المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رفع منار حق الجار بالإجبار على البيع مع الضرار - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٨

[الشوكاني]

الفصل: ‌رفع منار حق الجار بالإجبار على البيع مع الضرار

(126)

36/ 2

‌رفع منار حق الجار بالإجبار على البيع مع الضرار

تأليف محمد بن علي الشوكاني

حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 3929

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: "رفع منار حق الجار بالإجبار على البيع مع الضرار".

2 -

موضوع الرسالة: "فقه".

3 -

أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده الأمين وعلى آله الغُرِّ المكرمين، وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول الفقير إلى الله

".

4 -

آخر الرسالة: "

وقد وقع في مؤلفات جماعة، من الأئمة من أهل البيت، وغيرهم ما يغني عن التطويل.

وفي هذا المقدار كفاية إن شاء الله.

حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

عدد الصفحات: 14 صفحة.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة.

9 -

الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.

10 -

الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 3931

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه الأمين، وعلى آله الغُرِّ المُكرمينَ، وصحبِة أجمعين.

وبعدُ:

فيقولُ الفقيرُ إلى الله ـ سبحانه ـ يحيى بنُ مطهر بن إسماعيل: هذا سؤال لشيخنا العلامةِ بهجت المحافل، والبحر الذي لا ينتهي، ولكل لجٍّ ساحل، البدرِ الأوحد محمد بن علي بن محمد ـ كثر الله تعالى فوائده ـ وأتحفه سلامًا يلتحفُ البدرُ سناهُ، ويختم السعدِ في ساحاته وفَنَاه، عن حديث سَمُرَةَ بنِ جندبٍ عند أبي داودَ (1) أنه كانت له عَضُدٌ (2) من نخلٍ في حائط رجلٍ من الأنصار، قال: ومع الرجل أهلُهُ، قال: وكان سمرةُ يدخلُ إلى محلِّه فيتأذَّى به الرجلُ، ويشقُّ عليه، فطلبَ إليه أن يناقِلَه فأبى فأتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له، فطلب إليه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيعَه فأبى، فطلب إليه أن يناقلَه فأبى، فقال:"فهبْه لي ولك كذا وكذا" أمرًا رغَّبَهُ فيه فأبى، فقال:"أنت مُضَارٌّ" فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأنصاري: "اذهب فاقلعْ نَخْلَهُ".

(1) في "السنن" رقم (3636).

وأخرجه في "المراسيل" رقم (407) وفيه: محمد بن عبد الله: هو ابن أبي حماد الطرسوسي القطان. روى عنه جمع. وباقي السند رجاله ثقات إلا أن أبي إسحاق مدلس وقد عنعن.

وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 158) من طريق أبي اليمان عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب.

وهو حديث ضعيف.

(2)

العضد من النخل الطريقة منه قال ابن الأثير: "وقيل إنما هو عضيد من نخل وإذا صار للنخلة جذع يتناول منه فهو عضيد".

" النهاية "(4/ 252).

ص: 3935

هل يصحُّ الاستدلالُ به على دفعِ الضرار في الأملاك؟ إن قلتُم: لا، فظاهر الحديث يدلُّ عليه، وإن قلتُم: نعم، ففيه إشكالٌ، لأنه من رواية الباقرِ عن سمرة، وقد ذكرتُم في شرح المنتقى (1) ما لفظُه: وفي سماع الباقرِ من سمرةَ نظرٌ، فقد نُقِلَ بينَ مولدهِ ووفات سمرة ما يتعذَّر معه سماعه انتهى. فلم يبقَ حجةً.

وثانيًا: أن سياقَ القصةِ من حيثُ قولُه: في حائط رجلٍ من الأنصار، يحتملُ أن سمرةَ لم يكن مالكًا في الأصل، وإنما لعله شَرَى الأشجارَ فقط، أو غارسَهُ الأنصاريُّ بعضَ حائطهِ، فجعل ذلك ذريعةً إلى مُضَارَرَةِ مالك الأصل ففاوضَه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولما لم يمتثلْ قضى له بما يستحقُّه، وكافأه النقصَ عقوبةً له بما وقع منه من المخالفة، وعدم الامتثال.

وثالثًا: أنها واقعةُ عينٍ لا عمومَ لها، فَتُوقَفُ في محلِّها، ثم إنه دعوى الضرارِ في الأملاك بعد القسمةِ التي شُرِعَتْ لدفع ذلك، ولم يُرَخَّصْ فيها بحال، بل وجبت ولو بالمهاباةِ، يعود على الفرضِ من شرعيَّتها [1أ] بالبطلان. والملكُ في الجملة متحقّقٌ قبل القسمة وبعدَها مُلِكَتِ الأنصباءُ ملكًا لا خروجَ له إلَاّ فطنته نفسٌ محقِّقةٍ.

ولا يصحُّ القياس على حديث سَمُرةَ على فرض صلاحيتِه للاحتجاج، وإن كانت العلَّةُ منصوصةً وهي الضِّرار لوجوده في كل من الشريكين.

أما غير الساكن فلأنه لفقرِه وحاجته الماسَّةِ إلى ثمن نصيبه محتاجٌ، ولم يجدْ من يشتري نصيبَه بسبب الشركةِ، ولا حاجةَ له إلى سكونه وتعليقه، أو سكونِ الأمر يؤدي إلى الإهمال المقتضي للأعمال، فيلزمُهُ قصدُهُ من إغرام الجصِّ، والقصَّاصِ، والتطيينِ، ونحوِ ذلك.

وأما الساكنُ فمن حيثُ كونُ خروجِه من ملكه يضرُّ به، أما لو [

] (2) ولكن ثمن

(1)(3/ 801).

(2)

كلمة غير مقروءة.

ص: 3936

نفسهُ لا يحصل له ما يقومُ به هو وعيالُه، ولأنه لا يجب عليه دفع ضرر غيره بضرر نفسه مع بذلِه لنصيبِه، وطلبِ الآخر للثمن طلب من ليس له طلبُه، فَلِمَ اعتبرَ الضررَ الحاصلَ على أحدهما دون الآخر؟ ولا يقال ترجَّح الأكْثرُ ضررًا لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوقل:"لا ضرر ولا ضرار"(1). وقد اتفقت كلمةُ العلماءِ على أنه لا يجوز الضرار، وإنما اختلفوا في جزئيات، فمنهم مَنْ نفى الضِّرار فيها، ومنهم من أثبتَه ورجَّح دفعَ مفسدة الضرارِ لمصلحة هي أعظمُ منه، وممن أثبَته بعضُ أئمتنا حيث قال: إن للمالك في ملكه (2) ما يشاء، وإن ضرَّ الجارَ مستدلاً بأن موجبَ الملك الانتفاعُ كيف شاء المالكُ، وهو مقيَّدٌ بأدلة الوصية بالجار (3)، وتحذير الجار من البوائق، وحديث:"لا ضررَ ولا ضرارَ"(4) وما في معناه، وإن كانت عامَّةً فالعمل بالعامِّ (5) مما اتفقَ عليه أهلُ العلم، وإنما النزاعُ هل ذلك قبل البحثُ عن المخصِّص أو بعده؟ وهذا جارٍ في كل دليل، وكونُ دلالتِه ظنيةً لا يمنعُ من العمل؛ فأكثرُ الأحكام كذلك، ويعود النزاعُ إلى جواز العملِ بالظن، وهي مسألة أخرى على أنَّ الشارع قد جعل مناطَ دفعِ الضِّرار هو القسمةَ أو الإجبارَ في قضية مخصوصةٍ على أسلوب خاصٍّ إن صح ذلك، ثم إن الواقعَ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم[1ب] في هذه القصة ليس في ما يقتضي توقُّفَ الأمر

(1) أخرجه ابن ماجه رقم (2340) وهو حديث صحيح. من حديث عبادة بن الصامت.

وسيأتي في الجواب مفصلاً.

(2)

قال ابن قدامة في "المغني"(7/ 52): "وليس للرجل التصرُّف في ملكه تصرُّفًا يضرُّ بجاره

وبهذا قال بعض أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى لا يمنع، وبه قال الشافعيُّ وبعض أصحاب أبي حنيفة، لأنّه تصرّف في ملكه المختصِّ به، ولم يتعلَّق به حقُّ غيره فلم يمنع منه.

ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" لأنّ هذا إضرارٌ بجيرانه فمنع منه اهـ.

(3)

ستأتي في الجواب.

(4)

تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

(5)

انظر "البحر المحيط"(3/ 222 - 322).

"المسودة"(ص115) وقد تقدم.

ص: 3937

على اعتبار الرضى المقتضى للإجبار والتغريم في الغالب، بل أَمَرَ بقلعِ النخلِ. فسبيلُ من أراد العملَ بهذا الدليل الأمرُ بالهدمِ، أو البَيْعِ.

وأما الإجبارُ على البيع فغيرُ ظاهرٍ، ولا مجدٍ للقطع بأنه لا يكفرُ (1) من قال كلمةَ الكفر وهو مطمئنٌ بالإيمان، والله تعالى يقول:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (2) وعن حنيفةَ الرَّقاشي عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يحلُّ مالُ امرئ مسلمٍ إلَاّ بطيبةِ نفسٍ منه" رواه أبو داودَ (3)، وعلى تسليم أن سمرةَ كان مالكًا في الأصل، فهل مجرَّدُ أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بقلع النخلِ أبطلَ الملكَ، أم وقع الشراء، أم أُهْدِر أم ماذا وقع؟ وهذه المسألةُ ذكرها المؤيدُ بالله في شرح البحر (4)، ولفظه: مسألة: قال: فلو أن رجلاً كان له نصيبٌ في جُرْبَةٍ، أو عبدٍ، واضْطُرَّ إلى بيعه، وكان لا يُشْتَرَى نصيبُه منفردًا حُكِمَ على شركائه بابتياع نصيبه منهم، أو بيعِ حِصَصِهم معه. هذا قولُ يحيى، وغن كان له وجهٌ في النظر فإني لا أقولُ به، لأني لا أعرفُه لأحدٍ قبلَه، ولا آمنُ أن يكون خارجًا عن الإجماع، فإن كان له قائلٌ ولم يكن خارجًا عن الإجماع فوجهُهُ من النظر أن يقالَ إنه إجبارٌ لبعض الشركاء على المعاوضة على ما يملكونَ على سبيل الشركةِ توخِّيًا للصلاح من حيثُ لا ضررَ فيه، فأشبه القسمةَ، فوجبَ أن يلزمَ الحكمُ به كما يلزمُ الحكمُ بالقسمة. ألا ترى أن إزالة الشركة لا ضررَ فيها دليلُه الشُّفعةُ (5)؛ فإنها موضوعةٌ لدفع ضررِ المشاركةِ والمجاورة انتهى.

فالمطلوبُ الكلامُ على هذه المسألةِ، وما يُشْكِلُ في المقام، وما يدفعُ ما يردُّ على الحديث ـ كثر الله فوائدكم ـ آمينَ.

(1) تقدم توضيح ذلك مرارًا.

(2)

[النساء: 29].

(3)

وهو حديث صحيح. تقدم.

(4)

(4/ 96 - 97).

(5)

انظر الرسالة رقم (116).

ص: 3938

بسم الله الرحمن الرحيم

إيك نعبدُ، وإيَّاك نستعينُ، وصلى الله على الرسول الأمينِ، وآله الطاهرينَ.

أقولُ: الجوابُ عن سؤال السائل العلامةِ ـ اعلا الله مقامه، ورفع في ميادين العلوم أعلامه ـ ينحصرُ في بحثينِ:

البحثُ الأولُ: تقرير دلالة الأدلةِ الصحيحةِ على أنه يسوغُ للحاكم دفعُ الضررِ بين الشُّركاءِ بالإجبار على البيعِ نحوِه.

فمنها حديثُ "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه أحمد (1) من حديث ابن عباس، وقد

(1) وهو حديث صحيح.

وري من حديث عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عباس، ،ابي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر، وعائشة، وثعلبة بن أبي مالك القرضي، وأبي لبابة.

- أما حديث عبادة:

فقد أخرجه ابن ماجه رقم (2340) وأحمد (5/ 326 - 327) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"(1/ 344) بسند ضعيف.

- وأما حديث ابن عباس:

فقد أخرجه ابن ماجه رقم (2340) وأحمد (1/ 313) والطبراني في "الكبير"(11/ 302 رقم 11806) وسنده ضعيف جدًا.

وله متابعة، أخرجها الدارقطني (4/ 228 رقم 86) والخطيب في الموضح (2/ 97) والطبراني في "الكبير"(2/ 86 رقم 1387) بسندٍ لا بأس به في الشواهد.

- وأما حديث أبي هريرة:

فقد أخرجه الدارقطني (4/ 228 رقم 86) وقال الزيلعي في "نصب الراية"(4/ 385) وأبو بكر بن عباس مختلف فيه.

قال الألباني: هو حسن الحديث، وقداحتجَّ به البخاري، وإنما علة هذا السند من شيخه يعقوب بن عطاء، وهو ضعيف.

- وأما حديث أبي سعيد الخدري:

أخرجه الدارقطني (4/ 228 رقم 85) والحاكم (2/ 57 - 58) والبيهقي (6/ 69) وقال: تفرَّد به عثمان بن محمد.

قلت: وهو ضعيف.

- وأمّا حديث جابر:

أخرجه الطبراني في "الأوسط"(1/ 141 من زوائد المعجمين) وفيه تدلي ابن إسحاق.

- وأما حديث عائشة:

أخرجه الدارقطني (4/ 227 رقم 83) وسنده واهٍ جدًا من أجل الواقدي.

- وأما حديث ثعلبة:

فقد أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" رقم (1387) بسند فيه ضعف.

- وأما حديث أبي لبابة:

فقد أخرجه أبو داود في "المراسيل" رقم (407) وفيه انقطاع.

والخلافصة: أن الحديث صحيح بمجموع طرقه والله أعلم.

ص: 3939

وردَ في منع الضرارِ أحاديثُ:

منها ما أخرجه داودَ (1)، والنسائي (2)، والترمذي (3) وحسَّنه من حدي ثأبي صِرمةَ ـ بكسر الصاد المهملة، واسمه مالكُ بنُ قيس، ويقال: ابن أبي أنيس [2أ]، ويقال: قيسُ بنُ مالك، ويقال: مالك بن أسعد، وقيل: لبابةُ بنُ قيس، وهو أنصاري نجَّاري، شهد بدْرًا.

قال ابن عبد البَرِّ (4): لم يختلفوا في شهوده بدرًا وما بعدها، وكان شاعرًا محسنًا ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ضارّ أضرَّ الله به، ومن شاقّ شاقّ الله عليه"، وإسنادُ هذا الحديثِ أئمةٌ ثقاتٌ من رجال الحديث إلَاّ لؤلؤةَ (5)

(1) في "السنن" رقم (3635).

(2)

لم يخرجه النسائي انظر "تحفة الأشراف"(9/ 228 رقم 12063).

(3)

في "السنن" رقم (1940).

(4)

في "الاستيعاب" رقم (2323).

(5)

انظر "التقريب" رقم (8677).

ص: 3940

مولاةَ الأنصارِ الراويةَ له عن أبي صِرْمةَ؛ فإنها من رجالِ الحسن، قد حسَّن الترمذيُّ (1) حديثَها، وأخرجَ لها أهل السنن، وقال في التقريب (2): مقبولةٌ من الرابعة؛ فهذانِ الحديثانِ، وما ورد في معناهما قاضيان بمنع الضرار على العموم من غير فرق بين الجار وغيره. وقد صرح النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الأول بنفي الضرار بين الأُمَّةِ، وهذا النفي يدلُّ على أن الضَّرَر والضِّرار ليسا من شأن هذه الأمةِ، ولا هما مما شرعهُ الله لهم، فكان علينا دفعُه وإبطالُه، ومحوُ أثرِه، والضربُ به فيه وجه فاعله بأي وجهٍ كان، وعلى أي صفةٍ وقع، فإذا وجدنا أحدَ الرجلين المتجاورينِ، أو غيرَ المتجاورينِ قد ضارَّ الآخَرَ بوجه من وجوه المضارَّةِ أمرْنا برفع ما أحدثَهُ قائلينَ له: هذا ليس من أمرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا من شرعهِ، وكل أمرٍ ليس من أمره، ولا من شَرْعِهِ ردٌّ على فاعله. فهذا ردٌ عليكَ لأنه ضرارٌ، ولا ضرار في الإسلام. وقد ثبت في الصحيح ثبوتًا لا يختلفُ المسلمونَ فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"كل أمرٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ"(3).

فإذاكان الضرار حادثًا بين الشركاء بنفس الاشتراك نحو: أن يموتَ رجلٌ فيتركَ دارًا بين ورثتِه فيقتسمونَها، ويكونُ نصيبُ كلِّ واحد منهم يسيرًا على وجه يحصلُ بينَه وبين الشركاءِ الضرارُ، إما بالاطلاع على عورات بعضِهم بعضًا، أو بحدوث عداوةٍ بينهم لا يمكنُ دفعُها ما بقوا في تلك الدارِ أو بالتزاحُمِ في المشاعاتِ التي لا يستغني عنها كلّث واحد منهم، كالمُسْتَرَاحِ، والمطبخِ، والطريق.

فاعلم أن هذا مع كونه ضِرارًا ممنوعًا بما تقدَّم هو أيضًا ضرارٌ بين الجيرانِ؛ فإن الجوارَ

(1) في "السنن"(4/ 332) وقال: هذا حديث حسن غريب.

(2)

رقم (8677).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (18/ 1718) من حديث عائشة.

وأخرجه البخاري رقم (2697) ومسلم رقم (1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) من حديث عائشة رضي الله عنها "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس في فهو ردٌّ".

ص: 3941

إذا كان ثابتًا في الدور المتلاصقةِ، بل والمتباعدةِ، فكيف لا يكون ثابتًا بين الساكنينَ في دار واحدة، أو المالكين لحديقة واحدة! فحقٌ على الحاكم أن يرفعَ الضِّرار الحادث بينَهم فإن أمكن بغير إجبارٍ على البيعِ ونحوِه فعلَه، وغن لم يمكن إلَاّ به أرشدَ كلَّ واحد منهما إلى أن يبيعَ من صاحبِه، أو يناقله [2ب]، أو يهبَ له، أو يبيعانِ من آخر، فإنْ أجابا إلى ذلك فذاك، وإن لم تقع الإجابةُ أخبرَهما على أمر يرتفع به بينهما الضرار من بيع أو غيره، وعليه أن يمعن النظر في الدفع بوجهٍ أيسر مُؤنة، وأخف مشقة حسبما يقتضيه الحالُ باديًا بالأخفِّ، وإذا كان الضرارُ ناشئًا من أحدهما كان الخطابُ معه والإيجابُ عليه، والحاكم بعد الترافُعِ إليه، والخصومةُ عنده قد لزمه رفعُ الضرارِ الذي نفاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين وردَّه على صاحبه فلو لم يرد من الأدلة إلَا ما أسلفنا ذِكْرَهُ لكان مسوِّغً للحاكم أن يرفَعه بالبيع ونحوه، بل موجبًا لذلك عليه، فكيف وقد ورد ما هو أخصُّ من ذلك في أحاديثِ الجوازِ، كحديث:"والذي نفسي بيده لا يؤمنُ أحدكم حتى يأمنَ جارُهُ بوائِقَهُ"، وهو في الصحيح (1)، وكذلك حديثُ:"من كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر فلا يؤذِ جارَهُ"، وهو أيضًا في الصحيح (2)، وكذلك حديثُ:"ما زال جبريلُ يوصيني بالجار حتى قلت: إنه سيورِّثُه"(3) أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه، وفي الباب أحاديثُ (4) كثيرةٌ أقلُّ

(1) أخرجه البخاري رقم (6016) ومسلم رقم (46) وأحمد في "المسند (2/ 288) من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6136، 6138) ومسلم رقم (48) من حديث أبي هريرة.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6014، 6015) ومسلم رقم (2624، 2625) والترمذي رقم (1942، 1943) وأبو داود رقم (5151، 5152) وابن ماجه رقم (3673، 3674) وابن حبان رقم (512، 513) من حديث ابن عمر وعائشة.

(4)

منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6016) ومسلم رقم (46) من حديث أبي شريح رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جارُهُ بوائقه".

ص: 3942

أحوالها أن يكون رفعُ الضِّرارِ بين المتجاورينَ آكدَ من رفعِه بين غيرِهم، وأحقَّ، وأوْلى، وألزمَ، فكيف وقد وقعَ ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعينه! فيما أخرجه أبو داود (1) من حديث سمرة بن جندب أنه كان له عضدٌ من نخل في حائطِ رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهلِه، قال: وكان سمرة يدخل إلى نخلِه فيتأذى به، ويشق عليه، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له، فطلبَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيعه فأبى، فطلبَ إليه أن يناقلَه فأبى، قال:"فهبْه لي، ولك كذا وكذا" أمرٌ رغَّبه فيه فأبى، فقال: أنتَ مُضَارٌّ" فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأنصاري: اذهبْ فاقطعْ نخلَه" ورجالُ هذا الحديثِ كلُّهم ثقاتٌ، فإنَّ أبا داود (2) قال: حدثنا سليمان بن داود العتكيُّ، وهو من رجال الصحيحِ، قال: حدثنا حماد بن زيد، وهو أيضًا كذلك، قال: حدثنا واصلٌ العابدُ مولى أبي عيينةَ، وهو أيضًأ كذلك، قال سمعتُ أبا جعفر محمدَ بن علي الباقر، وهو أيضًا كذلك يحدِّثُ عن سمرةَ، فذكره. قال المنذريُّ في مختصر السنن (3): في سماع الباقر من سمرةَ بنِ جندب نظرٌ؛ فقد نقل عن مولدِه (4)، ووفاةِ سمرةَ ما يتعذَّر معه سماعُهُ وقلّ فيه ما يمكنُ السماعُ منه انتهى.

قلتُ: قد ثبتَ أن موتَ سمرةَ بن جندب ثمانٍ، أو تسعٍ وخمسينَ، وموتَ الباقر سنةَ أربعَ عَشْرَةَ ومائةٍ.

(1) في "السنن" رقم (3636) وهو حديث ضعيف.

(2)

في "السنن"(4/ 50).

(3)

(5/ 140).

(4)

قال ابن حجر في "الإصابة" رقم (3488): قيل مات سنة ثمانٍ وقيل سنة تسع وخمسين. وقيل في أول سنة ستين.

انظر: "الاستيعاب" رقم (1068)، "أسد الغابة" رقم (2242).

ص: 3943

وقد نقلَ بعضُ أهل العلمِ أنه مات عن ثلاثٍ (1) وسبعينَ سنةً، فيكون ملوده على هذا سنةَ تسعٍ وثلاثينَ، فهو عند موتِ سمرةَ [3أ] في عشرينَ سنةً، وهذا سِنُّ الطلبِ، ووقتُ التحصيلِ، بل لو كان عند موتِ سمرةَ في سبعٍ أو ثمان سنينَ لم يتعذّر معه السماع. وقد سمع (2) من جماعة من الصحابة، كجابرٍ، وابن عمرَ، وأبي سعيد. فذهب إعلال الحديثِ بتلكَ العلَّةِ وكان صحيحًا.

هذا إذا صح ما نقله ذلكا لبعض أن عُمْرَهُ ثلاثٌ وسبعونَ، فإن لم يصحَّ وكان عمرهُ دون ذلك، فقد أخرج المحبُّ الطبريُّ في أحاديث الأحكام عن واسعِ بن حِبَّانَ قال: كان لأبي لُبابَةَ عِذْقٌ في حائط رجلٍ، فكلَّمه فقال: إنك تطأُ حائطي إلى عِذْقِكَ، فإما أن أعطيك مثلَه في حائطكَ، وأخرِجْهُ عني، فأبي فكلَّم النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال صلى الله عليه وآله وسلم:"يا أبا لبابةَ خذْ مثلَ عِذْقِكَ فَحُزْها إلى مالكَ، وكُفَّ عن صاحبِك بما يكره" فقال: ما أنا بفاعلٍ قال: "فاذهبْ فأخرجْ له مثلَ عِذْقِهِ إلى حائطِه، ثم اضرب فوق ذلك بجدارٍ، فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار" هكذا ساقه المحبُّ، وعزاه إلى أبي داودَ، فيُنْظَرُ، فإن لم أجدْه.

وهذا الحديثُ يعضِّدُ الحديثَ الأولَ ويقوِّيه، ويتبينُ به أنَّ هذه الحكومةَ منه صلى الله عليه وآله وسلم ليست بخاصَّةٍ لرجل دون رجل، أو في قصةٍ دون قصةٍ، بل لو لم يردْ إلَاّ حديثُ سمرةَ لم يكن خاصًّا، لأن العلَّة التي ربطها به لا تختصُّ بفردٍ دون فرد من الأمة، وهي قوله:"أنت مُضارّ"، على أنه لو لم يرد حديثُ سمرةَ، ولا حديثُ واسعِ بن حبّان لكان فيما ذكرنا من منع الضرار ما يغني عن ذلك، فانظر معاوضةٌ لا نقصَ فيها ولا غبنَ، فلما أبى أخبرَهُ بأنه مُضارّ، وعاقبه بإتلاف مالِه، وسوَّغ لخصمه قطع نخله. ومن اقتدى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذه الحكومة فقد

(1) ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب"(9/ 312).

(2)

ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب"(9/ 312).

ص: 3944

جاء بالشرع، واتبع الهدي المصطفويّ، وحكمَ بسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ الحقَّ مع معدنِه، واغترفَ الصوابَ من منبعِه؛ فالشريكان في الأرض أو الدار إذا كان يحصل باجتماعِهما ضرارٌ عليهما، أو على أحدهما، ولا محالة بوجهٍ من الوجوه المتقدِّمة كان على القاضي أن يعرض على كل منهما ما عرضَه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مسرةَ وأبي لبابةَ، فإنْ قَبِلَهُ فذاكَ، وإن أبى عاقبه بمثل العقوبة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان الاشتراك في الحوائط ونحوها، أو بما يماثلُها إن كان الاشتراك في الدور ونحوِها، فإن مجرَّد الامتناع عن القبول يصيره به الممتنع مُضارًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأقلُّ أحوال العقوبةِ إجبارُهُ على البيع أو المناقلةِ؛ فإن ذلك معاوضةً ليس على فاعلها [3ب] ظلامةٌ ولا غرامةٌ، فإنه يأخذُ مثلَ ما يملِكُه أو قيمتَه. وإذا أمكنَ القاضي العارفُ بالمسالك الشرعية أن يدفع ما بين الشريكين من الضرارِ بنوعٍ من أنواع السياسةِ الشرعيةِ فعلَ ذلك، فقد فعلَه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أخرجه أبو داودَ (1) من حديث أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكو جارَه فقال: "اذهب فاصبر" فأتاه مرتين أو ثلاثًا فقال: "اذهب فاطْرَحْ متاعَك في الطريق" فطرحَ متاعَه في الطريق، فجعل الناس سيألونَه فيخبرُهم خبَرهُ، فجعل الناس يلعنونَه: فعلَ الله به وفعلَ، فجاء إليه جارُه فقال: ارجعْ لا ترى منِّي شيئًا تكرهُهُ.

هذا إذا كان الضرار موجودًا بنفسِ الاشتراكِ كالدارِ الضيقةِ، والأرض التي لا يمكن

(1) في "السنن" رقم (5153).

قلت: وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (521) والحاكم (4/ 160) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (124). وهو حديث حسن.

ص: 3945

انتفاعُ أحد الشريكين بنصيبه إلَاّ بالإضرار بالآخر، كاستطراق أرضه أو الاطلاع على عورات أهلِه، كما يرشدُ إليه حديث سمرة حيث قال فيه: ومع الرجل أهلُه مما لو كانت الدار واسعةً بحيثُ ينتفعُ كلُّ واحد من الشريكين بملكه من دون تزاحم في المشاعات المتقدِّمِ ذكرُها؛ بل يمكن كلَّ واحد منهما أن يجعل لنفسه طريقًا مستقلةً، ومطبخًا منفرِدًا ومُسْتراحًا مستقلاً، ونحو ذلك، ولا شركة بينَهما في نفس النازل المعدَّةِ للسكون ونحوه فلا ضرار حينئذ، ولا وجه للإجبار على البيع ونحوه إلا إذا كانت الدار مثلاً لا تنفقُ إلا إذا بيعت جميعُها، ولا ينفُق نصيبُ الشريك منفردًا، وكان محتاجًا إلى بيع نصيبه على وجهٍ لا يندفعُ عنه تلك الحاجةُ إلَاّ بالبيع، فهاهنا قد حصل الضرارُ على الشريكِ المحتاجِ إلى البيع، فيعرضُ القاضي على شريكه أن يشتري نصب ذلك المحتاج إن كان متمكنًا، فإن كان غير متكن فإجباره على بيع نصيبه مع نصيب شريكه لا ندفع الضِّرارُ عن ذلك الشريك المحتاج إلَاّ به، وليس على هذا المأمور بالبيع ظلمٌ ولا تغريمٌ، لأنه يبيعُ نصيبَه بقيمتِه، ويربحُ الاستراحة من معرَّةِ الاشتراك والانفراد بنفسه، ويخلُص عن الوقوعِ في ضرار جاره، وليس هذا من باب دفع الضرارِ عن الغير بإنزال الضرار بالنفس، بل من باب دفع الضرار الذي نفاه الشارعُ عن الإسلام وأهلِه.

وقد أخرج البخاريُّ (1)، ومسلم (2)، وأبو داود (3)[4أ]، والترمذيُّ (4)، والنَّسائيُّ (5)، وابن ماجه (6) من حديث أبي هريرةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(1) في صحيحه رقم (2463).

(2)

في صحيحه رقم (136/ 1609).

(3)

في "السنن"(3634).

(4)

في "السنن" رقم (1353).

(5)

لم أجده عند النسائي.

(6)

في "السنن" رقم (2335).

قال الحافظ في "الفتح"(5/ 110): استدل به على أن الجدار إذا كان لواحد وله جار أراد أن يضع جذعه عليه جاز سواء أذن المالك أم لا فإن امتنع أجبر وبه قال أحمد وإسحق وغيرهما من أهل الحديث وابن حبيب من المالكية والشافعية في القديم. وعنه في الجديد قولان أشهرهما اشتراط إذن المالك فإن امتنع لم يجبر وهو قول الحنفية.

وحملوا ذلك على الندب النهي على التنزيه جمعًا بينه وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه قال البخاري وفيه نظر.

- قال البيهقي: "لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن تخصها. أي إذا امتنع أجبر".

قال القرطبي في "المفهم"(4/ 530 - 531): اختلف العلماء في تمكين ربّ الحائط من ها عند السؤال، فصار مالكٌ في المشهور عنه وأبو حنيفة إلى أنّ ذلك من باب الندب، والرِّفق بالجار والإحسان إليه ما لم يضرُّ ذلك بصاحب الحائط. ولا يُجبر عليه من أباه، متمسكين في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" ولأنه لما كان الأصل المعلوم من الشريعة: أنَّ المالك لا يجبر على إخراج ملكٍ عن يده بعوض كان أحرى وأولى ألا يخرج عن يديه بغير عوض، وكما قال الحافظ في "الفتح" في هذا القول نظر.

ص: 3946

"لا يمنعنَّ جارٌ جارَهُ أن يغْرِزَ خشبةً في جدارِه" فهذا نهيٌ منه صلى الله عليه وآله وسلم يدلُّ على تحريم المنعِ للجارِ أن يغرزَ الخشبَ في جدارِ جارِه، مع أن تضرُّرَ الجار الذي يريد أن يغْرِزَ الخشبَ بمنعه من ذلك غيرُ معلومٍ، فإنه يمكنُه أن يجعل لنفسه جدارًا مستقلاً يغرزُ فيه خشبة.

فهاهنا قد أرشد الشارعُ إلى رعاية جَلْبِ المصالح إلى الجار، ولم يلتفت إلى مظنَّة ما يحصل من صاحب الجدار من التضرُّر بغَرْزِ الخشبِ في جدارِه، وهاهنا طاحتِ المقاييسسُ، وذهبتِ العِللُ، وارتفعت مسالك الرأي، ومباحثُ الموازنةِ، فمن لم يقبل عقلُه هذا فليتَّهم نفسَه، ويحمل الغلط على عقله وفهمه، ويدع كيف وفيم، وعلام ولِم، ويذعِن لأحكام الشرع، ويعلم أنّ صلاحَ الدين والدنيا مربوطٌ بها، منوطٌ بما فيها.

دعوا كلَّ قولٍ عند قولِ محمدٍ

فما آمنٌ في دينِه كمخاطرِ

وقد وقع لكثير من أهل العلم في ..........................................

ص: 3947

تأويل (1) مثل حديث أبي هريرةَ هذا، وحديث سمرة، وواسع بن حبّان المتقدّمين من التعسُّفات والتكلُّفات ما يتبرى الإنصافُ منه، ويمجُّه طبع كل متشرعٍ مُؤْثِرٍ لما جاء به الشرع على ما جاء به أهلُ الرأي من الآراء المخالفةِ له (2) ومَن صاحبُ الرأي حتى يردّ كلام الشارع إلى كلامه! وتُطلْلَبُ له التأويلاتُ لأجلِه، ويُذادُ عن معارضتِه! وهل هو إلَاّ في عداد المتعبدين بالشرع، المأخوذين بأحكامه، المطلوبين بما فيه، لا فرق بينه وبين سلائر الأمة من هذه الحيثية، فرأيه المخالِفُ لما جاء عن الشارع ردٌّ عليه، مضروب به في وجهه، مرميّ به وراء الحائط.

البحث الثاني: في الكلام على سؤال السائل ـ كثر الله فوائده ـ وقد عرف من البحث الأول إجمالاً، فلنعرفْ من هذا تفصيلاً فنقول:

أما قوله: وقد ذكرتم في شرح المنتقى (3) ما لفظه: وفي سماعِ الباقرِ من سمرةَ نظرٌ

إلخ.

فجوابه ما قدمنا من النقل [4ب]، على أنا قد قدمنا أنه قد وردَ مثلُه من طريق أخرى ومن ذلك فلو فرضنا عدَم ورود حديث سمرةَ، والحديث الذي عضَّده وشهد له لكان في الأحاديث الواردة بنفي الضِّرار، وما في معناها ما يسوغُ ما ذكرناه من بيع المشتركِ مع وجود الضِّرار.

وأما ما ذكره من أن في القصة ما يفيد أنَّ الحائط لم يكن مُلكُ سمرةَ.

فليسَ فيه ما يفيدُ ذلك بمطابقة، ولا تضمُّنٍ، ولا التزامٍ؛ فقد أثبتَ في لفظ الحديث ملكَه لعضد النخلِ في حائط الأنصاري، ومجرَّدُ نسبتِه إلى الأنصاري لا تنفي أن يكون بعضُه لغيرِه، فإن الأشياء تُنْسبُ باعتبار الغالبِ والأكثر فيقال: حائط فلانٍ لمن يملكُ

(1) انظر "فتح الباري"(5/ 110 - 111).

(2)

"المغني"(7/ 35 - 36).

(3)

(3/ 801 - 802).

ص: 3948

أكثرُه، وهذا شائعٌ في اللغة، معلومٌ عند أهلها لا ينكرونه.

وأما قوله: إنها وقعة عينٍ لا عمومَ لها.

فقد عرفتَ ما تقرَّر في الأصول (1) أن ما شرعه الشارعُ لفردٍ من أفرادِ أمّته أو لبعضِ الأفراد يكون شرعًا لسائر الأمّة، ولم يقعِ الخلافُ بين أهل الأصولِ إلَاّ في نفس الصيغةِ كما هو محرَّرٌ في مواضعهِ حتى قيلَ إنه مجمعٌ على أن الحكمَ على الواحدِ حكمُ (2) الجماعة ما لم يتبيَّن الشارعُ الاختصاص بذلك الواحد كقوله: يجزيك ولا يجزئ أحدًا بعدك (3)، ونحو ذلك.

مع هذا فقد قدمنا أنَّ الحديثَ مربوطٌ بعلَّةٍ لا تخصُّ فردًا من الأمة دونَ فرد، وهي قوله:"أنت مضارٌّ"(4) هذا على فَرضِ أنه لم يدلّ على ما ذكرناه دليل إلا هذه الواقعة فكيف وقد وقعَ منه صلى الله عليه وآله وسلم الحكمُ في وقاعة أخرى بمثل ذلك! كما في حديث واسعِ بن حبان المذكور، على أنا لو فرضنا عدم وقوع هاتين الوقعتين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكان الدليلُ موجودًا مغنيًا عن غيره كما أسلفنا.

وأما ما ذكره ـ كثر الله فوائده ـ من أن دعوى الضرار بعد القسمة التي شُرِعَتْ لدفع الضرار يعودُ على الغرض المقصود منها بالنقص.

فنقول: نعم، القسمةُ شرعتْ لدفع الضرارِ (5)، فإذا لم يندفع الضرارُ بها فليست [5أ] بقسمة شرعيةٍ، والمفروضُ في مسألة السؤال أن الضرار موجودٌ بوجه من الوجوه المتقدمة، وليس النزاعُ في شيء لم يبق بعد قسمته ضرارٌ، فالحاصلُ أن هذه القسمة التي وُجِدَ الضرارُ بعدها ليست بقسمةٍ شرعيةٍ، لأنه لم يحصل الغرضُ الذي شرعت لأجله

(1) انظر "البحر المحيط"(3/ 190)، "تيسير التحرير"(1/ 252). وقد تقدم توضيحه.

(2)

تقدم تخريجه مرارًا.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

انظر "المغني"(7/ 46)، "الحاوي"(8/ 67 - 70).

ص: 3949

وهو دفعُ الضِّرار.

فنقول: في القسمة الصحيحة هذه قسمةٌ، وكل قسمةٍ مشروعةٍ لدفع الضرار فهذه مشروعةٌ لدفع الضرار، وكل مشروع لدفع الضرار ثابتٌ في الشريعة فهذه ثابتة في الشريعة، وكل ثابت في الشريعة صحيح فهذه صحيحة.

ونقولُ في القسمة التي لم يندفع بها الضرار: هذه قسمة لم يندفع بها الضرار، وكل قسمةٍ لم يندفع بها الضرار غير شرعية، فهذه قسمة غيرُ شرعية، وكل قسمة غير شرعية باطلةٌ فهذه قسمةٌ باطلةٌ.

وأدلة هذه المقدمات مسلمة عند المتشرع، فإذا لم يندفع الضرارُ بقسمة الشيء المشترك على المواريث فقد تعذّرت فيه القسمةُ الشرعية على الوجه الذي يريدُه كل واحد من الشركاء، وهو أن يتعين له ينصيبه في المشترك، وإذا تعذّرت القسمةُ على هذا الوجه وجب المصير إلى وجهٍ آخر يندفعُ به الضِّرار، وهو أن يبيعَ بعض الشركاء من بعض، أو يهب له، أو يناقِلَه، ولا مانع من أن يسمَّى ذلك قسمةً شرعيةً، لأنه قد انتفع كلُّ شريك بنصيبه، واندفع عنهم الضرارُ، بل لو قال قائلٌ أن لا قسمةَ [5ب] شرعيةً في ذلك المشتركِ الذي يستلزمُ تقسيطَه بين جميعِ الشركاء وجودُ الضرارِ إلَاّ هذه القسمة التي لا يندفعُ الضرار إلا بها لم يكن ذلك بعيدًا من الصواب، ولا يقدح في هذا ما يقال من أنه يمكنُ دفعُ الضرار بالمهاياة، والمهاياةُ قسمةٌ شرعية كما صرح به القرآن الكريم في قوله تعالى:{لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (1) لأنا نقول: المفروضُ أنه لم يحصل التراضي على قسمة المهاياة، أو كان الضرارُ موجودًا معَها، وذلك إذا كان بعضُ الشركاء لا يجدُ مثلاً مسكَنًا يسكُنه في نوبةِ شريكِه، أو كان محتاجًا إلى بيعِ نصيبِه للانتفاع به في سد جوْعَتِه، أو سَتْرِ عورتِه، أو نحو ذلك.

وأما قوله ـ كثر الله فوائده ـ: وأما الساكنُ فمن حيث كونُ خروجِه من ملكِه يضرُّ

(1)[الشعراء: 155].

ص: 3950

به

إلخ.

فنقول: لا ضرار على من باع نصيبَه بقيمته، ولو كان ذلك ضرارًا لكان كل بيع ونحوُه ضرارًا، وإنما الضرارُ على من يريدُ أن ينتفعَ بنصيبه في حاجةٍ من حوائجه الماسة فقيل له: لا سبيل لك إلى ذلك، ولا تجدُ منه فرجًا ولا مخرجًا، بل اتركُهُ مَحْبسًا، واسكُنُه شئتَ أم أبيت، واصبر على الضَّرر رضيتَ أم كرهتَ.

وأما ما أورده ـ كثر الله فوائده ـ من أدلة اعتبار التراضي وطيبة النفس.

فنقول: ذلك مُسَلَّمٌ، ولكن المفروضَ هنا أنه قد حدثَ بين الشريكين ما يقتضي الضرارَ، وقد قدمنا تحريرَ الأدلة وتقريرَ وجه الدلالة على أن ذلك مسوغٌ للإجبار على البيع، أو المناقلة، أو نحوهما؛ فهذه الأدلةُ مقيِّدةٌ لأدلةِ التراضي [6أ]، وطيبةُ النفس إن كانت مطلقةً أو مخصِّصَةً لها إن كانت عامَّةً كما أن الأدلة الواردة في بيع (1) مال المديون، وفي بيوت الشفعةِ (2) والقِسامةِ (3)، ونحوِ ذلك مقيدةٌ أو مخصصةٌ لأدلة التراضي، وطيبةِ النفسِ بلا خلافٍ بين أهل العلم.

وأما ما ذكره ـ كثر الله فوائده ـ: من استشكال أمره صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النخل، وهل هو من باب إبطال الملكِ والإهدار له؟ أم ماذا وقع؟.

فنقول: بل أتلفَ نخلَهُ بالقطعِ عقوبةً له، وأبطل ملكَه، وهذا حكمٌ ثبتَ لنا عن الذي جاءنا بالصلاة، والزكاة، والحجّ، والصيام، وسائر الفرائض الشرعية، وكان علينا قبولُه، والإذعانُ له، والسكوتُ عنده، وما أحقَّ من سعى في ضرار جاره، وضمَّ الغليظة! وليس مثلُ هذا ببدعٍ في الشريعة الغرَّاء، ولا هو بمستنكرٍ، فقد شُرِعَ لنا أخذُ

(1) تقدم ذكره.

(2)

انظر الرسالة (116).

(3)

انظر "المغني"(7/ 46 - 47).

ص: 3951

شطر مال مانع الزكاة (1) عزمة من عزمات ربنا كما ورد الحكم بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وورد القرآن الكريم (2) بتسويغ رأس مال المربي إذا لم يتب، وورد الحكم النبوي (3) بتضعيف الغرم على من أتلف الضالة، وكذلك ورد تحريق مال (4) المحتكر.

وقد ثبت في الصحيحين (5) وغيرهما (6) في شأن المتخلفين عن صلاة الجماعة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال إلى قوم [6ب] لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". وفيه أعظم دلالة على جواز عقوبة العاصي بتحريق بيته.

وقد ثبت هذا الحديث في دواوين الإسلام وغيرها من طريق جماعة من الصحابة كأسامة بن زيد عند ابن ماجه (7)، وابن أم مكتوم عند أحمد (8) بسند صحيح، وأنس

(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (5/ 2 - 4) وأبو داود رقم (1575) والنسائي (5/ 15 - 16 رقم 2444) والحاكم (1/ 398) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل سائمة إبل، في أربعين بنت لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرًا بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء" وهو حديث حسن.

(2)

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279].

(3)

تقدم ذكره.

(4)

تقدم ذكره.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (657) ومسلم رقم (252/ 651).

(6)

كأحمد (2/ 244).

(7)

في "السنن" رقم (795). وهو حديث صحيح.

(8)

في "المسند"(3/ 423) وهو حديث صحيح لغيره.

ص: 3952

عند الطبراني في الأوسط (1)، وابن مسعودٍ عند الحاكم في المستدرك (2)، وأخرج ابنُ مردويهِ في تفسيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرَ أصحابه فحرقوا مسجد الضرار، وهدموه، وخرج أهلُه فتفرَّقوا عنه (3). وأخرج نحوَه ابن إسحاقَ من حديث أبي رَهْمٍ، وأخرج نحوَه ابنُ جرير عن جماعة. وأخرج أبو داود (4)، والترمذي (5)، والحاكم (6) وصحَّحه من حديث عمرَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"إذا وجدتم الرجلَ قد غلَّ فأحرقوا متاعَهُ واضْربُوه".

وأخرج مسلمٌ (7) والنسائيُّ (8) من حديث عبد الله بن عمْرو قال: رأي النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عليَّ ثوبين مُعَصْفَريْنِ فقال: "أمُّك أمرتك بهذا" قلت: اغسلْهُما قال: "بل أحرقُهما" قال النوويُّ (9): الأمرُ بإحراقهما عقوبةٌ وهتكٌ لزجرِه وزجرِ غيرِه عن مثل هذا الفعلِ. وقد أخرج الحديثَ الحاكمُ (10) بسياق أطولَ من هذا.

وأخرج ابن سعد في الطبقات (11) أن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أحرقَ بيتَ رويشدٍ

(1) رقم (2763). وأورده الهيثمي في "المجمع"(2/ 43) وقال رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله موثقون.

(2)

(1/ 292). قلت: بل أخرجه مسلم في صحيحه رقم (652) ووهم فيه الحاكم.

(3)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 276، 277).

(4)

في "السنن" رقم (2713).

(5)

في "السنن" رقم (1461) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

(6)

في "المستدرك"(2/ 127) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

وهو ضعيف.

(7)

في صحيحه (27، 28/ 2076، 2077).

(8)

في "السنن"(8/ 203 - 204).

(9)

في شرح مسلم (14/ 55 - 56).

(10)

في "المستدرك"(4/ 190).

(11)

لم أجده.

ص: 3953

الثقفيِّ، وكان حانوتًا للشرابِ. وأخرج نحوَه عبد الرزاق في المصنّفِ (1) وابن أبي شيبة (2) وأخرج ابن سعد في الطبقات (3) أن عمر أحرقَ بابًا لسعد بن أبي وقاص.

وأخرج ابن عبد الحكم في فتوحِ مصرَ أن عمرَ هدم غرفةً لخارجةَ بنِ حذافةَ، وقال:"لقد أراد خارجةُ أن يطلع على عورات جيرانِه"(4). وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (5) أن عبد الرحمن بنَ عوف دخلَ ومعه ابنٌ له وعليه قميصٌ من حرير على عمرَ فشقَّ القميصَ.

وأخرج البخاريُّ في الأدب المفرد (6) أن عثمانَ بن عفانَ رضي الله عنه قال في النرد: "لقد هممتُ أن آمر بحزم من حطبٍ، ثم أرسلُ إلى بيوتِ الذينَ [7أ] هم في بيوتِه فأحرِّقها". وأخرج نحوَه البيهقيُّ في شعبِ الإيمان (7) عنه.

وأخرج سعيد بن منصور (8)، والبيهقيُّ (9) أن عثمانَ كان يأمرُ بذبحِ الحمامِ التي يُلْعَبُ بها.

وأخرج البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتاه ابنٌ له قد ألبستْهُ أمُّه قميصًا من حرير فشقَّه. وأخرج نحوَه ابنُ أبي شيبة (10) عنه.

(1) في مصنفه (6/ 77 رقم 10051).

(2)

في مصنفه (8/ 3).

(3)

(3/ 282).

(4)

انظر "جامع الفقه"(6/ 548 - 549).

(5)

في مصنفه رقم (4709).

(6)

رقم (1275) موقوف بإسناد حسن.

(7)

رقم (6511).

(8)

لم أجده.

(9)

في "شعب الإيمان" رقم (6536).

(10)

في مصنفه رقم (4709).

ص: 3954

وأخرج ابنُ أبي الدنيا (1)، والبيهقيُّ (2) عن ابن الزبير أنه خطبَ بمكةَ فقال: بلغني عن رجال يلعبونَ بلعبةٍ يقال لها النردشيرُ، وإني أحلق بالله لا أوتي بأحدٍ يلعبها إلَاّ عاقبته في شعره وبَشَرِهِ، وأعطيتُ سَلَبَهُ من أتاني به.

وأخرج ابن أبي الدنيا (3)، والبيهقي (4) عن ابن عمرَ أنه مرًّ بقوم يلعبونَ بالشاهِ فأحرقها بالنارِ. ويعني بالشاهِ الشطرنجَ، وأخرجَ البيهقيُّ (5) عن ابن عباس أنه أحرق آلةَ شطرنجٍ وجدَها في مال يتيمٍ.

فهذه أحاديثُ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآثارٌ عن جماعةٍ في أصحابه رضي الله عنهم فيها العقوبةُ لأهل المعاصي بالهدْمِ والإحراقِ والتمزيقِ، ولا فرقَ بينها وبين قطع نخلِ المُضارّ الذي استشكلَه السائلُ ـ ـ كثر الله فوائده ـ وأما نصوصُ أهلِ العلم من أئمةِ المذاهبِ وغيرهم في العقوبة للعصاة بإتلافِ أموالِهم بالهدمِ والإحراقِ والكسرِ والتمزيقِ، وأخْذِ أموالِهم وَوَضْعِها في مصارِفها فهي كثيرةٌ (6) جدًا، لا يتّسع لها

(1) في "ذم الملاهي"(ص73 رقم 85) بإسناد حسن.

(2)

في "السنن الكبرى"(10/ 216).

قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (1275).

(3)

في "ذم الملاهي"(ص80 رقم 101) بإسناد صحيح.

(4)

في "الشعب" رقم (6530) و"السنن الكبرى"(10/ 212).

(5)

في "الشعب" رقم (6518).

(6)

انظر "جامع الفقه" موسوعة الأعمال الكاملة لابن قيم الجوزية (6/ 548 - 549):

قال ابن تيمية: واجبات الشريعة التي هي حق الله تعالى ثلاثة أقسام:

عبادات: كالصلاة، والزكاة، والصيام، وعقوبات إما مقدرة وإما مفوضة وكفارات.

وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى بدني، وإلى مالي، وإلى مركب منهما. فالعبادات البدنية: كالصلاة والصيام.

فالعبادات المالية: كالزكاة، والمركبة: كالحج.

الكفارات المالية: كالإطعام، والبدنية، كالصيام، والمركبة كالهدي يذبح ويقسم. العقوبات البدنية: كالقتل والقطع، والمالية: كإتلاف أوعية الخمر. والمركبة: كجلد السارق من غير حرز، وتضعيف الغرم عليه، وكقتل الكفار وأخذ أموالهم.

العقوبات البدنية: تارة تكون جزاء على ما معنى، كقطع السارق، وتارة تكون دفعًا عن الفساد المستقبل، وتارة تكون مركبة، كقتل القاتل.

وكذلك المالية، فإن منها ما هو من باب إزالة المنكر. وهي تنقسم كالبدنية إلى إتلاف وإلى تغير، وإلى تمليك الغير.

فالأول: المنكرات من الأعيان والصور، يجوز إتلاف محلها تبعًا لها مثل الأصنام المعبودة من دون الله، لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها، فإذا كانت حجرًا أو خشبًا ونحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها، وكذلك آلات الملاهي ـ كالطنبور ـ يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء.

انر: "مجموع الفتاوى"(11/ 659)(28/ 119)(34/ 148)، "الاختيارات" للبعلي (515).

قال ابن قيم الجوزية: "وكذلك لا ضمان في تحريق المكتب المضلة وإتلافها".

قال المروزي: قلت لأحمد: استعرت كتابًا فيه أشياء رديئة، ترى أن أخرقه أو أحرقه؟ قال: نعم. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم بيد عمر كتابًأ اكتتبه من التوراة، وأعجبه موافقته للقرآن، فتمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ذهب به عمر إلى التنور، فألقاه فيه".

أخرجه ابن كثير في تفيسره (4/ 296) وأخرجه أحمد (3/ 387) بنحوه. قال الألباني في "الإرواء" حديث حسن (6/ 34 - 38 رقم 1589).

قال ابن القيم: فكيف لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما صنف بعده من الكتب التي يعارض لها من القرآن والسنة؟ والله المستعان.

وكل هذه الكتب المتضمنة لمخالفة السنة غير مأذون فيها، بل مأذون في محقها وإتلافها، وما على الأمة أضر منها. وقد حرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان، لمّا خافو على الأمة من الاختلاف، فكيف لو رأو هذه الكتب التي أوقعت الخلاف والتفرق بين الأمة؟!.

ص: 3955

هذا المجموعُ. وقد وقع في مؤلفاتِ جماعةٍ من الأئمةِ من أهلِ البيتِ وغيرِهم ما يغني عن التطويل.

وفي هذا المقدار كفايةٌ إن شاء الله.

حرره المجيبُ محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ.

ص: 3956