المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عقود الزبرجد في جيد مسائل علامة ضمد - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٨

[الشوكاني]

الفصل: ‌عقود الزبرجد في جيد مسائل علامة ضمد

(130)

16/ 1

‌عقود الزبرجد في جِيْد مَسَائِل عَلامةِ ضَمَدْ

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حقَّقته وعلَّقت عليه وخرَّجت أحاديثه

محفوظة بنت علي شرف الدين

أم الحسن

ص: 4031

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: "عقود الزبرجد في جيد مسائل علامة ضَمَد".

2 -

موضوع الرسالة: "فقه".

3 -

أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وبعد: فإنّها وصلت إلينا سؤالات من الأخ العلامة المحقق أحمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن أحمد الضّمدي

".

4 -

آخر الرسالة: "فرغ من تحرير هذه الأجوبة حسب نقل المجيب والمؤلف القاضي البدر عز الدين والإسلام وعين أعيان العلماء الأعلام محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما وكان الجواب والتحرير في شهر رمضان الكريم سنة 1207.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

عدد الصفحات: 18 صفحة.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها 8 أسطر.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.

9 -

الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 4033

عقودُ الزَّبَرْجَد في جيد مسائلِ علاّمة ضَمَد (1).

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله وحدهُ وصلاتُه وسلامُه على سيدنا محمدٍ وآله وبعد:

فإنها وصلت إلينا سؤالاتٌ من الأخ العلاّمة المحقق أحمد بن عبدا لله بن عبد العزيز بن أحمد الضَّمدي (2)، وسنذكرُ ههنا كلَّ سؤالٍ ونذكرُ جوابَه بعده.

قال حفظه الله ما لفظه:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على النبي الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد:

(1) ضَمَد: قرية من تهامة الشامة في المخلاف السليماني إليها يُنسب بنو الضمدي الذين عرفوا بالعلم في هذه البلاد. "

معجم البلدان والقبائل اليمنية" لإبراهيم أحمد المقحفي (ص397).

(2)

أحمد بن عبد الله الضمدي مولده في هجرة ضمد سنة 1174 ونشأ بها وحفظ بعض المتون المختصرة في فنون العلم وتفقه على علماء ضمد ولازم خاله القاضي عبد الرحمن بن حسن البهكلي ثم ارتحل في سنة 1197 إلى مدينة زبيد وأخذ عن الشيخ عبدا لله الخليل في النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق.

وقد ترجم له الشوكاني في "البدر الطالع" رقم (44): فقال: وقرأ ببلده على من بها من أهل العلم، ثم ارتحل إلى صنعاء فأخذ عن جماعة من أكابر علمائها كشيخنا السيد عب القادر بن أحمد ..... وعاد إلى وطنه، وقد برع في الفقه والحديث والعربية، ثم بعد وصوله إلى بلده عكف عليه الطلبة من أهلها ورغبوا في فأخذوا عنه فنونًا من العلم وعظم شأنه هناك وصار المرجع إليه في التدريس والإفتاء في ضمد وغيرها كصبيا وأبي عريش ثم راتحل إلى صنعاء رحلة أخرى فقرأ عليَّ في "شرح الغاية" وسألني بمسائل عديدة أجبت عليها بجواب سمَّيته:"العقد المنضدَّ في جيد مسائل علامة ضمد" ثم عاد إلى بلاده.

مات رحمه الله سنة 1222هـ.

انظر: "نيل الوطر"(1/ 135 - 136 رقم 59)، "نفح العود"(ص230)، "البدر الطالع" رقم (44).

ص: 4037

فهذه أسئلةٌ موجَّهة إلى مولانا وأخينا القاضي العلامة النِّحْرير الفهّامة بدر الإسلام، والقائد من كل فنٍّ بزمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني حفظه الله وأمته بحياته المسلمين آمين [1]:

ماذا يقول سيِّدي

زينةُ أهل اليمنِ

في فِعْلِ أصحابٍ لنا

يَرْوُون بعضَ السُّننِ

وعند ذكر المصطفى

المُجتبى المؤتَمن

صلّى عليه ربُّنا

والآلِ كلَّ الزمنِ

لا يُكْمِلون حقَّه

في الخطِّ يا ذا الفِطَنِ

من بعد تحْريرٍ له

فالرَّمزُ شأنُ المغتبنِ

هل قد روى هذا لنا

أيُّ إمامٍ بَيِّنِ

غير الذي تعليله

نقص البياض البيّن

فبيِّنوا الإذْنَ لنا

في رمزه بالسُّنن

وتركُ رمزنا له

مع لفظه بالألسُن

قد قاله ابنُ حنبلٍ

حافظُ قولِ المَدَني (1)

انتهى السؤال. وبهذا الجواب بلفظه حفظه الله وكَلأَه بعين عنايتِه أجاب المجيب:

أقولُ: بعَد حَمْدِ مَن

طوَّقَنا بالمِنَنِ

مُصَلِّيًا مسلّمًا

على النبيِّ المَدَني

وآلِه وصحبِه

حلاّلِ عُقْدِ المِحَنِ

لم يأتِ في الرَّمْز لنا

على مرور الزمنِ

كيفيّةٌ نسلُكُها

في واضحات السُّننِ

لأنه تواضُعٌ

ما بين أهلِ الفِطَنِ

(1) انظر: "ديوان الشوكاني"(ص353).

ص: 4038

ما فيه تكليفٌ لنا

ولا لزومُ سَننٍ

فأيُّ نقْشٍ ناقشٍ

يعرِفُه مَن يعتني

يقومُ بالمقصود مِن

بيانِ ما لمْ يَبِنِ

فذلك الرسمُ الذي

عليه ذا الأمرُ بُني (1)

وكتب آخِرَ هذا الجواب اعتذارًا لما كان تحريرُه في شهر رمضانَ لفظُه:

مباحثُ من يحرِّرُها نهارًا

بشهر الصومِ طائشةُ السّهام

فهذا يا ابنَ عبدِ الله حينٌ

تَضِيقُ لديه دائرةُ الكلام

فَمُدّ على المعايب منك سِتْرا

فسَتْرُ العَيبِ أخلاقُ الكِرام (2)

قد وقع من جماعة من المتأخرين الكلامُ على جواز اختصارِ الصلاةِ (3) على النبي صلى

(1) انظر: "ديوان الشوكاني"(ص354).

(2)

انظر: "ديوان الشوكاني"(ص354).

(3)

قال صاحب "معجم المناهي اللفظية"(ص188 - 189): فطريق السلامة والمحبة والأجر والتوقير والكرامة لنبي هذه الأمة هو الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره امتثالاً لأمر الله سبحانه، وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم ولهذا ينهى عن جميع الألفاظ والرموز للصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم اختصارًا منها: ص، صعم، صلعم، صلم، وصليو، صلع.

قال الأستاذ عبد القادر المغربي: وقد لاحظت في مخطوطة "النقلاء" أمورًا تدل على قدم المخطوطة واتصالها بالأولين من علمائنا. من ذلك أن جملة صلى الله عليه وسلم التي تذكر عقب اسم سيدنا الرسول لا تكتب في المخطوطة إلَاّ مرموزًا إليها بحروف أربعة: الصاد (من صلى) واللام من (الله) والياء من (عليه) والواو من (وسلم) هكذا (صليوا) لا بكلمة صلعم كما نفعل نحن اليوم.

وقد رأيت في (رسائل إخوان الصفا) رمزًا للتصلية بحروف ثلاثة فقط وهي (صلع) متصلة من دون ميم. أمَّا (صلعم) فيظهر أنها اخترعت في حدود التسعمائة للهجرة. جاء في شرح ألفية العراقي في مصطلح الحديث عند قول الناظم: (واجتنب الرمز لها والحذفا).

أي: اجتنب الرمز للتصلية النبوية وحذف حرفٍ من حروفها وإنما أتت بها في النطق والتابة كلها. ثم ذكر شارحها الشيخ زكريا الأنصاري أن الشيخ (النووي) نقل إجماع من يعتد بهم على سنية الصلاة على النبي نطقًا وكتابة، إذن لا يكون من السنة أن يرمز إليها بحرف ما.

ثم ذكر الشيخ الأنصاري أن الكاتب الذي كان أول من رمز للتصلية بحروف (صلعم) قطعت يده والعياذ بالله تعالى، ولا يخفى أن الشيخ الأنصاري توفي في القرن العاشر للهجرة سنة 926هـ.

انظر: "ألفية الحديث"(ص33) للزين العراقي شرح (أحمد شاكر)"فتح المغيث"(2/ 163).

ص: 4039

الله عليه وآله وسلم في نقش الكتابةِ إلى صورة لو وقع التلفُّظُ بحروفها المَزْبورةِ لم تكن صلاةً مُنتظِمَةً فمنهم من جوَّز ذلك ومنهم من مَنَعَه، ولم يذكُرْ أحدٌ لقوله مُستَنَدًا فلا نشتغِلُ بنقل كلامِهم فإنه مما لا ينتفِعُ به طالب الحقِّ. ولنتكلّم هاهنا على ذلك بما يلوحُ.

فنقول: أجمع المسلمون أن الصلاةَ على رسول الله التي تعبَّدَنا اللهُ بها في كتابه (1) وعلى لسان رسولِه هي اللفظَّيةُ، ومِن جُملة أفرادِها الصلاةُ عليه عند ذكْرِه يحتاج إلى دليل لأن التكاليفَ الشرعيةَ لا تثبتُ إلا بدليل، سواءٌ كانت واجبةً أو مندوبةً، والبراءةُ الأصليةُ مُستصحِبَةٌ في انتفاء كلِّ فرْدٍ من أفراد الأحكامِ التكلْيفية والوضْعية فلا يُنْتَقَلُ عنها إلا بعد انتهاضِ الناقِلِ بحيث يكون معلومًا أو مظنونًا لا بمجرد الشكِّ والتخْمين وسلوكِ طريقِ التحرِّي والأولوية [2]، وليس في كتاب الله جل جلاله ما يدل على التكليف بذلك ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولاً ولا فِعْلاً ولا تقريرًا (2).

أما عدمُ القولِ فلِعَدم وُجْدانِه بعد البحْثِ (3)، وأما عدمُ الفعلِ فظاهرٌ لأنه صلى الله

(1) لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

(2)

تقدم تعريف ذلك كله.

(3)

بل هناك حديث ضعيف:

أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(1/ 270 رقم 564) وابن عدي في "الكامل"(3/ 1100) عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "من كتب عني علمًا فكتب معه صلاة عليَّ لم يزل في أجرٍ ما قرئ ذلك الكتاب".

وأورده ابن عرَّاق في "تنزيه الشريعة"(1/ 260 رقم 32) وقال: "فيه أبو داود النخعي ـ واسمه سليمان بن عمرو، قال عنه ابن عدي: اجتمعوا على أنّه يضع الحديث. تُعقِّب ـ أي: ابن الجوزي ـ بأنه لم ينفرد به، بل تابعه نصر بن باب، أخرجه الحاكم. قلت: نصر تركه جماعة ووثقه أحمد، وقال ابن عدي: يكتب حديثه والله أعلم".

انظر: "تدريب الراوي" للسيوطي (2/ 74 - 75).

ص: 4040

عليه وآله وسلم كان أميًّا (1) لا يكتب (2)، وإن اتفق منه ذلك نادرًا فهو من باب إظهارِ المُعجزةِ كما ثبت في صحيح البخاريِّ (3) أن عليًّا لما امتنع من مَحْو اسمِه صلى الله عليه وآله وسلم أخَذَه ومَحاه، وكتب اسمَه ولم يُنْقَل أنه كتب الصلاةَ عليه بعد كَتْبِ اسمِه، فربما كان في هذا الفعلِ مُتَمسَّكٌ لعدم التعبُّدِ بالكَتْبِ المذكورِ، وغن كان لا يصفو عن شُرْب كَدَر النِّزاعِ لأنه يمكن أن يقال: إن ذلك موطنٌ وقع فيه المنْعُ من كتب صورة لفظِ رسول فكيف يمحى، ويثبت ما هو أشدُّ على قلوب الكفار وهو الصلاةُ من الله، فيمكن أن يكون الحاملُ على ترك كتْب الصلاةِ هو هذا، أو غاية هذا إنْ سُلِّم عدمُ انتهاضِ

(1) قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ

} [الأعراف: 157].

وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].

(2)

قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].

(3)

رقم (2698) ومسلم رقم (90/ 1783).

عن أبي إسحاق، قال:"سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية كتب عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، بينهم كتابًا، فكتب: محمد رسول الله فقال المشركون: لا نكتب: محمدٌ رسول الله لو كنت رسول الله لم نقاتلك، فقال لعليِّ: "امحهُ" فقال عليّ: ما أنا بالذي أمحاهُ، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبَّان السلاح، فسألوه: ما جلّبانُ السلاح؟ فقال: "القراب بما فيه".

وفي رواية لمسلم رقم (92/ 1783): "

فأمر عليًّا أن يمحاها فقال عليٌّ: لا. والله لا أمحاها. وكتب ـ يعني عليًّا: ابن عبد الله.

ص: 4041

ترْكِه على الترْك لا الاحتجاجُ بفعله على المطلوب.

وأما تقريرُه صلى الله عليه وآله وسلم فلم يُنْقل إلينا أن أحدًا من الصحابة كتب الصلاة عليه عند ذكْرِه واطلع على ذلك وقرَّره بل ربما كان الأمرُ بالعكس فإن اسمَه صلى الله عليه وآله وسلم كان يُكْتَب في المكاتبات والمهادَنات والإقطاعات ولم يُنقل أن أحدًا من الكُتَّاب كتب فيها بعد اسمِه الصلاةَ عليه وقد اطّلع صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك الترْكِ وقرَّره ولم يُنْكِرْه فكان دليلاً على عدم التعبُّد بذلك، وهذا الاستدلالُ وإن كان غيرَ مُحتاجٍ إليه من جهة القائلِ بالعدم لأنه في مقام المنْعِ والاستدلالُ وظيفةُ المُدّعي للمشروعية لأنه أثبَتَ ما الأصل (1) والظاهرُ عدمُه، لكنه لا يخلو عن فائدة.

إذا تقرر هذا تبيّن للسائل كثّر الله فوائدَه عدمُ التعبُّدِ بكَتْب الصلاةِ عليه (2) صلى الله

(1) هناك سقط لعله (زاد على الأصل).

(2)

قال النووي: "ينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاةوالتسليم على رسول الله عند ذكره، ولا يسأم من تكريره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك حرم حظًّا عظيمًا وما يكتبه فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه، فلهذا لا يتقيد فيه بالرواية، ولا يقتصر على ما في الأصل إن كان ناقصًا، وهكذا الأمر في الثناء على الله تعالى كعز وجل وتبارك وتعالى وما أشبه هذا.

قلت: وكذا الترضي والترحم على الصحابة والعلماء وساير الأخيار، وإذا وجد شيء من ذلك قد جاءت الرواية بشيء منه كانت العناية بإثباته أكثر، ثم ليجتنب في كتب الصلاة نقصين:

أحدهما: نقصُها صورة بأن يرمز إليها بحرفين أو نحو ذلك.

الثاني: نقصها معنى بأن يكتب صلى الله عليه وسلم من غير وسلم، أو يكتب عليه السلام، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

انظر: "تدريب الراوي"(2/ 74 - 77)، "التبصرة والتذكرة"(2/ 128 - 133).

وقال أحمد محمد شاكر في شرحه لألفية السيوطي (ص151): "

وذهب أحمد بن حنبل إلى أن الناسخ يتبع الأصل الذي ينسخ منه فإن كان فيه ذلك كتبه، وإلَاّ لم يكتبه، وفي كل الأحوال يتلفظ الكاتب بذلك حين الكتابة، فيصلي نطقًا وخطًّا إذا كانت في الأصل صلاة، ونطقًا فقط إذا لم تكن.

وهذا هو القول المختار عندي، محافظة على الأصول الصحيحة لكتب السنة وغيرها وكذلك اختاره في طبع آثار المتقدمين، وبه أعمل إن شاء الله".

وانظر: "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث"(ص130).

ص: 4042

عليه وآله وسلم عند ذكْرِه لا وجوبًا ولا ندْبًا لأنه حكمٌ شرعيٌّ لا يثبتُ إلا بدليل، ولا دليل.

ولو سُلّم أن الكَتْبَ أولى لأنه يكون من الإيقاظ للقارئ عند الغفْلةِ عن التلفظ بهذه السُّنةِ التي لا يَدَعُها إلا بخيل. كما أخرجه التِّرْمذِيُّ (1)، من حديث عليّ عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: حسنٌ صحيحٌ بلفظ: "البخيلُ من ذُكِرْتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ ولا يَرْغَب عنها إلَاّ شقي" كما أخرجه الطبرانيُّ (2) من حديث جابر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ: "شقيَ مَنْ ذُكِرتُ عنده فلم يُصَلِّ عليّ ولا يُحْرَمُ فضلَها إلا مُبعدٌ".

كما أخرجه الطبرانيُّ (3) عن كعب بنِ عُجْرةَ مرفوعًا بإسناد رجالُه ثقاتٌ كما قال العراقيُّ بلفظ: "إن جبريلَ قال: بَعُدَ من ذُكِرْتَ عنده فلم يُصَلّ عليك".

وأما ما أخرجه البزَّار (4) من حديث جابر. وفيه "رَغِمَ أنفُ من ذُكِرْتُ عنده فلم يصلّ عليّ"، ففي إسناده إسماعيلُ بنُ أبانَ ..................

(1) في "السنن" رقم (3546) وقال: حديث حسن صحيح غريب.

قلت: وأخرجه أحمد في "المسند"(1/ 202) والحاكم في "المستدرك"(1/ 549) وابن حبان في صحيحه (رقم 2388 ـ موارد) والنسائي في "السنن الكبرى" كما في تحفة الأشراف (3/ 66).

قال ابن حجر في "الفتح"(11/ 168)"لا يقصرُ عن درجة الحسن".

وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

(2)

عزاه إليه الحافظ في "الفتح"(11/ 168).

(3)

عزاه إليه الهيثمي في "المجمع"(9/ 166).

وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 156 - 154) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

وأورده ابن قيم الجوزية في "جلاء الأفهام" ونقل تصحيح الحاكم وسكت عليه.

(4)

لم أجده من حديث جابر

ص: 4043

العنَويُّ (1) كذَّبه يحيى بنُ مَعين وغيرُه. فعلى هذا التسليم الوفي بذلك يحصُل برسم النقْشِ الكتابيِّ الذي له إشعارٌ بالصلاة على أي صِفَةٍ كان لأن النقوشَ [3] الكتابيّةَ بأسرها أمورٌ اصطلاحيةٌ فأيُّ صورةٍ منها جرَى عليها الاصطلاحُ وحصَل بها التفهيمُ جاز (2) الاكتفاءُ بها إذا كانت تلك الصورُ متساويةَ الأقدامِ في حصول الفهمِ عند وقوعِ نظرِ الناظرِ عليها، وإن كان في بعضها مَظِنَّةُ لَبْسٍ على بعض الناظرين وبعضُها لا يَلْتبس على أحد كان تأثيرُها لا لَبْسَ فيه أولى.

(1) قال ابن عدي في "الكامل"(1/ 304): "عامة ما يرويه لا يتابع عليه إما إسنادًا وإما متنًا".

ومن الأحاديث التي تحث المسلم للصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:

1 -

(منها) ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (70/ 408) والترمذي رقم (485) وأبو داود رقم (1530) والنسائي رقم (1296) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلَّى عليّ واحدةً صلى الله عليه عشرًا".

(ومنها) ما أخرجه النسائي رقم (1295) وأحمد (4/ 29، 30) والحاكم في "المستدرك"(2/ 420) وابن حبان رقم (2391 ـ موارد).

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

وهو حديث صحيح بشواهده.

عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يومٍ والبِشرُ يُرى في وجهه، فقال:"إنَّه جاءني جبريل صلى الله عليه وسلم فقال: أما يرضيك يا محمد أن لا يصلي عليك أحدٌ من أمتك إلا سلَّمت عليه عشرًا".

(ومنها): ما أخرجه النسائي رقم (1282) وأحمد (1/ 387، 441، 452) والدارمي (2/ 317) وابن حبان رقم (2393 ـ موارد) والحاكم في "المستدرك"(2/ 421) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وهو حديث صحيح.

عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ لله ملائكةٌ سيَّاحين في الأرض يبلّغوني من أمتي السلام".

(2)

انظر بداية الرسالة.

ص: 4044

السؤال الثاني

قال السائل كثّر الله فوائده: كذلك في ركعتي التحيّة في الأوقات التي تُكْره النوافلُ فيها، هل الأَولى فعلُها أو ترْكُها؟

قال ابنُ دقيقِ العيد: لم يَجْزِم في شرح العُمدةِ (1) بما هو الحقُّ في المسألة وإنما ذكَر المعارضَةَ بين الأدلة. فلكم الفضلُ بإيضاح الحقِّ في المشروع، فإن النفسَ لم تزَل تتردَّدُ في الفعل والترْك.

الجواب

أقول: هذه المسألةُ م المضائق التي يتحيَّرُ عندها الفُحولُ من علماء الأصول، ولا يسَعُ المُنْصِفَ عند إمعان النظر فيها غيرُ التوقُّفِ. وبيانُ ذلك أن أحاديث الأمر بفعل التحية (2) تعُمُّ جميعَ الأزمانِ التي من جُملتها الأوقاتُ المكروهة، وأحاديثُ النّهي (3) عن

(1) أي "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام"(2/ 49، 50).

(2)

أخرج البخاري في صحيحه رقم (444) ومسلم رقم (714) وأبو داود رقم (467) والترمذي رقم (316) والنسائي (2/ 53) وابن ماجه رقم (1013) وأحمد (5/ 295).

عن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس". -

وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2097) ومسلم رقم (715): عن جابر بن عبد الله، قال: كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دينٌ فقضاني وزادني ودخلت عليه المسجد، فقال لي:"صل ركعتين".

(3)

أخرج مسلم رقم (293/ 831) وأحمد (4/ 152) وأبو داود رقم (3192) والترمذي (3/ 348 - 349 رقم 1030) وقال: حديث حسن صحيح والنسائي (1/ 275). وابن ماجه رقم (1519) والطحاوي في "شرح المعاني"(1/ 151) والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 454).

عن عقبة بن عامر الجُهني قال: ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلِّي فيهنَّ أو نقبر فيهنَّ موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمي للغروب حتى تغرب.

- وأخرج ابن ماجه رقم (1252) وابن حبان في صحيحه رقم (1540) والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 455).

عن أبي هريرة قال: سأل صفوان بن المعطل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إني سائلك عن أمر أنت به عالمٌ، وأنا به جاهلٌ. قال:"وما هو؟ " قال: هل من ساعات الليل والنهار ساعةٌ تكره فيها الصلاة؟ قال: "نعم إذا صليت الصبح، فدع الصلاة حتى تطلُعَ الشمس، فإنها تطلع بقرني الشيطان، ثم صلّ فالصلاة محضورةً متقبَّلة حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح فإذا كانت على رأسك كالرمح فدع الصلاة، فإن تلك الساعة تُسجر فيها جهنم وتفتح فيها أبوابها، حتى تزيغ الشمس عن حاجبك الأيمن، فإذا زالت فالصلاة محضورةٌ متقبلةٌ حتى تصلي العصر ثم دع الصلاة تى تغيب الشمس" وهو حديث صحيح.

- وأخرج البخاري في صحيحه رقم (581) ومسلم رقم (286/ 826) وأحمد (1/ 50) وابن ماجه رقم (1250) وأبو يعلى في مسنده (1/ 146 رقم 20/ 159) عن ابن عباس قال: حدثني رجال ـ وأعجبهم إليّ عمر ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى على صلاةٍ بعد الغداةِ حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس.

- وأخرج البخاري في صحيحه رقم (586) ومسلم رقم (288/ 827) والنسائي (1/ 277 - 278) عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس".

ص: 4045

الصلاة في أوقات مخصوصةٍ تعُمّ جميعَ الصلواتِ التي من جملتها صلاةُ التحية، فبين هذه الأحاديث عمومٌ وخصوصٌ من وجه يجتمع في مادة ويختص كلُّ واحدٍ منهما بمادة.

فالمادةُ التي تختصّ بها أحاديثُ التحيةِ هي الأوقاتُ التي لا كراهة فيها، والمادةُ التي تختص بها أحاديثُ النهي عن الصلاة هي الصلواتُ التي ليست بتحية ولا تعارُضَ في هاتين المادتين، إنما التعارضُ في مادة الاجتماعِ وهي فعلُ التحيةِ في الأوقات المنصوص على النهي عن الصلوات فيها، فأحاديثُ التحيةِ تدل على أنه يُشرَعُ فِعلُها فيها، وأحاديث النهي تدل على أنه لا يُشْرَع فعلُها فيها، وليس تخصيصُ أحدِ العمومين بالآخر أولى من تخيص الآخرِ به، فلم يبقَ إلا سُلوكُ طريقِ الترجيح (1) ولا سيبلَ إليه، لأن كلَّ

(1) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول"(ص907 - 908): ومن أعظم ما يحتاج إلى المرجحات الخارجة إذا تعارض عمومان بينهما عمومٌ وخصوصٌ من وجه وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها" مع نهيه عن الصلاة في الأوقات المكروهة فإنّ الأول عامٌّ في الأوقات خاصٌّ في الصلاة المقتضية.

والثاني عام في الصلاة خاصٌ في الأوقات، فإن علم المتقدِّم من العمومين والمتأخر منهما كان المتأخر ناسخًا عند من يقول: إن العامّ التأخر يسنخ الخاص المتقدّم وأما من لا يقول بذلك فإنه يعمل بالترجيح بينهما، وإن لم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب الرجوع إلى الترجيح على القولين جميعًا بالمرجّحات المتقدمة.

وإذا استويا إسنادًا ومتنًا ودلالةً رجع إلى المرجحات الخارجة فإن لم يوجد مرجحٌ خارجيّ وتعارضا من كل وجه فعلى الخلاف المتقدم هل يخيَّرُ المجتهد في العمل بأحدهما أو يطرَحُهما ويرجع إلى دليل آخر إن وجد الذي فيه ذكر الوقت ولا وجه لذلك.

قال ابن دقيق العيد: هذه المسألة من مشكلات الأصول والمختار عند المتأخرين الوقف إلا بترجيح يقوم على أحد اللفظين بالنسبة إلى الآخر، وكأن مرادهم الترجيح العامّ الذي لا يخص مدلول العموم كالترجيح بكثرة الرواة وسائر الأمور الخارجة عن مدلول العموم.

ثم حكى عن الفاضل أبي سعيد محمد بن يحيى أنّه ينظر فيهما فإن دخل أحدهما تخصيصٌ مجمعٌ عليه فهو أولى بالتخصيص، وكذلك إذا كان أحدهما مقصودًا بالعموم رُجِّح على ما كان عمومه اتفاقيًا.

قال الزركشي في "البحر"(6/ 146): وهذا هو اللائق بتصرف الشافعي في أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة فإنه قال: لما دخلها التخصيص بالإجماع في صلاة الجنازة ضعفت دلالتها فتقدم عليها أحاديث المقضية وتحية المسجد وغيرهما.

وانظر: "البحر المحيط"(6/ 145)، "الإحكام" للآمدي (4/ 284 - 173).

ص: 4046

واحدٍ من العمومين في الصحيحين وبطرق متعدّدةٍ، وكلُّ واحدٍ منهما مشتملٌ على النهي أو النفي الذي في معناه فانتفى من هذه الحيثية الترجيحُ بصحّة المتْنِ والسندِ وتعدُّدِ الطرقِ والاشتمالِ على دليل الحصر. فإن أمكن الترجيحُ بغير ذلك فذاك.

وقد ذهب إلى التمسك بعموم أحاديثِ التحية الشافعيةُ (1)، وإلى التمسك بعموم أحاديثِ النهي الحنفيةُ (2) والليثُ والأوزاعيُّ، وكلا المذْهبين مشتمِلٌ على محض التحكُّمِ لِما عرفت.

(1) انظر "المجموع"(4/ 170).

(2)

انظر: "بدائع الصنائع"(1/ 295 - 296)، "المجموع"(4/ 171 - 173).

ص: 4047

وقد احتجَّت الشافعيةُ على جواز فعلِ ذواتِ الأسباب في أوقات الكراهة بحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلّى بعد العصر ركعتي الظهر (1)، وهو مع كونه أخصّ من الدعوى لا ينتهض للاحتجاج به على المطلوب، لِما ثبت عند أحمدَ (2) وغيرِه (3) أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لمّا قالت له أمّ سَلَمَة: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ [4] قال: لا ففي ذلك إشعارٌ بأن فعلَهما في ذلك الوقتِ مختصٌّ به (4) ولو سُلِّم عدمُ الاختصاص لَما كان في ذلك إلا جوازُ قضاء سنة الظهر لا جوازُ جميع ذوات الأسباب، فيقتصِرُ على ذلك.

فإن قيل: لم لا يُلْحق بقيةُ ذواتِ الأسبابِ بهاتين الركعتين ويُخصَّصُ عمومُ النهي بهذا القياس؟.

قلنا: بعد تسليمِ صحّةِ هذا القياس (5) يصلحُ للتخصيص عند من جوّز التخصيص به، ولكن الشأن فيما قدمنا من الدليل القاضي بالاختصاص به صلى الله عليه وآله وسلم، وحديثُ أمِّ سَلَمَة، وإن ضعّفه .................................

(1) أخرجه البخاري رقم (1233) ومسلم رقم (297/ 834) وأحمد (6/ 313) وأبو داود رقم (1273) وفيه: قال: "يابنة أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر وإنّه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر فهما هاتان".

(2)

في "المسند"(6/ 315).

(3)

كابن حبان رقم (623 ـ موارد) وأبو يعلى في "مسنده"(12/ 457 رقم 150/ 7028) بإسناد صحيح.

وذكره الهيثمي في "المجمع"(2/ 223 - 224) وقال: قلت: هو في الصحيح خلا قولها: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال "لا" رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه. ورجال أحمد رجال الصحيح.

(4)

ودليله ما أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (593) ومسلم رقم (301/ 835) من حديث عائشة قالت: "وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيني في يومٍ بعد العصر إلَاّ صلى ركعتين".

(5)

ذهب الجمهور إلى جواز التخصيص بالقياس وقال الرازي في المحصول (3/ 96) وهو قول أبي حنيفة والشافعيُّ ومالك وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرًا.

انظر: "إرشاد الفحول"(ص525)، "المسودة"(ص119).

ص: 4048

البيهقيُّ (1) فهو يؤيده ما أخرجه أبو داودَ (2) عن عائشةَ أنها قالت: كان يصلّي بعد العصرِ وينهى عنها.

نعم يُخَصَّصُ عمومُ النَّهي بحديث يزيدَ بن الأسود عند الخمسة (3) إلا ابن ماجه، قال: شهِدتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم حَجَّتَه فصلّيتُ معه صلاةَ الصُّبْحِ في مسجد الخَيْف، فلما قضى صلاتَه انحرف فإذا هو برجلين في أُخرى القوم لم يُصلِّيا فقال: عَليَّ بهما، فجيء بهما ترعُدُ فرائصُهما فقال: ما منعَكُما أن تُصلِّيا، فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلَّينا في رحالنا قال: فلا تفعلا، إذا صلّيتُما في رحالكهما ثم أتيتُما مسجد جماعةٍ فصلِّيا فإنها لكما نافلة".

ففي هذا دليل على جواز فعل هذه النافلة المخصوصةِ مع الجماعة بعد صلاة الصبح، ويلحق بهذا الوقت بعد العصر، لأنهما سيان في ذلك.

ولا يصحُّ إلحاقُ صلاة من دخل المسجد في ذلك الوقت وقد صلَّى، ولم يكن ثمَّ جماعةٌ بصلاته مع الجماعة، لظهور الفارق المانع مع الإلحاق، وهو أنَّ ترك الدخول مع الجماعة، والقعود عند قيام الصلاة، أمر منكر يتشنعه المطلع عليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للرجلين: أمسلمان أنتما؟ ".

ومن المخصصات لعموم النهي، حديث ابن عباس عند الدارقطني (4)، ..........................................

(1) في "السنن الكبرى"(2/ 457) وهو حديث ضعيف.

(2)

في "السنن" رقم (1280) ورجال إسناده ثقات، ولكن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه. فالحديث ضعيف والله أعلم.

(3)

أخرجه أبو داود رقم (575) والنسائي (2/ 112 رقم 858) والترمذي رقم (219) وأحمد في "المسند"(4/ 160 - 161).

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وهو حديث صحيح.

(4)

في "السنن"(1/ 425 رقم 10).

ص: 4049

والطبراني (1)، وأبي نعيم في "تاريخ أصبهان"(2) والخطيب في تلخيصه (3)، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا بني عبد المطلب، أو يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا يطوف بالبيت، ويصلي، فإنه لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، إلَاّ عند هذا البيت، يطوفون ويصلون".

وهذا الحديث، وإن كان الحافظ في التلخيص (4) قال: إنَّه معلول فقد شهد له ما عند أهل السنن (5) وابن خزيمة (6) وابن حبان (7)، والدرقطني (8)، من حديث جبير بن مطعم، وقد وهم المجد ابن تيمية في المنتقى (9) فنسبه إلى مسلم، لأنَّه قال: رواه الجماعة كلهم إلَاّ البخاري.

(1) في "الصغير"(1/ 55 رقم 55 ـ الروض الداني) وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 229) وقال: رواه الطبراني في الصغير وفيه سليم بن مسلم الخشاب وهو متروك.

(2)

(2/ 273).

(3)

عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص"(1/ 190).

(4)

(1/ 190)

(5)

أبو داود رقم (1894) والنسائي (5/ 223 رقم 2924) وابن ماجه (1/ 398 رقم 1254) والترمذي (3/ 220 رقم 868) وقال: حديث حسن صحيح.

(6)

في صحيحه (2/ 263 رقم 1280).

(7)

في صحيحه (3/ 46 رقم 1550).

(8)

في السنن (1/ 425 رقم 7، 8).

قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 70) والبيهقي (2/ 461) وأحمد (4/ 80) والحاكم (1/ 448) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني في "الإرواء"(2/ 239).

والخلاصة أن حديث جبير بن مطعم صحيح.

قلت: ليس المراد من هذا الحديث إباحة الصلاة في الأوقات المذكورة، بل هي نهي لبني عبد مناف من التعرض للمصلي في اي وقت شاء لما كانوا يزعمون لأنفسهم من السلطان على البيت وعلى زائريه، فهو حجر عليهم كف به أيديهم عن التعرض للناس.

(9)

رقم (994) بتحقيقي.

ص: 4050

ويشهد له أيضًا، ما عند الدارقطني (1) من حديث جابر، وما عند ابن عدي (2) من حديث أبي هريرة.

واعلم أن الإشكال الذي ذكرناه سابقًا، لا يخفى بتحية المسجد، بل هو كائنٌ في كل مكان دليلُه أعمُّ من أحاديث النهي من وجهٍ وأخصُّ من وجه كأحدايث [5] قضاءِ الفوائت (3) والصلاةِ على الجنائز (4) ............................

(1) في "السنن"(1/ 424 رقم 3، 4).

(2)

في "الكامل"(3/ 1225) في ترجمة سعيد بن أبي راشد، وقال ابن عدي: لا يتابع عليه.

(3)

(منها): ما أخرجه البخاري رقم (597) ومسلم رقم (684) والترمذي رقم (178) وأحمد (3/ 269) وأبو داود رقم (442) والنسائي (1/ 293 رقم 613).

عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسيَ صلاةً فليُصلِّ إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].

(ومنها) ما أخرجه مسلم رقم (680) والنسائي رقم (619) وابن ماجه رقم (697) وأبو داود رقم (435) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} "[طه: 14].

(ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (443) والبخاري رقم (3571 مطولاً ومسلم رقم (682): عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان في مسير له فناموا عن صلاة الفجر فاستيقظوا بحرِّ الشمس، فارتفعوا قليلاً حتى استقلَّت الشمس، ثم أمر مؤذنًا فأذّن فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم أقام، ثم صلى الفجر".

(4)

(منها) ما أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 229 رقم 20) عن محمد بن أبي حَرْمَلَة، مولى عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حُويطب، أنَّ زينب بنت أبي سلمةَ تُوفيَّت، وطارقٌ أمير المدينة. فأُتي بجنازتها بعد صلاة الصُّبح، فوضعتْ بالبقيع. قال: وكان طارقٌ يُغلِّسُ بالصُّبح.

قال ابن أبي حَرْملَة: فسمعتُ عبد الله بن عمر يقول لأهلها: إمَّا أن تصلّوا على جنازتكم الآن، وإمَّا أنْ تتركوها حتى ترتفع الشمس.

وإسناده صحيح.

(ومنها): ما أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 229 رقم 21): عن نافع ـ مولى ابن عمر ـ أن عبد الله بن عُمر قال: "يُصلِّي على الجنازة بعد العصر، وبعد الصبح إذا صلّيا لوقتهما".

إسناده صحيح.

وانظر: "فتح الباري"(3/ 190).

ص: 4051

وصلاةِ الكسوفِ (1) والركعتين عقيب التطهُّر وصلاة الاستخارة.

وما ورد هذا المورِدَ فالوقْفُ فيه متعيِّنٌ حتى يقعَ الترْجيحُ بأمرٍ خارجٍ وينبغي بالنسبة إلى مسألة السؤالِ تجنُّبُ دخولِ المساجدِ في أوقات الكراهةِ لأن الأدلةَ الصحيحةَ قد دلَّتْ على وجوب فعل التحية وتحريمِ ترْكِها وقد بسطْنا الكلامَ على ذلك في رسالة مستقلَّة (2)، وأحاديثُ النهي دلّت على تحريم مطْلق الصلاةِ (3) في تلك الأوقات فالداخل فيها يقع في أحد المحذورَيْنِ لا مَحالة.

(1) انظر الرسالة رقم (91).

(2)

"الرد على القائل بوجوب التحية".

(3)

ما اشتهر في كتب الفقه من المنع عن الصلاة بعد العصر مطلقًا، ولو كانت الشمس مرتفعة نقية، مخالف لحديث علي وحديث أنس وحجتهم في ذلك الأحاديث المعروفة المتقدمة في النهي عن الصلاة بعد العصر مطلقًا، غير أن الحديثين الآتيين يقيدانتلك الأحاديث: عن علي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُصلّى بعد العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة" وهو حديث صحيح.

أخرجه أبو داود رقم (1274) والنسائي رقم (573) وابن حبان رقم (1560) وابن خزيمة رقم (1284) وأبو يعلى رقم (581) وابن الجارود في "المنتقى" رقم (281) والبيهقي (2/ 458) وأحمد (1/ 129، 141).

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "لا تصلُّوا عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها فإنها تطلع وتغرب على قرن شيطان، وصلُّوا بين ذلك ما شئتم".

أخرجه أبو عيلى في "مسنده"(7/ 220 رقم 1461/ 4216) بإسناد حسن من أجل أسامة بن زيد وهو الليثي.

ويشهد له الحديث المتقدم فهو حديث صحيح.

ص: 4052

السؤال الثالث

قال: كذلك مسألة بيع الرجاء (1)، قد اختلفت فيها الأنطارُ فمِن قائلٍ بالصِّحَّة، ومِن قائل بِخلافه.

وهل المجيزُ والمُصحِّحُ لبيع الشيءِ بأكثرَ من سِعْر يومِه لأجل النَّسا يُصحِّحُه أم لا؟

فإن الإمامَ عزي الدين بنى على بطلانه مطلقًا، وعلَّله بوجْهين. فأوضِحوا ما ينبغي الاعتماد عليه.

وهل يُفرَّق بين أن يكون بالقيمة أو بدونها وبين أن يكونَ متوصِّلاً إلى العلة أم لا فإن هذه المسألة قد عمَّتْ بها البلوى فإنه لا يكاد يبيعُ أحدٌ من أرضه إلا بالتزامٍ مطلقٍ أو مؤقّتٍ انتهى.

الجواب

قال حفظه الله: أقول: بيعُ الرجاءِ (2) يقع على صُورٍ منها ما يُقْطَع ببُطلانه وهو ما كان المقصودُ منه التوصُّلَ إلى الزيادة على المِقْدار الذي وقع فيه الفرضُ وذلك نحوُ أن يُريدَ الرجلُ أن يستقرِضَ مائة درهم إلى أجل ولك نالمُقْرِض لا يرضى إلا بزيادة فيُريدان الخُلوص من إثم الزيادة في القَرْض، فيبيع منه أرضًا بتلك المائة الدِّرْهم ويجعلُ له الغَلَّة ينتفع بها عِوَضًا عن المائة الت يأقرضها، وليس المرادُ البيعَ والشراءَ الذي أذِنَ اللهُ فيه، بل إنكارُها لأنها أفضَتْ إلى ما لا يحِلّ شرعًا وهو الرِّبْحُ في القرض واستجلابُ النفْعِ به، وقد منع رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم مِن قَبول الهديّة ونحوها من المُستقرِض فكيف بمثل هذا الذي وقع به التواطؤُ من أول وهْلة!

(1) انظر الرسالة رقم (115).

(2)

الرجاء: وهو بيع الشيء بالتأخير.

انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف "للمناوي (ص698)، "القاموس الفقهي"(ص351).

ص: 4053

أخرجه ابن ماجه (1) عن أنسٍ أنه سُئل عن الرجل يُقرض أخاه المالَ فيُهدي إليه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أقرض أحدكم قرضًا فأَهْدى إليه أو حمَلَه على الدَّابة فلا يركَبها، ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك".

وأخرج البخاريُّ في تاريخه (2)[6] من حديث أنسٍ أيضًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا أقْرَض فلا يأخُذ هدية" رواه البخاري في تاريخه.

وعن أبي بَرْدَةَ بن أبي موسى قال: قدِمتُ المدينة فلقيتُ عبدَ الله بن سلام فقال لي إنك بأرض فيها الرِّبا فاشٍ فإذا كان لك على رجل حقٌّ فأهدَى إليك حِمْلَ تِبْنٍ أو حِمْلَ شعيرٍ أو حِمْلَ قتٍّ فلا تأخُذْه فإنه ربا. رواه البخاري في صحيحه (3)

ولا يعارِضُ هذا ما ورد في جواز ما وقع من المُسْتقرِض من الزيادة بعد القضاء بطيبةٍ من نفسه بلا مُواطأةٍ ولا يطمع في التنفيس في الأجل أو التالفِ أو نحوِ ذلك كما أخرجه

(1) في "السنن" رقم (2432) وفي إسناده يحيى بن إسحاق الهُنائي وهو مجهول.

"التقريب"(2/ 342 رقم 13).

وفي إسناده أيضًا عتبة بن حميد الضبي وقد ضعفه أحمد.

"الميزان"(3/ 28 رقم 5470).

والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو أيضًا ضعيف في غير الشاميين وشيخه الضبي كوفي.

"التقريب"(1/ 73 رقم 541).

انظر: "مصباح الزجاجة"(2/ 48 رقم 860).

والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.

(2)

لم أجده في التاريخ.

(3)

رقم (3814).

قال الحافظ في "الفتح"(7/ 131): "قَتّ: بفتح القاف وتشديد المثناة وهو علف الدواب. قوله (فإنّه ربا) يحتمل أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام، وإلا فالفقهاء على أنه إنما يكون ربا إذا شرطه، نِعمَ الورعُ تركه".

ص: 4054

الشيخان (1) من حديث أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سِنٌّ من الإبل فجاءه يتقاضاه، فقال النبيُّ:"أعطوه" فطلبوا سِنَّه فلم يجدوا إلا سنًّا فوقَها فقال: "أعطوه" فقال: "أوفَيْتَني أوفاك الله فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن خيرَكم أحسنُكم قضاءً" وما أخرجه أيضًا الشيخان (2) من حديث جابر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان لي عليه دَيْنٌ، فقضاني وزادني.

وأما ما أخرجه الحارثُ بنُ أبي أُسامةَ في مسنده (3) من حديث عليّ عليه السلام قال: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قَرضٍ جرَّ منفعةً. ففي إسناده سوّارُ بنُ مصعب، وهو متروكٌ (4) ورواه البيهقيُّ (5) عن فُضالة بن عبيد موقوفًا بلفظ "كل قرضٍ جرَّمنفعةً فهو وجهٌ من وجوه الربا" ورواه أيضًا في سننه الكبرى (6) من قول ابن مسعود وأُبيّ بن كعب وعبدِ الله بن سلام بن عباس ولم يصِحَّ في ذلك عن النبي شيء كما قال عمرُ بنُ زيدٍ في المُغني (7). ووهِم إمامُ الحرمين (8) فقال إنه صحَّ وتبعَه الغزاليُّ (9) ولا جَرَمَ فليس لهما بعلم الرواية خبرة، فإذا كان المقصودُ بالبيع هو ما قدّمنا فلا صِحَّة له

(1) البخاري رقم (2305) ومسلم رقم (1601) وقد تقدم.

(2)

البخاري رقم (2394) ومسلم رقم (71/ 715).

(3)

عزاه إليه ابن حجر في "التلخص"(3/ 34).

(4)

انظر: "الميزان"(2/ 246)، "الجرح والتعديل"(3/ 34).

(5)

في "السنن الكبرى"(5/ 350).

(6)

(5/ 349 - 350).

(7)

اسمه الكامل "المغني عن الحفظ والكتاب" وقد قام بخدمة هذا الكتاب الشيخ أبو إسحاق الحوين الأثري مرتين.

في المرة الأولى سماه "فصل الخطاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب"

وفي المرة الثانية سماه "جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب"(2/ 403 رقم 56).

(8)

تقدمت ترجمته.

(9)

تقدمت ترجمته.

ص: 4055

لأنه لم يقع التراضي بين المُتابعَيْن الذي شرطه الله عز وجل لعدم الانسلاخ، وإنما أراد حيلةَ يُحِلان بها ما حرّم الله فيُضرَب بها في وجوههما ويُحْكم ببُطلان البيعِ، وتُرَدّ الغَلاّتُ المَقْبوضةُ ويُرد الثمن بصفته بلا زيادة ولا نُقصان.

ومنا لصور التي يقع عليها بيعُ الرّجا أني بيع الرجلُ من الرجل قاصدًا للبيع منسلخًا عن المبيع غيرَ متحيِّلٍ محرّم إلا أنه جعل لنفسه الخيارَ وإن تمكن من ردّ الثمن إلى وقت كذا فهذا بيعٌ مصحوبٌ بخيار شرطٍ (1) ولا بأس فيه، ولا تحري في هذا ما قال الإمامُ عزُّ الدين أن يَقَع الرجا مؤقّتًا في الحقيقة لأن البائع إذا ردّ مثل الثمنِ استرجعه رضي المشتري أم كرِه، لأنا نقول هذا شأنُ خيار الشرط الذي ينفرد به البائعُ وهذا منه كما صرح بذلك المحققون وهو لا يلتزم بُطلان كلّ بيع شرَطَ فيه الخيارَ البائعُ وقد [7] دلت الأدلّةُ على صِحّة الذي يتفرّق البائعان وبينهم صفقةُ خِيار.

وأما قولُكم: هل المجيزُ لبيع الشيءِ إلخ.

فنقول: قد رُوي عن المؤيَّد بالله (2) القولُ بجواز بيعِ الرَّجا على الصورة المتقدِّمة تخْريجًا له من تجويز بيعِ الشيءِ بأكثر من سعر يومِه لأجل النَّسا هو الجوازُ كما حقَّقْنا ذلك في رسالة مستقلَّة (3).

وأما قولُكم: هل يُفرَّق بين كونِه بالقيمة أو بدونها فنقول: لا فَرْقَ باعتبار الصورة الأولى لأن الكلّ باطلٌ لتلك العِلَّة، وكونُه بالقيمة لا يرفع البُطلان.

وأما باعتبار الصورة الثانية ففائدتُه أنها إذا انقضت المُدَّةُ ونَجزَ البيعُ وادّعى البائعُ أنه إنما باع بذلك الثمنِ الدُّونِ لرجاء عَودِ المبيعِ إليه ووجدْنا قيمةَ المبيعِ أزيدَ من الثمن فهل يستحِقُّ التَوْفِيةَ أم لا؟.

(1) انظر الرسالة رقم (110).

(2)

تقدمت ترجمته.

(3)

رقم (114) وانظر الرسالة رقم (115).

ص: 4056

الظاهرُ أنه يستحِقُّها لأن الرضا الذي شَرَطَه الله في حل التبايُع لا يحصل إلا بذلك إن ظهر لنا صدْقُ دَعْواه لأن ذلك يكشف عن عدم الرضا المُعتَبر، وأما مجرَّدُ التعلُّلِ والتَّمحّلِ وإظهار الدعاوي الباطلة تأسُّفًا على مُفارقة المَبيع ونَدمًا على خروجه من المُلْك فلا يُلْتَفتُ إلى شيء من ذلك.

ص: 4057

السؤال الرابع

قال: كذلك إذا اشتهر عند النساء أن فلانة رضيعة لفلان ولم يحصل معه الظن الراجح بل حصل التردد فهل يحرم عليه نكاحها ويكون الحكم كما في خبر الأمة السوداء الثابت في الصحيح (1)، إلا أن المرأة قد زعمت أن قد أرضعتهما، وأما هؤلاء النساء فإنما هو رجم بالغيب انتهى.

الجواب

قال حفظه الله أقول: ينبغي أني ينظر في تلك الشهرة الكائنة عند النساء بالرضاع: إلى أي أمر تستند؟ فإن أمكن الوقوف على مستندها عمل على حبسه، وإن لم يكن الوقوف على مستندها فلا ينبغي الاشتغال بهاولا التعويل عليها فإن كثيرًا من الاشتهارات لا مستند لها إلا مجرد الكذب والتخيلات الفاسدة، لا سيما الناقصات عقلا ودينا (2)،

(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (5104) ومسلم رقم (3603) والترمذي رقم (1151) والنسائي (6/ 109) وأحمد (4/ 7) والدارمي (2/ 157 - 158) والطيالسي في مسنده (ص190 رقم 1337) والبيهقي (7/ 463).

عن عقبة بن الحارث، قال وقد سمعته من عقبة لكني لحديث عبيد أحفظ قال: تزوجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت: أرضعتكما، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: تزوجت فلانة بن فلان فجاءت امرأة سوداء. فقالت لي: إني أرضعتكما. وهي كاذبة، فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه. قلت: إنها كاذبة. قال كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما، دعها عنك" وأشار إسماعيل بن إبراهيم بإصبعيه السبابة والوسطى يحكي أيوب.

(2)

أخرج مسلم في صحيحه رقم (132/ 79). عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو في فطر ـ إلى المصلى فمر على النساء فقال: "يا معشر النساء تصدقن، فإني أريتكم أكثر أهل النار" فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" قلنا: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" قلت: بلى قال: "فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى قال: فذلك من نقصان دينها".

ص: 4058

فإنه يَنْفُقُ على عقولهن من الأكاذيب ما لا ينْفقُ على غيرهن.

نعم إذا وقع الإخبارُ مِن عدْلة بأ، ها أرضعَتْ فلانًا وفلانةً أو نحوُ ذلك وجب العمل بهذا الخبر لحديث عُقْبَة بن الحارث عند البخاري (1) أنه تزوَّج أمّ يحيى بنت أبي إهاب فجاءت امرأةٌ فقالت: قد أرضعتُكما، فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كيف وقد قيل! ففارقَها عُقبةُ ونكحَتْ زوجًا غيرَه وفي هذا خلافٌ (2) بين الصحابة فمَن بَعدَهم، ولكن الحقَّ أن هذا احلديث الصحيح يخصِّصُ عمومَ الأدلة القاضية باعتبار الشاهِدَين كما خصَّصها عند أكثر المخالفين قَبولُ شهادة المرأة (3) في عورات النساء.

وحملُ هذا الحديث على الاستحباب والتحرُّزِ عن مظانّ الاشتباه يرُدّه ـ مع كونه في بعض الروايات، وهو يُجيبُه فيجميع ذلك بقوله: كيف وقد قيل: وفي بعضها دعْهَا. وفي رواية للدارقطني (4): لا خيرَ لك فيها ولو كان من باب الاحتياط لأمره بالطلاق.

وربما يعتذر من قُصر باعُه عن إدراك الحقائق عن عُهدة هذا الحديث بالقاعدة المعروفة في الفقه وهي عدم قبول الشهادة المقررة لقول الشاهد أو فِعْلِهِ، وهي عند من له إلمامٌ بالبحث والكشفِ مَبْنيةٌ على غير أساس، ترُدُّها أدلةُ هذا الحديث.

(1) تقدم آنفًا.

(2)

قال ابن قدامة في "المغني"(14/ 134 - 135): لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في قبول شهادة النِّساء المنفردات في الجملة. قال القاضي: والذي تُقبل فيه شهادتُهنَّ منفردات خمسة أشياء؛ الولادة، والاستهلال، والرّضاع. والعيوب تحت الثِّياب كالرَّتق والقرن والبكارة الثيابة والبرص وانقضاء العدّة. وعن أبي حنيفة: لا تقبل شهادتهن منفردات على الرّضاع لأنّه يجوز أن يطلّع عليه محارم المرأة من الرِّجال. فلم يثبت بالنّساء مفردات كالنِّكاح.

(3)

انظر "المغني"(14/ 134 - 137).

(4)

في "السنن"(4/ 177 رقم 19).

ص: 4059

أحدُها: تقييد القَبول لخبر المرأة بإفادته الظنَّ للزوج فيرُدُّه تركُه [8] صلى الله عليه وآله وسلم لاستفصال عقبة بن الحارث في هذه الواقعة فإنه لم يقل له هل أفادك هذا الخبر ظنًّا؟ ولو كان ذلك معتبرًا لبيَّنة له لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز عليه، حتى قيل أنه مُجْمعٌ عليه (1)، على أن حصول الظنّ لازمٌ لإخبار الآحاد (2)، وانفكاك الملازمة لا يكون إلا لعلة في أصل الخبر أو المُخْبر.

وأما اعتذار الجلال في "ضوء النهار"(3) عن هذا الحديثِ بأنه مخالفٌ للأصول فيجب الجمعُ بينه وبينها بحمله على الندْب.

فنقول له: ما تريد بالأصول؟ هل الأدلةُ الدالةُ على اشتراط شاهدَين أو رجلٍ وامرأتين أو رجلٍ ويمينِ المدّعي فلا معارضة بينها وبين هذا الحديث لأنه خاصٌّ وهي عامةٌ. أو تريد بالأصول غيرَ ذلك فما هو؟

وكثيرًا ما يشتهر بين النساء ما لا يُجوِّزه عقْلٌ ولا نقلٌ، ولقد وقع في صنعاء مع

(1) قال ابن السَّمعانِّي: لا خلاف بين الأمة في امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل ولا خلاف في جوازه إلى وقت الفعل لأن المكلف قد يؤخر النظر وقد يخطئ إذا نظر فهذان الضربان لا خلاف فيهما. "

البحر المحيط" (3/ 494)، "اللمع" (ص29)، "تيسير التحرير" (3/ 174).

(2)

قال الشوكاني في "السيل الجرار"(2/ 521): "

قد تعبدنا الله سبحانه بالعمل بالظنّ ولا سيما في مثل النكاح الذي يترتب عليه الخطر العظيم من اسحلال فرج حرّمه الله. ولحوق نسبٍ بغير من هو له. وقد ثبت التعبد بالعمل بأخبار الآحاد وهي لا تفيد إلا الظنّ ولا وجه لتقييد الظنّ هنا بالغياب بل يجب العمل بكل ظن يصدق عليه مسمى الظنّ إذا لم يكن مجرد شكوك ووسوسة ومقتضى العمل بالظن هو إخبار الزوج المُقِرّ بحصول الظنّ له ".

(3)

(3/ 113). وقال الشوكاني في "السيل الجرار"(2/ 512): تعقيبًا على حديث عقبة بن الحارث: "وهذا النهي والأمر يدلان أوضح دلالة على وجوب العمل بقول المرضعة، ولم يصب من تكلف لرد هذه السنة بما لا يسمن ولا يغني من جوع".

ص: 4060

نسائها في بعض السنين القريبة قضيةٌ غريبةٌ هي أنه شاع عندهُنّ شيوعًا لا يكاد يخفى على أن القيامةَ ستقوم يوم الجُمعة من الأسبوع الفلاني، ثم إنهن ذلك اليومَ بادَرْن بالغداة في أول اليوم ولبس كثيرٌ منهن ثيابَ الزِّينة وانتظرن لقيام القيامة، وشاهدْنا من ذلك ما يُتعجَّب منه، وأخبرنا جماعةٌ من الرجال عن نسائهم بغرائبَ وقعتْ في ذلك اليوم، فكيف يثبُت بالشُّهرة عند طائفةٍ منهن حكمٌ شرعيٌّ ويُفَرَّقُ بين زوجَين وبرفع نكاحٍ صحيحٍ بمجرّد ذلك؟.

ص: 4061

السؤال الخامس

كذلك مسألة التعزير (1) بالمال فيمن فعل مَعصيةً لا تُوجب الحدّ هل يُسوَّغ لحاكم الصلاحية أن يُعزِّر به أم لا؟ فإن قلتم لا. فإذا كان يتعذّر الحبسُ ونحوُه أو يكون تغريم المال [9] أبلغَ في الزجْر فهل يكون له منْدوحةٌ في التعزير به لهذا المرجِّح كالإمام؟ فإن قلتم: نعم، فالمصرِفُ المصلحةُ ولا يمكن إذا سبّ رجلٌ آخر أن تطيبَ نفسُ المسبوب إلا بصرف ذلك المال إليه، وربما يكون غيرَ مصرِفٍ فإذا لم يُصْرَفْ ثارت منه الفتنةُ بيّنوا ذلك بالبراهين الصحيحة وجُزيتم خير الدارين بحق محمدٍ وآله.

الجواب قولُه حفظه الله.

أقول: ينبغي أولاً أن تُحقّق مسألة جواز التأديب بالمال لتتّضح التفاصيلُ.

فاعلم أنه قد اختُلف في جواز التأديب بالمال على الإطلاق، فجوّزه الإمام يحيى والهادوية.

قال في الغيث (2): لا أعلم في جواز ذلك خلافًا بين أهل البيت، وإلى ذلك ذهب الشافعيّ (3) في القديم من قولَيه ثم رجع عنه وقال إنه منسوخٌ وهكذا قال البيهقيّ (4) وأكثرُ الشافعية.

قال في التلخيص: وتقّبه النوويُّ (5) فقال: الذي ادّعوه من كون العقوبة كانت

(1) التعزير: - ضربٌ دون الحَدّ.

- شرعًا: تأذيب على ذنبٍ لا حدّ فيه ولا كفارة غالبًا.

انظر: "القاموس الفقهي" لسعدي أبو جيب (ص250).

(2)

تقدم التعريف به.

(3)

انظر: "المهذب" للشيرازي (5/ 463 - 464).

(4)

انظر: "مغني المحتاج"(4/ 191 - 194)، "السنن الكبرى"(8/ 327 - 328).

(5)

في "المجموع"(19/ 104).

ص: 4062

بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ (1)، وقد نقل الطحاوي والغزالي الإجماع على نسخ العقوبة بالمال (2).

وحكى بعضُ المتأخرين عن النووي مثل ذلك، وكلامه الذي ذكرناه سابقًا يدل على خلافه، وزعم الشافعي أن الناسخ حديث ناقة البراء (3) لأنه صلى الله عليه وآله وسلم

(1) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(28/ 111): ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة وأطلق ذلك من أصحاب مالك وأحمد فقد غلط على مذهبما، ومن قاله مطلقًا من أي مذهب كان: فقد قال قولاً بلا دليل. ولم يجيء عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء قط يقتضي أنّه حرم جميع العقوبات المالية. بل أخذ الخلفاء الراشيدن وأكابر أصحابه بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ.

وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه، وبعضها قول عند الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث.

ومذهب مالك وأحمد وغيرهما: أن العقوبات المالية كالبدنية: تنقسم إلى ما يوافق الشرع، وإلى ما يخالفه، وليست العقوبة المالية منسوخة عندهما، والمدّعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ، لا مع كتابٍ، ولا سنة.

(2)

انظر التعليقة السابقة.

(3)

يشير إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 747 رقم 37) عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن مُحيصة، أنّ ناقةً للبراء بن عازب دخلت حائط رجلٍ فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنّ على أهل الحوائط حِفظها بالنّهار. وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامنُ على أهلها".

قلت: وهذا سند مرسل صحيح، وقد أخرجه الدارقطني (3/ 156 رقم 222) والبيهقي (8/ 341) وأحمد (5/ 435 - 436) من طريق مالك به.

وتابعه الليثب بن سعد عن ابن شهاب به مرسلاً. أخرجه ابن ماجه رقم (2332) وتابعهما سفيان ابن عيينة عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، وحرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء

أخرجه أحمد (5/ 436) والبيهقي (8/ 342).

وتابعهم الأوزاعي، لكن اختلفوا عليه، في سنده، فقال أبو المغير ثنا الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة الأنصاري به مرسلا.

أخرجه البيهقي (8/ 341). وقال الفريابي عن الأوزاعي به إلا أنه قال: "عن البراء بن عازب" فوصله. أخرجه أبو داود رقم (3570) وعنه البيهقي (8/ 341) والحاكم (2/ 48).

وكذا قال محمد بن مصعب: ثنا الأوزاعي به موصلاً. أخرجه أحمد (4/ 295) والبيهقي (8/ 341) والدارقطني (3/ 155 رقم 219).

وكذا قال أيوب بن سويد: ثنا الأوزاعي به، أخرجه الدارقطني (3/ 155 رقم 217) والبيهقي (8/ 314).

فقد اتفق هؤلاء الثلاثة: الفرياني، ومحمد بن مصعب، وأيوب بن سويد، على وصله على الأوزاعي، فهو أولى من رواية أبي المغيرة عنه مرسلاً لأنهم جماعة. وهو فرد.

وتابعهم معمر، واختلفوا عليه أيضًا، فقال عبد الرزاق؛ ثنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء الحديث.

فزاد في السند "عن أبيه" أخرجه أبو داود رقم (3569) وابن حبان (رقم 1168 ـ موارد) والدارقطني (3/ 154 رقم 216) أحمد (5/ 436) والبيهقي (8/ 342).

وقال: "وخالفه وهيب، وأبو مسعود الزجاج عن معمر، فلم يقولا: عنه عن أبيه".

قال ابن التركماني في "الجوهر النقي"(8/ 342 مع السنن): "وذكر ابن عبد البر بسنده عن أبي داود، وقال: لم يتابع أحد عبد الرزاق على قوله في هذا الحديث: "عن أبيه" وقال أبو عمر: أنكروا عليه قوله فيه: "عن أبيه" وقال ابن حزم: هو مرسل .. ".

قال المحدث الألباني في "الصحيحة"(1/ 425): "لكن قد وصله الأوزاعي بذكرالبراء فيه، في أرجح الروايتين عنه، وقد تابعه عبد الله بن عيسى عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء به.

أخرجه ابن ماجه رقم (2332) والبيهقي (8/ 341 - 342).

وعبد الله بن عيسى هو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ثقة محتج به في الصحيحين، فهي متابعة قوية للأوزاعي على وصله، فصح بذلك الحديث ولا يضره إرسال من أرسله، لأن زيادة الثقة مقبولة، فكيف إذا كانا ثقتين؟ وقد قال الحاكم (2/ 48) عقب رواية الأوزاعي "صحيح الإسناد، على خلاف فيه بين معمر والأوزاعي" ووافقه الذهبي، كذا قالا، وخلاف معمر مما لا يلتفت إليه لمخالفته لروايات جميع الثقات في قوله:"عن أبيه" على أنَّه لم يتفقوا عليه في ذلك كما سبق، فلو أنهما أشارا إلى خلاف مالك، والليث، وابن عيينة في وصله لكان أقرب إلى الصواب، ولو أن هذا لا يُقلُّ به الحديث لثبوته موصولاً من طريق الثقتين كما تقدم".

ص: 4063

حكَم عليه بضمان ما أفسدت. ولم يُنْقَل أنه صلى الله عليه وآله وسلم في تلك القضية أضعف الغرامة. ولا يخفى أن تركَه صلى الله عليه وآله وسلم للمعاقبة بأخذ المال في هذه القضية لا يستلزم الترك مطلقًا ولا تصلح للنسخ بكل حلا، ومن جملة ما تعلّق به المانعون من العقوبة بالمال قوله تعالى:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (2)، وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في خُطبة الوداع:"فإندماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكن هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلْقَونه".

أخرجه البخاريُّ (3) وأحمد (4) وغيرُهما (5)، وكذلك حديثُ "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبعة من نفسه"(6).

واحتج القائلون بجواز العقوبة بالمال بحُجج منها حديثُ بهزِ بن حكيم عن أبيه عن جدِّه عند أحمدَ (7) والنسائي (8) وأبي داود (9) .....................................................

(1)[النساء: 29].

(2)

[البقرة: 188].

(3)

في صحيحه رقم (67) وأطرافه رقم (105، 1741، 3197، 3197، 4406 و4662، 5550، 7087، 7447).

(4)

في "المسند"(5/ 37).

(5)

كمسلم رقم (1679) وأبي داود رقم (1948) كلهم من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(6)

وهو حديث صحيح بشواهده وقد تقدم.

(7)

في "المسند"(5/ 4).

(8)

في "السنن"(5/ 15 رقم 2444).

(9)

في "السنن" رقم (1575).

ص: 4065

والحاكم (1) والبيهقيِّ (2) قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنةُ لَبون لا يُفَرَّقُ إبلٌ عن حسابها، ومن أعطاها مُؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله".

وفي رواية (3)"وشطْر ماله عزمة من عزمات ربِّنا تبارك وتعالى لا يحل لآل محمد منها شيءٌ".

قال يحيى بنُ معين: إسنادُه صحيحٌ إذا كان مَن دون [10] بهزٍ ثقةً.

وأجاب المانعون عن هذا الحديث بأن في إسناده بهز بن حكيم وقد قال أبو حاتم (4) هو شيخٌ يُكتَب حديثُه ولا يُحتجّ به. وقال الشافعيُّ (5) ليس حجة. وهذا الحديث لا يُثْبتُه أهلُ العلمِ بالحديث، ولو ثبت لقُلنا به وسُئل (6) عنه أحمد بن حنبل فقال: ما أدري ما وجهُهُ، فسُئِل عن إسناده فقال صالح الإسناد. وقال ابن حبان (7) كان بهزٌ يُخْطِئ كثيرًا، ولولا هذا الحديثُ لأدخَلْتُه في الثقات.

وقال ابن الطّلاّع (8) في أوائل الأحكام هو مجهولٌ، وقال ابنُ حزمٍ (9): غيرُ مشهور العدالة.

(1) في "المستدرك"(1/ 397 - 398) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(2)

في "السنن الكبرى"(4/ 105).

(3)

في "السنن" عند أبي داود رقم (1575) وقد تقدم.

(4)

في "الجرح والتعديل"(2/ 431).

(5)

ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب"(1/ 437)، وفي "التلخيص"(2/ 161).

(6)

ذكره ابن حجر في "التلخيص"(2/ 161).

(7)

في "المجروحين"(1/ 194).

(8)

ذكره ابن حجر في "التلخيص"(2/ 161).

(9)

في "المحلى"(6/ 75).

وقال ابن حزم في "المحلى"(8/ 169): ضعيف.

وقال مرة في "المحلى"(11/ 132): ليس بالقوي.

ص: 4066

قال الحافظ (1): وهو خطأٌ منهما، وقد وثّقه خلقٌ من الأئمة. ومما أجابوا به عن هذا الحديث ما رُوي عن إبراهيم الحربيِّ (2) أنه قال في سياق هذا المتْنِ ما لفظُه: وهِمَ فيه الراوي وإنما هو وأنا آخذها من شطر مالِه، أي يُجْعل ماله شطرين ويَتَخَيَّر عليه المُصَدِّقُ ويأخذ الصدقة من خير الشطرين عقوبةً لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمُه فلا. نقله عن ابن الجوزي في جامع المسانيد، ورُدَّ هذا الجوابُ بأن الأخذَ من خير الشطرين صادقٌ عليه اسمُ العقوبة بالمال لأنه زائدٌ على القدر الواجب، ومما أجابوا به ما قال بعضهم إن لفظهُ: وشُطِرَ ماله بضم الشين المعجمة وكسر الطاء المُهملة، فعلٌ مبنيٌّ للمجهول، ومعناه مثلُ ما قال الحرْبيُّ ويُردّ بما رُدَّ به.

ومن الأدلة القاضيةِ بجوار العقوبة بالمال حديثُ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم همّ بإحراق بيوت المُتخلِّفين عن الجماعة وهو في الصحيحين (3) وغيرِهما (4) وأُجيب عنه بمنع كون هَمِّه صلى الله عليه وآله وسلم دليلاً لاتفاق أئمة الأصول وغيرهم أن السُّنة أقوالٌ وأفعالٌ وتقريراتٌ لا سُوى. ويردّ بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يَهُمُّ إلا بالجائز، والجوازُ هو المطلوب.

ومن الأدلة أيضًا حديثُ عمرَ عند أبي داود (5) قال: قال النبي صلى الله عليه وآله

(1) في "التلخيص"(2/ 161).

(2)

انظر: المصدر السابق.

(3)

البخاري رقم (644) ومسلم رقم (651).

(4)

كمالك في "الموطأ"(1/ 129) وأبي داود رقم (548) والنسائي (2/ 107) وابن ماجه رقم (791) والبيهقي (3/ 55) من حديث أبي هريرة.

(5)

في "السنن" رقم (2713).

قلت: أخرجه أحمد (14/ 53 رقم 275 ـ الفتح الرباني) والترمذي رقم (1461) والحاكم في "المستدرك"(2/ 127) والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 103) من حديث عمر بن الخطاب. وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة تركه سليمان بن حرب، وقال عنه البخاري: منكر الحديث، كما في "الميزان"(2/ 299)، و"المجروحين"(1/ 367).

والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.

ص: 4067

وسلم إذا وجدتم الرجلَ قد غلَّ فأحرِقوا متاعَه. وأُجيب عنه بأن في إسناده صالح بن محمد بن زائدة المديني. وقد قال البخاريُّ (1) عامةُ أصحابنا يحتجّون به وهو باطلٌ. وقال الدارَقُطْنيُّ (2): أنكروه على صالح ولا أصل له، والمحفوظ أن سالمًا أمرَ بذلك في رجل غَلّ في غَزاةٍ مع الوليد بن هشام، قال أبو داودَ (3): هذا أصحّ.

ومن الأدلة أيضًا حديثُ ابن عمرِو بن العاص عند أبي داود (4) والحاكم (5) والبيهقي (6) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغالّ وضربوه.

وأُجيب عنه بأن في إسناده زهير بن محمد. قيل هو الخُراسانيُّ وقيل غيرُه وهو مجهولٌ (7). ومن الأدلة أيضًا حديثُ سعد بن أبي وقاص عند مسلم (8)، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من وجدْتُموه يصيد فيه ـ يعني حرم المدينة ـ فخُذوا سَلَبه" وأجيب أنه من باب الفِدية كما يجب على من تصيَّد [11] صيدَ مكةَ، وإنما عيَّن صلى الله عليه وآله وسلم هنا نوعَ الفدية بأنه سلب القاصد، فيقتصر على السبب لقصور العلة التي هتْكُ الحُرْمة عند التعْدية.

ومنها حديثُ ابن عمرَ وأيضًا عند أبي .....................................

(1) ذكره ابن حجر في "التلخيص"(4/ 114).

(2)

عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص"(4/ 114).

(3)

في "السنن" رقم (2714) وهو حديث ضعيف جدًّا.

(4)

في "السنن" رقم (2715).

(5)

في "المستدرك"(2/ 131) وقال: حديث غريب صحيح لم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(6)

في "السنن الكبرى"(9/ 102) وهو حديث ضعيف.

(7)

انظر: "الجرح والتعديل"(3/ 589).

(8)

في صحيحه رقم (1364). وقد تقدم.

ص: 4068

داود (1) وسكت عنه، والمنذريُّ (2) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئِل عن التمر المعلّق فقال:"من أصاب بفيه من ذي حاجة غير مُتّخذ خبنةً فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجَرينُ فبلغ ثمن المِجَنَّ فعليه القطعُ ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبةُ".

وأخرج نحو النَّسائي (3) والحاكم (4) وصحّحه. ومن ذلك حديثُ تغريم كاتمِ الضالّةِ (5) إذا كتمها أن يردُّها ومثلَها.

ومن ذلك قضيةُ المدَديِّ (6) الذي أغلظ لأجله عوفُ بنُ مالكٍ على خالدِ بن الوليد لما أخذَ سَلَبَه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"لا يرد عليه" أخرجه مسلم (7).

ويُجاب بأنه واردةٌ على سبب خاصٍّ فلا تجاوزَ بها إلى غيرها لأنها وسائر أحاديث الباب مما ورد على خلاف القياسِ لما تقدَّم من أدلة الكتاب والسنة القاضية بتحريم مال الغير على العموم فيكون ما صح من هذه الأدلة الخاصّة المتضمِّنة للعقوبة بالمال مُخصِّصًا لذلك العموم ويقتصر عليها. ولا يُلْحق بها غيرُها لقصور عِلَلِها عن التعدّي إلى الغير، فإن فُرِض صلاحيتُها أو بعضِها للتعدّي أُلحِقَ بها ما صح إلحاقُه على الحد المعتبرِ في الأصول

(1) في "السنن" رقم (4390).

(2)

في "مختصر السنن"(6/ 223) وهو حديث حسن.

(3)

في "السنن"(8/ 58 رقم 4958).

(4)

في "المستدرك"(4/ 381).

وهو حديث حسن. وانظر "الإرواء" رقم (3413).

(5)

يشير المؤلف إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (1718) عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها".

قال المنذري في "المختصر"(2/ 273): لم يجزم عكرمة بسماعه من أبي هريرة فهو مرسل.

وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".

(6)

أي رجل من المدد الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن مع جيش مؤتة لإمداده.

(7)

في صحيحه رقم (43/ 1753) وقد تقدم.

ص: 4069

من كمال الأركان والشروط والسلامة من النقوض، ويكون من باب التخصيص (1) بالقياس عند مجوِّزيه، لا أنه يُلْحق بها كلُّ فردٍ من أفراد العقوبة بالمال.

وقد استدل أيضًا على جواز العقوبة بالمال بآثار (2) عن الصحابة منها إحراقُ عليِّ عليه السلام الطعام المُحتكر ولدور قومٍ يبيعون الخمرَ وهدْمِه لدار جرير بن عبد الله ومشاطَرَةِ عمرَ لسعد بن أبي وقاصٍ في ماله الذي جاء به من العمل الذي بعثه إليه وتحريقه لقصر لما احتجب عن الناس فيه، وتضْمينه لحاطب بن أبي بَلْتَعة مِثْلَي قيمة الناقة التي غصبها عبيدُ وانتحروها وتغليظه هو وابن عباسٍ الدّية على من قتل في الشهر الحرام في البلد الحرام.

وأُجيب عن جميع ذلك بعد تسليم صِحَّة أسانيدها إليه بأنها أفعالُ صحابةٍ لا تنتهض لتخصيص أدلةِ الكتابِ والسُّنة، ولا تَصلُح للاحتجاج بها في مقام النِّزاع.

إذا تقرر هذا علم السائلُ كثّر الله فوائدَه أن العقوبة بالمال لا يجوز استعمالُها في كل قضية بل في قضايا خاصةٍ كما سلف، ثم في تلك القضايا الخاصة لا وجْهَ لتخصيص ذلك بالإمام لأن الأصْلَ في الأحكام الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم عدمُ اختصاصها بفردْ أو أفرادٍ ولكنه يُعلم بالضرورة اختصاصُها بأهل الولايات، لأن التأديبَ والتعزيزَ إليهم [12] ولو أجزْنا ذلك لكل فرد لزم أن يأكل الناس أموال بعضهم بعضًا بالباطل وهو باطلٌ، وحاكمُ الصلاحية إذا كان عالمًا من جُملة أهل الولايات الذين تجب طاعتهم. حتى قال بعض المفسِّرين (3): إن العلماء هم المُرادون بقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (4) فيجوز لهم التأيدبُ بالأموال على ذلك الحدِّ وصرْف المال فيمن يكون الصرفُ إليه مصلحةٌ، ولا شك أن الصرْفَ إلى أحد الخصمين ـ إذا

(1) تقدم توضيحه. وانظر "إرشاد الفحول"(ص525).

(2)

تقدم ذكره. وانظر الرسالة رقم (126).

(3)

انظر "الجامع لأحكام القرآن"(5/ 259 - 261).

(4)

[النساء: 59].

ص: 4070

كان لا يرضى إلا بصرْف المالِ إليه ويثور عن صَرْفه إلى غيره فتنةٌ، وتنشأ مفسدةٌ ـ مصلحةٌ، لأن المصالح لا تختصّ بنوع من الأنواع فلا أصْلَحَ من الصرْف إليه عند ذلك لأن الأمور التي تندفع بها المفاسدُ مصالحُ إذا لم يتسبَّبْ عنها مفاسدُ مُساويةٌ أو راجحةٌ.

ص: 4071

السؤال السادس:

قال: كذلك ما يقول مولانا المجتهدُ بدرُ الإسلامِ أمتع الله به في كيفة ردائه صلى الله عليه وآله وسلم وأين كان يضعه؟ هل فوق العِمامة أو على عاتقه الأيمن أو على الأيسر، أو اضطباعٌ (1)؟ أم كيف كان يفعل فإن بعضَ الشافعيةِ من أهل زبيد (2) قال: لا يصنع الاضْطباعَ في غير الطوافِ إلا الدُّعارُ، وهو شعارهم فأوضِحوا الكيفية جُزيتم الجنَّةَ بحق محمدٍ وآله.

الجواب: يقول حفظه الله:

أقول: ثبت في صفته لُبْسِه صلى الله عليه وآله وسلم لردائه صلى الله عليه وآله وسلم كيفياتٌ وكلُّها جائزةٌ، وكان كثيرًا ما يتقنّع.

قال الترمذيُّ في الشمائل (3): بابُ ما جاء في تقنّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدّثنا يوسفُ بن عيسى حدثنا وكيع حدّثنا الربيعُ عن صُبح عن يزيدَ بن أبانَ

(1) الاضطباع: هو أنْ يأخذ الإزار أو البُرد فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن، ويُلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره وسُمّي بذلك لإبداء الضّبعين. ويقال للإبط الضّبعُ للمجاورة.

"النهاية"(3/ 73).

(2)

تقدم التعريف بها.

(3)

(ص61).

قلت: وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(5/ 226 رقم 6464) وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (7140) وعزاه للترمذي في "الشمائل" والبيهقي. ورمز السيوطي لحسنه. وقال الحافظ العراقي: سنده ضعيف.

وقال المحدث الألباني في "مختصر الشمائل"(ص36) رقم 26 وفي إسناده ضعيفان، انظر "الضعيفة" رقم (2356).

وقال ابن كثير: فيه غرابة ونكارة.

والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.

ص: 4072

عن أنس بن مالك قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يُكثر القِناعَ كأنه ثوبَه ثوبُ زيّات.

والقِناعُ والتقنُّع وهو التَغَشّي بالثواب كما في القاموس (1) وغيره (2) من كتب اللغة. وثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء إلى أبي بكر متقنِّعًا بالهاجرة.

فإن قلتَ يُشكل على هذا ما قاله ابنُ القيم (3) من أنه لم يُنقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لبس الطَيْلَسان (4) ولا أحدٌ من أصحابه، بل قد ثبت في صحيح مسلم (5) من حديث النّواسِ بن سمعانَ (6) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر الدّجال فقال: يخرج معه سبعون ألفًا من يهود أصفهان عليهم الطيالسة.

ورأى أنسٌ جماعةً من الطيالسة فقال: ما أشبَهَهُم بيهود خيبر.

قال ابنُ القيِّم (7): ومن هنا كرِه جماعةٌ [13] من السّلف والخلَفِ لُبْسَ الطيلسانِ لما رواه أبو داودَ (8) الحاكم في المستدرك (9) عن ابن عمرَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم

(1)(ص978).

(2)

انظر "لسان العرب"(11/ 323).

(3)

في "زاد المعاد"(1/ 142).

(4)

الطيالسة: جمع طيلسان بفتح اللام، ولا تكسره العرب في المشهور وكاه والبكريُّ بكسر اللام وهو الكساء. وهو أعجميُّ معرَّب والهاء في جمعه للعجمة.

"المفهم"(7/ 293).

(5)

رقم (124/ 2944).

الطيالسة: جمع طيلسان. والطيلسان أعجمي معرب: ثوب يلبس على الكتف يحيط بالبدن ينسج للبس خالٍ من التفصيل والخياطة.

(6)

بل هو من حديث أنس بن مالك ولقد وهم ابن القيم وتبعه في ذلك الشوكاني.

(7)

في "زاد المعاد"(1/ 142).

(8)

في "السنن" رقم (4031).

(9)

لم أجده في المستدرك.

قلت: وأخرجه أحمد (2/ 50، 92) والطحاوي في "مشكل الآثار"(1/ 88) وابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 313) وعبد بن حميد في "المنتخب" رقم (848) كلهم من حديث ابن عمر.

وهو حديث صحيح.

ص: 4073

أنه قال: "من تشبَّه بقوم فهو منهم" وفي الترمذيّ (1) عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس منّا مَن تشبّه بقوم غيرِنا".

قلتُ: هذا إنما يُشكِلُ إذا كان التقنُّعُ هو التَّطيْلُسُ، وليس كذلك بل هو غيرُه، وقد وقع من ظنَّ اتّحادهما في الإشكال، حتى قال ابنُ القيِّم (2): أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتقنَّع إلا في تلك الساعةِ التي جاء فيها إلى أبي بكر ليختفي بذلك ففعلَه ولم يكن عادته التقنُّع. ثم أجاب عن حديث أنسٍ المذكور بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتقنّع للحاجة من الحرِّ ثم اعترف بعد ذلك بأن التقنُّع ليس هو التَّطَيْلُسَ فلم يبقَ موجِبٌ لتأويل ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من إكثار التقنُّعِ.

وأما الاضطباعُ فلم يفعلْه صلى الله عليه وآله وسلم إلا في الحج عند الطواف كما في حديث يعلى بن أُميّة عند ابن ماجه (3) والترمذيّ (4) وصحّحه وأبي داودَ (5) وأحمد (6) وحديث ابن عباس عند أحمد (7) وأبي داود (8) ولكن لا مانِعَ مِن فعلِه، ومَن زعم عدم

(1) في "السنن" رقم (2695).

وقال الترمذي: هذا حديث إسناده ضعيف.

ولكن يشهد له ما قبله فهو به حسن.

(2)

في "زاد المعاد"(1/ 142).

(3)

في "السنن" رقم (2954).

(4)

في "السنن" رقم (859) وقال: حديث حسن صحيح.

(5)

في "السنن" رقم (1883).

(6)

في "المسند"(4/ 222). وهو حديث حسن.

(7)

"المسند"(12/ 19 رقم 227 ـ الفتح الرباني).

(8)

في "السنن" رقم (1884) وهو حديث صحيح.

ص: 4074

جوازِه فعليه الدليلُ، لأن الأصلَ جوازُ لُبْس الثياب على جميع الهيئات إلا على هيئة منهيّ عنها، كاشتمال (1) الصَّماء (2)، فإنه قد ثبت النهْيُ عنه من حديث أبي سعيدٍ عند الجماعةِ (3) كلّهم إلا الترمذيّ، وكالتّطيْلُس للدليل المتقدِّم بعد تسليم انتهاضه للاستدلال به على المطلوب.

ويمكن أن يُستَدَلُّ لمن منع من الاضطباع في غير الطواف بما تقدم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من تشبَّه بقوم فهو منهم"(4). وتمامُ هذا الاستدلالِ يتوقّف على اختصاص الاضطباع بأهل الشّرارة من الدُّعار.

والاضطباعُ (5) جعلُ الأردية تحت الآباط ثم قذْفُها على العاتق الأيسر.

(1) الاشتمال: افتعال من الشملة، وهو كساء يُتغطّى به ويُتلفف فيه، والمنهيُّ عنه هو التحلل بالثوب وإسباله من غير أن يرفع طرفه.

"النهاية"(2/ 501).

(2)

قال في "النهاية"(3/ 54): وإنما قيل صمّاء، لأنه يسدّ على يديه ورجليه المنافذ كلها، كالصّخرة الصّماء التي ليس فيها خرق ولا صدع.

والفقهاء يقولون: هو أن يتغطى بثوبٍ واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه، فتنكشف عورته.

(3)

البخاري رقم (367) ومسلم رقم (1512) وأبو داود رقم (2417) والنسائي (8/ 210) وابن ماجه رقم (3559) وأحمد (3/ 6).

(4)

تقدم تخريجه وهو حديث حسن.

(5)

تقدم ذكره.

ص: 4075

السؤال السابع: قال:

كذلك مسألةٌ حدثتْ في بلادنا وهو أن رجلاً ادّعى على آخرَ نحوَ خمسين قرشًا وأوردَ شاهدًا واحدًا، ثم بعد إيرادِه للشاهد قال للمدّعى عليه: صالحني فهل يكون طلبُه للمصالحة إقرارًا أم لا؟ مع أن الشاهدَ عْدلٌ وإنما طلب المصالحةَ ليستريحَ من الخصام، ثم ترجَّح له من بعدُ أن يُكمل شاهدَه، فهل له ذلك أم لا؟ ولا يخفاكم ما في المقصد الحسنِ. بيِّنوا لنا ذلك جُزيتم خيرًا بحق محمدٍ وآلِه الطاهرين.

الجواب: يقول حفظه الله تعالى:

أقول: طلبُ المدّعي للمصالحة على فرض عدمِ قيامِ شاهدٍ ولا غيرِه من الأمور التي يثبُت بها الحقُّ على طريق الاستقلال أو مع الانضمام إلى الغير ـ لا يكون إقرارًا ببُطلان دعواه [14] ولا إبطالاً لِما يستحقّه زائدًا على ما وقعت به المصالحةُ، لما تقرَّر من أن المصالحات ليست بأحكام يجب على كل واحدٍ من المتصالِحَيْن التزامُها والتوقّفُ على مقتضى ما وقعتْ عليه. بل لكل واحدٍ منهما نقضها متى شاء، وهذا مما لا أعلمُ فيه خلافًا، فقولُ السائلِ كثّر الله فوائدَه: هل يكون طلبُه للمصالحة إقرارًا: إنْ أراد إقرارًا ببُطلان الدعوى فلا مِريَة أن مجرَّد الطلب للصُّلح لا يكون إقرارًا ببطلان الدّعوى. وإن أراد أن يكون إقرارًا بعدم استحقاقِ القدْرِ الزائدِ على ما وقعت به المصالحةُ فكذلك.

نعم لو كان الطالبُ للمصالحة هو المدّعى عليه لكان لذلك الطلبِ شائبةُ إقرار بفَرْع الثبوت.

والحاصلُ أنه يجوز للمدّعي بعد وقوعِ المصالحة ببعض المقدار الذي ادّعاه أن يُطالِبَ بالزائد عليه فإن كان له بُرهانٌ على ذلك فلا شكَّ في صحة ذلك ولزومِه، وإن لم يكن له برهانٌ فله طلبُ اليمين من المدعى عليه أنه لا يستحقُّ عليه ذلك المقدار، أو لا يستحقُّ عليه شيئًا من الأصل، أو لا يستحق عليه زائدًا على ما وقعتْ به المصالحةُ. ثم هذا الصلحُ مع كونه غيرِ ملازمٍ لما عرفْتَ هو أيضًا صلحٌ على إنكار، وقد جزَم أهلُ .........

ص: 4076

المذهب (1) بأنه غير صحيحٍ وإن كان الحقُّ أن صحيحٌ.

أما أولاً: فلعدم المانع والأصل الجواز.

وأما ثانيًا: فلأنّ أدلة الكتاب (2) والسنة (3) دلّت على مشروعية مُطلق الصُّلح ومن ادعى مشروعية فرد من الأفراد فعليه الدليل.

وأما ثالثًا: فلما ثبت في الصحيحين (4) وغيرهما أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا سمع من مخاصمة أُبيِّ بن كعب وابن أبي حدْرد في المسجد قال: "يا كعب ضع الشطرَ"

(1) قال صاحبُ "الأزهار"(3/ 427 ـ مع السيل الجرار): "ولا يصح عن حدّ ونسب وإنكار" ورده الشوكاني بقوله: "هذا الصلح مندرجٌ تحت عموم الحديث المتقدم، وليس فيه تحليل حرام، ولا تحريم حلال فلا وجه للمنع منه".

(2)

قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].

(3)

أخرج ابن ماجه رقم (2353) والترمذي رقم (1352) وقال: هو حديث حسن صحيح. والحاكم (4/ 101) وسكن عليه وقال الذهبي "واهٍ" من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه، عن جده مرفوعًا: بلفظ "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرّم حلالا أو أحلّ حرامًا".

وهو حديث صحيح لغيره.

(4)

البخاري رقم (457) ومسلم رقم (1558).

قال ابن قدامة في "المغني"(7/ 6): أنّ الصلح على الإنكار صحيحٌ وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح. لأنه عاوض على ما لم يثبت له فلم تصح المعاوضة.

ثم قال: فلا يصح هذا الصلح إلا أن يكون المدّعي معتقدًا أنّ ما ادّعاه حقٌّ والمدّعى عليه يعتقد أنّه لا حقّ عليه فيدفع المدّعي شيئًا افتداءً ليمينه وقطعًا للخصومة، وصيانة لنفسه عن التبذل، وحضور مجلس الحاكم، فإنذ ذوي النفوس الشريفة والمروءة يصعب عليهم ذلك، ويرون دفع ضررها عنهم من أعظم مصالحهم، والشّرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ودفع الشرّ عنهم ببذل أموالهم. والمدّعي يأخذ ذلك عوضًا عن حقه الثابت له، فلا يمنعه الشّرع من ذلك أيضًا، سواء كان المأخوذ من جنس حقّه، أو من غير جنسه بقدر حقّه أو دونه، فإن أخذ من جنس حقه بقدره فهو مستوفٍ له، وإن أخذ دونه، فقد استوفى بعضه وترك بعضه، وإن أخذ غير جنس حقه فقد أخذ عوضًا. ولا يجوز أن يأخذ من جنس حقِّه أكثر مما ادّعاه، لأن الزائد لا مقابل له، فيكون ظالمًا بأخذه

".

ص: 4077

فقال: رضيتُ يا رسولَ الله، ثم قال لابن أبي حدْرد:"قم فاقْضه" هذا إن كانت المخاصمة الواقعةُ بينهما في المقدار (1)، وإن كانت في التعجيل والتأجيل فليس مما يدل على محل النِّزاع.

(1) قال الشوكاني في "وبل الغمام على شفاء الأوام"(2/ 301): الظاهر أنها تجوز المصالحة عن إنكار، نحو أن يدعي رجل على آخر مائة دينار، فينكره في جميعها، فيصالحه على النصف من ذلك المقدار، لأن مناط الصلح التراضي والمنكر قد رضي بأن يكون عليه بعض ما أنكره. وأي مقتضٍ بمنع هذا وإن كان مثل حديث:"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبعة من نفسه" فهذا قد سلم بعضًا مما أنكره طيبة به نفسه، وإن كان غير ذلك فما هو؟.

ثم حديث كعب المتقدم المشتمل على وقوع التنازع بين الرجلين، إن كان التنازع بينهما في المقدار فهو أيضًا في التعجيل والتأجيل فهو أيضًا صلح عن إنكار لأن منكر الأجل قد صولح على أن يتعجل البعض من دينه، ويسقط الباقي إلى مقابل دعوى صاحبه للأجل

".

ص: 4078

السؤال الثامن: قال:

كذلك إذا اشتهر بين الناس أن هذه الأرض لآل فلان وهم كانوا أهل قوةٍ، وصار كلُ أحدٍ من أهل تلك المحلَّة ينسبُها إليهم ثم ادّعاها رجلٌ من أهل تلك المحلّة بعد التنبيه له من بعض المُميِّزين أن هذه الأرض أرضُ أبيك، وإنما بسطها هؤلاء عُدوانًا وأنا أشهدُ لك وستلْقَى غيري من الكبار يشهدُ لك معي، ثم ادّعى ذلك الرجل أنها أرض أبيه فأجاب الباسطون: أنك مَقِرٌّ أنها لنا فكيف تدّعيها؟ فقال: صحيح قلت ما يقولُ الناسُ لبُسوطكم والآن ظهر لي أنها لأبي وشهودي قيامٌ فهل تُقْبل هذه الدعوى والشهادةُ والحالةُ هكذا أم لا؟ أفيدوا في ذلك فإن المسألة (1) راهنةٌ [15].

(1) إذ توافرت وسائل الإثبات في دعواه فله الحق فيها.

والإثبات لغة: إقامة الثبت وهو الحجة.

والإثبات في اصطلاح الفقهاء: هو إقامة الحجة، أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حق أو واقعة تترتب عليها آثار شرعية.

فالإثبات في الغالب هو المعيار في تمييز الحق من الباطل، والسمين من الغث وهو الحاجز أمام الأقوال الكاذبة، والدعاوي الباطلة، وهذا الذي نلمسه في الحديث الشريف الذي يعتبر منار القضاء، وأساس الإثبات فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى رجالٌ دماء رجالٍ وأموالهم لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" ـ حديث صحيح متفق عليه ـ وجه الدلالة أنّه لا يقبل الادعاء بدون دليل، وإلا تطاول الناس على الأعراض وطالبوا بأموال الآخرين وزهقت الأنفس.

فكل ادعاء يحتاج إلى دليل، وكل قول لا يؤخذ إلا بالحجة والبرهان وكل حق يبقى ضعيفًا مهددًا بالضياع، مجردًا عن كل قيمة إذا لم يدعم بالإثبات ويصبح الحق عند المنازعة فيه هو والعدم سواء، ولذلك قال بعض العلماء: إن الدليل فديةُ الحق، أو جزية الحق، ولولا الإثبات لضاعت الحقوق وزهقت الأنفس.

ويشترط في الإثبات أن تتوافر فيه شروط منها:

1 -

أن تسبقه دعوى.

2 -

أن يوافق الإثبات الدعوى.

3 -

أن يكون الإثبات في مجلس القضاء.

4 -

أن يكون الإثبات منتجًا في الدعوى.

5 -

أن يكون موافقًا للعقل والحس وظاهر الحال.

6 -

أن يستند الإثبات إلى العلم أو غلبة الظن.

7 -

أن يكون الإثبات بالطرق التي أقرها الشارع.

يتم إثبات الحق أوالواقعة أمام القاضي بوسائل كثيرة: أهمها الإثبات بالشهادة، والإثبات بالإقرار، والإثبات باليمين والإثبات بالكتابة، والإثبات بالقرائن، والإثبات بعلم القاضي، والإثبات بالمعاينة والخبرة".

"بدائع الصنائع"(6/ 277)، "تبصرة الحكام"(1/ 129)، "الطرق الحكمية"(ص88).

ص: 4079

الجواب: قال حفظه الله:

أقول: قد اجتمع لثابت اليد على الأرض أمورٌ:

منها الثبوت الذي لا يعادله شيءٌ من القرائن القاضية بثبوت المُلْك ولا يُوازيه.

ومنها الاشتهار والاستفاضة اللذان لا يقصران عن إثبات ظاهر لمن كانت الأرض منسوبةً إليه بهما.

ومنها الأصل الأصيل الذي يكون عليه مدار التعويل، وهو أن من كان ثابت اليد على شيء فالأصل عدم دخوله إليه بوجه غصْبٍ ونحوِه، وعدم خروجه عنه إلا بما يقتضي التمليك للغير، فمن قام في مقابل هذه الأمور وادّعى ما يخالفها لم يكن لديه من إقامة البُرهان الذي ينقل عن الأصل والظاهر والثبوت، وإذا أقامه قبل. ولا يقال إن موافقته للناس في النِّسبة يكذّب دعواه لأنه قد أبان العُذر بأن ذلك كان لأمر فارتفع، فإذا جاء البرهان الصحيح بذلك علمنا صِدْق دعواه وعدم تقدم ما يُكذِّبُها على التحقيق ولكنه لا بد أن تكون الدعوى والبينة الصادرتان منه متضمّنتين لكون أبيه مات مالِكًا لتلك الأرض ولم يقع للشهود علمٌ بالانقال، فإذا أقام البيّنة على هذه الصفة، فتلك

ص: 4080

الأمور الثلاثة التي ذكرناها سابقًا قد عُورضت بما هو أقوى منها، ولكنها لا تَبظُلُ بالمرّة وإنما يبطل كونُها موجبة لكون القول قول ثابت اليد، ويصير باعتبار المعارض الراجح القول قول من أقام البيّنة، وينعكس الأمر فيقال لثابت اليد: هل لك دليلٌ ينقُل عن الأصل والظاهر اللَّذين صارا بيد الوارث المذكور، فإن جاء بما يدلُّ على الانتقال من مُلك ذلك الميْتِ أو مُورّثه إلى مُلكه إما بيّنه أو حُكمِ حاكم، أو إقرارٍ كان ذلك أرجح من شهادة الوارث التي أقامها لأنها مُبْقيةٌ على الأصل وهي ناقلةٌ. ولأن غاية مستندها هو الاستصحاب وهو لا يُعوَّل عليه إلا عند فقدِ ما يَنْقُلُ عنه.

ص: 4081

السؤال التاسع: قال:

كذلك قد ظهر استقرار الملكين بابن آدم بعد موته أنهما يقومان على قبره (1)،

(1) وهو حديث ضعيف، ورد من حديث أبي بكر، وأبي سعيد، وأنس.

- أما حديث أبي بكر:

فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 228) والسيوطي في "اللآلئ"(2/ 432) من طريق إسماعيل بن يحيى التيمي حدثنا قطر بن خليفة، عن أبي الطفيل قال: سمعت أبا بكر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قبض العبد المؤمن صعد ملكاه إلى السماء، فقال الله لهما: ارجعا إلى قبره واحمداني وهللاني إلى يوم القيامة، فإنني قد جعلت له مثل أجر تسبيحكما وتحميدكما وتهليلكما، ثوابا مني له فإذا كان العبد كافرًا فمات صعد ملكاه إلى السماء، فيقول الله عز وجل لهما: ما جاء بكما؟ فيقولان: رب قبضت عبدك وجئناك، فيقول لهما: ارجعا إلى قبره والعناه إلى يوم القيامة، فإنه كذبني وجحدني، فإني جعلت لعنتكما عذابا أعذبه يوم القيامة".

وفي سنده "إسماعيل بن يحيى التيمي" عامة ما رويه من الحديث بواطل عن الثقات وعن الضعفاء ـ قاله ابن عدي في "الكامل"(1/ 302).

- وأما حديث أبي سعيد:

فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 228) والدارقطني في "الأفراد" كما في "الحبائك" رقم (378) والسيوطي في "اللآلئ"(2/ 432) وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 253) من طريق إسماعيل بن يحيى، حدثنا مسعر عن عطية، عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا قبض الله عز وجل روح العبد صعد ملكاه إلى السماء فقالا: يا ربنا إنك ولكتنا بعبدك المؤمن نكتب عمله، وقد قبضته إليك، فأذن لنا أن نسكن السماء فيقول: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني فيقولون: ائذن لنا أن نسكن الأرض، فيقول: أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني، ولكن قوما على قبره، فسبحاني واحمداني وهللاني واكتباه لعبدي إلى يوم القيامة".

قال أبو نعيم: غريب تفرد به سعدان عن إسماعيل. تقدم الكلام عليه.

- وأما حديث أنس: فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 229) والسيوطي في "اللآلئ"(2/ 432 - 433) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله، فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به: قد مات فأذن لنا أن نصعد إلى السماء، فيقول الله عز وجل: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني، فيقولان: في الأرض، فيقول: أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني، فيقولان: أين، فيقول: قوما عند قبر عبدي، فسبحاني واحمداني وكبراني وهللاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة".

قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح وقد اتفقوا على تضعيف "عثمان بن مطر" وقال ابن حبان يروي الموضوعات عن الأثبات لا يحل الاحتجاج به.

وقال ابن عراق في "تنزيه الشريعة"(2/ 371): "تعقب: بأن البيهقي أخرج في "الشعب" (7/ 183 - 184 رقم 9931) حديث أنس وقال: عثمان بن مطر ليس بالقوي، ثم إنه لم ينفرد به، فقدتابعه الهيثم بن جماز أخرجه أبو بكر المروزي في "الجنائز" وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (1/ 633 رقم 846) و (1/ 634 رقم 847).

قال البيهقي: وله شواهد أخرى عن أنس، ثم روى بإسنادين عنه مرفوعًا نحوه، والله تعالى أعلم.

ص: 4082

وإنما الإشكالُ في مادة الشياطين المُسلَّطين أين يذهبون بعد موته، أفيدوا جُزيتُم خيرًا بحق محمدٍ وآله.

الجوابُ: قال حفظه الله:

أقول: لم أقِفْ إلى الآن على دليل يدُل على خصوص المكان الذي تذهبُ إليه الشياطينُ بعد موت الشخص الذي يلازمونه حال حياته كالقرين ونحوه، وإذا لم يرِدْ هذا عن الشارع فلا مانعَ من أن يقالَ فيه بالرأي نظنُّه أنهم يذهبون [16] إلى الأمكنة التي يستقِرُّ فيها إخوانُهم الشياطين لأن الغالبَ على الفرد من النوع أوا لجماعة منه إذا فارقوا أبناءَ نوعِهم في أمر من الأمور أن يعودوا عند فراغِهم من ذلك إليهم.

والشياطينُ الملازمون للإنسان كذلك. لاسيما وقد ورد أنهم يعودون إلى كبارهم فيقولون: أغوينا فلانًا (1)، أوقعنا الفتنة بين بني فلان، فعلْنا كذا فعلْنا كذا وهؤلاء لعلهم

(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم رقم (67/ 2813) عن جابر بن عبد الله، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن إبليس يضع عرشه على الماء ثيم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال فيدنيه منه ويقول: نعم: أنت".

قال الأعمش: أراه قال: "فيلتزمه".

ص: 4083

يعودون إلى كبارهم وأبناء نوعهم فيقولون أغوينا من كنا نصاحبه، ألهيناه عن الشهادة، سولنا له المضارة في وصيته، وعلى فرض أن يكون ذهابهم بعد ذلك إلى غير ما هو الغالب فليس مما يتعلق بها فائدة ولا يحتاج إلى الدراية به.

نعم ورد ما يدل على أنه يأتي الشيطان الإنسان إلى قبره (1) ويتعرض لفتنته وهذا إن كان من الملازمين (2) له حال الحياة فهو يدل على أنهم لا يفارقونه عند الموت مفارقة لا يوافقونه بعدها. اللهم إنا نسألك العصمة من هذا العدو المسلط.

(1) انظر "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة"(1/ 100 - 102).

(2)

قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 36 - 38].

قال ابن كثير في تفسيره (7/ 228) هذا الذي تغافل عن الهدي نقيض له من الشياطين من يضله، ويهديه إلى صراط الجحيم، فإذا وافى الله يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي وكل به:{قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} وقرأ بعضهم: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} يعني القرين والمقارن.

قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر: عن سعيد الجريري قال: بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة سفع بيده شيطان فلم يفارقه، حتى يصيرهما الله إلى النار فذلك حين يقول:{يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} .

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2/ 161).

وقال الآلوسي في "روح المعاني"(25/ 81): {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} أي نتح له شيطانا ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض وهو القشر الأعلى. {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} : دائما لا يفارقه ولا يزال يوسوسه ويغويه وهذا عقاب الكفر بالختم وعدم الفلاح.

ص: 4084

السؤال العاشر قال:

مسألة عصمة أمير المؤمنين أفضِلوا بنقل الأحاديث الدالّة على ذلك وما الحقُّ في المسألة؟ وكذلك الزَّهراء وابْناها تفضّلوا، وإن شقّ عليكم الحالُ فإن السائلَ مستفيدٌ وفي النفس أشياءُ ولكن ستكون شفاءها إن شاه الله أو على حال غير هذا والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته.

أقولُ: عصمةُ علي وحُجَّة قولِه: ذهب إلى القول بهما جماعةٌ من أهل البيت عليهم السلام وذهبت جماعةٌ منهم وسائرُ المسلمين أجمعين إلى أن المعصوم إنما هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخصوص والحُجّة إنما هي ما جاء عن الله وعنه.

وقد استدل الأولون لذلك بأدلة منها: ما أخرجه الحاكمُ (1) والطبرانيُّ في الأوسط (2) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "عليَّ مع القرآن والقرآنُ مع عليِّ ولن يفترِقا حتى يرِدا عليَّ الحوضَ (3) ".

(1) في "المستدرك"(3/ 124) وقال: صحيح الإسناد، وأبو سعيد التيمي هو عقيصاء ثقة مأمون. وأقره الذهبي.

- ولكن الذهبي قال في "الميزان"(3/ 88 رقم 5701)"يقال: اسمه دينار، شيعي تركه الداقطني. وقال الجوزجاني: غير ثقة، وروى عنه الأعمش، والحارث بن حصير. وقال ابن عمين: رُشيد الهجري سيء المذهب، وعقيصًا شرُّ منه".

(2)

(5/ 135 رقم 4880) من حديث أم سلمة. وأورده الهيثمي في "المجمع"(9/ 134) وقال: فيه صالح بن أبي الأسود وهو ضعيف.

وأخرجه الطبراني في "الصغير"(2/ 28 رقم 720 ـ الروض الداني).

قلت: وقال الذهبي في "الميزان"(2/ 288 رقم 3771): "واهٍ".

وقال ابن عدي في "الكامل"(4/ 1384 - 1385). أحاديثه ليست بالمستقيمة.

والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.

(3)

أما ما ورد في الحوض فقد أخرج البخاري رقم (6579) ومسلم رقم (2292) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

قال صلى الله عليه وسلم: "حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها فلا يظمأ أبدًا".

ص: 4085

ومنها ما أخرجه الطبرانيُّ (1) والحاكمُ (2) وأبو نُعيم (3) عن زيد بن أرقم من حديث وفيه: فإنه ـ يعني عليًّا ـ لن يُخرجكم من هدى، ولن يُدخلكم في ظلال.

ومنها ما أخرجه أبو نُعيم في الحلية (4) عن حُذيفة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن تُولّوا عليًّا تجدوه هاديًا مهديًا يسلك لكم الطريق المستقيم.

وما أخرجه الدَّيلمي (5) عن عمار بن ياسر وأبي أيوب بلفظ: "يا عمار إن رأيت عليًّا قد سلك واديًا وسلك الناس واديًا غيرَه فاسلك مع علي". وما أخرجه الحاكم (6) عن أبي ذرٍ أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: من فارق عليًّا [17] فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله".

(1) في "الكبير"(5/ 194 رقم 5067).

وأورده الهيثمي في "المجمع"(9/ 108) وقال: فيه يحيى بن يعلى الأسلمي، وهو ضعيف.

(2)

"المستدرك"(3/ 128) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.

وتعقبه الذهبي بقوله: أنَّى له الصحة والقاسم متروك، وشيخه ضعيف واللفظ ركيك فهو إلى الوضع أقرب.

(3)

في "الحلية"(4/ 349 - 350) وقال: غريب من حديث أبي إسحاق تفرد به يحيى عن عمار، وحدث به أبو حاتم الرازي عن أبي بكر الأعين عن يحيى الحماني عن يحيى بن يعلى".

وخلاصة القول أن الحديث ضعيف جدًّا وهو إلى الوضع أقرب.

(4)

(1/ 64).

(5)

في "الفردوس بمأثور الخطاب"(5/ 385 رقم 8501).

(6)

في "المستدرك"(3/ 146) وصحح إسناده بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "من فارقني فقد فارق الله، ومن فارقك فقد فارقني".

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(12/ 423 رقم 13559) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من فارق عليًّا فارقني ومن فارقني فارق الله" وفيه أحمد بن صبيح لا يساوي شيئًا.

ص: 4086

وما أخرجه الدَّيلميُّ (1) عن أبي ذرٍّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عليّ أنت تُبيّن للناس ما اختلفوا فيه من بعدي".

وما أخرجه الطبرانيُّ (2) عن سلمان من حديث قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: "هذا فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل" يعني عليًّا.

وأخرج نحوه أيضًا الطبراني (3) عن أبي ذرّ.

وابن عديّ (4) والعُقَيليِّ (5) عن ابن عباس.

وما أخرجه أبو يعلى (6) وسعيدُ بنُ ......................................

(1) في "الفردوس"(5/ 332 رقم 8347) من حديث أنس بن مالك.

(2)

عزاه إليه الهيثمي في "المجمع"(9/ 102) وقال رواه الطبراني والبزار (3/ 183 رقم 2522 ـ كشف) عن أبي ذر وحده (وزاد فيه)"أنت أول من آمن وقال فيه والمال يعسوب الكفار" وفيه عمرو بن سعيد المصري هو ضعيف.

قلت: ليس في إسناد البزار عمرو بن سعيد، بل فيه عباد، وهو الرواجني، رافضي داعية.

(3)

عزاه إليه الهيثمي في "المجمع"(9/ 102) وقال رواه الطبراني والبزار (3/ 183 رقم 2522 ـ كشف) عن أبي ذر وحده (وزاد فيه)"أنت أول من آمن وقال فيه والمال يعسوب الكفار" وفيه عمرو بن سعيد المصري هو ضعيف.

قلت: ليس في إسناد البزار عمرو بن سعيد، بل فيه عباد، وهو الرواجني، رافضي داعية.

(4)

في "الكامل"(4/ 1544) وفيه عبد الله بن داهر، وعامة ما يرويه في فضائل علي وهو فيه منهم.

(5)

عزاه إليه السيوطي في "اللآلئ"(1/ 324) وفيه ابن داهر. قال اعلقيلي: كان ممن يغلو في الرفض إسحاق بن بشر الأسدي:

حدثنا خالد بن الحارث عن عوف عن الحسن عن أبي ليلة الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون من بعيد فتنة فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب فإنّه أول من يارني، وأول من يصافحني يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين".

قال الحاكم: إسناده غير صحيح.

وفي الميزان (1/ 186 - 188) إسحاق بن بشر كذاب في عداد من يضع الحديث وأورد له هذا الحديث والله أعلم.

(6)

في "المسند"(2/ 318 - 319 رقم 78/ 1052).

وأورده الهيثمي في "المجمع"(7/ 234 - 235) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.

ص: 4087

منصور (1) عن أبي سعيد الخُدْري قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الحقُّ مع ذا الحقُّ مع ذا" يعني عليًّا.

وما أخرجه الخطيبُ (2) عن أنس بن مالك قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم "أنا وهذا حجةٌ على أمتي يوم القيامة" يعني عليًّا.

وأخرج الحاكم في المستدرك (3) عن عليّ عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) لم أجده.

(2)

عزاه إليه السيوطي في "اللآلئ"(1/ 365 - 366) من طريق مطر بن أبي مصر عن أنس به، وهو حديث موضوع آفته مطر.

وقال السيوطي: قال الذهبي في "الميزان"(4/ 127 - 128) هذا باطل والمتهم به مطر فإن عبيد الله ثقة شيعي ولكنه آثم برواية هذا الإفك والله أعلم.

(3)

(3/ 135).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2310) ووكيع في "أخبار القضاة"(1/ 84 - 85) والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 86) وابن سعد من "الطبقات"(2/ 337) وأحمد في "المسند"(1/ 83) والنسائي في "تهذيب خصائص الإمام علي رضي الله عنه"(ص40 - 41 رقم 31) من طريق الأعمش عن عمرو بن مرَّة، عن أبي البخْتَري عن علي رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله إلى اليمن. فقلت: يا رسول الله بعثتني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء! فضرب صدري بيده ثم قال: "اللهم اهد قلبه وثبت لسانه! فوالذي فلق الحبة ما شككتُ في قضاء بين اثنين".

قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

قلت: واعجبًا وقد صرح النسائي في "الخصائص"(ص44): بأن أبا البختري لم يسمع من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ويؤيد ذلك رواية شعبة عن عمرو بن مرة، قال: سمعتُ أبا البختري الطائي قال: أخبرني من سمع عليًّا يقول:

فذكره.

أخرجه أحمد (1/ 136) والطيالسي في "المسند"(ص16 رقم 98) والبيهقي (10/ 86 - 87) ووكيع في "أخبار القضاة"(1/ 85) وإسناده صحيح لولا هذا المبهم. كما قال ابن حجر في "التلخيص"(4/ 182).

وأخرجه أبو داود (4/ 11 رقم 3582) والترمذي (3/ 618 رقم 1331) وابن سعد في "الطبقات"(2/ 337) وأحمد في "المسند"(1/ 111) وابنه في "زوائده"(1/ 111، 149) والطيالسي في "المسند"(ص19 رقم 125) والحاكم في "المستدرك"(4/ 93) والبيهقي (10/ 86) ووكيع في "أخبار القضاة"(1/ 85، 86) من طرق كثيرة عن سماك بن حرب عن حنش بن المعتمر عن علي رضي الله عنه.

قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

قلت: ولم يتفرد به شريك بل تابعه زائدة بن قدامة عند أحمد (1/ 150) والطيالسي في "المسند"(ص119 رقم 125) وأسباط بن نصر، وأبان بن تغلب، وسليمان بن قدم وغيرهم عن وكيع. جميعهم عن سماك به. وسماك وهو ابن حرب في كلام، وحديثه حسن. وحنش بن المعتمر الكوفي ضعفه جماعة، وشريك وهو ابن عبد الله القاضي سيء الحفظ، ولكنه توبع كما تقدم.

وأخرجه البزار كما في "نصب الراية"(4/ 61) وابن سعد في "الطبقات"(2/ 337) ووكيع في "أخبار القضاة"(1/ 85) وأحمد (1/ 88، 156) من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه فذكره بنحوه.

وله شواهد عن ابن عباس. وبريدة الأسلمي. وأبي رافع وغيرهم.

قال المحدث الألباني في "إرواء الغليل"(8/ 228) بعد الكلام على هذا الحديث. وجملة القول أن الحديث بمجموع الطرق حسن على أقل الأحوال والله أعلم.

ص: 4088

وسلم قال له: "إن الله سيهدي قلبك ويثبِّت لِسانَك".

وأخرج أبو نُعيم في الحلية (1) عن أبي بَرْدَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن عليًّا رايةُ الهدى وإمامُ الأولياء" ونحوُ هذه الأحاديث كثيرٌ وقد أجاب الجمهور عنها بأجوبة:

منها: القدحُ في أسانيد بعضِها.

ومنها: المنعُ من دِلالتها على المطلوب.

ومنها: الإلزامُ بأنه لا يختص ذلك بعلي عليه السلام بل تثبُت العصمةُ وحُجّيّةُ القول لجماعة من الصحابة ورَدَ فيهم ما يدل على نحو ما دلّتْ عليه هذه الأحاديث كما

(1)(1/ 66 - 67) بإسناد ضعيف.

ص: 4089

ورد في حق ابن مسعود أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "رضيتُ لأمتي بما رضي لها ابنُ أمّ عبد"(1).

وما ورد في أبي عُبيدةَ من أنه "أمينُ هذه الأمة"(2) بعد أن سُئل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعثَ مع أهل اليمن رجلاً يعلِّمُهم السّنة.

وما ورد في حق أبي بكرٍ وعمر من حديث حذيفة عند الترمذي (3) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر" وما أخرجه الشيخان (4) والترمذي (5) من حديث

(1) وهو حديث صحيح.

أخرجه الحاكم في "المستدرك"(3/ 317 - 318) وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ووافهما الألباني في "الصحيحة"

(3/ 225).

(2)

أخرجه البخاري رقم (3744)، ورقم (4382، 7255) ومسلم رقم (53، 54/ 2419). من حديث أنس.

(3)

في "السنن" رقم (3662) وقال الترمذي: حديث حسن.

قلت: وأخرجه أحمد في "المسند"(5/ 382، 385، 402) وابن ماجه رقم (97) والحاكم في "المستدرك"(3/ 75) والطحاوي في "مشكل الآثار"(2/ 83 - 84) والحميدي في "مسنده"(1/ 214 رقم 449) وابن سعد في "الطبقات"(2/ 334) وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 109) والخطيب في "تاريخ بغداد"(12/ 20) والبغوي في "شرح السنة"(14/ 101 رقم 3894، 3895) كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير عن ربعّي بن حراش عن حذيفة بن اليمان به.

وأخرجه الترمذي رقم (3663) وأحمد في "المسند"(5/ 399) وابن حبان (رقم 2193 ـ موارد) من حديث حذيفة أيضًا لكن من طريق سالم بن عبد الواحد المرادي، وقيل: ابن العلاء المرادي أبو العلاء.

وأخرجه الترمذي رقم (3805) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه .. والحاكم (3/ 75 - 76) وقال: إسناده صحيح ورده الذهبي بقوله: قلت: سنده واهٍ، والبغوي في "شرح السنة" (14/ 102 رقم 3896) وقال: حديث غريب كلهم من حديث ابن مسعود. لكن من طريق أبي سلمة بن كهيل عن أبي الزَّعْرَاء.

وانظر: "الصحيحة" رقم (1233).

(4)

البخاري في صحيحه رقم (75، 143، 3756، 7270) ومسلم رقم (138/ 2477).

(5)

في "السنن" رقم (3823) وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه

وأخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3824) وقال: حديث حسن صحيح.

ص: 4090

ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال لابن عباس:"اللهم فَقّهه في الدين" وفي رواية: "اللهم علّمه الكتابَ" وفي أخرى "الحِكمة".

وأخرج الترمذيُّ (1) وأحمد وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تمسكوا بهدْي عمّار وما حدّثكم ابن مسعود فصدِّقوه" ومن ذلك حديثُ العِرباضِ بن سارية عند أهل السُّنن وفيه وعليكم بسنّتي وسنّة الخُلفاء الراشدين الهادين (2)"، وحديث "أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتَدَيتُم" (3) وفي إسناده جعفر بن عبد الواحد الهاشميُّ (4) قال فيه الدارَقُطْنيُّ: يضع الحديث وتكلم فيه الحفّاظ بكلام طويل.

قال الجمهور: فهذه الأحاديث ونحوها تدل على عصمة كلّ فرد من أفراد الصحابة أو جماعة منهم ولم يقل به أحدٌ، وعلى حُجيّة أقوالِهم كذلك وأنتم لا تقولون به وإنما قال به مالكٌ وأبو علي وأبو هاشمٍ وأبو عبد الله البصريُّ ومحمد بن الحسن والرازيُّ والبرذعيُّ من الحنفية وأحمدُ في رواية عنه ورجّحه الفناريُّ من متأخّري الحنفية وقال إنه الذي اختاره المتأخرون انتهى.

وأما عِصمةُ الحسَنَين والبَتولِ رضْوانُ الله عليهم [18] فذهب إلى ذلك طائفةٌ يسيرةٌ من أهل البيتِ وخالفهم جميعُ الأمة من أهل البيت وغيرهم واستدلوا على ذلك بالأدلة القاضية بأنهم من أهل الجنة وهي أحاديث صحيحةٌ لا نزاع فيها ولكنه أجاب عنها الجمهور بأنها لا تدل على المطلوب لأن دخول الجنة يستلزم العِصْمة من وقوع كل ذنب، فإن الذنوب المكفّرة والتي وقعت التوبة عنها لا تمنع من دخول الجنة فلا تلازُمَ بين

(1) تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه مرارًا. وهو حديث صحيح.

(3)

تقدم تخريجه. وهو حديث موضوع.

انظر الرسالة رقم (19، 21، 22، 23).

(4)

انظر ترجمته في "الميزان"(1/ 412 رقم 1511)، "اللسان"(2/ 117).

ص: 4091

دخول الجنة وعدم التلبس بالذنب والعصمة عنه.

ويجاب أيضًا بعد هذا المنع بأن ذلك يستلزم عصمة جماعة من الصحابة المنصوص على أنهم من أهل الجنة كما في عبد الله بن سلام عند الشيخين (1) من حديث سعد بن أبي وقاص وكما في حديث حارثة بن سراقة عند البخاري (2) والترمذي (3) عن أنس وكما في طلحة بن عبيد الله عند الترمذي (4) بل ورد في العشرة وأهل بدر (5) وأهل بيعة الرضوان (6) ما يدل على أنهم جميعا من أهل الجنة فلو كان دخول الجنة مستلزمًا للعصمة لكان أكثر أكابر الصحابة معصومين واللازم باطل فالملزوم مثله.

(1) البخاري في صحيحه رقم (3812) ومسلم رقم (147/ 2483).

(2)

في صحيحه رقم (2809).

(3)

في "السنن" رقم (3174) وقال: حديث حسن صحيح.

(4)

في "السنن"(3747) عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة".

وهو حديث صحيح.

(5)

أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (4654) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال موسى: "فلعل الله".

وقال ابن سنان: "اطلع الله على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .. " وهو حديث صحيح.

(6)

أخرج مسلم في صحيحه رقم (163/ 2496) وأبو داود رقم (4653) والترمذي رقم (3860).

قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار، إن شاء الله، من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها". قالت: بلى، يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72].

ص: 4092

واستدل على العصمة أيضًا بآية التطهير (1) وبالأحاديث التي فيها "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا"(2) والكلام في هذا البحث يتشعب إلى مقاولات ومطاولات تستغرق كراريس كثيرة، والاختصار أولى.

والصواب في هذه المسألة لا يخفى على مثل السائل في علمه وفهمه وإنصافه والله الهادي. فرغ من تحرير هذه الأجوبة حسب نقل المجيب والمؤلف لهذه النسخة القاضي البدر عز الدين والإسلام وعين أعيان العلماء الأعلام محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما وكان الجواب والتحرير في شهر رمضان الكريم سنة 1207.

(1) قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]

(2)

أخرجه الترمذي رقم (3871) وقال: هذا حديث حسن وهو كما قال: من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

وأخرجه الترمذي رقم (3205) من حديث عمر بن أبي سلمة. وهو حديث حسن.

ص: 4093