الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(125)
31/ 2
القول المقبول في فيضان الغيول والسيول
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: "القول المقبول في فيضان الغيول والسيول"
2 -
موضوع الرسالة: "فقه".
3 -
أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين وبعد: فإنّه اتفق حدوث خصامٍ بين جماعة ادّعى أهل الأموال السافلةِ على أهل الأموال العليا
…
".
4 -
آخر الرسالة: "
…
وفي هذا المقدار كفايةُ لمن له هداية. حُرِّر في الثلث الأوسط من ليلة الجمعة لعلَّها ليلة تاسعٍ وعشرين شهر ربيع الآخر سنة 1210 كتبه جامعه الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله له".
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
عدد الصفحات: 15 صفحة + صفحة العنوان.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 18 سطرًا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات.
9 -
الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
10 -
الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرينَ. وبعدُ:
فإنه اتفق حدوث خصام بين جماعة ادّعى أهل الأموال السافلةِ على أهل الأموال العاليةِ أنَّهم أرسلوا إليهم ماءً غيلٍ حدثَ في شعابٍ وهضابٍ وأضبابِ جبال، وكان حدوثُ هذا الغيلِ المذكورِ في تلك المواضعِ لكثرة الأمطارِ، كما جرت العادة المستمرة أنها تخرجُ غيولٌ من مواضع عقِبَ نزول المطر الواسع لم تبقَّ أيامًا وتزول، فاتفق في عامنا هذا سنةَ 1210هـ أن الأمطار توافرتْ ودامت أيامًا، فنزل غيلٌ من المواضع المشار إليها وليس ذلك الغيلُ بمملوكٍ ولا وقع فيه سببٌ من أسباب المُلْكِ، فاستغنى أهل الأموال العاليةِ عن السقي به، وخشيوا فساد غِلَاّتِ الأ/والِ إذا دخل أموالَهم، والإضرارَ بالأرضِ، فعمقوا المداخل التي يدخل فيها الماءُ من تلك السائلةِ، وأرسلوه إلى مَنْ تحتَهم حتى انتهى إلى أرضِ قومٍ آخرينَ، وذلك حيثُ تنتهي السائلةُ، ولم يبقَ للماء طريقٌ إلا أصلاب الأموال، وأبدانَ الأطيان [1أ] لعدم وجود مكان هناك متروك من الحرث، حتى يكون مَمَرًّا للماء. فقال أهل الأموال السالفةِ: إنه يجب على أهل الأموال العالية أن يُدْخِلوه أملاكَهم لينصرفَ ضررهُ عن أملاكِهم. فقال أهل الأموال العالية: لا يجبُ علينا ذلك، لأنه يحصلُ الضررُ علينا كما حصل الضررُ عليكم، فلما ترافعوا لديَّ حَكَمْتُ: بأنه لا يجبُ على أهل الأموال العاليةِ أن يصرفوا الضرَّرَر عن أهل الأملاكِ السافلةِ بإدخال الضرر على أنفسهم لوجوه: أودعتُها الحكمَ الذي حررتُه بين المتنازعينَ، راجعةٍ إلى قواعدَ أصوليةٍ، وقوانينَ استدلالية قد اتفق عليها أئمةُ الأصول، ولم يخالِفْ فيها مخالفٌ لا من أئمتنا عليهم السلام ولا من غيرهم.
منها: أن ذلك الماءَ المنصبَّ من تلك الأمكنةِ لم يكن حدوثُه بفعل أهل الأملاك العالية، ولا وقع منهم سببٌ من الأسباب الموجِبَةِ لحدوثه، أو حدوثِ زيادتِه، بل هو حدثَ بنزول المطرِ الذي هو من فعل الله عز وجل وفيضِ رحمته [1ب].
وكان حدوثه في أمكنة هي مشتركةٌ بين عباد الله ـ سبحانه ـ بنصّ (1) رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك الماءُ على أصل الاشتراك أيضًا بنصّ حديث أنّ:"الناس شركاءُ في ثلاثٍ" منها الماء. وقد اتفق المسلمون على أن الإنسان لا يجب عليه دفعُ ما ليس من فِعْلِهِ، ولا تسبَّبَ لإحداثه. وهذا الماءُ الذي هو محلُّ النزاع كذلك كما ذكرناه سابقًا، فهذه الطريقةُ الأولى من طرق الإجماع.
الطريقة الثانية: أنه قد اتفق المسلمون على أنه لا يجب على الإنسان أن يُنزِل بنفسه الضرر الذي نزل بالغير بغير فعلِه ولا سببِه.
الطريقة الثالثة: أنه قد اتفقَ أيضًا المسلمون على أنه لا يجب على الإنسان أن يجلب المصلحة لغيره إذا كان هذا الجلْبُ لا يتمُّ إلا بحصول مفسدةٍ تلحق الجالبَ في نفسه أو مالِه.
الطريقة الرابعة: أنه قد اتفقَ المسلمونَ على أنه لا يجبُ على الإنسان أن يدفعَ المفسدةَ عن الغير إذا كان الدفع [2أ] لا يتمُّ إلَاّ بإنزال تلك المفسدة بعينها أو بمثلها بذلك الدفع.
الطريقة الخامسة: أنه قد اتفقَ المسلمون على أنه لا يجبُ على الإنسان أن يجلبَ إلى غيره مصلحةً لا يمكن جلبُها إلَاّ بفوات مصلحةٍ مثلها عليه.
الطريقة السادسة: أنه قد اتفقَ المسلمون على أنه لا يجبُ على الإنسان جلبُ المصحلةِ الخالصة إلى الغير ابتداءً، من غير نظر إلى كونها تفوتُ عليه مثلُها، أو تحلُّ به مفسدةٌ. هذا على فرض أنها مقدورةٌ لا إذا لم تكن مقدوةً؛ فالأمر ممتنعٌ من جهتين:
الأولى: عدمُ التكليفِ بذلك من الأصل.
الثاني: كونُه من تكليفِ مالا يُطاقُ.
الطريقة السابعة: أنه اتفق المسلمون على أنه لا يجب على الإنسان أن يدفعَ عن
(1) تقدم ذكر الحديث مرارًا.
غيره مفسدةً خالصةً غيرَ معارضةٍ إلَاّ إذا كانت من آثار فِعله، لا إذا لم يكن من آثار فِعله فلا يجبُ عليه ذلك إلَاّ من باب إنكارِ المنكرِ، على فرضِ أن فاعله مكلَّفٌ مختارٌ حتى يكون منكرًا، لا إذا لم يكن كذلك كما نحن بصدده، فإنه ليس بمنكر، لأ، ه ليس من فعلِ مكلَّفٍ بل من فعل ربّ العزّة ـ سبحانه [2ب].
الطريقة الثامنة: أنه قد اتفق المسلمون على أنه لا يجبُ على الإنسان أن يدفَع الأمر الغالب الذي لا يدخل تحت مقدوره، وما نحن بصدده من هذا القبيل، وهذا على فرض أنه قد وُجِدَ سببُ الدفع، كأن يكون أجيرًا على الحفظِ أو الدفعِ، فكيف إذا لم يكن كذلكَ! كما نحن بصدده. فهذه ثماني طرق من طرق الإجماع، قد رجعتْ كلُّ واحدة منها إلى قاعدة كليةٍ (1) مدوَّنة في علم الأصول، وعلم مناسباتِ الفروعِ.
(1) من هذه القواعد:
1 -
درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
وانظر المادة رقم (1192) من المجلة.
والظاهر أن هذا اي تقديم المنفعة ومراعاتها حين تربو على المفسدة فيها إذاكانت المفسدة عائدة على نفس الفاعل، كمسألة الكذب بين المتعاديين للإصلاح. أمّا أذا كانت المفسدة عائدة لغيره كمسألة العلو والسفل، فإنه يمنع منها لمجرد وجود الضرر للغير وإن كانت النفعة تربوا على المفسدة.
2 -
الضرر يُدفع قدر الإمكان.
3 -
الضرر لا يزال بمثله. ولا بما هو فوقه بالأولى بل بما هو ونه.
4 -
الضرر يزال: والقاعدة السابقة قيد لهذه أي الضرر يزال إلا إذا كانت إزالته لا تتيسر إلا بإدخال ضرر مثله على الغير، فحينئذ لا يرفع بل يجبر بقدر الإمكان.
5 -
لا ضرر ولا ضرار. وأصل هذه القاعدة حديث نبوي.
6 -
الضرر الأشد يزال بالشرر الأخف.
7 -
إذ تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما.
8 -
العبرة للغالب الشائع لا النادر.
9 -
يختار أهون الشرّين.
10 -
يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
استيد بمنطوق هذه القاعدة بعض ما أفادته قاعدة: "الضرر لا يزال بمثله" بمفهومها المخالف، فإن مفهومها أن أحد الضررين إذا كان لا يماثل الآخر فإن الأعلى يزال بالأدنى، وعدم المماثلة بين الضررين إما لخصوص أحدهما وعموم الآخر، أو لعظم أحدهما على الآخر وشدته في نفسه. "
شرح القواعد الفقهية"
(125، 151، 152، 153). انظر: "المجلة"(ص654)، "المادة"(1192).
والمادة (1265)(ص683): لكل واحد أن يسقي أراضيه من الأنهر غير المملوكة أن يشق جدولاً لسقي الأرض وإنشاء الطاحون ولكن بشرط أن لا يضر بالعامة فإذا فاض الماء وأضرّ بالناس أو قطع الماء بالكلية أو منع سير الفلك فإنه يمنع.
انظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص85 - 91).
وكلُّ مَنْ له علم بهذين العِلْمين يعلمُ ما ذكرناه وهذه القواعدُ أيضًا مستعملةٌ في كتب الفروع قد عمل بها جميع الطوائف الإسلامية ودوَّنوها في كتبهم، فَمَنْ زعم أن في شيء منها خلافًا لمخالفٍ فليهدِهِ إلينا، وهي أيضًا منطبقة على محل النزاع انطباقًا لا يخفى على عارف.
أما الطريقةُ الأولى: فظاهرةٌ؛ إذ لا نزاعَ في كون ذلك الماءَ ليس من فعل أهل الأموال العالية، ولا تسببوا لإحداثه.
وأما الطريقة [3أ] الثانية: فواضحةٌ؛ إذ الإيجابُ على أهل الأموال العالية بأن يقبلُوا ذلكَ الماءَ ويُدْخِلُوه أملاكَهم، ليندفع الضررُ عن أهل الأملاك السافلة يستلزمُ أنه يجب عليهم أن يدفعوا الضَّرر عن مُلْكِ غيرهم بجَلْب الضررِ على أملاكِهم.
وأما الطريقة الرابعةُ: فلا ريبَ أن رفع المفسدة عن أهل الأموال السافلة يستلزمُ حصولَ تلك المفسدةِ على الأموال العالية.
وأما الطريقةُ الخامسة: فلا مِرْيَةَ أن جَلْبَ مصلحةِ الأموال السافلة لا يتمُّ إلَاّ بتفويتِ ماكان من المصلحة لأهل الأموال العاليةِ الحاصلةِ بعدم دخولِ الماء.
وأما الطريقةُ السادسة: فلا نشكُّ أن تكليفَ أهل الأموالِ العالية برفعِ الماء عن أهل الأموال السافلةِ من باب تحصيل مصلحةٍ خالصةٍ، وذلك لا يجبُ على فرض عدم حصول مفسدة، ولا فوات مصلحةٍ، لأنَّ تحصيلَ المصحلة للغير لا يجبُ ابتداءً، ولا سيما [3ب] إذا كان فواتها ليس بفعل أحدٍ من المكلَّفين بل من فعل الله ـ سبحانه ـ.
وأما الطريقةُ السابعة: فلا شكَّ أن رفعَ الماء عن الأموال السافلة دفعُ مفسدة عن أهلها، وذلك لا يجبُ على فرض عدم المعارضة بحصول مفسدةٍ أخرى، ولا فواتِ مصلحة لا يقالُ: يجبُ من باب إنكار المنكر، لأنا نقولُ: ليس انصبابُ هذا الماء إلى تلك الأموالِ منكرًا، إذ ليس من فعل المكلَّفين، بل من فعل الله ـ سبحانه ـ.
وأما الطريقةُ الثامنةُ: فلا ريبَ أن انصباب هذا الماء الذي ضاقتْ عنه الأرضُ، وضاق به ذَرْعُ أهلِها هو من الأمور الغالبة، على أنَّا لو فرضنا أن أهل الأملاكِ العالية يفتحون مداخل الماء إلى أملاكهم لما انقطعَ عن عن أهل الأملاك السافلة، إلَاّ ريثَما تضيقُ به الأملاكُ العالية، وتعجزُ عن قَبُولهِ، ثم ينزلُ إلى أهل الأملاك السافلة، فحينئذ لا يفيدُ فتحُ مداخل الأملاك العالية إلَاّ مجرَّد فسادها مع فساد الأملاك السافلة [4أ]، فكان في إيجاب ذلك على أهل الأموال العالية ضمُّ مفسدة إلى مفسدة، وتشفيعُ ضررٍ بضرر، وجَلْبُ مصيبة إلى مصيبة، وهذا ما لا يفعله عاقلٌ فضلاً عن عالِمٍ؛ إذ هو منافٍ للعقل والنقلِ، وهو أيضًا من تكليف ما لا يُطاقُ. وقد اتفقَ أهلُ الحق على أن الله لم يكلِّف به أحدًا، وهو نصُّ القرآن (1). وما روي من .........................
(1) قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
وقال سبحانه: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286].
الخلاف (1) فيه لأبي الحسن الأشعري، وثلةٍ معه فلم يقل أحدٌ منه بأن التكليف به واقعٌ، بل قالوا: يجوز ولا يقعُ، وحينئذٍ فالتكليفُ بما لا يُطاقُ لا يقعُ اتفاقًا، ومسألة النزاع من هذا القبيل، لأن المفروضَِ أن فَتْحَ المداخل إلى الأملاك العالية لا يصرفُه عن الأملاك السافلة إلَاّ وقتًا يسيرًا ثم يعود منصبًّا إلى الأملا السافلة، وهذه الطرقة التي ذكرناها وهي كونه من تكليفِ ما لا يطاق طريقةٌ منضمة إلى تلك الطرق [4ب] الثماني، فتكون الطرقُ تسعًا. فيا لله ذرُّ حكمٍ وقع الإجماع عليه من جميع طوائف المسلمين من طرق تسعٍ، وهي التي أمكن خطورها بالبال حالَ تحرير هذه الأحرف، فكيف لو حصل التتبعُ الكامل، والاستقراءُ التام! ويا للعجب كيفَ يقال يسوغُ الحكمُ على أهل الأملاك العالية بصرف الماء عن أهل الأملاك السافلة! مع كونه الأمر كما ذكرناه سابقًا، وهل هذا إلَاّ مخالفةٌ لقواعدَ شرعيةٍ قطعيةٍ أصوليةٍ إجماعيةٍ! وكيف يسعُ المسلمُ أن يقتحمَ مخالفةَ إجماع المسلمين المنقولِ من طريقة واحدة فضلاً عن المنقول من طرق عدَّة! وهل يوقعُ نفسَه في ذلك مَنْ يعلمُ بما في مخالفة الإجماع من الخطر، وأنه من أسباب ردِّ الحكم وبطلانه، وأن المخالفةَ للقواعد القطعيةِ فيها من الخطر ما هو معروفٌ! فما حال من جَمَعَ بين مخالفة الإجماعاتِ والقطعياتِ والقواعدِ [5أ] اليقينياتِ! فإن هذا لا ريبَ أنه ممن جمع بين فُقْدانِ العقل والعلم؛ إذ لو كان معه أحدُهما لاهتدى بنوره لما تقدم من أن تلك القواعدَ التي عددناها معلومةٌ عقلاً وشرعًا.
نعم. ذكر بعضُ أهل العلم والصلاح أن بعضَ العلماء المتأخرينَ قد صرح بما يفيدُ أنه يجب في مثلِ المسألةِ التي ذكرناها على أهل الأملاكِ العاليةِ أن يصرِفوا الماءَ المذكور عن
(1) أن شرط الفعل الذي وقع التكليف به أن يكون ممكنًا. فلا يجوز التكليف بالمستحيل عند الجمهور وهو الحق وسواء كان مستحيلاً بالنظر إلى ذاته أو بالنظر إلى امتناع تعلّق قدرة المكلف به.
- وقال جمهور الأشاعرة بالجواز مطلقًا، وقال جماعة منهم إنَّه ممتنع في الممتنع لذاته جائزٌ في الممتنع لامتناع تطلّق قدرة المكلف به.
انظر: "نهاية السول"(1/ 315)"روضة الناظر"(1/ 220)"الإحكام" للآمدي (1/ 181).
الأملاك السافلة، وقال ـ عافاه الله ـ: إنه صرَّح بذلك ابنُ حابس في كتابه المعروف "بالمقصد الحسنِ" أنْ سمعتُ منه هذه الرواية وهو ثقةٌ كدت أقطعُ بأنه وقع الاشتباهُ عليه، لأنَّ ابن حابس من المحققينَ الذين لا يخفى عليهم المداركُ الاجتهاديةُ. ومثل ما ذكرناه ما أظنُّه يخفى على المجتهد. ثم راجعت الكتابَ المذكورَ فوجدتُه قد ذكر في موضعينِ منه كلامًا ربما كان أحدُهما أو كلاهما هو المراد للناقل ـ عافاه الله ـ[5ب] وإن كان بينهما وبينَ ما نحن بصدده مفاوزُ لا يُدْرَكُ مقدارُها، وها نحن نذكرهما رفعًا للإشكال، ودفعًا للوهْمِ.
فنقولُ: الموضع الأول: قال في الكتاب المذكور ما لفظه: مسألةٌ: إذا أخربَ السيلُ أموالاً على ظهرِ وادٍ، وتحوَّلَ فجرى ماءُ ذلك الوادي إلى تلك الأموال، وادَّعى من له مالٌ تحتَ تلك الأموالِ إصلاحَ ذلك المال الخرابِ حتى يمنعَ الماءَ من الجَرْي في الأموال السفلى إما بالكليةِ، وذلك حيث لا يستحقُّ عليه في الأصل الإشاحةُ، أو ما زاد على ما يُعْتَادُ من الإشاحة حيث يستحقُّها من الأصل، فإنه يجب على صاحب المال الخرابِ أن يُصْلِحَ مالَهُ بما يُعْتَادُ في الجهة كما ذكروا في الجدار المائلِ إلى طريق أو حقّ عامّ أنه يجبُ عليه إصلاحُهُ مع الإمكان والعلم بالخلل، وإلَاّ ضمنَ ما أفنت وقد ورد في سؤالاتٍ [6أ] فأجيب بما ذكر ـ والله أعلم ـ انتهى. نقل الموضعَ الأولَ من الكتاب المذكور.
الموضع الثاني: قال ما لفظه: مسألةٌ: إذا دخل الماءُ المملوكُ إلى أرض الغير بغير اختيارِ مالكه وجبَ إزالتُه على مالكه، لكن إذا كان يضرُّ الأرضَ إزالتُه وبقاؤُه ماذا يكون الاهرُ ـ والله أعلم ـ أنه لا يجبُ على المالك أرشُ ما نقصَ من الأرض؛ إذا لم يرضَ مالكُ الأرضِ ببقائه، وإن رضي ببقائه لم يكن لصاحبِ الماء رفعُه ولا أجرةَ عليه للأرض، ولا يضْمَنُ مالِكُها الماءَ لمالكهِ، هكذا اقتضاه النظرُ ـ والله أعلم ـ. انتهى نقل الموضعَ الثاني من الكتاب المذكورِ وليس فيه ما يُظَنُّ أنه يشتبهُ على الناظرِ لمسألةِ السؤالِ مع عدم إمعان النظر سوى هذين الموضعينِ. ولا يخفى على عارفٍ أن بين هذين
البحثينِ المنقولين من الكتاب المذكور، وبين المسألة التي نحن بصددها ما بين السماء والأرض، فإن كنت ممن يستغني بفهمه لم تحتجْ إلى إيضاح التفاوتِ، وإن كنت محتاجًا إلى الإيضاح [6ب].
فاعلم ـ أرشدني الله وإياك ـ أن المسألةَ الأ، لى المنقولَة من الكتاب المذكور قد صرَّح فيها أن سببَ انصبابِ الماء إلى الأملاك السافلةِ هو خرابُ الأرض العالية كما تراه صريحًا في كلامه، ولا شك أنه يجبُ عليه إصلاحُ أرضِه إذا كان خرابها سببًا لعدم انتفاعِ مَنْ تحتَه، وقد ذكروا لذلك نظائِرَ:
منها: المسألة التي أشار إليها رحمه الله وهي مسألة الجدارِ المائلِ.
ومنها: قولُهم: أنه يجبُ على صاحب السُّفلِ من الأبنيةِ أن يُصْلِحَ مُلْكَهُ لينتفعَ ربُّ العُلُوِّ، وغيرُ ذلك. وهذا شيءٌ آخر غيرُ ما نحن بصدده؛ إذ المفروضُ فيما نحن بصدده أنه لم يكن لصاحب الأموالِ العاليةِ سببٌ يوجبُ انصبابَ الماء إلى ملك أهل الأموال السافلة، بل دَفَعَ عن نفسه الضَّرَر فسدَّ المداخلَ، لئلا يدخلَ من الماء ما يفسدُ أرضَه بخلاف هذه المسألةِ التي ذكرها صاحب المقصد، فغنه كان السببُ للإضرارِ بأهل الأموال السافلةِ خرابَ الأموالِ العاليةِ، وذلك سببٌ ظاهرٌ [7أ]، وإصلاحُهُ يعود على صاحبه بفائدة، وهي مصير أرضه صالحةً سالمةً من الخراب، بخلاف المسألةِ التي نحن بصددها، فإنه لا سببَ منه كما تقدَّم، وفَتْحُ المداخل للماء إلى أرضه يوجب فساد أرضه لإصلاحها، فكم الفرق بين من يقول لصاحب الأملاك العالية يُصْلِحُ أرضَه بالعمارة، ليندفعَ الضررُ الذي كان بسببه، وبين من يقول لصاحب الأرض العاليةِ يفسدُ أرضَه بإدخال ما لا يحتاجُ إليه من الماء، ليندفعَ الضَّررُ عن أهل السافلة الذي لم يكن له فيه سببٌ.
والحاصلُ أن المسألة التي نحن بصددها لا سببٌ ولا إصلاحٌ بل إفسادٌ. والمسألة التي ذكرها ابنُ حابس وُجِدَ الإصلاحُ وفُقِدَ. فانظرْ كم بين المسألتين من التفاوت، بل التقابل، فإن أحدَهما فيها الأمرُ بالغصلاح لدفع الإفسادِ، الذي وُجِدَ
فيه السببُ والآخَرَيْنِ فيها الأمرُ بالإفسادِ لدفع الإفسادِ مع عدم وجود السببِ، ومن لم يظهرْ له الفرقُ بين الطرفين فلا يُتْعِبْ نفسَه [7ب] بالنظر في المسائل العلميةِ، فإنه محجوبٌ.
وأما الاختلافُ ما بين المسألةِ الثانيةِ التي نقلناها من المقصدِ، وبين المسألةِ التي نحن بصددها فهو أوضحُ من أن يلتبسَ، فإن صاحبَ المقصد قال في صدر المسألة: إذا دخل الماءُ المملوكُ، وليس كلامُنا في الماء المملوكِ الذي قد وقع عليه النقلُ والإحراز حتى صار مملوكًا، بل في ماءٍ حدثَ بسببِ كثرة الأمطارِ، وتَنَزَّلَ من شواهقِ الجبال، وبطونِ الأوديةِ، فأين هذا من ذاك! فعرفت بهذا أن كلام ابن حابس في شيء آخر غير ما نحن بصدده، وكيف يُظَنُّ بمثلهِ أنْ يَحْكُمَ تلك الإجماعات، وينافي تلك المسائلَ القطعياتِ والقواعدَ المقرَّراتِ! هذا مالا يُظَنُّ بعالمٍ، على أنه لو قال عالمٌ بمثل ذلك لكان كلامُهُ مُطَّرَحًا لمخالفتهِ لما لا يجوزُ مخالفتُه، والحقُّ مقدّضمٌ على كل أحدٍ، وإقدامُ أئمة الاجتهاد تتفاوتُ، فقد يدركُ بعضُهم من المداركِ ما لا يدركُ الآخر بعضَه. نسأل الله إصلاحَ الأقوالِ والأفعالِ.
وفي هذا المقدرا كفاية لمن له هداية.
حرر في الثلث الأوسط من ليلة الجمعة لعلها ليلة تاسع وعشرين شهر ربيع الآخر سنة 1210 كتبه جامعه الحقير محمد الشوكاني ـ غفر الله له ـ. [8أ]