الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أحكام القطيعة في السنة من جهة الثبوت
المطلب الأول: قطعية الخبر المتواتر
…
المطلب الأول: قطعية الخبر المتواتر
تعريف (الخبر) و (المتواتر) :
الخبر بتحريك الباء: واحد الأخبار، وهو النبأ1.
أما تعريفه عند علماء الشريعة فذكر فخر الدين الرازي أنه غني عن الحد والرسم لكونه ضروريا2، وعرفه غيره من علماء أصول الفقه، فذكر إمام الحرمين أنه:"الذي يدخله الصدق والكذب"3، وقال الغزالي: إنه "القول الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب"4، وقال الآمدي: هو "عبارة عن اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم إلى معلوم أو سلبها على وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام مع قصد المتكلم الدلالة على النسبة أو سلبها"5.
والخبر عند علماء الحديث مرادف للحديث6، وقيل الحديث ما جاء
1 انظر الصحاح للجوهري2/641 ولسان العرب4/227 والقاموس المحيط2/17.
2 انظر المحصول4/221-222.
3 البرهان1/367.
4 المستصفى2/131.
5 الإحكام1-2/353.
6 وذلك موافق لما جاء من تفسير الحديث بالخبر عند أهل اللغة. انظر اللسان 2/131-133 والصحاح 1/278 والقاموس المحيط 1/170.
عن النبي صلى الله عليه وسلم والخبر ما جاء عن غيره، ومن ثم سمي المشتغل بالتواريخ بالاخباري والمشتغل بالسنة النبوية بالمحدث، وقيل كل حديث خبر من غير عكس، فيكون بينهما عموم وخصوص مطلق1.
وأما المتواتر فهو في اللغة: اسم فاعِل من التواتر وهو التتابع مطلقا أو التتابع إذا كان بين الأمور المتتابعة فترات، ومن أصله (تترى) في قوله تعالى:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} 2 أي واحدا بعد واحد3.
ومن تعريفات الأصوليين للخبر المتواتر:
- أنه "خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم"4.
- أنه "عبارة عن خبر مفيد بنفسه العلم بمخبره"5.
- أنه "خبر عدد يمتنع معه لكثرته تواطؤ على كذب عن محسوس"6.
1 انظر نزهة النظر للحافظ ابن حجر2/52-53.
2 سورة المؤمنون (44) .
3 انظر الصحاح2/843 ومعجم مقاييس اللغة6/84 ولسان العرب5/275-276 والقاموس المحيط 2/157.
4 المحصول4/227.
5 الإحكام في أصول الأحكام للآمدي1-2/258.
6 شرح الكوكب المنير2/324.
وعرف الحافظ ابن حجر العسقلاني1 الخبر المتواتر بأنه في اصطلاح المحدثين الخبر الجامع لأمور أربعة:
أحدها: عدد كثير أحالت العادة تواطؤهم على الكذب.
الثاني: روايتهم ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء.
الثالث: كون مستند انتهائهم الحس.
الرابع: أن يصحب خبرهم العلم لسامعه2.
قطعية الخبر المتواتر:
والخبر المتواتر يفيد العلم القطعي واليقين بما تضمنه عند جميع
1 هو أحمد بن علي بن محمد أبو الفضل شهاب الدين ابن حجر العسقلاني، من الأئمة المتبحرين في علم الحديث، وهو مؤرخ، من تصانيفه: فتح الباري في شرح صحيح البخاري، الإصابة في تمييز الصحابة، نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في اصطلاح أهل الحديث، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، توفي سنة 852. انظر البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني 1/87-92 والأعلام للزركلي1/178-179.
2 انظر نزهة النظر/56-57.
وعرف الماوردي رحمه الله الخبر المتواتر تعريفا غريبا فقال: "هو ما ابتدأ به الواحد بعد الواحد حتى يكثر عددهم ويبلغوا قدرا ينتفي عن مثله التواطؤ والغلط ولا يعترض في خبرهم تشكك ولا ارتياب، فيكون في أوله من أخبار الآحاد وفي آخره من أخبار التواتر"، وذكر في تعريف الخبر المستفيض مثل الذي ذكره العلماء هنا في تعريف الخبر المتواتر. انظر أدب القاضي 1/371-372 وانظره بنصه في الحاوي الكبير (أدب القاضي) 16/85-86، وانظر ما ذكره الزركشي عن تقسيم الماوردي هذا في البحر المحيط4/249-250.
المسلمين، قال ابن حزم رحمه الله عن الخبر المتواتر:"وهو ما نقلته الكافة بعد الكافة حتى تبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به وفي أنه مقطوع على مغيبه1، لأنه بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم"2، وقال الآمدي رحمه الله3:"اتفق الكل على أن خبر التواتر مفيد العلم بمخبره، خلافا للسمنية4 والبراهمة5".
1 أي يقطع المبلَّغ بسماعه الخبر على مدلوله الغائب.
2 إحكام الأحكام لابن حزم 1/116-117.
3 الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1-2/258 وانظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1/33-34 وقواطع الأدلة لابن السمعاني/ق103-ب.
4 السمنية بضم السين وفتح الميم: فرقة من عبدة الأصنام تقول بالتناسخ وتنكر وقوع العلم بالأخبار. انظر الصحاح 5/2138.
5 البراهمة: ذكر الشهرستاني أنهم قوم من طوائف الهند ينفون النبوات أصلا، نسبة إلى رجل منهم يسمى براهم، وهم أصناف وفرق. انظر الملل والنحل3/95-100.
والسبب في خلافهم أنهم حصروا مدارك القطع غير الضرورية في المحسوسات، فما ليس محسوسا كالأخبار لا يكون قطعيا مفيدا العلم. انظر المستصفى للغزالي2/132-133 والإحكام للآمدي2/259 وشرح مختصر الروضة للطوفي2/76.
أما إمام الحرمين فقد نقل في البرهان1/102-103 القول بقطعية الخبر المتواتر عن السمنية فقال: "حكى أصحاب المقالات عن بعض الأوائل حصرهم مدارك العلوم في الحواس
…
ونقلوا عن طائفة يعرفون بالسمنية أنهم ضموا إلى الحواس أخبار التواتر ونفوا ما عداها"، فنقل هنا نفي القطعية في غير المحسوسات عن غير السمنية، ثم حمل قول من نُقل عنهم نفي القطعية في غير الحواس على وهم النقلة عنهم لسوء فهمهم اصطلاحَهم في ذلك، قال: "وأنا أُنَبِّه على وجه الغلط، قال الأوائل: العلوم كل ما تشكل في الحواس وما يفضي إليه نظر العقل مما لا يتشكل فهو معقول، فنظر الناقلون إلى ذلك ولم يحيطوا باصطلاح القوم" البرهان كما سبق، وقال في موضع آخر: "نقل النقلة عن السمنية أنهم قالوا: لا ينتهي الخبر إلى منتهى يفضي إلى العلم بالصدق"قال: "وهو محمول على أن العدد وإن كثر فلا يكتفى به حتى ينضم إليه ما يجري مجرى القرينة" البرهان1/375. وانظر البحر المحيط للزركشي 4/239.
فالسمنية - على ما نقله إمام الحرمين - يذهبون إلى قطعية المتواتر، ومستند القطعية في الخبر المتواتر عندهم ليس كثرة العدد فقط، بل انضمام أمور أخرى كالقرائن إلى العدد، وسيأتي قريبا نقل مثل هذا عن أبي إسحاق النظام المعتزلي.
ونُقل عن السمنية أيضا أن منهم من يسلّم بقطعية الخبر المتواتر في الأمور الماضية إذا تواتر الخبر فيها في الحال. انظر المحصول4/288 والبحر المحيط4/238.
أما الخلاف في كون العلم القطعي المستفاد من الخبر المتواتر ضروريا أو نظريا 1 فليس خلافا في أصل القطعية، لأن الضرورية والنظرية من أوصاف القطعية، فهما زائدتان على أصل القطعية.
وكذا ما ينقل عن النظَّام2 من أن قطعية المتواتر هي بسبب قرائن فيها، خلافا لما عليه الجمهور من أن قطعية المتواتر بسبب العدد الكثير الذي
1 انظر الخلاف في ذلك في المصادر المذكورة في هذا المبحث.
2 هو إبراهيم بن سيار بن هانئ أبو إسحاق النظام، متكلم، شيخ طائفة (النظامية) من المعتزلة، وله آراء شاذة في علم الكلام والفقه وفي أصول الفقه كإنكاره حجية الإجماع والقياس، من تصانيفه: كتاب النكت، وكتاب الطفرة، توفي سنة (221) . انظر سير أعلام النبلاء10/541-542 والفتح المبين في طبقات الأصوليين1/141-142 ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة 1/37.
يحيل عادة تواطؤ المخبرين على الكذب1، فأصل القطعية هنا أيضا ثابت، والخلاف في سبب القطعية أهو العدد أم القرائن، بل ذكر أبو الحسين البصري أن مراد النظام بذلك القرائن اللازمة للخبر كامتناع اتفاق الكذب منهم ونحوه، فإن مثل ذلك لازم لكل خبر متواتر، كما أن قرائن أخرى تجعل حصول القطعية أسرع في حال دون حال: كالأحوال الراجعة إلى المخبر المتكلم والمخبر السامع ونحوها2.
وحمل أبو المعالي الجويني قول نفاة قطعية المتواتر من السمنية على أنهم نفوا حصول القطع من العدد وجعلوا القطع من أمور أخرى كالقرائن3.
وجعل السرخسي إنكار قطعية مطلق الخبر قول فريق ممن ينكر رسالة المرسلين4.
وجعل شيخ الإسلام ابن تيمية التفريق بين المعلوم بالتواتر والمعلوم عن طريق الحس - من أصول الإلحاد والكفر، لأنه سبيل إلى إنكار المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات وغيرها5.
1 انظر المعتمد لأبي الحسين البصري2/93، ونقل البزدوي عنه إنكار قطعية الخبر المتواتر، ولم يشر إلى أثر القرائن في ذلك، انظر أصول الدين للبزدوي ص9-10.
2 انظر المعتمد2/93.
3 البرهان1/375.
4 انظر أصول السرخسي1/283.
5 انظر كتاب الرد على المنطقيين ص98-99.
والقول بنفي القطعية عن الخبر المتواتر أيا كان قائله وحقيقة قوله ومحل النزاع معه - قول مردود وباطل، والتحقيق في الرد على منكر ذلك أن يقال: إنا نجد نفوسنا قاطعة ومتيقنة بما يخبر به أهل التواتر كعلمنا وجزمنا بما نحسه ولا سبيل إلى دفع ما نجده، فرجعت حقيقة الاحتجاج على هؤلاء المنكرين في قطعية المتواتر إلى وجدان السامعين للخبر المتواتر - وهم جميع المسلمين - بالقطعية، ولا سبيل للمنكر في دفع ما يجدونه بإنكاره1.
قال أبو الحسين البصري في إبطال قول منكري قطعية الخبر المتواتر: "والذي يبطل قولَهم وِجدانُنا أنفسَنا معتقدة وجود مصر وخراسان ساكنة إلى غير ذلك، عند تواتر الأخبار علينا بها، فجرى مجرى المعرفة بالمشاهدات
…
ومن خالف في أنا معتقدون لذلك واثقون به فقد دفع ما نجده فلا وجه لمكالمته"2.
وقال الآمدي مستدلا على قطعية المتواتر: "ودليل ذلك ما يجده كل عاقل من نفسه من العلم الضروري بالبلاد النائية والأمم السالفة والقرون الخالية والملوك والأنبياء والأئمة والفضلاء المشهورين والوقائع الجارية بين السلف الماضين - بما يرد علينا من الأخبار حسب وجداننا كالعلم بالمحسوسات عند إدراكنا لها بالحواس، ومن أنكر ذلك فقد سقطت
1 انظر نقض المنطق لابن تيمية ص28.
2 المعتمد لأبي الحسين البصري 2/81.
مكالمته وظهر جنونه أو مجاحدته"1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن معرفة الإنسان بكونه يعلم أو لا يعلم مرجعه إلى وجود نفسه عالمة، ولهذا لا يحتج على منكر العلم إلا بوجود أنفسنا عالمة كما احتجوا على منكري الأخبار المتواترة2 بأنا نجد نفوسنا عالمة بذلك جازمة به كعلمنا وجزمنا بما أحسسناه"3.
ومن الشبه التي تمسك بها المنكرون:
1-
أنه لو أفاد الخبر المتواتر العلم القطعي لاشترك الجميع في العلم به ولما خالف من نُقل خلافه في ذلك.
والجواب: أنه لو كان خلافهم مزيلا للقطعية عن الخبر المتواتر لأزال خلاف السوفسطائية4 القطعية عن المحسوسات وذلك باطل، بل إن مجرد الخلاف لا يزيل القطعية ولا يمنعها5، كيف والخلاف في قطعية المتواتر لا يتصور - عند من يجدها - إلا عن جاحد معاند أو عن مختل العقل ساقط
1 الإحكام في أصول الأحكام2/259، وانظر الاستدلال على قطعية المتواتر بالوجدان في الأحكام لابن حزم1/116-117 والعدة لأبي يعلى3/841-842 وإحكام الفصول للباجي ص319 وشرح تنقيح الفصول ص350.
2 أي منكري وقوع العلم القطعي بالأخبار المتواترة.
3 نقض المنطق ص28.
4 سبق التعريف بهم انظر ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
5 انظر أثر الخلاف في منع القطعية ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
المكالمة كما ذكره أهل العلم رحمهم الله.
2-
أن الخبر إذا جاز أن يكون كذبا حالة الانفراد بنقل الآحاد جاز أن يكون كذلك حالة التواتر باجتماع عدد كثير في نقله، لأن الاجتماع من الانفراد.
والجواب: أن للاجتماع ما ليس للانفراد كما هو مشاهد في المحسوس، فرب شيء ثقيل لا يقدر الواحد على حمله فإذا اجتمع عليه مع غيره يحمله، فلا يقال إن عدم قدرته على الحمل منفردا يلزم منه عدم قدرته على ذلك مع غيره، فقد يدعوه إلى الكذب في حالة الانفراد داع، ولكن يستحيل اتفاق الدواعي على الكذب عند اجتماع عدد التواتر مع الكثرة واختلاف الهمم.
3-
أن الجم الغفير قد يجتمع على الكذب في الأمور المدركة بالاجتهاد كالفلاسفة1 وغيرهم، فكذا في الأمور المدركة بالحس كالمتواتر.
والجواب: أن الاجتهاد مظنة الخطأ بخلاف المدرك بالحس كالخبر المتواتر، فإنه يدرك بالسماع أو المشاهدة.
1 أي علماء الفلسفة، وهي كلمة يونانية ويعرفونها بأنها:"البحث عن طبائع الأشياء وحقائق الموجودات"، أو هي:"استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعلمية على قدر الطاقة الإنسانية". انظر الفلسفة في الإسلام للدكتور عرفان عبد الحميد ص42-44، وانظر ما عرف به الجرجاني الفلسفة في التعريفات/169.
4-
أن الكذب مع التواتر واقع في اجتماع الجمع الكثير من اليهود والنصارى على الكذب على أنبيائهم.
والجواب: أن شرط المتواتر وقوع الكثرة المذكورة في الخبر من أوله إلى آخره، وذلك غير متحقق في ما ذكر فإن أول ذلك أخبار منقولة بعدد يسير غير متواتر1.
قطعية المتواتر المعنوي:
الخبر المتواتر إذا كان لفظيا فما يفيده اللفظ هو القطعي، وأما المتواتر المعنوي2 فالمقطوع به فيه القدر المشترك بين الأخبار المتواترة في ذلك المعنى لا فيما انفرد به كل خبر عن بقية الأخبار المتواترة، فإن ذلك غير متواتر3.
وربما كانت قطعية المتواتر اللفظي أسرع لاتحاد لفظه ومعناه من قطعية المتواتر المعنوي لاختلاف ألفاظه وما طابقها من المعاني وإن اتضح
1 انظر العدة لأبي يعلى 3/843-845 وشرح اللمع للشيرازي 2/570-571 والتنقيح للتبريزي2/373 والوصول إلى الأصول لابن برهان2/139 فما بعدها.
2 التواتر المعنوي: أن يروي جماعة كثيرون يقع العلم بخبرهم كل واحد منهم يروي حكما غير الذي يرويه صاحبه إلا أن الجميع يتضمن معنى واحدا فيكون ذلك المعنى بمنزلة ما تواتر به الخبر لفظا، ومثل الخطيب البغدادي للتواتر المعنوي بما روي في عمل الصحابة بخبر الواحد وذلك في وقائع وأحداث متغايرة يشترك جميعها في أن فيها عمل الصحابة بخبر الواحد. انظر الفقيه والمتفقه المجلد الأول ص95.
3 انظر الإحكام للآمدي2/272 ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية1/195.
مدلولها من جهة التضمن1والالتزام23، فدلالة المتواتر اللفظي على الحكم المدلول عليه بالمطابقة، ودلالة المتواتر المعنوي إما بالتضمن أو بالالتزام.
التفاوت بين المتواتر والمحسوسات:
جعل بعض المنطقيين4 قطعية المتواتر أدنى درجة من قطعية المحسوسات، لأن قطعيته غير مشتركة بل تختص بمن علمها، أما قطعية المحسوسات فهي مشتركة يُحتج بها على المنازع مطلقا5، ولأن الخبر مهما كثر عدد رواته يتطرق إليه إمكان التواطؤ عقلا فلا بد من نوع من الفكر في الوصول إلى قطعيته، بخلاف المحسوس ونحوه6.
1 "دلالة التضمن هي دلالة اللفظ على جزء مسماه في ضمن كله، ولا تكون إلا في المعاني المركبة، كدلالة الأربعة على الواحد رُبْعِها وعلى الاثنين نصفِها
…
فمن قال: عندي أربعة دنانير دلّ ذلك على أن عنده دينارين". آداب البحث والمناظرة للشيخ محمد الأمين الشنقيطي1/14، وانظر التعريفات للجرجاني/104-105.
2 دلالة الالتزام هي دلالة اللفظ على أمر خارج عن مسماه لازم له لزوما ذهنيا بحيث يلزم من فهم المعنى المطابقي فهم ذلك الأمر الخارج اللازم، وذلك كدلالة (الأربعة) على أنها عدد زوج. انظر آداب البحث والمناظرة1/14 وانظر التعريفات ص 104-105.
3 الإحكام للآمدي2/272.
4 نسبة إلى المنطق، وهو من العلوم الآلية ويعرفونه بأنه:"آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر". التعريفات للشريف الجرجاني ص232.
5 انظر كتاب الرد على المنطقيين ص92.
6 انظر البرهان1/107-108.
وليس هذا التفريق مسلما، لأن قطعية المتواتر قد تكون عامة ومشتركة بين الناس كاشتراك الناس بوجود مكة ونحوها من البلاد المشهورة واشتراكهم في العلم بوجود البحر وأكثرهم ما رآه، وقد تكون خاصة يعلمها من شارك في تحصيل الأخبار المسببة في القطعية، وكذلك الأمور الحسية قد تكون مشتركة كاشتراك الناس في رؤية الشمس والقمر والكواكب، وأخص من ذلك اشتراك أهل البلد الواحد في رؤية ما عندهم من جبل أو نهر، وقد تكون خاصة كما في ذوق الأمور، فإن المعيَّن الذي ذاقه شخص ليس هو المعين الذي ذاقه غيره، إذ كل إنسان يذوق ما في بطنه وإن اشتركوا في جنس ذلك، فإذا كان كل من المحسوس والخبر المتواتر قد يكون خاصا وقد يكون عاما مشتركا فلا وجه للفرق بينهما حتى يكون هذا محتجا به على المخالف دون ذاك1.
أما تطرق الاحتمال العقلي ثم الاحتياج في نفيه إلى نوع من الفكر فَبَعد نفيه يستوي العلم القطعي به، وذلك لا يوجب فرقا بينه وبين غيره في الاحتجاج2، على أن من العلماء من ذكر أن المتواتر يفيد علما ضروريا لا يحتاج لشيء من ذلك.
هذا، وقد يُرتَّب بين القطعيات من المحسوس والخبر المتواتر وغيرهما
1 انظر كتاب الرد على المنطقيين ص92-99 (بتصرف) .
2 انظر البرهان1/110.
بتقديم بعضها على بعض دون إشارة إلى كون المقدَّم أقوى من المؤخر1، ولعل ذلك راجع إلى كون بعض اليقينيات أسرع من بعض كتقديم الأوَّلِيّات على المجرَّبات2.
ندرة التمثيل للمتواتر عند الأصولين، والكلام عليه عند المحدثين:
تفصيل الكلام في الخبر المتواتر وشروطه لا يخلو منه كتاب من كتب أصول الفقه المشهورة، ولكن ذكر مثال للخبر المتواتر لا يكثر فيها كثرة البحث فيه.
وأخرج بعض أهل الحديث الكلام في المتواتر من مباحث علم الحديث لندرته وغرابته عن طبيعة ذلك العلم.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح عند كلامه على الحديث المشهور: "ومنه المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص
…
ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم
1 انظر مثلا: ميزان العقول لعلاء الدين السمرقندي/8-9 والمواقف للإيجي ص38.
2 انظر البرهان كما سبق، والمنخول للغزالي ص46.
والأوليات: "العقليات المحضة التي أفضى ذات العقل بمجرده إليها من غير استعانة بحس أو تخيل وجبل على التصديق بها، مثل علم الإنسان بوجود نفسه وأن الاثنين أكبر من الواحد"، والمجربات: ما يحتاج العقل فيه في جزم الحكم إلى تكرار المشاهدة مرة بعد أخرى، مثل حكمك بأن النار محرقة والخبز مشبع. انظر المستصفى للغزالي 1/138 والتعريفات ص 202.
ولا يكاد يوجد في رواياتهم
…
ومن سئل عن إبراز مثال لذلك أعياه طلبه
…
"1، وقال النووي2: "ومنه [أي المشهور] المتواتر المعروف في الفقه وأصوله، ولا يذكره المحدثون، وهو قليل لا يكاد يوجد في رواياتهم"3.
فهما يجعلان سبب قلة أمثلة الخبر المتواتر ندرته في الأحاديث المروية.
وقال السخاوي4 إشارة إلى البحث في الخبر المتواتر: "وليس من مباحث هذا الفن فإنه لا يبحث عن رجاله لكونه لا دخل لصفات المخبرين فيه ولذلك لم يذكره من المحدثين إلا القليل كالحاكم5 والخطيب في أوائل
1 مقدمة ابن الصلاح ص392-393.
2 هو يحيى بن شرف بن مرى شيخ الإسلام أبو زكرياء محيي الدين النووي، الحافظ الفقيه الزاهد، من تصانيفه:(رياض الصالحين) ، و (الأربعين) في الحديث، والمنهاج شرح مسلم، و (المجموع) شرح المهذب، والأذكار، توفي سنة (676) هـ. انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1470 والفتح المبين في طبقات الأصوليين2/81-82 والأعلام9/184-185.
3 تقريب النووي مع تدريب الراوي2/176.
4 هو محمد بن عبد الرحمن بن محمد أبو الخير شمس الدين السخاوي، من علماء الحديث والتاريخ، من مؤلفاته: شرح على ألفية العراقي في مصطلح الحديث، والمقاصد الحسنة في الأحاديث الجارية على الألسنة، والضوء اللامع في أعيان القرن التاسع، توفي سنة (902) هـ. انظر شذرات الذهب 8/15-17 والأعلام للزركلي7/67-68.
5 هو محمد بن عبد الله بن محمد أبو عبد الله الحاكم النيسابوري ويعرف بـ (ابن البيِّع) ، من أئمة الحديث، من مؤلفاته: المستدرك على الصحيحين، ومعرفة علوم الحديث، وتاريخ علماء نيسابور، توفي سنة (405) هـ. انظر وفيات الأعيان لابن خلكان4/180-281 وتذكرة الحفاظ للذهبي 3/1039-1045.
ولم أقف على كلامه في الخبر المتواتر فيما رجعت له من كتبه، بيد أنه قال في كتابه معرفة علوم الحديث (ص162) : "قد تواترت الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم في فضائل قبائل العرب قبيلة قبيلة
…
"، وذكر الخبر المشهور الذي يستوي في معرفته الخاص والعام ص92-93.
الكفاية1 وابن عبد البر2 وابن حزم3"4.
فهو يعزو سبب القلة إلى أن الخبر المتواتر خارج عن موضوع صناعة المحدثين وهو النظر في الأسانيد.
ففيما ذكروا أمران: أحدهما أن البحث في الخبر المتواتر بحث غريب في علوم الحديث، والثاني أن الخبر المتواتر يعِزُّ وجوده في الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الأمر الأول فهو واضح، لأن أهم خصائص علم الحديث النظر في الأسانيد والرجال وصفاتهم وصيغ الأداء ونحو ذلك ليحكم بصحة الحديث أو ضعفه، أما الخبر المتواتر فهو يجب العمل به من غير بحث في تلك الأمور، لوقوع العلم منه بكثرة عدد المخبرين5.
أما الأمر الثاني - وهو عزة الأخبار المتواترة في الأحاديث المروية -
1 انظر الكفاية ص50.
2 انظر جامع بيان العلم وفضله2/33-34.
3 انظر إحكام الأحكام1/116.
4 فتح المغيث3/36.
5 انظر نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر ص60
فقد منعه الحافظ ابن حجر العسقلاني، وعلل من وجه آخر عزة أمثلة الخبر المتواتر بأن ذلك "نشأ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطأوا على الكذب أو يحصل منهم اتفاقا"، قال: "ومن أحسن ما يُقرَّر به كون المتواتر موجودا وجودَ كثرة في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقا وغربا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب
…
إلى آخر الشروط أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير"1.
وجمع بعض أهل العلم بين ما ذكر من ندرة الخبر المتواتر وكثرته، فذكر أن القول بعزته وندرته محمول على المتواتر لفظا ومعنى، وأن القول بالكثرة محمول على المتواتر معنى فقط2.
فمن الأمثلة القريبة للخبر المتواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "، فقد رواه جمع كثير من الصحابة - رضي
1 المرجع السابق ص61-62.
2 انظر دليل أرباب الفلاح لتحقيق فن الاصطلاح للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي ص12، ومما مَثّل به للمتوتر اللفظي حديث "نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها
…
"، ومثل للمتواتر المعنوي حديث نزول القرآن على سبعة أحرف.
الله عنهم - عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ورواه عن الصحابة عدد غير قليل من مشاهير التابعين وأعلامهم رحمة الله عليهم أجمعين1.
1 انظر ما سبق من تخريجه في ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) ، وذكر الحافظ في فتح الباري1/203 أن من الأخبار المتواترة الأحاديث الواردة في المسح على الخفين، ورفع اليدين والشفاعة، والحوض، ورؤية الله تعالى في الآخرة، وحديث "من بنى لله مسجدا"، وحديث " الأئمة من قريش".