسمة الحدود بخلاف المشركين في الحدود، فإنك لا تجدُ بينَهم شيئًا من الفتن.

ومن تتبع هذا بالاستقراء على أن الشر كل الشر في مخالفة الشريعة بضرب الحدود التي أفضتْ إلى منع ما جعله الله شرِكَة بين عباده، في جميع بلاده، على لسان رسوله. ومن التبسَ عليه هذا فلْيسْألْ سُكان البوادي عن الفتن الحادثة في محلِّهم، هل هي بينهم وبين من قد ضُرِبَت بينهم الحدود، أو بينَهم وبين من لم يضرب بينهم الحدود؟ فإنه لا محالة سيخبرونه بأن هذه الفتن المشتعلة نارُها ليست إلا بينهم وبين من قد ضربت بينَهم الحدود في جميع البلاد. وهذا لا يكاد يلتبس عند من مارس أحوال الناس أدنى ممارسة.

قوله: هذا قول حسنٌ، وقد ورد في هذا حديثان:

أحدُهما: "المسلمون شركاء في ثلاث"(1).

والثاني: "من سبقَ إلى ما لم يُسْبَقْ إليه"(2). [و](3) قد ذكرتُ في الرسالة (4) الكلامَ عليه، وتصحيح بعض الحُفَّاظ له، وقد جعله الشرفي ـ عافاه الله ـ هاهنا دليلا للكلام الذي قدَّمه عن ابن حابس، ولا يخفى أن كلامَ ابن حابس ليس هو في مسألة السؤال التي أجبنا عليها، بل هو المحاجر التي هي الحمى كما قدمنا.

(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

(2)

تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.

(3)

زيادة يقتضيها السياق.

(4)

رقم (119).

ص: 3825

وتلك مسألةٌ أخرى، وإن شاركت مسألة السؤال في بعض الوجوه. وحينئذ لا وجه للاستدلال على المحاجر بحديث: "من سبقً

إلخ"؛ لأنه لم يسبق إليها أحدٌ، وإنما اجتمعَ رأيُ أهل القرية على أن يجعلُوها حِمَى، وايضًا لو فرضنا أن كلامَ ابن حابس في الحدود لم يصحَّ الاستدلالُ على جوازها بحديث: "من سبق

إلخ" لوجوه:

الأول: أن هذا الحديث حجة على الشرفي ـ عافاه الله ـ لا له، لأنَّا إنما منعنا الحدود لأجل أن يكون الناس [2ب] مشتركين في الكلأ ونحوِه، ومعنى الاشتراك أن يكون للجميع، ومن سبق منهم إلى شيء كان أولى به، فالحديث حجةٌ لمن قال بعدم جواز الحدود؛ إذ هي بعد ضربها مانعة عن معنى الحديث، وهو أن من سبق إلى شيء فهو أولى به، بل ليس لكل أحد إلَاّ ما في حدِّه، سواءٌ كان سابقًا أو مسبوقًا، فإن قال الشرفي ـ كثر الله فوائده ـ: أن المراد بالسبق هو ضرب الحدود فليس ذلك بصحيح، إذ من المعلوم أنَّ الكلأ الذي كلامُنا فيه يحدُثُ في السنة مراتٍ، فإذا فرضنا أنه حدث كلأ بعد ضرب الحدو، ثم سبق إليه كلامُنا فيه يحدُثُ في السنة مراتٍ، فإذا فرضنا أنه حدث كلأ بعد ضرب الحدود، ثم سبق إليه غيرُ صاحب الحدِّ فهل يقول الشرفي بأنه أولى به أم لا؟ إن قال بالأول فهو ما نريده من عدم ابتداع الحدود المفْضيةِ إلى منع ما أباحه الله. وإن قال بالثاني، قلنا له هذا خلافُ الحديث الذي جعلتَه دليلا لك، وإن قال إنَّ ضارِبَ الحدود سابقٌ إلى ما لم يَسْبِق إليه أحدٌ فنقول: هذا باطلٌ، فإنه لم يسبق إلى تحجُّر الكلأ، بل وضع أحجار على ظهر الأرض، فكيف يستحقُّ من الكلأ ما يحدث بعدَ ذلك مرةً بعد مرةٍ! وهل هذا إلا مخالفٌ لحديث السَّبْقِ، وللأحاديث الدالة على اشتراك الناس فيه، المذكورة في تلك الرسالة.

الوجه الثاني: أنْ لو سلَّمنا تنزلاً أن السبقَ صادقٌ على صورة وضع الحدودِ، فنقول: لا يخفى على عارفٍ أن حديثَ السبق أعم من حديث: "الناس شركاء في ثلاث"، وبيانُه أنَّ قوله:"من سبق إلى ما لم يُسبق إليه" فيه صيغتان من صيغ العموم (1).

(1) انظر "إرشاد الفحول"(ص402)، "تيسير التحرير"(1/ 197)، كتاب "حروف المعاني" للزجاج (ص55).

ص: 3826

الأولى: لفظ (من) العامَّةِ في الأشخاص.

والثاني: لفظ (ما) العامَّة للثلاثة وغيرِها؛ فإن الحديث في قوَّة: أيُّ شخصٍ من الأشخاص سبقَ إلى شيء من الأشياء فهو أولى به. وظاهرُه عدمُ الفرق بين الثلاثةِ وغيرها فيكون حديث الثلاث [3أ] مخصِّصًا له، فيحصل من المجموع أن من سبق إلى شيء فهو أولى به ما لم يكن ذلك الشيء أحد الثلاث المذكورة، وبناءُ العامّ على الخاص مجمع عليه. هذا على تسليم أنَّ في الحديث رائحة دلالةٍِ على ما ذكره الشرفي، وإلا فنحن لا نشكُّ أنه حجةٌ عليه كما سلفَ. وبهذا تعرف أنَّ ما استدلَّ به ـ عافاه الله ـ هو دليلٌ لمخالفة وأنه على فرض التسليم عامٌّ لا خاصٌّ كما قرره، ولهذا أوردناه في أدلة المنع من الحدود كما ذكرناه في تلك الرسالة.

الوجه الثالث: أن قوله: فيكون الأول عامًّا محمولاً على عدم السبق ينافي مرادَهُ عند إمعان النظر لما قدمنا من أنَّ السبق لا يكون موجبًا للأحقِّية إلَاّ إذا كان الشيءُ على أصل الاشتراك والحدود يمنعُ من ذلك كما قدمنا.

قوله: فإن لم يسلِّم هذا كان من القياس المرسل (1) إلى آخر كلامه.

أقولُ: ليس ضرب الحدود من القياس المرسل في وِرْدٍ ولا صَدْرٍ، بل هو من القياس الملغي (2) ليظهر له ما ذكرناه.

وقد حققنا ذلك في الرسالة (3) التي تكلَّم عليها ـ عافاه الله ـ، وصرَّحنا بأنه من هذا القبيل. وأما ما نقله عن بعض أهل الأصول في بيان مفهوم المناسب الملائم فالأمرُ كما ذكره، ولكنه غيرُ هذا المناسبِ الملْغي، ونحن نزعمُ أن هذه الحدودَ ليست مما يجلبُ نفعًا،

(1) تقدم توضيحه.

(2)

انظر "إرشاد الفحول"(ص790)، "تنقيح الفصول"(ص445)، "تيسير التحرير"(4/ 171).

(3)

الرسالة رقم (119).

ص: 3827

ولا يدفع ضررًا بل هي مظنَّة لجلب الضَّرر، ومنع النفع كما حققنا ذلك في الرسالة.

وأما خروجه ـ كثر الله فوائده ـ إلى ذكر الضروريات الخسم المعروفة (1) عند أهل الأصول فتلوُّنٌ في البحث، وأين ما نحن بصدده من ذاك؟ وكيف يكون ضربُ الحدود بين البلدان الذي هو سبب إثارة الفتن، وإراقة الدماء مما دعت إليه حاجةٌ ضروريةٌ! وما في ترك الناس على هذه [3ب] الشريعة الواضحةِ الغراء من ضررٍ! وأيُّ ضرر في شيء شرعه الله لأمته؟ وما املنفعةُ في حَجْرِ أهل هذه القرية عن الكلأ الذي أباحه الله لهم، وحجر أهل القرية الأخرى عن الكلأ المباح بالشريعة المحمَّدية؟ فقد رأينا وسمعْنا أن جميعَ المواضع المشتركة في الكلأ لا يحدُثُ بينهم عُشْرُ معشار ما يحدث بين من ضُرِبَتْ بينهم الحدود، وما أبعد دعوى الحاجة الضرورية التي يعلم كلُّ عاقل خلافَها، وأين الضرورةُ من هذا؟ فيا لله العجبُ أيعيش الناسُ من زمن النبوة إلى بعد ألفِ سنةٍ من ذلك مشتركينَ في الكلأ، عاملينَ بالشريعة الغراء المطهَّرة حتى أوجد الله بعد الألف رجلاً ليس عنده من علوم الاجتهاد نقيرٌ ولا قِطْميرٌ يقال له الشكايذي، فجاء للناس بما يخالفُ الشريعةَ وينافيها، ثم سَرَتْ بدعتُه حتى طبَّقتِ الأقطار اليمنية، وجاء بعده من الحكَّام جماعةٌ هم دون طبقتِه في معرفة المسائل الفقهيةِ فقلَّدوه في ما جاء به من المخالفة البحتةِ للشريعة المطهَّرة، فقامت الفتنُ على ساق، واشتغل صاحب كلِّ محلٍّ بمن يقاربه ممن

(1) وهي 1 - حفظ النفس بشرعية القصاص فإنه لولا ذلك لتهارج الخلق واختلَّ نظام المصالح.

2 -

حفظ المال بأمرين: أحدهما: إيجاب الضَّمان على المتعدي فإن المال قوام العيش، وثانيهما القطع بالسرقة.

3 -

حفظ النسل بتحريم الزنى وإيجاب العقوبة عليه بالحد.

4 -

حفظ الدين بشرعية القتل بالرِّدة والقتال للكفار.

5 -

حفظ العقل العقل بشرعية الحدِّ على شرب المسكر فإن العقل هو قوام كل فعل تتعلق به مصلحةٌ فاختلاله يؤدي إلى مفاسد عظيمة.

وانظر: "البحر المحيط"(5/ 208 - 211). "الكوكب المنير"(4/ 166).

ص: 3828

ضُرِبَتْ بينهم الحدودُ، فسُفِكَت الدماءُ، وهُتِكَت الحُرُمُ، ثم إن مولانا الشرفيّ ـ عافاه الله ـ يحتجُّ لهذه البدعةِ الساقطة المخالفة لما هو معلومٌ من الشريعة بحجةٍ لا يجري القلم بمثلها إلا في أمر معلوم بالضرورة الدينية، أو الضرورة العقلية، فيقول: إن ذلك قد دعت إليه حاجةٌ ضروريةٌ، ولعمري ما كان يطمعُ الشكايذيُّ ببعض هذا، وهو معذورٌ لقصور باعه عن النظر في الأدلة، فما عُذْرُ الشرفي! ونحن لا نشك أن الشكايذيُّ رحمه الله لو قال له قائلٌ: ماذا صنعتَ بنفسك! خالفتَ الشريعةَ المطهَّرةَ، وأوقعت الناسَ في الفتنة، لما وَسِعَهُ إلَاّ الاعترافُ بالخطأ، والرجوعُ عما فرَطَ منه، فقد كان بمحلٍّ من الورع.

قوله: الجواب عنه من وجوه:

الأول: نفيُ العموم بعدَ وجود المخصِّص من وجهٍ ما.

أقول: الجوابُ عن هذا الوجه من وجوهٍ:

الأول: أنَّ ظاهرهُ أنّ العامّ إذا خُصِّصَ لم يبق متَّصفًا بالعموم، وهو خلافُ ما أطبق عليه أهلُ الأصول (1)؛ فإنَّ العامَّ وإن خُصِّصَ بمخصِّصاتٍ متعدِّدةٍ لا يخرجُ عن كونه عامًّا.

الوجه الثاني: الاستفسارُ للشرفي ـ عافاه الله ـ عن المخصِّص الذي زعمه، وأبطلَ به دلالَة العمومِ ماذا هو؟ فإن كان حديث: "من سبقَ

إلخ" فقد قدمنا أنه حجةٌ عليه لا له، وإن كان العرفُ الذي زعمه ابن حابسٍ فقد قدمنا إبطاله، وإن كان القياسُ المرسلُ الذي زعمه الشرفيُّ فقد أوضحنا فسَادَهُ.

الوجه الثالث: أن الشرفيَّ قامَ في مركز المنعِ، وليس المقامُ مقامَ المنع، بل المقامُ مقامُ الاستدلالِ، ومركزُ المنعِ هاهنا بيد المتمسِّكِ بالعموم، فيقول: أنا أمنعُ تخصيصَ العموم، وأمنع عدمَ بقاء العموم على عمومِهِ، وعلى مدَّعي التخصيص، أو ذهابِ العمومِ

(1) انظر: "تيسير التحرير"(1/ 242)، "البحر المحيط"(3/ 159).

ص: 3829

الاستدلالُ كما تقرَّر في علم الجدل (1) الذي قال له علم المناظرة، وآدابُ البحث.

قوله: ولكنَّ دلالةَ العامِّ عند أهل الأصول ظنيَّةٌ (2).

أقول: هذا الاستدراكُ واقعٌ في غير موقِعِه، لأنه قد قرَّرَ سابقًا عدمَ بقاء العمومِ بعد وجودِ المخصِّصِ، وكان القياسُ على مقتضى السياقِ أن يقول: هذه العمومات مخصصَّة، ويوضِّح المخصَّص، ولا حاجة إلى المنع الذي ليس هو وظيفة المستدِل، ولا حاجة أيضًا إلى ذكر ظنيَّة العموم؛ فإن هذا [4ب] إنما يناظِرُ به من كان مدعيًا لقطعيةِ دلالةِ العموم، ولم ندَّع ذلك في الرسالة، ولا حِمْنَا حوله؛ إذ الكلامُ عليه قد تقرَّر في الأصول ببراهينه.

قولُه: ولهذا خصِّص تخصيصًا ظاهرًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا حمى إلَاّ لله"(3).

أقولُ: إن كان الشرفيُّ بصدد الكلام على تسويغ منع الكلأ بالحدود فالحِمَى أمرٌ آخر كما بيَّناه في أول الكلام، وإن كان بصدد التخصيص لأدلة منع الحِمَى فهو أمرٌ غيرُ ما نحن بصدده، ولا نخالِفُ في أن قولَهُ صلى الله عليه وآله وسلم:"لا حمى" مُخَصَّصٌ بالمخصِّص المتصل (4)، وهو الاستثناء بقوله:"إلَاّ لله ولرسوله" ولكنَّ هذا لا ينفع الشرفيّ ولا يضرُّنا، وإن كان بصدد الاستدلالِ على ظنيِّة العموم من غير تعرُّضٍ للبحث الذي نحن بصدده فالمسألةُ أجنبيةٌ، ولها في الأصول براهينُ صحيحةٌ.

قولُه: فالذي فهمنا من نصِّه أنه لدفعِ الضررِ الحاصل بالمنع، فإذا زالتِ العلة جاز

(1) انظر "الكوكب المنير"(4/ 361، 397). "الكافية في الجدل"(ص25). "الفقيه والمتفقه"(1/ 229).

(2)

انظر "تيسير التحرير"(1/ 197، 329). "التبصرة"(2/ 19، 21).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

انظر تفصيل ذلك في "إرشاد الفحول"(ص488). "البحر المحيط"(3/ 277).

ص: 3830

التحجُّرُ بالمنعُ.

أقولُ: صرَّح بقلمه ـ كثر الله فوائده ـ في هامش النسخة التي بخطِّه أن كلامَه هذا فيه إشارةٌ إلى تنبيه النصِّ، ولا أدري كيف جرى قلمُه ـ عافاه الله ـ بهذا واين مسلكُ تنبيه النصِّ من هذا؟ ومن أين فهم تنبيهَ النصِّ؟ وكان الأَوْلَى له التعويلَ على تخريج المناط (1) أو تنقيحَ المناط (2)؛ فهو أقربُ إلى ما نحن بصدده من تنبيه النصِّ وإن كان الكلُّ غيرَ صحيحٍ. وهَبْ أنَّ العلَّة هي التضرُّر إما بتخريج المناط، أو تنقيح المناط، فمن أين للشرفي أن التضرُّر بالتحجُّر قد زال بعد انقراض ألف سنةٍ من الهجرة؟ وما الذي دلَّه هذا؟ فإن التضرُّر الكائن في أيام النبوة وما بعدَها كائنٌ في الأزمنة المتأخرة [5أ]، اللهم إلَاّ أنْ يبرزَ برهانًا نقليًا أو عقليًا أن ضرر التحجُّر قد ارتفعَ في هذه الأزمنة، ولا سبيل إلى ذلك فإن الأرض في هذه الأزمنة هي على ما كانت عليه في الأزمنة الأولية لم تتسعْ، ولا زاد نباتُها، ولا تدفَّقت أنهارُها، بل النقصُ حاصلٌ في آخر الزمان كما دلّت على ذلك الأدلةُ وشهد به التجريبُ، فما بال أقلّ الأزمنةِ خِصْبًا، وأكثرها جَدْبًا! وهو آخر الزمان ارتفعَ فيه تضر الناس بالتحجُّر بعد أن كان موجِبًا للضَّرر.

قولُه: وقد فهم عمرُ بن الخطاب

إلخ.

أقولُ: فَهْمُ عمرَ إن خالف النصوصَ ليس بحجةٍ (3) على أحد من الناس كما هو المذهب الحق، واجتهادُه لا يلزمُ غَيْرَهُ على أنه يمكن أن يكون مستندُهُ هو ما قدمنا من فعله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم هَبْ أن عمرَ حَمى ذلك لما فهمه من النصوص

(1) تقدم توضيحه.

(2)

تقدم توضيحه.

(3)

تقدم "بيان أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر وأما على من بعد الصحابة من التابعين فذهب الجمهور على أنَّه ليس بحجة مطلقًا. وذهب المالكية وأكثر الحنابلة وبعض الحنفية والشافعي في القديم أنه حجةٌ شرعية مقدمة على القياس. وقيل: ليس على إطلاقه ـ بأنَّه ليس بحجة ـ بل فيه تفصيل. وقد تقدم.

انظر تفصيل ذلك: "البحر المحيط"(6/ 72). "شرح صحيح مسلم" للنووي (1/ 30).

ص: 3831

كما ذكرتَ، فهذا غيرُ ما نحن بصدده، فإن عمر حَمَى ذلك لخيل الجهادِ، ومصلحةِ المسلمينَ، ولم يُنْقَلْ عنه أنْ ضربَ حدودًا بين قريتين، ومنع كلَّ جهة من مجاوزة ما ضربه بينهم، وليس كلامُنا إلَاّ في هذا، ولهذا سمَّينا الرسالة "عِقْدُ الجمانِ في شأنِ حدودِ البلدانِ"(1) والاسم يدلُّ على المسمَّى أقلَّ الأحوال. وقد أوضحنا الفرقَ فيما تقدم بين الحِمى وبين الحدود، فلْيتأمَّلِ الشرفيُّ ـ أطال الله بقاءه ـ.

وأما ما ذكره ـ كثر الله فؤائده ـ من الكلام في المرسل وأقسامِهِ فليرجِعْ إلى كتب الأصول، وهي موجودة لديه، وينظرْ ما ذكره الأئمةُ في تفسير كلِّ واحد منها؛ فإنه إن أمعنَ النظرَ في ذلك كما ينبغي [5ب] عرفَ أن حدودَ البلدانِ ليست من قسم المناسبِ الملائِم، ولا المؤثِّرِ، ولا المرسلِ، ولا الغريب، بل من قسم المناسب الملغي. وقد أورد الأئمة لكل قسم منها أمثلةً متعددة، ولا سيما في الكتب المطوَّلة (2) فلنكتف بمجرد الإحالة عليها، وفي إنصافه ـ دمت فوائده ـ ما تغنينا عن إيراد الأمثلة.

وأما ما أورده من أفعال عمرَ فيكفينا في جوابه أن نقولَ: ليس اجتهادُه حجةً، ولا يجب الإنكارُ في الاجتهاد حتى يقال: لم يُنْكِرْ عليه الصحابةُ، ولو كان مجرَّدُ ما يؤدي إليه الاجتهادُ مما يجبُ فيه الإنكارُ لأنكر الناسُ على كلِّ مجتهدٍ اجتهادُه، ووجبَ عليهم ذلك، ولا قائلَ به، فمن سكت عن مجتهد في اجتهاده لا يُسْتَدَلُّ بسكوته على أن ذلك الاجتهادَ حقٌّ، وما فعله عمرُ في الحِمى هو من مطارح الاجتهادِ، وليس من المواضع التي بمسرحٍ للاجتهاد حتى يكون لما قاله او فعلَه حُكْمُ الرفعِ، وبعد هذا كلِّه فليس كلامُنا في الحمى، إنما كلامنا في الحدودِ، وبينَهما فرق قد تقدم تحريرُهُ.

قوله: وحصولُ المفسدة بالتحجُّر أهونُ منها مع عدم التحجُّر.

(1) رقم (119).

(2)

انظر "الكوكب المنير"(4/ 153) و"المحصول"(5/ 158)، "إرشاد الفحول"(ص710 - 720)"البحر المحيط"(5/ 153 وما بعدها).

ص: 3832

أقولُ: رجع ـ عافاه الله ـ إلى الموازنة بين المفاسِد وهو غيرُ ما قد حرَّره سابقًا، وهذا أحسنُ ما ينبغي التعويلُ عليه في المسألة، لكنه لا يتمُّ إلَاّ بعد تسليم ما زعمه من أن مفسدةَ التحجُّر دون مفسدة عدم التحجر، ونحن نمنع ذلك، بل نقول: إنه لا مفسدة في ترك التحجُّر أصلاً شرعًا وتجربيًا، أما شرعًا فَلِما ذكرنا في الرسالة (1) من إرشاد الشارع إلى الاشتراك في الثلاث، ونهيه عن الاختصاص بها [6أ]، وأما تجريبًا فَلِما قدَّمنا ذِكْرَهُ غَيْرَ مرَّة أن منشأ الفتن، وسفكَ الدماء إنما كان بسبب ضَرْبِ الحدود، ومَنْعِ الناس عن حكم الشرعِ، ومخالفةِ ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكيف يكون ما شرعه لأُمَّتِهِ، ودل عليه، وأرشد إليه مفسدةً! يا لله العجبُ، بل كيف يكون ما شرعَهُ، وهدَى إليه مشتملاً على مفسدةٍ أعظمَ من المفسدة الحاصلة بما نهى عنه وأرشد إلى مخالفته! وهل هذا إلَاّ من التقصير بجانب الشريعة المطهرة! وترجيحَ ما يخالفها! ومولانا الشرفيُّ وإن جرى قلمُه بهذا، واستلزمه كلامُهُ فهو ـ عافاه الله ـ لو كُوشِفَ، وحُوْقِقَ لم يرضَ أن يحكم على ما شرعه لنا رسول الله، ودرج عليه خيرُ القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم إلى انقراضِ ألفِ سنةٍ من الهجرة بأنه مفسدةٌ خالصةٌ زائدةٌ على ما في خلافِه مما سنَّه الشكايذي، ومَنِ الشكايذي بل من العالَمُ بأسرِهِ بجنب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؟! فما لنا وللمعادلة بين الشريعة المطهرة، وبين البدعة المحضة، ومجاوزة ذلك إلى أن الشريعة المطهرةِ قد اشتملتْ على مفسدةٍ، وغيرُها من البدعةِ مشتملةٌ على مصلحةٍ! سبحانك الله وبحمدك، اللَّهم غُفْرًا.

دعُوا كلَّ قولٍ عند قولِ محمد

فما آمِنٌ في دينِه كمخاطِرِ

قوله: لكن زَمَانَنَا قد فسدَ أكثرُ الناس فيه.

أقولُ: الفساد إنما وصل إلينا من تركِ الشريعةِ المطهرة، وظنِّهم أن غيرها أصلحُ منها ولو دبَّرهم الولاةُ بها لكانوا كالصحيح المقوَّم [6ب].

(1) رقم (119).

ص: 3833

وقد جربنا من أحوال العامة والخاصّة ما لا يأتي عليه الحصْر فوجدنا مصلحتهم وصلاحَ دينهم ودنياهم في الشريعة المطهرة، وما يُظَنُّ مِنْ أنَّ سِواها يُصلِحُهم فهو باطلٌ عاطلٌ لا يَغْتَرُّ به إلَاّ من لم يمارِس الحقائقَ. ولقد اتفقَ شِجارٌ في الديوان الإمامي بين طائفة من اليهود ـ أقماهم الله (1) ـ

وبين جماعة من المسلمين ـ أعزهم الله ـ في المدر، وتمسكوا بأحكام جاريةٍ على قانون المناسب الملغي قد قررها الأوَّلون، فلما أبرزوها في الديوان أجريتُهم عليها، فعادوا عن قريب، ثم أجريتُهم على نوع آخر من أنواع المناسب فعادوا عن قريب، ثم كذلك، وما زلت أتطلَّبُ ما يصلِحُهم مرةً بعد مرةٍ فأعياني أمْرُهُم، وداويتُهم بالشريعة السمحةِ السهلةِ، ومزَّقتُ ما بأيديهم من الأحكام السابقة واللاحقة، وقلتُ: بيعوا كيفَ شِئتُم ولا حرجَ، فكان في ذلك الشفاءُ، ولم يَجْرِ بينَهم بعد شجارٌ، وصلُحوا أكملَ صلاح، وقد كانوا شارفوا الهلاك، وهكذا اتفق شجارٌ في الديوان، وخصوماتٌ متعددةٌ في شأن الحدود، وكلَّما أردتُ إصلاحهم بشيء مما يقوِّي ما هم عليه من المناسب الملغي فسدُوا حتى اتفقَ في بعض الخصوماتِ بينَ أهل قريتين أني أمرت خمسةً من حكَّام الديوان المعتبرين يعزمون إلى محل الشجار، وينظرون ما تتحسَّمُ به المادةُ، فما زال [7أ] الشرُّ يتزايد، والفتنة تثورُ، فداويتهم آخِرَ الأمر بمراهم الشريعة؟ وقلت: اعْزِمُوا على بركة اللهِ وارْعَوا كي شئتم بلا حرجٍ، وأنتم مشتركون في جميع المواطن المتصلة بكم، فذهبوا وعاشوا بأرغدِ عيشٍ، لم يَثُرْ بينَهم شيء من الفتن، ولا نابَتْهم نائبةٌ قطُّ (2)، وكم أعد ذلك من مثل هذا، فكن على يقين أن الصلاحَ كلَّ الصلاحِ لأمور الدنيا والآخرة هو في الشريعة المطهرة الذي يقول صاحبها ـ صلى الله عليه وآله

(1) كذا في المخطوط. غير واضحة. ولعلها أقمأهم الله.

(2)

قال فضيلة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني حفظه الله ورعاه: "وهو كلام جيد يدل على أنَّ الشوكاني محدث وقاضٍ وفقيه، وأُصوليِّ وشجاع في قول الحق الذي يراه كما أنَّه شجاع في تطبيقه فرضي الله عنه وأرضاه".

ص: 3834

وسلم ـ: "تركتُكُم عل الواضحةِ، ليلُها كَنضهارِها، لا يزيغُ عنها إلَاّ جاحدٌ"(1).

قولُه: وشاهدُ الحال متفقةٌ في بلاد عَنْسٍ

إلخ.

أقولُ: صدقتَ يا مولانا وأنصفتَ، فهذه المفسدةُ التي ذكرتَ أنها وقعت بسبب الحدود هي شاهدةٌ لما ذكرنا من أن هذه الحدودَ ضاربٌ سببًا لِثَوَرانِ الفتنِ، اعتبرْ بذلك ولا تغترَّ بقولك آخِرًا، فهذا وقع وقد قُسِّمَتِ الحدودُ، فكيف مع الشياع! فإنهذا مجردُ ظنٍّ وتخمينٍ، وتخيُّل مختلٍّ، بل هؤلاء المذكورونَ لو لم يقع بينَهم القسمةُ لم يقع بينهم شيءٌ من تلك الفتنةِ، لأنَّ كلَّ طائفة تَعْلَمُ أن ما في جانب الطائفةِ الأخرى هو مشتركٌ بينَهم، فتطيبُ النفوسُ، وتطمئنُّ الخواطر، وينقطعُ الشرُّ؛ إذ بسبب ثورانِ الفتنةِ ما أوجبتْه من اختصاص كلّ طائفة بما في جوانبها.

قوله: وقد قرر ما وقع من عليه الاعتماد

إلخ.

أقولُ: ينبغي للشرفي ـ عافاه الله ـ حيث قد عاد إلى الاحتجاجِ بالرجال أن يوازِنَ بين مَنْ ذكرهم، وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [7ب]ـ والصحابةِ، وأكابرِ أهلِ البيتِ المطهرينَ كأمير المؤمنين وأولاده من الأئمة المطهرين إلى بعد انقضاء دولة الإمام الأعظم القاسم بن محمد عليه السلام ويرجِّح من وقع عليه اختياره.

وأما ما ذكره من أن المفتي والشامي والقاضي عام لو شاهدوا الفساد في هذا الزمن

إلخ. فهو مخالفٌ لقوله: إنه حكَمَ بذلك في الدولة القاسمية، والمؤيدية، والمتوكلية، فإن القاضي عامرًا هو قاضي الدولة القاسمية، والمؤيدية، والمفتي هو مدرّس الدولة المؤيدية والمتوكلية، والشاميُّ هو عالم الدولة المتوكلية، وما بعدَها؛ فإنكار هؤلاء الصدورِ لما وقع من الحدود الشكايذية مشعرٌ بأن هؤلاء الأئمةَ مثلُهم.

قوله: انظر كيف حرَّم الشارع الربا (2)، ورخص رخصةَ ...........................

(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

(2)

تقدم ذكره في الرسالة رقم (119).

ص: 3835

العرايا (1)

إلخ.

أقول: ليس النزاعُ فيما صدر عن الشارع، فكلُّه حِكْمةٌ، وصوابٌ، ومصلحةٌ خالصةٌ، إنما النزاعُ فيما وقع مخالفًا للشريعة الغراء.

قوله: ثم صرح بقلمه بما يقطع مادةَ اعتراضِه

إلخ.

أقول: أين هذا من ذاك؟ فالذي معناه هو ضربُ الحدود على طائفة من الأرض، وجعلُها مختصةً بقوم على مرور الأعصار، ومنعُ غيرِهم عنها وإن احتاجوا إلى ما فيها من الكلأ، فهذا هو منع الكلأ الذي نهى عنه الشارعُ، وإن لم يكن هو بعينه فَلْيُصوِّرْ لنا الشرفيُّ صورةً يصدُقُ فيه منعُ الكلأ المنهيِّ عنه، وأما ما ذكرناه من الإحياء، والتحجُّر، والقطع، فالأول يثبت به الملكُ لبقعةٍ فيصيرُ من جملة أملاكِه، وأما الثاني وهو التحجُّر (2) فأحكامه معروفة في الأدلة والكتب الفقهية، وأما الثالثُ وهو القطعُ (3) فقد صار القاطعُ مستوليًا على ما قطعه، مالكًا له [8أ]، فكيف يكون تصريحُنا بهذه الأمور مستلزمًا لتسليم جواز الحدود التي يقال فيها مثلاص للقرية الفلانية كذا وكذا من الأميال، أو الفراسخ، وللقرية الفلانيةِ مثلُ ذلك! ولا إحياءَ ولا تحجُّرَ ولا قطعَ بل مجردُ المجازفةِ ومخالفةُ الشريعةِ ويوضَعُ ذلك في مراقيمَ، فهل مجردُ هذا إحياءٌ أو تحجُّرٌ، أو قطعٌ للكلأ حاشا وكلا.

قوله ـ عافاه الله ـ: قلتُ: وقوله: إنَّ جميع الأدلةش مخالفةٌ لما شرعه الله

إلخ.

أقول: لم أقلْ هكذا، فإنَّ هذا تناقضٌ ظاهرٌ، بل قلتُ في الرسالة (4) ما لفظه: هذا جملةُ ما خطر بالبال عند تحرير هذه الكلماتِ من الأدلةِ الدالةِ على مخالفة هذه الحدودِ لما شرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

إلخ وهذا كلامٌ متَّضحُ المعنى.

(1) تقدم ذكره في الرسالة رقم (120).

(2)

انظر "المغني"(8/ 151 - 152).

(3)

تقدم. وانظر: "المغني"(8/ 153 - 154).

(4)

رقم (119).

ص: 3836

قولُه: بل موافقةٌ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد اعتبر المصلحةَ.

أقولُ: قد قدمنا الجوابَ عن هذا، وأما ما ذكرهُ ـ عافاه الله ـ من الإقطاع فبابٌ آخَرُ خارج عن البحث، لأن الإقطاعَ تمليكٌ (1) لما لم تثبتْ عليه يدٌ، وهذا لا يخفى على مثلِهِ ـ دامت إفادته ـ.

قوله: لأنَّ كلَّ واحد قد رضي بما يليه.

أقولُ: فإذا طلبَ هذا رضيَ الرجوعَ إلى حكم الله، أو طلبَهُ من بعده ممن لم يكن موجودًا حالَ الرِّضى، هل يُجابُ إلى حكم الله أم يقال له: لا سبيل لك إلى ذلك لأنَّ فلانًا الذي هو أبوك أو جدُّك أو أعلا من ذلك قد رضي؟

فإن قلتم: يُجابُ فهو مطلوبُنَا، وإن قلتم: لا يُجابُ فما الدليلُ؟ هذا على تسليم أنَّ للرضى تأثيرًا في الجواز، وهو ممنوع، فإن الذي رضي لم يرضَ بشيء بملكه ولا يستحقُّه، بل رضي في شيء هو مشتركٌ بين المسلمين أجمعينَ بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا تأثيرَ لرضائه، وهذا لا يخفى على الشرفي ـ عافاه الله [8ب].

قوله: فالذي فهمنا من تنبيه النصِّ

إلخ.

أقول: قد قدمنا الجواب عن هذا فلا نعيده.

قوله: ولهذا جرت عادةُ الناس بمنع الدخول إلى آبارهم وبساتينهم.

أقولُ: إن كان الاستدلالُ بمجرد جَرْيِ عادة الناس فليس العادةُ بشريعة تُتَّبَعُ، وما هذه بأولِ مسألةٍ خولفت فيها الشريعةُ كما قال العلامة جار الله في الكشاف، وكم باب من أبواب الشريعة قد صار لترك العملِ به كالمنسوخ، هذا على فرض شمول الشركة المنصوص عليها لما ذكر، وعدمِ وُجْدَانِ ما يفيدُ جوازَ المنع، لأن البساتينَ مملوكةٌ، وللمالك منعُ غيرِه عن استعمال مُلْكِهِ، وكذلك البئر مملوكةٌ، والشركةُ إنما هي في مجرّدِ الماء، ولهذا وقع في كتب المذهب الشريف أنه يمنعُ الداخل إلَاّ بإذن، والآخذُ على وجه يضرُّ، فتلك العادةُ الجاريةُ بالمنع هي لأجل الملك، لا لأجل الشيء المشترك كالماء، فأين غرب هذا عن مولانا الشرفي ـ عافاه الله ـ؟.

قولُه: فما أدري من أين التخصيصُ القاضي ـ عافاه الله ـ.

أقولُ: لم أخصِّصْ، بل أحكمُ بالشركةِ في الثلاثة الأشياء التي حكَمَ بالشركة فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما اقتصرتُ على الكلام في الكلأ لأنَّ السؤال ورد فيه، فَمِنْ أين للشرفيِّ أني خصَّصْتُ؟ وما ذاك في كلامي يدلُّ على ما ادَّعاه.

قولُه: وأنا أضربُ له مثالاً، لو كان عشبٌ بين رجلينِ

إلى آخر كلامه.

أقولُ: إذا حُكِّمْتُ في مثل ما ضربَهُ من المثلِ قلتُ: للجميع ارْعوا جميعًا، ومن سبقت غنمُهُ إلى موضعٍ لم يحلّ للآخر أن يطرُدها عنه، وأعرّفُهم بأن هذا الحكم هو الذي جاءت به الشريعة المطهرة، وحينئذ لا يثور من الشر شيء، ولا يجري بينَهم فتنةٌ [9أ] قطُّ، فإن جرت من بعض شياطينهم أملينا عليهم قول الله عز وجل:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (2) فما في هذا المثال الذي ضربَهُ الشرفين إشكالٌ، ولا يَعْيي عن الحكم فيه عالمٌ بالمسالك الشرعيةِ، ولكني أضرب للشرفين مثالاً مقابلاً لمثاله فأقول: لو قالتْ إحدى الطائفتين في مِثْلِ الصورةِ التي ذكرها نحن المختصونَ بهذا الوادي، ولا حق لغيرنا فيه: فقال الواردُ عليهم بسائمتِه: يا قومِ، هذه سائمتي قد أعوزَها أمرُ الكلأ، ولم أجدْ في غير هذا الوادي ما يسدُّ جَوْعَتَها فاتركوني أرعى معكم، فالوادي واسعٌ، والخير عن غير شاسعٌ، فهذه سائمتي قد شارفتِ الهلاكَ جوعًا، وهو يكفيكم جانبًا من جوانبه، وهذه سائمَتُكُم في جزء من أجزائه، فقالوا: لا سبيلَ لك إلى ذلك، وإن ماتت سائمُتك، لأن هذا حدُّنا قدمنا فيه رَقْمَ حاكم يشتملُ على ما يخالِفُ حُكم أحكم الحاكمين، فما ذاك الشرفيُّ في مثل هذا،

(1) انظر "المغني"(8/ 153).

(2)

[الحجرات: 9].

ص: 3837

هل يُطْرَدُ الوافدُ بماشيته ويدعها تموت دون المرعى؟ أم كيف يصنع؟ ثم إنّ الشرّ ـ لا محالة ـ يهيجُ بسبب المنع لا سيّما عند الحاجة على الصفة المذكورة، فمَنِ الباغي ومن المبْغِيُّ عليه؟ ومَنِ المحقُّ ومن المبطلِ؟

قولُه: فما أرى هذه الحدود إلا من جنس إقطاع ما لم يسبق إليه مسلم.

أقولُ: هذا فاسدٌ، فإن الإقطاعَ هو التمليكُ لجزء من الأرض من رسول الله، أو من الخلفاء الراشدين، وهذا ليس بتمليك، بل ليس بتحجّر يوجدُ مجرد ثبوت الحق كما قدمنا [9ب]، فَلْيُعِدِ الشرفيُّ ـ عافاه الله ـ النظرَ، فمثل هذا لا يخفى على ذهنه السليم.

قوله: هذا فرضُ ما لم يقعْ ولا سمعَ به.

أقول: بل قد وقع التصريحُ بذلك، والاستدلالُ به من بعض متأخري العلماء، وذكره السائل ـ عافاه الله ـ في سؤاله الذي أجبنا عليه بالرسالة.

قوله: فقد أخذ العلماءُ منه أحكامًا ـ إلى قوله ـ وأخذوا من قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (1) أنه ينبغي تعظيم العلماء

إلخ.

أقولُ: هذا الأخذُ لا تدعو إليه حاجةٌ، لأن السجودَ الذي هو معنى الآية قد دل الدليلُ القاطعُ على عدم جوازِهِ، ومجردُ التعظيم للعلماء قد أفادتْه آياتٌ قرآنيةٌ (2)، وأحاديثُ نبويةٌ (3). هذا على فرض أن مثلَ هذه الآيةِ من جنس ما ذكرناه وليس الأمرُ

(1)[البقرة: 34].

(2)

منها قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

ومنها قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

(3)

(منها): عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدي والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفةٌ منها إنَّما هي قيعانٌ، لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به"

أخرجه البخاري رقم (79) ومسلم رقم (2282).

(ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (71) ومسلم رقم (1037) من حديث معاوية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين".

(ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (73) ومسلم رقم (816) من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين رجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها".

ص: 3839

كذلك؛ فإن الذي ذكرناه هو المنعُ من الاستدلال بأفعال الله في عباده، من سلب النفوسِ وأخْذِ الأموال، وإنزالِ الجوائحِ، فلا يقول قائل من البشر أنه يجوز له سفك الدماء، لأن الله ـ سبحانه ـ يميتُ العبادَ، ولا يقول: إنه يجوزُ له أخْذُ الأموال، لأنه الله تعالى يسلُبهم أموالَهم، والآية المذكورةُ هي خطابٌ من الله لطائفةٍ من عباده المقربينَ، وليس كلامُنا في أقواله سبحانه، فهي نفسُ الشرعِ، إنما كلامُنا في أفعاله فَوِزَانُ الآية التي ذكرها الشرفيُّ وزانُ قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (1) ففي هذه الآية أمر البشرَ باتباع نبيِّهِ، وفي تلك الآية أمر الملائكة بالسجود لنبيهِ، فما بال الشرفي يسلك في فجاجِ لم أسلكْها، ويمشي في أودية لم أمشِ فيها، ويجعل ذلك اعتراضًا على ما ليس بينَه وبين الاعتراض جامعٌ! فليعدِ النظر ـ عافاه الله ـ فشرطُ التعقُّبِ للمباحث [10أ] إمعانُ النظر في الكلام المتعقبِ وتفهُّم معانيهِ، وتدبُّرِ مبانيه.

ثم إيرادُ ما يمكن أن يكونَ مستندًا له والقدحُ فيه بقادحٍ معتبرٍ، وأما المبادرةُ بالاعتراض قبل الإحاطة بمعاني المعترضِ عليه فليست مما يسوّغُهُ أهل النظرِ، ولهذا عدُّوا السقطة من المعترض غير مُغْتَفَرةٍ، واغتفروها من غير المعترض، لأن القدح في الكلام والإيراد عليه محتاجٌ إلى إثبات قدَمٍ، ومراجعةِ فكرٍ. ومثل الآية التي ذكرها ـ عافاه الله ـ

(1)[الحشر: 7].

ص: 3840

الآيةُ الأخرى، وهي قوله:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} (1) فإن ذلك غيرُ ما نحن بصدده وكذلك قولُه: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} (2).

وبالجملة، فجميعُ ما ذكره في وادٍ غيرِ الوادي الذي نحن بصدده، فليعِدِ النظر ـ عافاه الله ـ في رسالتنا إن كانت لديه، وإلَاّ بعثنا بها؛ فهو أجلُّ من أن يتكلَّم بما لا نسبةَ بينَه وبين ما فيه النزاعُ.

قوله: وكما تعرَّضَتِ الملائكةُ بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} (3).

أقولُ: الذي نحن بصدد بيانه هو منعُ الاقتداء بأفعال الله، فيقول في مثل هذه الآيةِ: يجوزُ للرجلِ أن يجعلَ له أعوانًا يفسدونَ في الأرض، ويسفكون الدماء تمسُّكًا بهذه الآية، ولسنا بصدد الكلام على غيرِ ذلك. وسؤالُ الملائكةِ لم يقعْ على وجه مطابقٍ، بل تعرَّضوا لما لا يعينهم، لأنه تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (4) ولهذا أجاب عليهم بما يشعرُ بنسبتِهم إلى الجهلِ في الأمر الذي سألوا عنه، وما ذكره عقبَ ذلك من أدلةِ ما أرشدْنا إليه [10ب].

قولُه: والتفسيرُ الذي ذكره أنَّها محمولةٌ على تركِ الأسبابِ لم أجده، إلَاّ أن الذي في الكشاف (5) أنَّ المراد إقرارُ [المنكر](6) هو مندرجٌ تحت ما ذكرناه، لأن إقرارَ المنكر هو من الأسباب الموجبةِ للفتنِ، فتركُ الإقرارِ لهم بطردهم فيه تركُ سببِ الفتنةِ،

(1)[البقرة: 247].

(2)

[الأعراف: 77].

(3)

[البقرة: 31].

(4)

[الأنبياء: 29].

(5)

(2/ 571).

(6)

في "المخطوط"[المشركين] وما أثبتناه من الكشاف.

ص: 3841

ومثل ذلك افتراقُ الكلمةِ. وهذه الآيةُ الشريفةُ قد كتبنا على كلام صاحب الكشافِ في تفسيرها رسالةً سميناها "فتحُ القديرِ في الفرق بين المعذرةِ والتعزيرِ"(1) جوابًا عن سؤال بعض أعلام العصرِ.

قولُه: فإن استحسنَ ذو الولاية

إلخ.

أقول: هذا الكلامُ ينبغي لمولانا الشرفيّ ـ عافاه الله ـ الضربُ عليه، ومَحْوُهُ عن وجه القرطاس، وإعدامُهُ من حيِّز الوجود، وكيف يقول: إنه لا حرجَ عليه في ذلك! وأيُّ حَرَجٍ أعظم من أحذ مال امرئ مسلم بلا قرآن ولا برهان: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (2)، "لا يحلُّ مالُ امرئ مسلمٍ إلَاّ بطيبةٍ من نفسه"(3).

وأما الاحتجاج على هذا الأصل العظيم بما ذكره من استحسان عمر فما لنا ولعمر، ومن عمر رحمه الله حتى تعارض باستحساناته نصوص القرآن والسنة! وأما عدم الإنكار عليه فالمجال مجال اجتهاد، وليس من مواطن الاعتراض، ولو فرض غير ذلك فعمر رضي الله عنه هو الذي يقول فيه ابن عباس (4): كان رجلاً مهيبًا فهبته.

وقد تقرر في الأصول أن الإجماع السكوتي (5) مشروط بشروط: أحدها اطلاع الكل من أهل [11أ] الحل والعقد على مقالة القائل، ومنها عدم المانع من المخالفة، ومنها كون

(1) ستأتي الرسالة برقم (206) من الفتح الرباني.

(2)

[النساء: 29].

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

تقدم ذكره.

(5)

الإجماع السكوتي: وهو أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر فيسكتون ولا يظهر منهم اعتراف ولا إنكار وفيه مذاهب:

1 -

أنه ليس بإجماع ولا حجة، قاله داود الظاهري. وقيل: إنه نص الشافعي في الجديد.

2 -

أنه إجماع وحجة وبه قال جماعة من الشافعية وجماعة من أهل الأصول.

انظر: "البحر المحيط"(4/ 508)، "الكوكب المنير"(2/ 258).

ص: 3842

المسألةِ ليست مما يسعُ السكوتُ فيها كمواطن الاجتهادِ، والبحثُ محرِّرٌ في الأصول. وقد أطلتُ البحثَ في مسألة الإجماع السكوتي، ووسَّعتُ أطرافه في حاشيتي على شفاء الأمير الحسينِ المسماة:"وبل الغمام على شفاء الأوام"(1).

وقد أفاد مولانا الشرفي ـ جزاه الله خيرًا ـ فوائد، وأسس قواعدَ، وقيَّد شواردَ، ولكن الحقيرَ راقمَ الأحرف أحبَّ التنبيهَ له على ما حاك في الخاطر، ويطلبُ منه أن يفعل كما فعلتَ، فكلُّ أحدٍ يُؤْخَذُ من قوله ويتركُ إلَاّ المعصومَ، ونحن أعوانٌ على استخراج الحقِّ، إخوانٌ في طلبه، وليس بين أحد وبين الحق عداوةٌ. ونسأل الله أن يجعلَ الأقوالَ والأفعالَ خالصةً لوجهه الكريم، مقرِّبةً إلى رضاه وفَضْلهِ العميمِ. كان تحريرُ هذه الأحرفِ في النصف الأول من ليلة الاثنينِ إحدى ليالي شهر جُمادى الآخرةِ سنة 1214.

بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما، وتجاوز عنهما ـ، وعن جميع المسلمين آمين.

(1)(1/ 67 - 70). بتحقيقي ط: مكتبة ابن تيمية ـ القاهرة.

ص: 3843