المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: أثر الخلاف في منع القطعية - القطعية من الأدلة الأربعة

[محمد دكوري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: قطعية الدليل وأثرها

- ‌الفصل الأول: قطعية الدليل

- ‌المبحث الأول: جهة القطعية في الدليل

- ‌المطلب الأول: جهة الثبوت

- ‌المطلب الثاني: جهة الدلالة

- ‌المطلب الثالث: مسائل في جهة القطعية

- ‌المبحث الثاني: فيما يفيد القطعية في الدليل

- ‌المطلب الأول: إفادة الإجماع القطعية في الدليل

- ‌المطلب الثاني: أثر القرائن في إفادة القطعية

- ‌المبحث الثالث: فيما يمنع القطعية عن الدليل

- ‌المطلب الأول: أثر الخلاف في منع القطعية

- ‌المطلب الثاني: الاحتمال وأثره في منع القطعية

- ‌الفصل الثاني: أثر قطعية الدليل

- ‌المبحث الأول: أثر قطعية الدليل في الإصطلاح

- ‌المطلب الأول: في الدليل والأمارة

- ‌المطلب الثاني: في الفرض والواجب

- ‌المبحث الثاني: أثر القطعية في الاجتهاد والتخطئة

- ‌المبحث الثالث: أثر القطعية في التعارض والترجيح

- ‌الباب الثاني: أحكام القطعية في الأدلة الأربعة

- ‌الفصل الأول: أحكام القطعية في الكتاب والسنة

- ‌المبحث الأول: الكتاب والسنة أصل الأدلة الشرعية القطعية وغيرها

- ‌المبحث الثاني: أحكام القطيعة في السنة من جهة الثبوت

- ‌المطلب الأول: قطعية الخبر المتواتر

- ‌المطلب الثاني: قطعية الخبر الواحد

- ‌المبحث الثالث: أحكام القطعية في الكتاب والسنة من جهة الدلالة

- ‌المطلب الاول: قطعية النص

- ‌المطلب الثاني: قطعية العموم

- ‌المطلب الثالث: قطعية المفهوم

- ‌الفصل الثاني: أحكام القطعية في الإجماع

- ‌المبحث الأول: قطعية الإجماع

- ‌المبحث الثاني: الإجماع القطعي

- ‌الفصل الثالث: أحكام القطعية في القياس

- ‌المبحث الأول: قطعية القياس

- ‌المبحث الثاني: القياس القطعي

- ‌المبحث الثالث: القطعي من مسالك العلة

الفصل: ‌المطلب الأول: أثر الخلاف في منع القطعية

‌المبحث الثالث: فيما يمنع القطعية عن الدليل

‌المطلب الأول: أثر الخلاف في منع القطعية

المبحث الثالث: فيما يمنع القطعية عن الدليل

تقدم الكلام في المبحث السابق عن الأمور التي تضفي القطعية على دليل غير قطعي على فرض خلوه عن تلك الأمور، فهل ثمة أمور إذا كانت في الدليل غير القطعي منعته من القطعية، أو أزالت القطعية عنه إذا حلت فيه؟ وهل كون الدليل مختلفا فيه يثبت العذر، ويرفع القطعية عنه، أو يمنعه منها؟ وهل الاحتمال مخرج للدليل عن القطعية، وما حدود ذلك؟

فمدار هذا المبحث على الاختلاف والاحتمال وأثرهما في رفع القطعية عن الدليل.

المطلب الأول: أثر الخلاف في منع القطعية

المقصود من الخلاف في الدليل هنا الخلاف فيه من جهة ثبوته ومن جهة دلالته، والخلاف الذي يلزم منه ذلك كالخلاف في حجيته.

أما الخلاف في الدليل من جهة ثبوته، فكالخلاف في ثبوت إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على العمل بالقياس1، وكالخلاف في ثبوت التواتر في الأخبار المستدل بها على حجية الإجماع2، وأما الخلاف في الدليل

1 انظر الخلاف في ذلك في البرهان 2/499-505 والمستصفى3/523 والإحكام للآمدي 3-4/300-312

2 انظر مبحث قطعية الإجماع وفيه الكلام على أدلة حجيته ص (388.) .

ص: 165

من جهة دلالته، فكالخلاف في دلالة قول الله تبارك وتعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1 على حجية الإجماع2 ومن ذلك الخلاف في دلالة آيات كثيرة من الكتاب العزيز على بعض المسائل الفقهية، كدلالة قوله تعالى في آية الوضوء:{يَأَيهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى الْمَرَافِقِ} 3 على وجوب غسل المرفق مع اليد، ودلالة قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثةَ قُرُوءٍ} 4 على أن الاعتداد بالأطهار أو بالحيض5.

والخلاف في حجية الدليل يلزم منه الخلاف في قطعيته مطلقا، لأن القطعية فرع عن الحجية، فمن لا يرى الدليل حجة أصلا فهو لا يراه قطعيا! فيدخل ههنا بالتبع الخلافُ في حجية خبر الواحد والإجماع والقياس، فقد خالف في ذلك بعض الفرق البعيدة عن اتباع السنة6.

1 سورة النساء (115) .

2 انظر المسألة في المحصول 5/35-66 والإحكام للآمدي 1-2/170-179،186 وروضة الناظر لابن قدامة2/335-338.

3 سورة المائدة (6) .

4 سورة البقرة (228) .

5 انظر المسألتين في بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد1/25، 2/105.

6 انظر الخلاف في حجية خبر الواحد في إحكام الفصول ص334 والبرهان1/388 وبيان المختصر 1/671. وانظر الخلاف في حجية الإجماع في إحكام الفصول ص437 والبرهان1/434 وبيان المختصر 1/525.

وانظر الخلاف في حجية القياس في إحكام الفصول/531 والبرهان2/490-492 وبيان المختصر 3/141-142، فقد خالف في ذلك المعتزلة والروافض والنظام من المعتزلة وغيرهم.

ص: 166

ولكِلَا طَرَفَي الإثبات والنفي في هذه المسألة ما يعززه من الأمارات وإشارات أهل العلم:

كون الخلاف مانعا من القطعية أو رافعا لها يدل عليه ما يلي:

أولا: أن مسائل الخلاف قد كثر فيها الخلو من الدليل القطعي، قال الزركشي: "لما غلب على مسائل الخلاف الظن ظُنَّ أن جميعها كذلك

"1، لأنه لما كان وجود الدليل القطعي يجعل الباحثين في الأدلة يتفقون على القول بموجبه، ويطمئنون إليه كان خلافهم موهما بعدم وجود دليل قطعي في المسألة، وأن جميع المختلفين اعتمدوا فيما ذهبوا إليه على أدلة غير قطعية.

ثانيا: أن في عبارة كثير من أهل العلم ما يشير إلى ذلك:

- قال الشافعي - إشارة إلى القسم القطعي من الحجج -: هو "ما كان نص كتاب بيِّن أو سنة مجتمع عليها

"، وقال في القسم غير القطعي منها: هو "ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه"2،

1 البحر المحيط1/473.

2 الرسالة ص460-461، وانظر ص598-600.

ص: 167

فما ذكره رحمه الله يحتمل أن يكون معناه أن اجتماع الخبر مظنة القطعية واختلافه مظنة عدمها.

- وفرق أبو الحسين البصري بين ما هو من مسائل الاجتهاد وما ليس منها بقوله: "إن مسائل الاجتهاد التي لا لوم على المخطئ فيها هي ما اختلف فيه أهل الاجتهاد من الأحكام الشرعية"1.

- وقال الغزالي - إشارة إلى مسألة هل البسملة آية من القرآن -: "الإنصاف أنها ليست قطعية بل هي اجتهادية، ودليل جواز الاجتهاد فيها وقوع الخلاف فيها في زمان الصحابة رضي الله عنهم"2.

- وقال الرازي: "إنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين اختلافا لا يمكن القطع فيه بما هو الحق"3.

- وقال الطوفي - إشارة إلى مسألة الحقيقة الشرعية -: "والدليل على أنها ليست قطعية أنها لو كانت قطعية لنصب عليها دليل قاطع

لكن الدليل القاطع منتف قطعا وإلا لما وقع هذا النزاع"4.

1 المعتمد2/397-398.

2 المستصفى2/20-21.

3 المحصول1/204-205.

4 شرح مختصر الروضة1/500.

ص: 168

- ويقول ابن السبكي1 - إشارة إلى مسألة جواز النسخ بمفهوم الموافقة -: "والمسألة خلافية ولا قاطع مع الخلاف"2.

- ومن ذلك أن الإجماع القطعي عند بعض العلماء هو الإجماع الذي لا يختلف فيه أحد من القائلين بحجية الإجماع3، فكان الخلاف في الإجماع على هذا رافعا أو مانعا من كونه قطعيا.

- ومن ذلك أن الواقفية في صيغ العموم والأمر4 يستدلون على نفي وجود دليل قطعي على حجية تلك الصيغ بدليل مشهور لهم، وهو أنه لو وجد دليل قطعي لما خالفوا، فيجعلون خلافهم دليلا على عدم القطعية في جميع ما استدل به الجمهور على حجية تلك الصيغ5.

1 هو عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي أبو نصر تاج الدين ابن تقي الدين السبكي، فقيه أصولي مؤرخ، من تصانيفه: جمع الجوامع في أصول الفقه، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، طبقات الشافعية الكبرى، الأشباه والنظائر في الفقه. توفي سنة (771) هـ. انظر الدر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 3/39 الفتح المبين2/184-185 الأعلام4/335.

2 الإبهاج شرح المنهاج2/282.

3 انظر الكلام على الإجماع القطعي ومسالك العلماء في تحديده ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .

4 هم الذين يتوقفون في تلك الصيغ فلا يحكمون فيها بالأمور التي تذكر هناك كالعموم وأقل الجمع وكالوجوب والندب وغيرها، ولمذهبهم تفصيل ينظر فيه ما ذكر من المراجع.

5 انظر هذا الدليل في الوصول إلى الوصول لابن برهان1/137-138 وبيان المختصر2/31 والإبهاج شرح المنهاج2/42، وانظر قريبا منه في شرح العمد1/323-325.

ص: 169

كون الخلاف لا يمنع القطعية ولا يرفعها يدل عليه ما يلي:

أولا: أن المعول عليه في إثبات الأحكام الشرعية ونفيها هو الدليل وما يفيده وليس موقف الناظرين في ذلك الدليل، إلا أن يدل دليل شرعي على ذلك كما في الإجماع، فقد ثبت بالأدلة القاطعة أن إجماع الأمة على أمر يجعل ذلك الأمر صوابا وينقطع فيه احتمال الخطأ، ومن ذلك إجماع جميع المجتهدين على قبول الدليل، أما الخلاف فليس كذلك إذ ليس الخلاف حجة1، فلا يرفع القطعية ولا يمنعها.

ثانيا: أن كثيرا من الأدلة والمسائل القطعية عند جمهور المسلمين قد خالف فيها مخالفون، كحجية الإجماع وقطعيته وحجية خبر الواحد وجواز قطعيته وحجية القياس، ومن ذلك ما ينقل من خلاف السمنية2 في قطعية الخبر المتواتر، ولو كان الخلاف رافعا للقطعية لما وقع القطع من الأئمة بأن

1 وذكر الزركشي مواضع يكون الخلاف فيها حجة: منها أن الخلاف حجة في منع الخروج من الأقوال التي انحصر فيها، وأنه يسوغ الذهاب إلى أي قول من تلك الأقوال، وأنه حجة على أن جميع الأقوال صواب على القول بالتصويب. انظر البحر المحيط4/549.

والخلاف في كل هذا أمارة على الدليل لا أنه حجة بنفسه، أما الأول فإن انحصار الخلاف دليل على انحصار الحق والصواب فيما انحصر فيه، وذلك يمنع من الخروج من تلك الأقوال وقد تعين الصواب فيها، أما تسويغ الأخذ بأي من الأقوال وكونها صوابا كلها فدليله أدلة المصوبة في مسألة هل كل مجتهد مصيب. انظر المسألة في البحر المحيط 6/236-241.

2 انظر الترجمة لهم والكلام على مذهبهم في قطعية المتواتر ص (267) .

ص: 170

هذه أدلة وحجج على الأحكام الشرعية1.

ثالثا: أن من الخلاف ما لا يعتد به لبعده وكونه مبنيا على مخالفة الصريح الصحيح، فكيف يكون مثل ذلك مانعا من القطعية!

قال الشاطبي: "إن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد في الخلاف

، لأن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تَجمع بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت، وما ضلت إلا وهي غير معتبرة القول فيما ضلت فيه فخلافها لا يعد خلافا، وهكذا ما جرى مجراها من الخروج عن الجادة"2، وقال في موضع آخر: "إن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب: فمن الأقوال ما يكون خلافا لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي

فأما المخالف للقطعي فلا إشكال في اطراحه، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه دون الاعتداد به"3.

وقال إمام الحرمين مشيرا إلى من خالف في بعض أنواع القياس القوية

1 انظر تلخيص التقريب3/216 والبرهان1/216،286،396، 2/755 والمستصفى 2/133 والإحكام للآمدي 1/211 والبحر المحيط1/473 وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 3/254-255 ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت1/12،347،377، 2/213،245.

وكذلك الأدلة العقلية قد وقع التنازع فيها بين أذكياء العقلاء كلٌ يدعي أن ما عنده دليل عقلي قطعي وأن ما عند خصمه باطل، وكذلك يدعي خصمه. انظر درء تعارض العقل والنقل1/183 وانظر 5/345-346.

2 الموافقات3/95.

3 المرجع السابق4/173، وانظر المسودة/497.

ص: 171

كإلحاق صب البول في الماء الراكد بالبول فيه: "وقد قال القاضي لا يعتد بخلاف هؤلاء ولا ينخرق الإجماع بخروجهم عنه، وليسوا معدودين من علماء الشريعة"1.

وذلك أن الخلاف قد يكون عن عناد أو عن خلل، كخلاف السمنية في قطعية الخبر المتواتر، فكيف يكون مثل هذا الخلاف رافعا للقطعية أو مانعا لها2! بل قد يكون الخلاف بسبب الجهل وعدم الاطلاع على الدليل أو على القرائن المعززة له التي ترفعه عن الظهور إلى اليقين والقطع3، أو يكون الخلاف عند التحقيق راجعا إلى الاتفاق، "وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة، فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالا مختلفة في الظاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد"4.

رابعا: أن كثيرا من المسائل يقع فيها الخلاف، ثم إن كل فريق من

1 البرهان 2/515، وممن خالف في ذلك ابن حزم وقد قال فيه الذهبي في السير 18/187: "كان ينهض بعلوم جمة ويجيد النقل ويحسن النظم والنثر وفيه دين وخير

فلا نغلو فيه ولا نجفو عليه وقد أثنى عليه قبلنا الكبار".

2 انظر المستصفى2/133.

3 انظر الإحكام 2/261،371-372 والمسودة ص496 والاستقامة 1/68-69 وفواتح الرحموت مع مسلم الثبوت 1/347.

4 الموافقات4/214.

ص: 172

المختلفين يذهب إلى القطع في المسألة ويرى أن دليله قطعي فيما ذهب إليه وأن مخالفه مخطئ قطعا1، لذا يتطرق أهل العلم عقب بعض المسائل الخلافية إلى النظر في كونها من مسائل القطع أم لا، بمعنى أن الأدلة فيها قطعية أم أنها متقاربة غير بالغة مبلغ القطع2.

خامسا: أن القطعية في الدليل ليست صفة لازمة ومطردة حتى يكون عدم قطع بعض من نظر فيه رافعا القطعية عنه بالنسبة لغيره، فليس كل دليل قطعي يجب أن يشترك جميع الناظرين في القطع به، فلا يكون خلاف زيد من المستدلين يزيل القطعية عن الدليل بالنسبة لعمرو منهم، قال ابن القيم: "إن كون الدليل من الأمور الظنية أو القطعية أمر نسبي يختلف باختلاف المدرك المستدل، ليس صفة للدليل في نفسه

، فقد يكون قطعيا عند زيد ما هو ظني عند عمرو"3، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن العلوم على اختلافها وتباين صفاتها لا توجب اشتراك العقلاء فيها لا سيما السمعيات والخبريات، وإن زعم أقوام من أولي الجدال أن الضروريات يجب الاشتراك فيها، فإن هذا حق في بعض الضروريات لا في جميعها، مع تجويزنا

1 انظر المعتمد لأبي الحسين البصري2/397-398 وتعليقات الشيخ عبد الله دراز على الموافقات 4/328.

2 انظر التلخيص1/466 والمستصفى1/259.

3 مختصر الصواعق المرسلة2/432-433 وانظر الصواعق المرسلة2/660-661.

ص: 173

عدم الاشتراك في شيء من الضروريات، لكن جرت سنة الله بوقوع الاشتراك في بعضها فغلط أقوام فجعلوا وجوب الاشتراك في جميعها فجحدوا كثيرا من العلم الذي اختص به غيرهم 1. يبين ذلك أن القطع وعدمه ربما كان بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة وبحسب قدرته على الاستدلال، والناس يختلفون في هذا وذاك"2.

فقد لا يقطع مستدل ناظر في الدليل لأنه لم يصله ما يكفي من ذلك للقطع أو يصله ما يكفي ولا يكون عنده القدرة على استنباط القطع من الأدلة، فكيف يكون خلافه مانعا لغيره من القطع!.

ومما يشير إلى هذا الطرف ما ذكره الغزالي في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة مشيرا إلى القول بعدم صحة الصلاة فيها، قال:"وكل من غلب عليه الكلام قطع بهذا نظرا إلى اتحاد أكوانه في كل حالة من أحواله وأن الحادث منه أكوان اختيارية هو معاقب عليها عاص بها فكيف يكون متقربا بما هو معاقب عليه ومطيعا بما هو به عاص"3، فالذي غلب عليه علم الكلام يقطع بهذا لما اعتاده من مباحث وحقائق في العلم الغالب عليه، ولا

1 مجموع الفتاوى4/370-371 وانظر 2/47-49.

2 المرجع السابق 19/211، وانظر شرح تنقيح الفصول/128، 192، 340 والمقاصد الشرعية للشيخ الطاهر بن عاشور ص27،40.

3 المستصفى 1/254.

ص: 174

يقطع به غيره ممن لم يمارس الكلام 1.

قطعية الدليل بالنسبة للخلاف نوعان:

ويستخلص مما ذكر في هذا المطلب أن القطعية في الأدلة نوعان:

النوع الأول: القطعية المطلقة، وهي: ما يكون سبب القطع فيها واضحا صريحا، كأن يكون الدليل نصا من كتاب الله تعالى لا شبهة فيه، ثم يجمع عليه المسلمون عامتهم وخاصتهم، فهذا لا يتصور فيه خلاف معتد به، إلا مع فرض كونه عن عناد أو اتباع هوى، لأن الكتاب العزيز قطعي من جهة الثبوت، وكون الدليل فيه نصا يجعله قطعيا من جهة الدلالة أيضا، فيقطع به وبما يدل عليه كل من عرف لغة العرب.

ولا يمكن أن يقال في مثل هذا النوع من القطعية إنه نسبي! إذ لا يمكن أن يوجد من هو أهلٌ للنظر في الأدلة الشرعية وطَلَبِ الأحكام منها يجهل دليلا هو نص في كتاب الله تعالى مثبت لحكم شرعي مجمع عليه!.

ولعل هذا النوع هو ما يفيد العلم القطعي الذي ذكر الإمام الشافعي رحمه الله أنه عِلْمُ عامّةٍ المسلمين الذي لا يَسَعُ بالغا غيرَ مغلوبٍ على عقله جهلُه2.

1 والمسألة المذكورة خلافية، الجمهور على صحة الصلاة، وهو اختيار الغزالي نفسه (انظر المرجع السابق) .

2 انظر الرسالة للإمام الشافعي ص357.

ص: 175

النوع الثاني: القطعية المقيدة، وهي: ما يكون سبب القطع فيها غير قريب، معتمدا على قرائن متفرقة يحتاج الناظر للوقوف عليها إلى استقراء وتتبع ونظرٍ في وجه استنباط القطع منها، ثم يوفق في النظر في ذلك حتى يحصل له القطع واليقين منة من الله وفضلا، يرفعه بذلك درجات بما أوتي من اليقين، وقد لا يطلع غيره من المستدلين الناظرين على كل تلك القرائن أو يطلع عليها ولا يوفَّق في الاستنباط فيقف دون اليقين عند حد الرجحان.

فمثل هذا الاختلاف يرفع صفة الاطراد واللزوم عن القطعية في الدليل حتى يكون دليلا قاطعا في حق من وُفِّق إلى الوصول إلى اليقين، وغير قاطع في حق غيره ممن لم يصل إلى ذلك، ولا يكون عدم القطعية بالنسبة إلى من لم يقطع في هذا يمنع القطعية بالنسبة إلى غيره، بل تكون القطعية نسبية.

وكون الغالب في مسائل الخلاف بين أهل العلم عدم القطعية المراد به القطعية بالمعنى الأول، وإلا فلا يبعد أن يكون الغالب فيها القطع واليقين عند الأئمة الأعلام الجامعين لشتات الأدلة الواقفين على قرائنها في مظانها وغير مظانها1.

وعلى هذا يكون الدليل القطعي نوعين:

النوع الأول: دليل قطعي قطعا مطلقا، وهذا قطعية الدليل بالنسبة

1 انظر الاستقامة لشيخ الإسلام ابن تيمية1/55-56،68-69.

ص: 176

للناظر المحتج لنفسه وللمناظر1 المحتج به على غيره، لكون الدليل قطعيا لذاته.

والنوع الثاني: دليل قطعي قطعا نسبيا: أي بالنسبة لمن حصَّل أسباب القطعية وحققها2، وهذه قطعية الدليل بالنسبة للناظر دون المناظر، لأن قرائن القطعية واختلاف نظر المجتهدين في الدليل سبب في القطعية، فهو قطعي لغيره.

والقطعية في هذا النوع تحصل بالبحث عن الأدلة في الكتاب والسنة واستقراء قرائنها من النصوص وعمل الصحابة ومن تبعهم وتتبع ما ورثوا من

1 الناظر فاعل من النظر وهو الفكر المؤدي إلى علم أو غلبة ظن، والفكر حركة النفس في المعقولات، والمناظِر مفاعِل من المناظرة وهي المحاورة في الكلام بين شخصين مختلفين يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول الآخر مع رغبة كل منهما في ظهور الحق، فهي مشاركة بين اثنين في النظر. انظر آداب البحث والمناظرة للشيخ محمد الأمين الشنقيطي القسم الأول/11، والقسم الثاني/3.

فالناظر ينظر في الدليل لنفسه، والمناظر ينظر فيه ليصحح مذهبه على خصمه، فإذا كان الدليل قطعيا مطلقا نفعه في إلزام خصمه أما النوع الآخر فإن خصمه ربما خالفه في قطعيته وكان عنده ظنيا فيصار إلى الترجيح بين الظنون.

2 قارن بين هذا وبين تقسيم الدكتور عابد بن محمد السفياني صفة الثبات في الشريعة قسمين: ثبات مطلق من حيث الزمان والمكان ولزومه لجميع الأمة، وهذا ثبات الحكم المعصوم المستند إلى نص أو إجماع (أي إلى دليل قطعي) ، وثبات مقيد أي بالنسبة للمجتهد حين يراه ولم يظهر له بطلانه، وهذا ثبات الحكم المختلف فيه، أو "الثبات النسبي". انظر الثبات والشمول في الشريعة لمحمد عابد السفياني ص576-577.

ص: 177

ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في مظانها وغير مظانها والنظر فيها بما يؤدي إلى العلم بمقاصد الشريعة والقطع بثبوت الدليل وبمراد النبي صلى الله عليه وسلم به1.

وما سبق نقله من بعض العلماء من جعل الخلاف رافعا للقطعية فذلك حيث كان مرادهم القطعية المطلقة المطردة التي لا يعذر من يخالفها ويقع اللوم والإثم عليه، ولا يكون ذلك إلا فيما كان قريبا متناولا لكل المستدلين حتى يعد خلافه عن هوى أو عناد.

- قال الشافعي عند كلامه على قسمي الحجة: "أما ما كان نص كتاب بين أو سنة مجتمع عليها فالعذر فيها مقطوع ولا يسع الشك في واحد منهما ومن امتنع عن قبوله استتيب، فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه فيكون الخبر محتملا للتأويل وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم ردُّ ما كان منصوصا منه كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله"2.

فهذا ظاهر أن الإمام الشافعي يريد القطعي المطلق، على أن المراد بالاجتماع والاختلاف هنا: اجتماع الرواة على رواية الخبر واختلافهم،

1 انظر درء تعارض العقل والنقل1/75، 195-196 حيث ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية نحو هذا في أدلة (أصول الدين) وأنها قطعية يعلمها أهل العناية بوراثة النبوة.

2 الرسالة ص460-461، وانظر ص598-600.

ص: 178

أي أن يرويه بعض دون بعض. والله تعالى أعلم.

- ويحمل ما ذكره أبو الحسين البصري على أن الخلاف السائغ المعتد به يرفع اللوم عن المخالف في الدليل القطعي النسبي، ولا يرفع أصل القطعية بالنسبة إلى غيره1.

- وقال الغزالي بعد مسألة (هل الشيء الواحد يكون طاعة ومعصية) : "فإن قيل هذه المسألة اجتهادية أم قطعية، قلنا هي قطعية والمصيب فيها واحد"2، فأثبت القطعية مع التصريح بالخلاف.

- وقال الرازي بعد ذكر الخلاف في الألفاظ اللغوية: "ومن تأمل أدلتهم

علم أنها متعارضة وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين"3، فعوّل في نفي القطعية وما دونها على الأدلة دون مجرد الخلاف.

- وقال الطوفي بعد تقسيمه المسائل إلى قطعية واجتهادية: "والظن والقطع فيهما تابع للدليل"4، فعوّل أيضا على الدليل.

فمن عوّل من العلماء على الدليل كان ذلك إشارة إلى أن حقيقة نفي القطعية راجعة إلى النظر في الدليل، ومن كان منهم أثبت القطعية مع وجود

1 انظر المعتمد2/397-398.

2 المستصفى1/259، وانظر (بولاق) 2/357-358، أثبت القطعية مع الخلاف والإنكار.

3 المحصول1/204-205.

4 شرح مختصر الروضة1/499-500، وانظر2/484، 3/601.

ص: 179

الخلاف دل على أن منعه للقطعية حيث منع ليس لمجرد الخلاف، فوجب حمل ذلك على نفي القطعية المطلقة التي يجب أن يستوي فيها الناظرون، وكل ذلك راجع إلى الدليل دون مجرد الخلاف. والله أعلم.

وكذلك من أثبت القطعية مع الخلاف ذكر أن سببها أمور ربما خفيت على من لم يقطع أو لم تكن عنده المقدرة على الاستنباط المؤدي إلى القطع، مع أن كل دليل قطعي ليست هذه صفته.

فما يجتمع عليه أكثر أقوال العلماء هو أن الخلاف المعتد به يرفع الإطلاق واللزوم والاطراد عن القطعية، ولا يلزم منه رفع أصل القطعية1.

1 وانظر ما ذكره الدكتور صلاح الصاوي في كتابه "الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر"، فإنه قصد بالثوابت القطعيات التي لا يحل فيها الخلاف خاصة (انظر منه ص33) والتي يمكن أن تكون أساسا يُتفق عليه وأصلا يُرجع إليه عند الاختلاف في مجال الدعوة الإسلامية، وذلك بالنظر إلى ما ههنا أحد نوعي القطعيات وهو القطعي المطلق. والله أعلم.

ص: 180