الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: أثر قطعية الدليل
المبحث الأول: أثر قطعية الدليل في الإصطلاح
المطلب الأول: في الدليل والأمارة
…
الفصل الثاني: أثر قطعية الدليل
كان لقطعية الدليل أنواع من الآثار في مواضع كثيرة من أصول الفقه، فقد كانت القطعية والاعتداد بها في الأدلة سببا في تميز بعض الاصطلاحات الأصولية، كالتفريق بين الدليل والواجب، وبين الفرض والواجب، كما كان للقطعية آثار في بعض أحكام الاجتهاد في الأدلة والترجيح بينها وما يترتب على ذلك من الخطأ والصواب.
المبحث الأول: أثر القطعية في الأصطلاح
المطلب الأول: في الدليل والأمارة
- فرّق بعض العلماء في الاصطلاح بين الطرق الموصلة إلى الأحكام الشرعية، فما كان منها طريقا مفيدا للعلم القطعي خصوه بإطلاق اسم (الدليل) ، وما كان دون ذلك من الحجج الموصلة إلى الأحكام الشرعية أطلقوا عليه اسم (الأمارة) 1، ولم يصح عندهم إطلاق اسم (الدليل) على ذلك إلا على سبيل التجوّز، قال أبو الحسين البصري:"والدلالة ما النظر الصحيح فيه يفضي إلى العلم، والأمارة هي ما النظر الصحيح فيها يفضي إلى غالب الظن"2، وقال في موضع آخر - بعد أن عرَّف الأمارة بنحو ما سبق -:"وبذلك تتميز [أي الأمارة] من الدلالة"3.
- ولم يفرق آخرون بين اللفظين، بل الدليل عندهم شامل لما كان من تلك الطرق مفيدا للعلم القطعي وما لم يكن منها كذلك، فالدليل على هذا القول: ما يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري. والمطلوب الخبري أعم من أن يكون قطعيا أم ظنيا، أو يعرفون الدليل بأنه:
1 الأمارة بفتح الهمزة، وقد وقع خلال البحث الكلام على ما ذكره أهل اللغة في تعريفها والخلاف على المراد منها عند علماء الشرع رحمهم الله.
2 المعتمد1/5-6.
3 المصدر السابق2/189-190.
"المرشد إلى المطلوب" سواء أكان المطلوب علما قاطعا أم ظنا1.
واختلف في ثلاثة أمور في المسألة: في نسبة هذين المذهبين إلى قائليها، وفي محل الخلاف أهو الطرق الشرعية أو هي والعقلية، وفي أثر الخلاف.
نسبة الأقوال:
- أما في النسبة فقد نسب القاضي أبو بكر الباقلاني القول بالتفريق إلى "الفقهاء والمتكلمين"2، وكذا في تلخيص التقريب ذُكر أنه مذهب "معظم المحققين"3، ومن ذلك أن جعل الغزالي تسمية (الأمارة الظنية) دليلا من المجاز4.
- وأما أبو الحسين البصري فقال بعد تعريف الأمارة: "والمتكلمون يسمون كل ما هذه سبيله أمارة، والفقهاء يسمون الأمارة الشرعية، كالقياس وخبر الواحد أدلة"5، فجعل المسألة بين الفقهاء والمتكلمين،
1 انظر العدة لأبي يعلى1/131-132 وإحكام الفصول للباجي/171 والمنهاج في ترتيب الحجاج للباجي/11 وشرح اللمع للشرازي 1/155-156 والإحكام للآمدي1/10-11 والمواقف لعضد الدين الإيجي ص34-35 وشرح الكوكب المنير 1/53 وميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي/72-73 ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت1/20.
2 انظر التقريب والإرشاد1/221-222.
3 انظر تلخيص التقريب 1/136-137 وانظر المستصفى (بولاق) 2/376 والمحصول 1/88.
4 انظر المستصفى (بولاق) 2/376.
5 المعتمد2/189-190.
ومثله أبو المظفر السمعاني1، فقد جعل التفريق مذهب أكثر المتكلمين وقلة من الفقهاء، وأما عامة الفقهاء فذكر أن مذهبهم عدم التفريق2.
- وأما الآمدي وغيره فقد جعلوا التفريق مذهب الأصوليين3.
- وخالف الزركشي فيما ذكره من نسبة ذلك إلى الأصوليين وقال: "بل المصنفون في أصول الفقه يطلقون الدليل على الأعم من ذلك، صرح به جماعة من أصحابنا، كالشيخ أبي حامد4، والقاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق5، وابن الصباغ6، وحكاه عن أصحابنا،
1 هو منصور بن محمد بن عبد الجبار أبو الظفر ابن السمعاني، من علماء أصول الفقه وغيره، من تصانيفه: القواطع في أصول الفقه، و (الاصطلام) رد فيه على أبي زيد الدبوسي، والانتصار، و (الأمالي) في الحديث، توفي سنة (489) هـ. انظر سير أعلام النبلاء 19/114-119 وطبقات الشافعية لابن السبكي5/335-346 والفتح المبين1/266.
2 قواطع الأدلة/ق6-أ.
3 إحكام الأحكام1/10-11 ونهاية السول للآسنوي1/10-11 وانظر مثله في شرح تنقيح الفصول ص339.
4 هو أحمد بن أبي ظاهر محمد بن أحمد أبو حامد الإسفرائيني، فقيه أصولي، من تصانيفه: شرح مختصر المزني، وألف في الفقه تعليقة كبرى، وله في الأصول كتاب، توفي سنة (406) هـ. انظر طبقات الشافعية لابن السبكي4/61-74 وسير أعلام النبلاء 17/193-197 والفتح المبين 1/224-225.
5 هو الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، سبقت ترجمته. انظر (116) .
6 هو عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد أبو نصر ابن الصباغ، فقيه أصولي، من تصانيفه: العمدة في أصول الفقه، الكامل في الخلاف بين الحنفية والشافعية، وله فتاوى، توفي سنة (477) هـ. انظر طبقات الشافعية لابن السبكي 5/122-134 وسير أعلام النبلاء 18/464-465. الفتح المبين1/258-259.
وسُلَيم الرازي1، وأبي الوليد الباجي من المالكية، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل2، والزاغوني3 من الحنابلة"4.
محل الخلاف:
أما محل الخلاف فقد جعل أبو الحسين البصري ما تقدم من الخلاف في التفريق بين الدليل والأمارة قاصرا على الأدلة الشرعية، أما العقليات فذكر أن من لا يفرق في الشرعيات يفرق في العقليات فلا يسمي الأمارة العقلية دليلا، كالأمارة على القبلة وقيم المتلفات5، وعلى هذا تكون تسمية الظني
1 هو سُلَيم بن أيوب بن سُلَيم أبو الفتح الرازي، فقيه محدث لغوي، علق عن شيخه أبي حامد (التعليقة)، وله: غريب الحديث، والإشارة، توفي سنة (447) هـ. انظر سير أعلام النبلاء17/645-647 وطبقات الشافعية لابن السبكي 4/388-391 والأعلام 3/117.
2 هو علي بن عقيل بن محمد أبو الوفاء ابن عقيل، فقيه أصولي متكلم، من تصانيفه: كتاب الفنون، وهو كتاب جمع فيه فوائد من علوم عديدة، وكتاب الروايتين والوجهين، والواضح في أصول الفقه، والإرشاد في أصول الدين، توفي سنة (513) هـ. انظر الذيل على طبقات الحنابلة 1/142-163 وسير أعلام النبلاء 19/443-451 والفتح المبين 1/13-13.
3 هو علي بن عبيد الله بن نصر أبو الحسن ابن الزاغوني، فقيه أصولي لغوي، من تصانيفه:(الإقناع) في الفقه، غرر البيان في أصول الفقه، التلخيص في الفرائض، توفي سنة (527) هـ. انظر الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب1/180-184 وسير أعلام النبلاء 19/605-607 والفتح المبين2/23.
4 البحر المحيط1/35-36، وانظر موازنة بين دلالة النص والقياس الأصولي 1/22-23.
5 انظر المعتمد2/189-190.
العقلي أمارة ليست من محل الخلاف.
ويخالف ما ذكره تمثيل بعض العلماء لـ (الدليل الظني) بالغيم الرطب الموصل بصحيح النظر في حاله إلى ظن وقوع المطر،1 فالظاهر أن ذلك ليس أمارة شرعية.
ومن ذلك قول الغزالي: "إن الدلالة قد يُعبَّر بها عن الأمارة التي توجب ولا تؤثر، فالغيم الرَّكَم دليل على المطر
…
والكوكب دليل على القبلة
…
"2.
أثر الخلاف:
- أما أثر الخلاف فقد جعل بعض العلماء الخلاف المتقدم في التفريق بين القطعي وغيره راجعا إلى خلاف في اللفظ، دون أن يكون وراء ذلك خلاف في المعني.
قال أبو الحسين البصري مشيرا إلى الخلاف المتقدم: "والكلام في ذلك كلام في عبارة، لا طائل تحت الإكثار منه"3.
1 انظر التحرير مع التقرير والتحبير1/50-51.
2 شفاء الغليل/20-21، وذكر العضد في شرح المختصر1/41-42 دخول الأمارة في بعض أوجه تعريف الدليل عند المنطقيين، وأن الدليل يتناول على ذلك الوجه القياس البرهاني والظني والشعري والسفسطي.
3 المعتمد2/189-190.
وذكر في تلخيص التقريب أن المفرقين إنما اصطلحوا على ذلك للتفريق بين الجنسين ثم قال: "وهذا اختلاف هَيِّن المدرك"1.
وقريب مما سبق ما ذكره الخطيب البغدادي2 فقال بعد أن ذكر الخلاف في التسمية بين العلماء: "قلت: وما غلط الفقهاء ولا المتكلمون! أما المتكلمون فقد حكوا الحقيقة في الدليل والحجة، وأما الفقهاء فسَموا ما كُلِّفوا المصير إليه بأخبار الآحاد وبالقياس وغيره مما لا يكسب علما وإنما يفضي إلى غلبة الظن من طريق النظر، فسَمَّوه حجة ودليلا للانقياد بحكم الشرع إلى موجبه، وقد قيل: إنما سَمَّوْا ما أفضى إلى غلبة الظن دليلا وحجة في أعيان المسائل لأنه في الجملة معلوم أعني أخبار الآحاد والقياس، وإنما يتعلق بغلبة الظن أعيان المسائل، فأما الأصل فإنه متيقن مقطوع به".
وعزز ذلك بأنه ربما يسمى ما ليس بحجة في الحقيقة حجة كما قال تعالى: {لِئَلَاّ يَكُون لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمَ} 3 إشارة إلى قول اليهود حين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس: لو لم يعلم محمد أن
1 تلخيص التقريب1/136-137، وانظر البحر المحيط1/35-36.
2 هو أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب، محدث مؤرخ فقيه، من تصانيفه: تاريخ بغداد، والإنباء عن الأبناء، والفقيه والمتفقه، توفي سنة (463) هـ. انظر وفيات الأعيان لابن خلكان 1/92-93 وسير أعلام النبلاء18/270-297 وطبقات الشافعية لابن السبكي 4/29-39.
3 سورة البقرة (150) .
ديننا حق ما صلى إلى قبلتنا، مع أن قولهم هذا ليس حجة في الحقيقة1.
- وقيل إن تفريق المتكلمين بين الدليل والأمارة وتخصيص الدليل بالقطعي مبني على ما ذهبوا إليه من أن الأدلة الظنية لا تحصِّل صفات تقتضي الظن بأنفسها كما تقتضي الأدلة القطعية العلم واليقين بأنفسها، وإنما يأتي الظن من الأمارة الظنية عادة اتفاقا2.
ويدل على ذلك ما يلي:
1-
قال في تلخيص التقريب عند تقسيم الأدلة: "وكذلك السمعي ينقسم إلى ما يفضي إلى القطع وهو يتضمن العلم، وإلى ما لا يقتضيه كأخبار الآحاد والمقاييس السمعية، فكما لا يوصف باقتضاء العلم لا يوصف باقتضاء غلبة الظن، هذا مما يَزِلّ فيه معظم الفقهاء
…
ووجه التحقيق في ذلك بدا فيما قدمناه من عدم إفضاء الشبهة إلى الجهل
…
ولكن تعم العادة بحصول غلبة الظن في أثرها من غير أن تكون مقتضية لها"3.
2-
وقال الجويني: "أخبار الآحاد وأقيسة الفقه لا توجب عملا لذواتها، وإنما يجب العمل بما يجب به العلم بالعمل وهي الأدلة القاطعة
1 انظر الفقيه والمتفقه مجلد2/23-25، وانظر تفسير ابن كثير1/201 ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص30، فقد ذكر احتجاج أهل مكة على توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بنحو ذلك.
2 انظر المسودة/505-506 والبحر المحيط1/35-36.
3 تلخيص التقريب1/137-138.
على وجوب العمل عند رؤية أخبار الآحاد وإجراء الأقيسة"1.
3-
وقال الغزالي: "إن تسمية الأمارات أدلة مجاز، فإن الأمارة لا توجب الظن لذاتها بل تختلف بالإضافة"2.
وقال العضد: "الدليل ما يرتبط به ثبوت مدلوله ارتباطا عقليا، والأمارة ما يحصل به الظن ولا يرتبط [به] ارتباطا عقليا"3.
وعلى هذا فلا تعدو الأدلة الظنية - كخبر الواحد والقياس الشرعي -عن أن تكون علامات مجردة أنيط تعَيُّن الحكم بظهورها، من غير أن يكون لها تأثير في تعين ذلك الحكم.
ويكون الخلاف على هذا ذا معنى، لأن الأمارة إذا كانت لا تفيد الظن والرجحان لذاتها بل بما اتفق من العادة، وكانت الأمارة الشرعية عندهم هي أخبار الآحاد والأقيسة والظواهر والعمومات، كانت أكثر الأدلة الشرعية غير مفضية إلى مدلولاتها إلا على سبيل الاتفاق العادي.
وبين شيخ الإسلام ابن تيمية مأخذ العلم من ذلك بأن العمل بالراجح الحاصل من الأدلة غير القطعية عمل بعلم ويقين، لأن الرجحان أمر معلوم عند المجتهد المستدل، وهو اعتقاد الرجحان الذي هو اتباع الأحسن كما
1 البرهان1/78.
2 المستصفى (بولاق) 2/376.
3 شرح العضد على المختصر2/298 وانظر بيان المختصر1/92-93.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وأُولَئِكَ هُمُ أُولُوا الأَلْبَابِ} 1 وقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَّبكُمْ} 2، فالأدلة غير القطعية يُعلم منها الرجحان، وهو كاف في وجوب العمل، فهي مفضية إلى العلم من ذلك الوجه3.
الترجيح:
الخلاف في التفريق بين الدليل القطعي وغير القطعي في التسمية - بالنظر إلى ترتب الآثار عليه - لا يخلو من أحد احتمالين: أولهما: أن يكون الخلاف لفظيا راجعا إلى الاختلاف في الاصطلاح بين العلماء، وثانيهما: أن يكون خلافا مبنيا على معنى، يختلف فيه العلماء.
الاحتمال الأول: أن يكون الخلاف في الاصطلاح، فالأمر هين وقريب، إذ إن مذهب جمهور العلماء - كما سبق - أن الأدلة الشرعية منها القطعي ومنها أدلة ظاهرة راجحة4، والتفريق في التسمية بين قسمي الأدلة بعد ذلك أمر لا يبعد، لأنه تفريق بين أمرين متفق عليهما عند الجمهور.
إلا أن الاصطلاح بالتفريق يتوجه عليه أمران:
1 سورة الزمر (18) .
2 سورة الزمر (55) .
3 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/111-116.
4 انظر ص (45) من هذا البحث.
الأمر الأول: أن تخصيص كلٍ من قسمي الأدلة الشرعية (القطعي والظني) بما خصوه به من الاسم لا يستند إلى ما يبرره شرعا أو لغة، إذ لم يذكر المفرقون أن الاستعمال الشرعي يفرق بين اللفظين بما ذكروا، ولا أن في اللسان العربي ما يبرر ذلك التخصيص، فلم يذكر من رجعت إلى كتبهم من أهل اللغة أن في الاستعمال العربي تقييدا للدليل بالقطعي دون الأمارة، بل عرّف بعضهم الدليل بقوله: "الدال واللام أصلان، أحدهما إبانة الشيء بأمارة تتعلمها
…
والدليل: الأمارة في الشيء"1، فليس الدليل على مثل هذا التعريف غير الأمارة لغة.
هذا، وقد اعترف بذلك المصطلحون على التفريق.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني عن التفريق بين اللفظين بما ذكر: "وليس من موجب اللغة، لأن أهلها لا يفرقون بين الأمارة والدلالة والسمة والعلامة"2، وفي تلخيص التقريب: "إن العرب لا تفصِل في هذا المقصد بين الأمارة والدلالة، ولو قلب قالب ما قدمناه في الترتيب فسمى الدلالة المفضية إلى العلم أمارة وما يفضي إلى غلبة الظن3 دلالة لم
1 معجم مقاييس اللغة2/259، وانظر في معنى الدليل: الصحاح 4/1698 ولسان العرب11/249 والقاموس المحيط3/388، وتعريف الأمارة في: الصحاح2/852 ومعجم مقاييس اللغة1/139 ولسان العرب 4/32-34.
2 التقريب والإرشاد1/223.
3 تقدم ما في تلخيص التقريب من أن وصف غير القطعي من طرق الأحكام بأنه يقتضي غلبة الظن مناف للتحقيق، وأنه كما لا تفضي الشبهة إلى الجهل فكذلك الأمارة لا تفضي إلى الظن (انظر التلخيص1/137-138) . وهنا قد ذكر إفضاء الأمارة إلى غلبة الظن، فظاهر ذلك عدم الاطراد فيما ذَكر. والله أعلم.
يكن مبعِدا"1.
فيكون في هذا الاصطلاح مثل الذي أخذوا على الحنفية في التفريق بين الفرض والواجب، فذكروا أنه ليس في الشرع واللسان العربي ما يبرر ذلك التفريق2.
الأمر الثاني: أن الذين ذكروا التفريق في التسمية وأيدوه لم يطرد التزامهم بذلك الاصطلاح دائما، فإن المتتبع لكتب بعض المفرقين يقف على مواضع كثيرة أطلقوا فيها الدليل على غير القطعي، تصريحا أو تلميحا.
قال الرازي عند الاستدلال في مسألة (هل لله في كل واقعة حكم) بأنه لو كان في الواقعة حكم لكان إما أن يكون عليه دليل أم لا: "وأعني بالدليل القدر المشترك بين ما يفيد الظن وبين ما يفيد اليقين"3، وأطلق (الدليل) على غير القطعي في مواضع أخرى من المحصول4.
وعرف الآمدي التأويل بأنه حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع
1 تلخيص التقريب1/136-137.
2 انظر ما يأتي من ذلك قريبا إن شاء الله تعالى ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
3 المحصول 6/44.
4 انظر المحصول3/71، 86، 98، 6/168.
احتماله له لدليل يعضده، ثم قال عند شرح التعريف:"وقولنا (بدليل) يعم القاطع والظني"1، بل عرف الدليل في موضع آخر من كتابه الإحكام بقوله:"إن الدليل ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعا أو ظاهرا"2.
وقد يظهر من بعض العلماء عكس ذلك، فيصرح بعدم التفريق في موضع، ثم يقع منه التفريق في موضع آخر، كالقاضي أبي يعلى الفراء 3، وتلميذه أبي الخطاب45.
ومما يمنع اطراد هذا الاصطلاح أن الدليل القطعي قد لا يكون مطردا
1 الإحكام في أصول الأحكام 3/50.
2 المصدر السابق4/361، وانظر3-4/24-25، وانظر تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي على الإحكام 1-2/9.
3 فقد صحح أولا عدم الفرق بين الدليل والأمارة (انظر العدة1/131-132) ثم قيد الأمارة عند تعريفه لها بالظني (انظر العدة1/135) ، وفي المسودة/574 إشارة إلى القول بالتفريق "وهذا الثاني ظاهر كلام القاضي في (الكفاية) فيما يعلم به تخصيص العام، لأنه قال: "فالدلالة هي: الكتاب والسنة المقطوع بها والإجماع المقطوع به، والأمارة خبر الواحد والقياس". لكن ما فعله في العدة كما سبق يدل على أنه لم يلتزم باصطلاح معين، فيصعب تحديد مذهبه باستعماله لأحد الاصطلاحين في موضع.
4 هو محفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب الكلوذاني، فقيه أصولي، من تصانيفه: الخلاف الكبير المسمى: الانتصار في المسائل الكبار، والتمهيد في أصول الفقه، والتهذيب في الفرائض، توفي سنة (510) هـ. انظر الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 1/116-127 سير أعلام النبلاء 19/348-350 والفتح المبين للمراغي2/11.
5 فقد أبطل رحمه الله القول بالفرق بين الدليل والأمارة (انظر التمهيد1/61) ثم قيد الدلالة والأمارة في موضع آخر بما يفيد التفريق. (انظر التمهيد2/71، 3/332) .
ولازما عند جميع من نظر فيه من المستدلين، بسبب أنه يحتاج للقطع به إلى قرائن ربما خفيت على بعضهم1، فيكون الدليل قطعيا عند زيد من الناظرين غير قطعي عند عمرو منهم، وعليه يقال إنه دليل بالنسبة لزيد مثلا، وأمارة بالنسبة لعمرو.
أما الاحتمال الثاني - وهو أن الخلاف في التفريق راجع إلى ما ذكر من أن الأدلة الظنية عند المفرقين لا تفيد لذواتها ظنا ولا رجحانا - فقد سبق ما فيه، وأنه غير مسلم2.
واعتذر بعض المعاصرين للمفرقين من المتكلمين، بأنهم فرقوا لأن معظم مسائل أصول الدين لا تثبت إلا بأدلة قطعية، فحدوا الدليل إذاً بما هو الغالب عندهم في مسائلهم3.
وعلى هذا يكون منشأ التفريق في غير أصول الفقه بل من آثار علم الكلام فيه، فإن المتكلمين لا يقبلون الدليل غير القطعي فيما هو عندهم من أصول الدين، فناسب عندهم أن يفرقوا في التسمية بين ما هو حجة عندهم في علم الكلام وما ليس بحجة، أما الفقه - الذي أدلته الإجمالية موضوع علم أصول الفقه - فكل دليل شرعي صحيح حجة في إثبات أحكامه، فلا
1 انظر أثر القرائن في القطعية ص (155) .
2 انظر ذلك ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) فما بعدها.
3 انظر تعليقات الدكتور أبي زنيد على التقريب والإرشاد1/202.
يحتاج فيه إلى التفريق بين القطعي وغيره كحاجة المتكلمين إلى ذلك1.
تفريق آخر بين الدليل والأمارة:
وقد فُرِّق بين الدليل والأمارة بغير القطعية، فقال ابن حزم: "والدليل قد يكون برهانا وقد يكون اسما يعرف به المسمى وعبارةً يتبين بها المراد
…
والأمارة علامة بين المصطلحين على شيءٍ ما، إذا وجدت عَلِم الواجد لها ما وافقه الآخر، وقد يجعلها المرء لنفسه يستذكر بها ما يخاف نسيانه"2.
كما فُرِّق بينهما بأن (الأمارة) خاص بالمعاني و (الدليل) يسمى به المعاني والألفاظ3.
تخصيص السرخسي (الآية) بالدليل القطعي:
وخص السرخسي لفظ (الآية) بما يوجب العلم القطعي من الحجج عند الإطلاق، قال: "ولهذا سميت معجزات الرسل آيات قال تعالى: {وَلَقَدْ
1 انظر ما ذكره الدكتور محمد العروسي عبد القادر في كتابه المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين (ص25) من أن أصل التفريق راجع إلى المعتزلة ومن وافقهم من نفاة الصفات. وانظر ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) من هذا البحث فيما يرد على تقسيم المسائل الشرعية إلى ما يجب الاستدلال فيه بالقطعي وما لا يجب فيه ذلك.
2 إحكام الأحكام لابن حزم1/50، ولعل سبب هذا أن ظاهر مذهب ابن حزم أن جميع الأدلة قطعية، فهو يفرق بين الدليل والأمارة بغير القطعية، والله أعلم. انظر مذهبه ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
3 البحر المحيط6/130.
ءَاتَينَا مُوسَى تِسْعَءَايَاتٍ} 1 وقال: {فَاذْهبَا بآيَاتِنَا} 2"3. أما الدليل والحجة والبينة، فتطلق عنده على القطعي وغيره4.
فيكون (الدليل) عند من سبق من المفرقين مثل (الآية) فيما ذكره السرخسي.
ويرد على ما ذكره من الإطلاق أن الآية العامة من القرآن الكريم التي خصت بدليل موجب لذلك لا يكون قطعي الدلالة عندهم.
إلا أن يكون مراده مما ذكر قطعية الثبوت فقط، أو ما هو أعم من الآية المفردة5، مع أن الكلام على الآية المفردة دون عموم القرآن هو ألصق ببحث أصول الفقه. والله تعالى أعلم.
1 سورة الإسراء (101) .
2 سورة الشعراء (15) .
3 أصول السرخسي1/277.
4 انظر المرجع السابق، وذكر نحوا مما سبق علاءُ الدين السمرقندي في ميزان الأصول ص70-74، خص الآية بأدلة "إثبات الصانع" ومعجزات الأنبياء وألفاظ القرآن، وذكر أنه في اللسان العربي للقطعي عموما.
5 ويبين ذلك أن علاء الدين السمرقندي خصّ ما ذكره ب (ألفاظ القرآن) .