الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: قطعية العموم
من مباحث القطعية في الكتاب والسنة قطعية ما وقع فيهما من الألفاظ العامة1، وبحث القطعية في العموم هو من حيث الدلالة، لأن العموم قد يكون من جهة الثبوت قطعيا كما إذا كان اللفظ العام في الكتاب أو في السنة المتواترة أو في خبر الواحد الذي احتفت به قرائن القطعية، وقد لا يكون العام قطعيا من جهة الثبوت كما لو وقع في خبر واحد لم تحتف به قرائن القطعية فترجحت صحته على ضعفه مع احتمال.
قطعية الخاص:
وقبل البدء في بحث القطعية في العموم يحسن ذكر رأي العلماء في قطعية الخاص.
والخاص: هو اللفظ الدال على مسمى معلوم بعينه أو على كثير محصور، والخصوص: هو كون اللفظ كذلك2، كألفاظ العدد.
1 وقد يستفاد إرادة العموم في الأحكام الشرعية من غير طريق الألفاظ الموضوعة للشمول والعموم والتي هي صيغ العموم التي يقع عليها البحث الأصولي غالبا، وذلك ما يستفاد من مقاصد الشريعة واستقراء الأدلة الجزئية. انظر الموافقات للشاطبي3/307.
2 انظر تعريف الخاص في مختصر ابن الحاجب وشرحه بيان المختصر 2/108 وشرح مختصر الروضة 2/550 والبحر المحيط3/240، وانظر التعريفات للجرجاني ص95.
ولا خلاف في قطعية الخاص من حيث كان العام غير قطعي، فيتفق العلماء على جواز إطلاق القطعية على الخاص1، لكن قطعية اللفظ الخاص هي بالنظر إلى مقابلته للفظ العام لأن الخاص لا يحتمل التخصيص من حيث هو خاص والعام قد يحتمله، أما إذا كان اللفظ خاصا من وجه وعاما من وجه آخر فالقطعية فيه من حيث هو خاص، والخلاف في قطعية العام جار فيه من حيث هو عام.
وذلك كلفظ (المسلمين) ، هو عام بالنسبة لأفراد المسلمين خاص بالنسبة لأفراد بني آدم، فإذا قيل:"أَكْرِم المسلمين" كان قطعيا في عدم شموله لغير المسلم ولم يكن في ذلك احتمال مطلقا بل كان الأمر بالإكرام خاصا بالمسلمين قطعا، ولكنه ظاهر في دخول جميع المسلمين في الأمر فيجري فيه الخلاف في قطعية العام، هل شمول لفظ (المسلمين) لكل فرد مسلم يقطع به أم لا؟ 2 والله تعالى أعلم.
1 انظر التحرير للكمال ابن الهمام1/267، وذكر الأمير بادشاه أن قطعية الخاص هي بالمعنى الأعم الذي لا ينفي إلا الاحتمال الناشئ عن الدليل، وعلل ذلك بأن الخاص يحتمل المجاز فيما هو خاص فيه. انظر تيسير التحرير1/268 وتفسير النصوص2162-169، ويكون الأمر على اصطلاح من لا يطلق القطع بالمعنى الأعم أن القطع هنا هو بالنظر إلى قطع احتمال معين وهو احتمال التخصيص.
2 انظر البحر المحيط للزركشي 3/29 مع زيادة وتفصيل.
تعريف العام:
قال الجوهري: "العامة خلاف الخاصة
…
عَمَّ الشيء يعم عموما: شمل الجماعة، يقال: عمهم بالعطية"1، وقال ابن فارس: "العين والميم أصل صحيح واحد يدل على الطول والكثرة والعلو
…
ومن الجمع قولهم: (عَمَّنا هذا يعمنا عموما) إذا أصاب القوم أجمعين"2.
أما في اصطلاح علماء الأصول فهو:
كلام مستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة بلا حصر3.
فخرج بقيد الاستغراق نحو قولك: (بعض الحيوان إنسان) فإنه لا
1 الصحاح5/1992-1993.
2 معجم مقاييس اللغة4/15-18، وانظر لسان العرب12/426.
3 انظر مذكر ة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أصول الفقه/203، وانظر تعريف العام والعموم في المعتمد لأبي الحسين البصري 1/189 والعدة لأبي يعلى الفراء1/140 والمنهاج في ترتيب الحجاج للباجي/12 والمعونة في الجدل للشيرازي/129 والمستصفى للغزالي 3/212 والوصول لابن برهان1/202 والمحصول للرازي2/309 والإحكام في أصول الأحكام للآمدي2/413 ومختصر ابن الحاجب مع بيان المختصر2/104 ومنهاج الأصول مع نهاية السول2/312 والتحصيل للأرموي1/343 وشرح مختصر الروضة للطوفي2/448 وجمع الجوامع لابن السبكي1/399 والبحر المحيط3/5 وشرح الكوكب المنير3/101 أصول البزدوي مع كشف الأسرار1/33 والتحرير للكمال ابن الهمام (مع التيسير) 1/190 والمنار مع كشف الأسرار للنسفي1/159.
يستغرق، وخرج بقيد (بحسب وضع واحد) مثل المشترك كلفظ (العين) فإنه يتناول ما يصلح له من العين الجارية والعين الباصرة
…
لكن بوضعين فصاعدا، وخرج بقيد (دفعة) النكرة في سياق الإثبات مثل (اضرب رجلا) فإن استغراقها بدلي لا دفعة واحدة، وخرج بقيد (بلا حصر) ألفاظ العدد كلفظ (عشرة) فإنه محصور باللفظ.
فمعنى قطعية العام: هل يتيقن أن اللفظ العام مجردا شاملٌ لجميع ما يصلح له أم أن شموله لذلك على سبيل الظهور والرجحان دون اليقين والقطع.
مثال العام قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 فإن حَدّ القطع شامل لكل سارق استنادا إلى حجية العموم عند جميع القائلين بحجيته، والخلاف في القطعية بعد ذلك معناه هل يقطع بدخول كل سارق في هذا الحدّ استنادا إلى مجرد لفظ (السارق) مع فرض خلوِّه من جميع القرائن المبينة أم أن ذلك معمول به مع احتمال التخصيص بالنسبة لأي فرد من أفراد السارقين.
تحرير محل النزاع:
ويتحرر محل الخلاف في قطعية العام بأمور:
1 سورة المائدة (38) .
الأمر الأول: أنه ليس الخلاف هنا في حجية العام، أي دلالة الصيغ والألفاظ الموضوعة للعموم عليه، وصحة الاحتجاج بها في إثبات الأحكام الشرعية، لأن القطعية فرع عن الحجية، فمن خالف في وجود صيغ موضوعة للعموم فعدم كونه قائلا بقطعية تلك الصيغ في العموم أمر ظاهر، لذا ينحصر الخلاف في هذه المسألة في القائلين بالحجية دون المانعين1.
الأمر الثاني: ليس الخلاف في دلالة اللفظ العام على معناه الأصلي في وضع اللغة، فلفظ (الرجال) موضوع في اللسان لجَمْع الرجال، وإنما الخلاف في هل يتيقن أن المتكلم بذلك يريد كل ما يصلح له اللفظ أم أنه يحتمل أنه يريد به بعض ذلك، أي أن الخلاف في إرادة المتكلم الشمول من اللفظ لا في معنى اللفظ وضعا2.
الأمر الثالث: الخلاف في العام المطلق أي الذي لم يقترن به ما يدل على كونه مرادا به بعض ما يصلح له اللفظ أو كله على سبيل القطع، فما دلت القرائن على قطعية العموم أو عدم قطعيته فيه لا يختلف في أنه على
1 ويدل عليه ترتيب العلماء البحث في العموم، إذ يجعلون الخلاف في قطعية العام مفرعا على القول بحجية صيغ العموم. انظر ميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي/277-280 والبحر المحيط للزركشي3/17-26.
2 انظر الإبهاج لابن السبكي2/149 وشرح المحلي على جمع الجوامع1/407 وشرح الكوكب المنير للفتوحي 1/238 وانظر التحرير مع التقرير والتحبير1/238 ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/265.
حسب ما دلت القرائن.
ومن العام القطعي بالقرائن قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1 وقوله جل شأنه: {لِلَّهِ مَا في السَّمَوَاتُ وَمَا في الأَرْضِ} 2 وقوله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَةٍ في الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ في كِتَابٍ مُبِينٍ} 3، فكل ذلك مما علم قطعا عمومه.
ومما دلت قرائن القطعية على عدم العموم فيه قول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 4، قال الإمام الشافعي رحمه الله:"باب بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص" وذكر الآية السابقة ثم قال: "فإذا كان مَن مع رسول الله ناساً غير من جَمع لهم الناس وكان المخبرون لهم ناساً غير من جَمع لهم وغير من معه ممن جُمع عليه معه وكان الجامعون لهم ناسا - فإن الدلالة بيِّنة مما وصفت من أنه إنما جَمع لهم بعض الناس دون بعض، والعلم يحيط5 أنه لم يَجمع لهم الناسُ كلُّهم ولم يخبرهم الناسُ كلُّهم ولم يكونوا هم الناسَ كلَّهم
…
وإنما هم جماعة غير
1 مثلا: سورة البقرة (29) .
2 سورة البقرة (284) .
3 سورة هود (6) . وانظر الرسالة للشافعي ص53-54 فيما علم منه العموم.
4 سورة آل عمران (173) .
5 هذا ونحوه في كلام الشافعي عبارة عن معنى القطعية غالبا. انظر ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) فما بعد.
كثير من الناس الجامعون منهم غير المجموع لهم والمخبرون للمجموع لهم غير الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غير الجامعين ولا المجموع لهم ولا المخبرين"1.
فهذا مما علم بقرائن القطعية أن المراد به غير العموم.
فمدار عدم القطعية على احتمال الخصوص مع رجحان العموم، فإذا كان معلوما بالقرائن والأدلة الأخرى انتفاء احتمال الخصوص خلص اللفظ للقطعية، وكذلك إذا علم بقرائن القطع أن المراد من العام بعض مما يصلح له قطعا لم يرد الخلاف في هل هو قطعي أم لا2.
الأمر الرابع: العام الذي خُصّ بدليل موجب للتخصيص قابل للتعليل لا يدخل في محل النزاع بين الجمهور والحنفية، لأن الحنفية لا يقولون بقطعية العام في مثل ذلك، إلا ما نقل عن بعضهم من أن التخصيص إذا كان بقطعي وكان المخصوص معلوما قطعا - أن العام يبقى قطعيا فيما بقي بعد التخصيص، وإذا خص منه مجهول لم يبق قطعيا3.
1 الرسالة/58-60. وبيَّن رحمه الله أن الذي سوغ استعمال (الناس) في ذلك أنه يطلق على الجمع من ثلاثة إلى جميع الناس وما بين ذلك.
2 انظر البرهان للجويني1/222 وشرح الكوكب المنير3/114-115 وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 1/291 وأصول السرخسي 1/139 وانظر تفسير النصوص لمحمد أديب صالح 2/102-104.
3 انظر أصول الشاشي/26 وأصول الجصاص/155-156 وأصول السرخسي1/144.
الأمر الخامس: ليس مما يتنازع فيه ورود الاحتمال في اللفظ العام عقلا، لذا كان العام عند الحنفية قطعيا نصا غير مُحكَم لاحتمال التخصيص عقلا، فقطعيته عندهم بالمعنى الأعم للقطعية وهو مبني على طرح الاحتمال الذي لا يعضده دليل1.
الأمر السادس: عدم قطعية العام يعني احتمال ألا يراد بحكمه أي فرد من أفراده الداخلة فيه وضعا، وربما دلت القرينة على عدم احتمال الخصوص في فرد معين من أفراده، فلا يكون ذلك الفرد المعين من جملة ما يحتمل ألا يراد في حكم العام.
وذلك مثل الصورة التي ورد العام عليها، فهي قطعية الدخول فيه عند أكثر العلماء، ونُقل عن تقي الدين السبكي أنه يذهب إلى أن صورة السبب ليست قطعية الدخول في العموم كغيرها من أفراده إلا إذا دل دليل آخر - غير كونها صورة السبب الوارد عليها العام - على دخولها فيه، لأن المقطوع هو بيان حكم السبب وذلك معلوم مع تقدير خروجه من اللفظ العام2.
1 انظر أصول السرخسي1/137 والتحرير مع التقرير والتحبير 1/238.
وقال أبو زيد الدبوسي في تأسيس النظر (ص22) : "الأصل عند أبي حنيفة أن ما يتناوله اللفظ من طريق العموم ليس كما يتناوله اللفظ من طريق النص والخصوص" فهذا يشير إلى أن دلالة العام عند أبي حنيفة ليس في قوة دلالة الخاص.
2 انظر جمع الجوامع لابن السبكي2/39-40 وشرح الكوكب المنير3/178.
ولعل الخلاف في هذا راجع إلى الخلاف في قرينة كون هذا الفرد صورة السبب وهل ذلك من قرائن القطع على تناول العام له أم لا؟ فعند السبكي ليست هذه القرينة من قرائن القطعية في العموم، خلافا لأكثر العلماء1، وذلك لا يمنع من أن السبكي يرى كون بعض أفردا العام قطعي الدخول فيه إذا دلت القرينة على ذلك، وفي كلامه ما يشعر بذلك.
فالحاصل أن العام الذي اقترن به ما يدل على دخول بعض أفراده فيه قطعا خارج من محل الخلاف، لأن العام ليس مطلقا من القرينة بالنسبة لذلك الفرد. والله تعالى أعلم.
الأمر السابع: أدخل الزركشي في محل النزاع اللفظ المطلق وهل ماهيته وشيوعه في جنسه قطعية أم ظاهرة، لأن الإطلاق عموم على سبيل البدل وماهيته صالحة لعموم أفراده2، وأخرجه الأنصاري من محل النزاع، فجعله من باب الخاص فهو قطعي الدلالة بالنسبة لاحتمال التخصيص3.
والتحقيق أن النظر الأول في صلوحه وهو عام فيدخل في محل النزاع، والنظر الثاني صدقه في الواقع وهو في ذلك خاص بفرد مما يصلح له فلا يدخل في النزاع في قطعية العام، فقوله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن
1 انظر حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع2/39.
2 انظر البحر المحيط3/415.
3 انظر فواتح الرحموت 1/363.
نسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِن قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 1 (رقبة) عام باعتبار صلوحه لسائر أنواع الرقاب على سبيل البدل، وليس عاما بالنظر إلى أنه لا يجب عتق جميع الرقاب2.
وعليه يمكن أن يختلف في كون لفظ (رقبة) صالحا لجميع الرقاب قطعا أو أنه يحتمل عدم صلوحه لبعض الرقاب فترتفع القطعية ويبقى الظهور والرجحان في صلوحه لذلك، لكن كونه يصدق على رقبة واحدة فقط بمعنى إجزاء عتق رقبة واحدة ليس من محل النزاع لأنه خاص. فالمطلق يخرج ويدخل في محل النزاع بحسب هذين النظرين.
الخلاف في المسألة:
وقد اختلف العلماء في قطعية دلالة العام على قولين:
القول الأول: أن دلالة العام على كل فرد من أفراده غير قطعية، فكل عام يحتمل أن يكون المراد به بعض أفراده دون بعض، ما لم يدل دليل خاص على إرادة كل الأفراد أو بعضها.
وهذا مذهب الجمهور وبعض الحنفية3.
1 سورة المجادلة (3) .
2 انظر تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم لخليل بن كيكلدي العلائي ص99-100.
3 انظر مذهب الجمهور في العدة لأبي يعلى الفراء2/555-558،568، وإحكام الفصول للباجي ص155، 264، جعل العام من قسم (المحتمل) المقابل للنص وص178-189،230، وشرح اللمع 1/354 والبرهان للجويني 1/222 والمستصفى (بولاق) 2/116 والوصول لابن برهان1/261 والإحكام للآمدي2/528، 532-533 ومختصر ابن الحاجب مع شرح العضد2/148 وشرح تنقيح الفصول للقرافي/209 والبحر المحيط3/28.
ونسبه إلى الجمهور العلائي في تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم ص181 وكذا الكمال بن الهمام التحرير مع التقرير والتحبير 1/238، وفي مسلم الثبوت 1/266 نسبه ابن عبد الشكور إلى الأكثر.
وانظر مذهب بعض الحنفية في أصول السرخسي 1/132 وكشف الأسرار لعبد العزيز البخاري 1/291 ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت1/265، وانظر ميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي ص 277-280 فقد أيد مذهب الجمهور هذا وذكر أنه مذهب مشايخه من سمرقند.
أدلة هذا القول:
الدليل الأول: أن العام يحتمل تخصيص أي فرد من الأفراد الداخلة فيه، ومع الاحتمال لا يقطع بكون أي واحد منها داخلا في العموم، غاية ذلك أن دخول الأفراد ظاهر وراجح على عدم دخولها1.
واعترض المخالف على هذا الدليل بأن هذا الاحتمال وإن كان واردا عقلا فإنه مجرد عن دليل يعضده فكان كلا احتمال، فمراد المتكلم إذا لم يكن عليه دليل لم يجز أن يكون غيرَ ما دل عليه ظاهر لفظه2.
وأجاب أصحاب القول الأول عن هذا الاعتراض بأن الدليل على
1 انظر إحكام الفصول للباجي/155 والبرهان1/222 والإحكام للآمدي2/528 وتلقيح الفهوم بتنقيح صيغ العموم لخليل بن كيكلدي العلائي ص183-184 وشرح الكوكب المنير 3/114-115، وانظر ميزان الأصول ص284-285.
2 انظر أصول السرخسي1/137-140 وكشف الأسرار عن أصول البزدوي1/305-306.
الاحتمال الوارد في دلالة العام على أفراده كثرة وقوع التخصيص في العمومات الشرعية حتى شاع أنه لم يرد عام إلا خص إلا يسيرا، فذلك يورد الاحتمال في كل لفظ عام أن يراد به بعض أفراده1.
ورد المخالفون على ذلك بعدم التسليم بكون ما ذكر دليلا على ورود الاحتمال في كل عام وذلك لأمور:
أ - أن التخصيص وقع في كل تلك المواضع بما يسوّغه من الأدلة والقرائن المخصصة، وذلك لا يوجب الاحتمال فيما لم يرد فيه دليل ولا قرينة على التخصيص.
ب - أن كثرة التخصيص إنما تكون موجبة لورود احتمال التخصيص في كل عام لو أن المخصص الوارد في تلك المواضع مخصص واحد، فيصبح كل عام محتملا لذلك المخصص المعين، وليس كذلك فلا يلزم أن يكون ورود مخصص معين في عام موجبا لاحتمال ورود مخصص آخر غير ذلك في عام آخر.
ج - لو كانت كثرة التخصيص موجبة احتمال التخصيص في كل عام لما صح أن يريد المتكلم من اللفظ العام دخول جميع ما يتناوله مع أن قصده إلى ذلك صحيح2.
1 انظر التحرير مع التقرير والتحبير 1/238-239 ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/365-366.
2 انظر مسلم الثبوت مع فواتح الرحموت كما سبق.
د - أن مثل هذا الاستدلال يجري في اللفظ الخاص أيضا، لأن الاستعارة1 كثيرة في الكلام حتى إنه يعاب شعرٌ خالٍ منها، فعلى ما سبق من الاستدلال يكون كل لفظ محتملا للمجاز وهو غير صحيح2.
وأجيب عن هذا بأن "المجاز لا يكون أصلا بقرينة منفصلة لا تعلم حالة النطق باللفظ، بخلاف العام فإنه يتخصص بالأدلة المنفصلة
…
وتلك الأدلة قد تخفى"3.
هـ - عدم التسليم بما ذكر من كثرة التخصيص لأن التخصيص لا يكون إلا بكلام مقارن مستقل مساوٍ للمخصوص في دلالته، وذلك غير كثير4.
وأجيب عن هذا أن المراد بالتخصيص قصر العام على بعض أفراده، وذلك أعم من أن يكون تخصيصا عند الحنفية أم لا5.
و غاية ما في كثرة التخصيص على التسليم بها أن يكون بقاء العموم على عمومه قليلا، والقليل إنما يحمل على الكثير إذا كان مشكوكا
1 هي أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر كقولك: (رأيت أسدا) تريد به رجلا شجاعا. انظر التعريفات ص 20، ومفتاح العلوم للسكاكي ص 626.
2 انظر المرجعين السابقين.
3 تلقيح الفهوم بتنقيح صيغ العموم للعلائي ص184.
4 هذا مذهب الحنفية في التخصيص، انظر التلويح على التوضيح1/40-41 والتحرير مع التقرير والتحبير 1/242 ومسلم الثبوت مع شرحه 1/266-267.
5 انظر التلويح مع التوضيح 1/40-41 والتحرير مع التقرير والتحبير 1/238-239 وانظر تفسير النصوص لمحمد أديب صالح 2/112-113.
فيه غَيرَ بيِّن، والعام المجرد عما يصرفه عن عمومه موضوع للعموم لغة فهو بين، فلا يحمل على الكثير1.
الدليل الثاني: صحة تأكيد العموم، كما في قوله تعالى:{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلَّهُمْ أَجْمَعُونَ} 2 ولو كان العام قطعيا في تناوله لجميع أفراده لما احتيج إلى تأكيد، فتأكيده لقطع ما في مجرد اللفظ العام من الاحتمال حتى يثبت اليقين بتناوله الكل.
واعترض على هذا بما ورد من تأكيد المعلوم قطعا مثل قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 3 فظاهره أنه تأكيد للعشرة وهو خاص معلوم قطعا.
وأجاب المانعون للقطعية عن هذا الاعتراض بتأويل التأكيد إلى غير العدد كالثواب4.
الدليل الثالث: واستدل القائل بعدم القطعية بأن التخصيص بالمتراخي لا يكون نسخا ولو كان العام قطعيا في تناوله جميع أفراده نصا لكان
1 انظر التحرير مع التقرير والتحبير1/238-239. ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/365-366.
2 سورة الحجر (30) .
3 سورة البقرة (196) .
4 انظر تلقيح الفهوم بتنقيح صيغ العموم/183-184 وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص326-327.
إخراج بعضها منه بعد قطعية التناول - نسخا1.
وجواب المخالف عن هذا بالتزام كون إخراج فرد من أفراد العام منه على نحو ما ذُكر - نسخا غير تخصيص، لأن التخصيص عندهم إنما يكون بمقارن مستقل مساوٍ للمخصوص في دلالته2.
الدليل الرابع: واستدل لهذا القول بأن العام يجوز تخصيصه بالقياس وخبر الواحد ودليل العقل، ولو كان العموم كالنص على كل فرد لم يجز تخصيصه بما ذكر، لعدم جواز إخراج ما تيقن دخوله في الحكم بما لا يفيد اليقين بخروجه منه3.
وأجاب المخالف عن هذا بوجهين:
الوجه الأول: أن الخاص يجوز صرفه عن حقيقته الثابتة له بخبر الواحد والقياس مع أن ثبوته على حقيقته قطعي عند عدمهما، فكذلك العام.
الوجه الثاني: أن مذهب أكثر الحنفية عدم جواز تخصيص العام بخبر
1 انظر شرح الكوكب المنير3/114-115.
2 انظر التلويح على التوضيح1/40-41 والتحرير مع التقرير والتحبير1/242 ومسلم الثبوت مع شرحه 1/266-267.
3 استدل لهم السرخسي بذلك1/141-142.
وانظر الاستدلال على عدم القطعية بجواز التخصيص مطلقا في الوصول إلى الأصول لابن برهان1/94-95، والاستدلال على عدم القطعية بجواز التخصيص بالعقل في المستصفى للغزالي (بولاق) 2/126، والاستدلال على عدم القطعية بجواز التخصيص بخبر الواحد في المرجع السابق 1/116.
الواحد والقياس ما لم يخصص من قبلُ بدليل موجب للتخصيص، فيكون القياس وخبر الواحد حينئذ مرجحين لإدخال الفرد المخصوص بهما في جملة دليل الخصوص الموجب1.
القول الثاني: قطعية اللفظ العام، أي العلم القطعي بشموله كلَّ فرد من أفراده.
وهذا مذهب جمهور الحنفية2.
ونقل ذلك عن الإمام الشافعي3، وحمله الزركشي على أن الناقل ربما استند إلى أن الإمام الشافعي رحمه الله قد يسمي الظواهر نصوصا فيقول في العام: إنه (نص) ولا يكون ذلك بمعنى أنه قطعي، لأن اصطلاح الشافعي في (النص) أعم من القطع4.
ونَقل إمام الحرمين أن مذهب الشافعي قطعية العموم حيث كان نفي قرينة الخصوص قطعيا5، وذلك واضح، فإن عدم القطعية سببه احتمال
1 انظر أصول السرخسي1/141-142.
2 انظر أصول الشاشي ص20 وأصول الجصاص ص59،102-103،155 وأصول السرخسي 1/132 وكشف الأسرار مع أصول البزدوي1/291 والتحرير مع التقرير والتحبير1/238 ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/265.
3 انظر نهاية السول للآسنوي2/342-343 والبحر المحيط3/27-28.
4 انظر البحر المحيط 3/27-28.
5 انظر البرهان1/222.
الخصوص فإذا قطعنا بنفي ما يخصص العام كانت دلالته على أفراده قطعية.
أدلة هذا القول:
الدليل الأول: أن إرادة المتكلم بكلامه ما هو موضوع له حقيقة أمر معلوم وهو الأصل، وإرادته به المجاز لا يعارض المعلوم لأنه موهوم لعدم الدليل عليه، ومراده غيب على غيره فلو لم يدل عليه لفظه لكان في طلب معرفته حرج ومشقة، وذلك مرفوع عن المسلمين1.
واعترض بأن الاحتمال هو في إرادة المتكلم كل ما يتناوله لفظه وضعا، ودليله كثرة التخصيص2.
الدليل الثاني: لو لم يكن العام قطعيا لجاز إرادة بعض ما يتناوله اللفظ في العرف بلا دليل صارف، وذلك يؤدي إلى ارتفاع الأمان عن الألفاظ الشرعية ويلزم منه التلبيس والتجهيل والتكليف بالمحال3.
1 انظر أصول السرخسي1/137-138 والتحرير لابن الهمام مع التقرير والتحبير لابن أمير الحاج1/239.
وردت أدلة كثيرة في رفع الحرج منها قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا في اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} سورة الحج (78) . وانظر الموافقات للشاطبي2/121.
2 وقد سبق عند ذكر أدلة القول الأول الكلام على كثرة التخصيص وما اعترض به على ذلك.
3 انظر التحرير مع التقرير والتحبير1/239. ومسلم الثبوت وشرحه1/266 وذكر فيه أن المقصود برفع الأمان المترتب على القول بعدم القطعية أنه عليه يجوز إرادة بعض ما يتناوله العام عرفا دون صارف، ولكن على القول بالقطعية تكون إرادة الكل هو الظاهر حتى يأتي صارف. انتهى كلامه. لكن الخلاف ليس في أن الظاهر من العام إرادة الكل فذلك لازم على القول بالحجية.
وانظر مسألة التكليف بالمحال والخلاف فيها في نهاية السول1/329 فما بعد.
اعترض على هذا الدليل بأمور:
أولا: أن الأمان لن يرتفع بذلك، لأن العمل لازم حتى على القول بعدم القطعية، فإن الحجية مسلمة لرجحان إرادة العموم وظهورها1، فالحجية ثابتة وكذا وجوب العمل، وإنما المنفي هو أن تكون إرادة الكل مقطوعا بها.
ثانيا: أن الجهل يتأتى على ما سبق في حق من قطع بإرادة الكل، لا في حق من لا يقطع بذلك، لأن المطلوب على القول بنفي القطعية اعتقادُ رجحان العموم مع الاحتمال، فإن قطع قاطع مع ذلك ثم انكشف الأمر عن عدم إرادة الكل كان هو المجهِّل نفسه بنفسه والملبس عليها2.
ثالثا: أن المدّعَى هو خفاء القرينة المبينة للتخصيص على المجتهد لا نفيها، فلا يلزم من ذلك تلبيس ولا تجهيل3.
رابعا: أن المكلَّف به هو اعتقاد ظاهر اللفظ وهو مقدور عليه، أما المراد على القطع فليس مكلفا به فلا يلزم التكليف بالمحال4.
1 مسلم الثبوت كما سبق.
2 انظر المستصفى (بولاق) 2/155-156.
3 انظر التحرير مع التقرير والتحبير1/239.
4 المرجع السابق.
الدليل الثالث: القياس على النص المطلق، فإنه يحتمل التقييد إذا دل على ذلك دليل مع أنه على حقيقته قطعا حتى يظهر الدليل الصارف، والأصل في العموم إرادة الكل فلا يصرف عن ذلك إلا بدليل1.
وقد تقدم أن الزركشي أدخل المطلق في محل النزاع2، وعلى ذلك لا يصلح المطلق أصلا لمحل الخلاف لاحتمال دخوله فيما ينازع فيه في هذه المسألة.
أثر الخلاف في هذه المسألة:
وقد كان الخلاف في هذه المسألة سببا للخلاف في مسائل أخرى أصولية وفقهية.
فمن المسائل الأصولية: مسألة تخصيص العام بالقياس غير القطعي وخبر الواحد غير القطعي، فإن القول بقطعية العام يمنع تخصيصه ابتداء بما ليس بقطعي.
ومنها: العمل عند ورود العام والخاص في حكم، هل يتعارضان إذا جهل تاريخ الورود وينسخ المتقدم منهما المتأخر إذا علم التاريخ أم أن العام يحمل على الخاص ويخصص به مطلقا لأن العام إذا كان قطعيا ضاهى الخاص
1 انظر أصول السرخسي1/240، والمرجع السابق.
2 انظر الأمر السابع من الأمور المذكورة في مطلع هذا المطلب لتحرير محل النزاع.
في قوة تناوله لما تحته من الأفراد فيتعارضان ويرجح أحدهما على الآخر1.
وأما المسائل الفقهية فالخلاف فيها مفرع على الخلاف في المسألتين الأصوليتين.
ومما تفرع على المسألة الأولى: الخلاف في مباح الدم خارج الحرم إذا التجأ إلى داخله، فهل يعصمه التجاؤه إلى الحرم أم أنه يُقتصّ منه داخل لحرم، فإن عموم قوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَءَامِناً} 2 يمنع القصاص، وقد يجوز ذلك بقياس ذلك على من جنى داخل الحرم، الجائز قتله بقوله تعالى:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} 3.
ومما ذكر من الخلاف المتفرع على المسألة الثانية جواز بيع العرايا:
1 انظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/520-523، 525-528، 536-539، ومختصر ابن الحاجب مع بيان المختصر 2/318-324، 340-348 وتلقيح الفهوم بتنقيح صيغ العموم للعلائي ص182 والتمهيد للآسنوي ص409 والبحر المحيط 3/29 وسلاسل الذهب ص246-248 وأصول السرخسي1/142-143، 2/29-30 وميزان الأصول ص691-692 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/294 وكشف الأسرار للنسفي 1/161 والتحرير مع التقرير والتحبير1/240 وانظر أثر الاختلاف في القواعد الأصولية لمصطفى سعيد الخن ص204-223 وتفسير النصوص لمحمد أديب صالح2/116-129.
2 سورة آل عمران (97) .
3 سورة البقرة (191) ، وانظر كشف الأسرار للبخاري 1/296-297 وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص 330-332.
وهو بيع الثمر على النخل بخرصه تمرا، لأن عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والتمر بالتمر
…
مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد" 1 يمنع من ذلك للجهل بالمثلية، ولكن ذلك جائز بخصوص الأحاديث المُرخِّصة لذلك مثل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم "رخص بعد ذلك في بيع العرايا بالرطب أو بالتمر "، وفي لفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها2.
أساس الخلاف في قطعية العموم:
- الخلاف في قطعية العام على الكيفية التي يقع البحث بها في كتب الأصول يرجع إلى أمر: وهو هل كَثُر التخصيص في العمومات الشرعية على وجه يوجب ورود احتمال التخصيص في كل عام شرعي عند المستدل الناظر في الدليل العام، وإن لم يقف على القرينة الخاصة بالتخصيص في ذلك العام؟.
1 رواه مسلم من حديث عبادة بن الصامت. انظر صحيح مسلم3/1211.
2 رواه البخاري ومسلم. انظر صحيح البخاري مع فتح الباري3/383-384 وصحيح مسلم3/1168 وعند مسلم 3/1169: "قال يحيى: العَرِيَّة أن يشتري الرجل ثَمَرَ النخَلات لطعام أهله رطبا، بخرصها تمرا".
والحنفية يجعلون العام والخاص الوارد في بيع العرايا متعارضين ثم يقوون العام ويرجحونه على الخاص لأنه متفق عليه، أما الجمهور فيحملون العام على الخاص مطلقا لعدم التعارض بين خاص وعام. وانظر المسألة في المبسوط للسرخسي12/192-193 والكافي في فقه أهل المدينة المالكي لابن عبد البر2/654-656 ونهاية المحتاج لأبي العباس الشافعي الصغير 4/157-159 وشرح الزركشي على مختصر الخرقي3/473 وانظر أثر الاختلاف في القواعد الأصولية لمصطفى سعيد الخن ص204-223.
ومن أهم ما يرد على دعوى كثرة التخصيص أن اللفظ العام له اعتباران: قياسي واستعمالي، أما الاعتبار القياسي ففيه يشمل اللفظ كلَّ ما يصلح له عقلا بالنظر إلى لفظه لغة، وأما الاعتبار الاستعمالي فلا يشمل اللفظ فيه إلا ما يمكن دخوله في الاستعمال عادة، فإذا قال قائل:"أكرمتُ الناس"، فلفظ (الناس) عام يشمل على الاعتبار الأول جميعَ بني آدم ثم يخص منه من يستحيل حسا أن يلقاهم القائل ومن أشبههم من الموتى والمفقودين
…
أما على الاعتبار الثاني فلا يدخل في لفظ (الناس) ابتداء إلا من يصح عادة أن يلقاهم القائل.
وإذا قال: "من دخل داري أكرمته" لم يدخل فيه نفسه لأنه خلاف العادة1.
- ثم إن الخلاف في قطعية العام له تعلّق بالخلاف في الاعتداد بالاحتمال الذي لا يعضده دليل في رفع القطعية، لأن الحنفية يعترفون بورود الاحتمال لكنهم لا يعتدون به إذ لم يستند إلى دليل2.
أثر اختلاف المنهج في المسألة:
والنظر في هذه المسألة إلى الوضع القياسي والوضع الاستعمالي ينبه على
1 انظر الموفقات3/268-271.
2 انظر مبحث الاحتمال وأثره في رفع القطعية من هذا البحث ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
أمر مهم في بحث العموم بل المباحث الأصولية عموما وهو تعدد مناهج البحث في الأدلة والقواعد الأصولية، فمنهج يبحث في الدليل أو القاعدة مفردة عن القرائن وجميع ما يمكن أن يؤثر فيه، ومنهج النظر الشامل للقاعدة ومقاصد الشريعة والقرائن المؤثرة من واقع الشريعة.
فعلى الأول يدخل في اللفظ العام كل ما يحتمله حسا وعقلا وعادة وشرعا، مع فرض اللفظ العام مطلقا من كل قرينة تبين المراد من تعزيز للعموم أو بيان وجه للخصوص، وعلى الثاني لا يدخل في اللفظ العام إلا ما اعتاده الناس عند استعمالهم له في العرف، ولا يدخل فيه إلا ما يناسب المقاصد والكليات الشرعية في استعمال الألفاظ الشرعية.
ويكون الفرق بين اللفظ في المنهجين: أن اللفظ على الأول ضَعُف لثقل ما احتمل من الممكنات الحسية والعقلية والشرعية، وأن اللفظ على الثاني قَوِي إذْ لم يحتمل إلا ما يمكن دخوله فيه في الاستعمال العادي في اللغة والمقاصد الشرعية.
والأول هو المنهج السائد في أصول الفقه عند الجمهور، والثاني هو المنهج الذي سار عليه الإمام أبو إسحاق الشاطبي1.
أما الحنفية فهم - وإن كانوا يقولون بالقطعية - يقرون بورود
1 انظر الموافقات3/268-271، وانظر الثبات والشمول في الشريعة د. عابد بن محمد السفياني ص320-330.
الاحتمال في اللفظ العام ثم يطرحونه لعدم الدليل المؤيد له على مسلكهم في الاعتداد بالاحتمال، فهم يتفقون مع جمهور الأصوليين في أصل ورود الاحتمال في الفظ العام لكنهم يلغونه في الاعتبار بعد ذلك لعدم الدليل المؤيد، وقد عرف من منهجهم النظر في الحصيلة الفقهية لأئمتهم عند البحث في القواعد الأصولية1.
هذا، والظاهر أن طريقة الشاطبي إنما تناسب الناظر الخبير بالوضع الاستعمالي للفظ والمطلع على مقاصد الشريعة وكلياتها والمحصل للقرائن المبيِّنة2، أما المستدل الذي ليس له طريق إلى الحكم إلا لفظ عام وما قرب من القرائن المبينة فالقطع على الحكم الذي يفيده اللفظ العام مجردا حينئذ لا يسهل على مثله مع احتمال أن يكون في المقاصد والكليات الشرعية من القرائن المنفصلة ما يخصص اللفظ.
1 انظر مرتقى الوصول إلى تاريخ علم الأصول للدكتور موسى بن محمد القرني ص 29-30.
2 قال الشاطبي في الموافقات1/23 في بيان منهجه في البحث في كتابه: "ولما بدا من مكنون السر ما بدا ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى لم أزل أقيد من أوابده وأضم شوارده تفاصيل وجملا وأسوق من شواهده في مصادر الحكم وموارده مبينا لا مجملا معتمدا على الاستقراءات الكلية غير مقتصر على الأفراد الجزئية ومبينا أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية حسبما أعطته الاستطاعة والمنة في بيان مقاصد الكتاب والسنة
…
". وقال1/87 في من هو أهل للنظر في كتابه: "ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريَّان من علم الشريعة أصولها وفروعها منقولها ومعقولها
…
".
فيبقى الخلاف على حاله في لفظ عام مجرد من جميع القرائن حتى ما يذكر من الوضع الاستعمالي والمقاصد الشرعية ونحوها، إذا فرض أن الفاقد لكل ذلك يجوز له النظر في الأدلة، أو في لفظ عام ليس عند المستدل به إلا القرائن القريبة، فهذا مما يتردد فيه النظر وتتداخل فيه المسائل، فلا يسهل الترجيح في هذه المسألة، فالله تعالى أعلم بالصواب.