المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: في الفرض والواجب - القطعية من الأدلة الأربعة

[محمد دكوري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: قطعية الدليل وأثرها

- ‌الفصل الأول: قطعية الدليل

- ‌المبحث الأول: جهة القطعية في الدليل

- ‌المطلب الأول: جهة الثبوت

- ‌المطلب الثاني: جهة الدلالة

- ‌المطلب الثالث: مسائل في جهة القطعية

- ‌المبحث الثاني: فيما يفيد القطعية في الدليل

- ‌المطلب الأول: إفادة الإجماع القطعية في الدليل

- ‌المطلب الثاني: أثر القرائن في إفادة القطعية

- ‌المبحث الثالث: فيما يمنع القطعية عن الدليل

- ‌المطلب الأول: أثر الخلاف في منع القطعية

- ‌المطلب الثاني: الاحتمال وأثره في منع القطعية

- ‌الفصل الثاني: أثر قطعية الدليل

- ‌المبحث الأول: أثر قطعية الدليل في الإصطلاح

- ‌المطلب الأول: في الدليل والأمارة

- ‌المطلب الثاني: في الفرض والواجب

- ‌المبحث الثاني: أثر القطعية في الاجتهاد والتخطئة

- ‌المبحث الثالث: أثر القطعية في التعارض والترجيح

- ‌الباب الثاني: أحكام القطعية في الأدلة الأربعة

- ‌الفصل الأول: أحكام القطعية في الكتاب والسنة

- ‌المبحث الأول: الكتاب والسنة أصل الأدلة الشرعية القطعية وغيرها

- ‌المبحث الثاني: أحكام القطيعة في السنة من جهة الثبوت

- ‌المطلب الأول: قطعية الخبر المتواتر

- ‌المطلب الثاني: قطعية الخبر الواحد

- ‌المبحث الثالث: أحكام القطعية في الكتاب والسنة من جهة الدلالة

- ‌المطلب الاول: قطعية النص

- ‌المطلب الثاني: قطعية العموم

- ‌المطلب الثالث: قطعية المفهوم

- ‌الفصل الثاني: أحكام القطعية في الإجماع

- ‌المبحث الأول: قطعية الإجماع

- ‌المبحث الثاني: الإجماع القطعي

- ‌الفصل الثالث: أحكام القطعية في القياس

- ‌المبحث الأول: قطعية القياس

- ‌المبحث الثاني: القياس القطعي

- ‌المبحث الثالث: القطعي من مسالك العلة

الفصل: ‌المطلب الثاني: في الفرض والواجب

‌المطلب الثاني: في الفرض والواجب

أصل الفرض في اللغة يدل على التأثير في شيء من حز أو قطع1، وأصل الوجوب السقوط والوقوع، ويأتي بمعنى الخَفَقان والاضطراب2.

غير أن بعض أهل اللغة عرفوا الفرض بالواجب:

فقال الجوهري3: "الفرض ما أوجبه الله تعالى، سمي بذلك لأن له معالم وحدودا، وقوله تعالى:{قَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضاً} 4 أي مقتطعا ومحدودا

"5.

وقال أحمد ابن فارس6: "

ومن الباب اشتقاق الفرض الذي

1 انظر الصحاح3/1098 معجم مقاييس اللغة4/488-489 لسان العرب7/307.

2 انظر الصحاح للجوهري1/232 ومعجم مقاييس اللغة6/89-90 ولسان العرب1/794.

3 هو إسماعيل بن حماد التركي الأُتراري أبو نصر الجوهري، من أئمة اللغة، من تصانيفه: الصحاح، وله كتاب في العروض، وكتاب المقدمة في النحو، توفي سنة (393) هـ. انظر معجم الأدباء لياقوت 5/151-165 وسير أعلام النبلاء17/80-82 والأعلام (ط. الخامسة) 1/313.

4 سورة النساء (118) .

5 الصحاح3/1098.

6 هو أحمد بن فارس بن زكرياء أبو الحسين القزويني الرازي، لغوي محدث، من تصانيفه: المجمل، مقاييس اللغة، الصاحبي، توفي سنة (395) هـ. انظر وفيات الأعيان1/118-120 وسير أعلام النبلاء17/103-106 والأعلام 1/193.

ص: 219

أوجبه الله تعالى"1.

وقال ابن منظور2: "فرضت الشيء أفرضه فرضا وفرّضته للتكثير: أوجبته"3.

الخلاف في المسألة:

- الفرض والواجب في اصطلاح الحنفية مختلفان غير مترادفين، واتخذوا القطعية أساسا للتفريق بينهما، فإنهم لاحظوا التفاوت بين الأدلة المثبتة للأحكام الشرعية في القوة، فخصوا الفرض بما كان من الأحكام ثابتا بدليل قطعي لا شبهة فيه، والواجب بما ثبت من الأحكام بما دون القطعي من الأدلة.

قال الشاشي4: "الفرض لغة هو التقدير

وفي الشرع ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه، والوجوب هو السقوط يعني ما سقط على العبد بلا اختيار منه، وقيل: من الوجبة وهي الاضطراب، سمي الواجب بذلك

1 معجم مقاييس اللغة4/488-489.

2 هو محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين ابن منظور الأنصاري الإفريقي، من أئمة اللغة، من تصانيفه: لسان العرب، مختار الأغاني، مختصر تأريخ دمشق، توفي سنة (711) هـ. انظر الدر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني 5/31-33 شذرات الذهب 6/26-27 الأعلام7/329.

3 لسان العرب7/207 وانظر القاموس المحيط3/352.

4 هو إسحاق بن إبراهيم أبو يعقوب الخراساني الشاشي، فقيه أصولي حنفي، من تصانيفه: كتاب في أصول الفقه يسمى (أصول الشاشي) ، توفي سنة (325) هـ. انظر الجواهر المضية 1/364 الفتح المبين1/177 الأعلام 1/293.

ص: 220

لكونه مضطربا بين الفرض والنفل، فصار فرضا في حق العمل حتى لا يجوز تركه، ونفلا في حق الاعتقاد فلا يلزمنا الاعتقاد جزما، وفي الشرع: ما ثبت بدليل فيه شبهة، كالآية المؤولة والصحيح من الآحاد"1.

وقال السرخسي: "والفرض: اسم لمقدر شرعا لا يحتمل الزيادة والنقصان، وهو مقطوع به لكونه ثابتا بدليل موجب للعلم قطعا من الكتاب أو السنة المتواترة أو الإجماع

فأما الواجب فهو: ما يكون لازم الأداء شرعا ولازم الترك فيما يرجع إلى الحل والحرمة

من غير أن يكون دليله موجبا للعلم قطعا"2.

فأساس هذا الاصطلاح هو النظر إلى الدليل المثبت للحكم، والتفريق بين القطعي منه والظني بتخصيص ما يثبته كلٌ منهما باسم خاص.

والتفريق بين الفرض والواجب على ما سبق هو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد3.

1 أصول الشاشي ص: 379، وفيه إشارة إلى نوعي الظني: وهما ما ليس بقطعي لدلالته ومثل لذلك بالآية المؤولة، وما ليس بقطعي ثبوتا ومثل لذلك بالصحيح من الآحاد.

2 أصول السرخسي1/110-112، وانظر ميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي/28-29 كشف الأسرار عن أصول البزدوي 1/85، 2/301-304 ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/85.

3 هو أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني، من الأئمة المتبعين، إليه ينسب المذهب الحنبلي، أشهر مؤلفاته كتاب المسند، ومن تصانيفه الرد على الزنادقة، وكتاب السنة، توفي سنة (241) هـ. انظر حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني9/161-233 وطبقات الحنابلة لأبي يعلى 1/4 فما بعد، وسير أعلام النبلاء11/177-358 والفتح المبين1/149-155.

وانظر الرواية المذكورة عن الإمام أحمد في العدة لأبي يعلى1/162.

ص: 221

واستدل المفرقون بين اللفظين بأمور منها:

أولا: أن الفرض في الأصل التقدير والقطع، ومنه قوله تعالى:{فَنِصْفُ مَافَرَضْتُّم} 1 أي قدرتم، وقوله تعالى:{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} 2 أي قطعنا الأحكام فيها قطعا، والوجوب السقوط، قال تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} 3، فكان كل من الفرض والواجب فيه معنى اللزوم ولكن تأثير الفرض أكثر، لأنه يسمى به ما بقي له أثر على كل حال، والسقوط على الأرض وجوب وقد لا يبقى له أثر على الأرض، فكان في الفرض ما ليس في الوجوب من القوة ولذلك أثّر، فلذلك اختص بـ (الفرض) ما ثبت من الأحكام بالدليل القطعي لمزيد قوة فيهما، واختص بـ (بالواجب) ما ثبت بدليل غير قطعي لنزولهما عن درجة التأثير القطعي، كما أن الواجب يأتي بمعنى الوجبة وهي الاضطراب فاختص به ما ثبت بدليل غير قطعي لنوع شبهة فيه حتى كان فيه اضطراب4.

ثانيا: أن التسوية بين ما ثبت بدليل قطعي وبين ما ثبت بغيره حَطٌّ

1 سورة البقرة (237) .

2 سورة النور (1) ، وانظر فتح القدير للشوكاني 4/4.

3 سورة الحج (36) .

4 انظر أصول السرخسي1/110-112.

ص: 222

للقطعي من رتبته ورفع لغير القطعي عن رتبته، والتفريق بين الموضعين مراعاة لكل دليل في رتبته فكان أولى1، قال السرخسي:"إن فرضية القراءة في الصلاة ثابتة بالنص بدليل مقطوع به وهو قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ} 2 وتعيين الفاتحة ثابت بخبر الواحد3، فمن جعل ذلك فرضا كان زائدا على النص ومن قال: يجب العمل به من غير أن يكون فرضا كان مقررا للثابت بالنص على حاله وعاملا بالدليل الآخر بحسب موجبه"4.

ومثلوا للفرض أيضا بالإيمان والصلاة والزكاة والصوم والحج، وغيرها من العبادات التي هي أركان الدين، ومثلوا للواجب بقراءة الفاتحة في الصلاة كما سبق، والطهارة في الطواف والسعي5.

ثالثا: أن الواقع في الشرع كون بعض الواجبات آكد من بعض،

1 انظر أصول البزدوي مع كشف الأسرار2/304-305، وانظر إشارة إلى ذلك 1/84-85.

2 سورة المزمل (20) .

3 وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله عنهما، ومن ألفاظه:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" ومنها: "كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج فهي خداج، غير تمام". انظر صحيح البخاري مع فتح الباري2/237 وصحيح مسلم1/295، وانظر الحديث بطرقه الأخرى في إرواء الغليل للشيخ ناصر الدين الألباني3/10.

4 أصول السرخسي1/112-113.

5 المرجع السابق.

ص: 223

فصلاة الظهر آكد من صلاة النذر وإن كانتا واجبتين، فوجب أن يفرق بينهما في التعبير عن هذا الواقع بكون الفرض لما هو في أعلى منازل الوجوب والواجب بما دون ذلك1.

- وذهب الجمهور إلى عدم التفريق بين الفرض والواجب، ولم ينظروا في التسمية إلى الفرق بين الأدلة القطعية والظنية المثبتة للأحكام الشرعية2.

ونقضوا ما ذكره الحنفية من الاصطلاح بأمور منها:

أولا: أن التفريق في التسمية، وتخصيص كل من الموضعين باسمٍ أمرٌ لا يستند إلى لغة ولا شرع ولا عقل.

أما اللغة فلأن علماءها عرفوا الفرض بالوجوب، كما سبق عن الجوهري وغيره3، بل قد يكون الوجوب وهو السقوط أقربَ إلى التحقيق في أصل الاشتقاق من الفرض الذي هو التقدير والقطع4، ولأن الفرض في اللغة هو التقدير مطلقا سواء أكان تقديرا مقطوعا به أم غير مقطوع به والوجوب هو السقوط أعمّ من أن يكون سقوطا مقطوعا به أو غير مقطوع به5.

1 العدة لأبي يعلى2/379.

2 انظر التقريب والإرشاد 1/294 وإحكام الفصول للباجي ص173 وشرح اللمع للشيرازي 1/286 وشرح مختصر الروضة 1/276-277 وشرح العضد على المختصر 1/232.

3 انظر بداية هذا المطلب وانظر شرح مختصر الروضة1/276-277.

4 انظر التقريب والإرشاد1/294 وتلخيص التقريب1/167-170.

5 انظر المحصول1/98 والإحكام للآمدي1/87-88.

ص: 224

أما الشرع فلأنه لم يرد في لسان الشرع ما يبين هذا التفريق بين الموضعين في التسمية، قال تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} 1 أي أوجبه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يقول الله تعالى: ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه "2، كما يطلق العلماء اسم (الفرض) على ما أُدِّي من الصلاة المختلف في صحتها بينهم بقولهم:"أدِّ فرض الله تعالى"والأصل في الإطلاق الحقيقة3،4.

أما العقل فلأنه ليس فيه ما يقتضي هذا التفريق، فإن اختلاف طرق إثبات الحكم - حتى يكون هذا الطريق معلوما قطعا وذاك الطريق دون ذلك - لا يوجب اختلافا في الأحكام الثابتة بها في الحقيقة، فاختلاف طرق الواجبات في الظهور والخفاء والقوة والضعف - حتى يقتل المكلف بترك بعضها دون بعض - لا يوجب اختلاف الواجب في حقيقته من حيث هو

1 سورة البقرة (197) .

2 جزء من حديث قدسي طويل أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة (. انظر صحيح البخاري مع فتح الباري11/340-341.

3 وجه الاستدلال من هذا أن تلك الصلاة لما كانت مختلفا فيها فإنها تكون غير قطعية الصحة، فإذا أطلق عليها اسم الفرض فقد أطلق على واجب ثبت بطريق غير مقطوع به للخلاف، وقد سبق في مبحث أثر الخلاف في إزالة القطعية ما في مثل هذا الإطلاق وأن الأمر المختلف فيه قد يكون قطعيا عند بعض المختلفين. انظر ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .

4 انظر شرح اللمع 1/286 والإحكام للآمدي 1/87-88 وشرح الكوكب المنير للفتوحي 1/351-354.

ص: 225

واجب، كما أن اختلاف طرق النوافل والحرام بالقطع والظن غير موجب لاختلافها في نفسها من حيث هي نافلة وحرام1.

فإذا كان هذا الاصطلاح في التفريق بين الفرض والواجب لا يستند إلى اللغة ولا الشرع ولا العقل فهو تحكم محض لا أساس له.

ثانيا: أن اصطلاحهم منقوض عليهم بأنهم أطلقوا اسم (الفرض) على أحكام ثبتت بأدلة غير قطعية، من ذلك إطلاقهم الفرض على الوضوء اللازم على من افتصد، وعلى الصلاة الواجبة على من بلغ في الوقت بعد أدائه إياها، وإطلاق الفرض على العُشر الواجب في غير الأقوات وفيما دون خمسة أَوْسُق، وإطلاقه على القِعْدة في الصلاة، وعلى مسح رُبع الرأس2.

ثالثا: أنه يلزم على ما ذكروه أن تسمى النوافل الثابتة بطريق مقطوع به فروضا لكن ذلك غير جائز فبطل ما ذكروا3.

رابعا: أنه لا مناسبة بين كل من (الفرض) و (الواجب) وبين ما خصوه به من الأحكام، ولو عُكس ما ذهبوا إليه فسُمي ما ثبت بقطعي واجبا وما ثبت بظني فرضا لم يكن ممتنعا ولا بعيدا، وذلك خلل ظاهر في الاصطلاح4.

1 انظر الإحكام للآمدي كما سبق، وانظر المحصول1/98.

2 انظر تلخيص التقريب1/167-170 والوصول لابن برهان1/79 والبحر المحيط1/183.

3 انظر شرح اللمع1/286.

4 انظر التقريب 1/295-296 وتلخيص التقريب 1/167-170 وشرح اللمع 1/286 والوصول لابن برهان1/79-80 والبحر المحيط للزركشي 1/182-183.

ص: 226

وأجاب المفرقون عن هذه الأمور:

أما الأول - وهو أن الاصطلاح تحكم لا أساس له لغة ولا شرعا ولا عقلا - فدفعوه بأن بينوا أساس التفريق عندهم فلا يكون تحكما، قال عبد العزيز البخاري1: "إنا نخص الفرض بقسم باعتبار معنى القطع ونخص الواجب بقسم باعتبار معنى السقوط

ولا يوجد معنى القطع في الواجب ولا معنى السقوط

في الفرض فأنى يلزم التحكم وسائر الأسماء الشرعية والعرفية بهذه المثابة"2.

فالتفاوت المتحقق بين الأدلة الشرعية حتى يكون منها القطعي والظني مطرد في الأحكام الثابتة بتلك الأدلة حتى يكون فيها الفرض والواجب3، بل إن بعضهم التزم التفريق في التحريم أيضا، فما ثبت بدليل قطعي منه فهو الحرام وما ثبت بما دون القطعي فهو المكروه كراهة تحريم4.

1 هو عبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين البخاري، فقيه أصولي، من مصنفاته:(كشف الأسرار) وهو شرح على أصول البزدوي، وشرح المنتخب الحسامي للإخسيكي وهو في الأصول أيضا، توفي سنة (730) . انظر الفوائد البهية/94-95، والفتح المبين للمراغي 2/136 والأعلام للزركلي4/137.

2 كشف الأسرار2/304-305، هذا جوابهم عن التحكم اللغوي.

3 أصول السرخسي1/111-112 والعدة لأبي يعلى2/380-383.

4 انظر مسلم الثبوت مع فواتح الرحموت1/85 وانظر العدة2/383-385.

ص: 227

أما عدم التفريق بين اللفظين في لسان الشارع فلأن الأدلة إنما تنقسم إلى قطعي وظني في حق غيره، فكان التفريق غير وارد في حقه لاستواء الأدلة بالنسبة إليه1.

أما الثاني - وهو أن اصطلاحهم منقوض بأحكام سموها فرضا مع عدم ثبوتها بالقطعي - فدفعه بعض الحنفية بأن الفرض على نوعين: فرض قطعي وفرض عملي ظني وهو في قوة القطعي في العمل بحيث يفوت الجواز بفواته، ومن الفرض العملي الظني المقدارُ في مسح الرأس والوتر2، قال الشيخ ابن عابدين3: "إن المجتهد قد يقوى عنده الدليل الظني حتى يصير قريبا من القطعي4، فما ثبت به يسميه فرضا عمليا، لأنه يعامل معاملة الفرض في

1 انظر مسلم الثبوت كما سبق، وهذا دفع للتحكم الشرعي وللاعتراض بعدم ورود ذلك في لسان الشرع.

2 انظر حاشية ابن عابدين1/94-95.

3 هو محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز، المعروف بابن عابدين، فقيه أصولي، من تصانيفه: رد (المحتار على الدر المختار) في الفقه، وهو معروف بحاشية ابن عابدين، و (نسمات الأسحار على شرح المنار) في الأصول، والرحيق المختوم في الفرائض، توفي سنة (1252) هـ. انظر الفتح المبين3/147-148 والأعلام للزركلي6/267-268.

4 تقدم (195) أن بعض العلماء أثبتوا مرتبة بين القطعي المطلق وبين الظني المطلق وهو الظني القوي أو المقارب للقطعي، وعلى ما ذكر هنا يكون الدليل في هذه الرتبة هو المثبت للفرض العملي، فكما أن الأدلة عند المثبتين للمرتبة الوسطى ثلاثية القسمة: قطعي مطلق وظني مطلق وظني قوي مقارب للقطعي فكذا الأحكام عند ابن عابدين ثلاثية القسمة تبعا للأدلة المثبتة لها وهي على الترتيب السابق: فرض مطلق وواجب مطلق وفرض عملي.

ص: 228

وجوب العمل، ويسمَّى واجبا نظرا إلى ظنية دليله، فهو أقوى نوعي الواجب وأضعف نوعي الفرض"1، أو أن ذلك محمول على أن ما بيَّن من الأدلة غير القطعية دليلا قطعيا مجملا فالحكم الثابت بالقطعي وبيانه الغير القطعي حكم قطعي، ومنه المقدار في مسح الرأس2.

وحاصل هذا الجواب أن جميع ما سماه الحنفية فرضا مما لم يثبت بالدليل القطعي: فإما أنه في مرتبة وسط بين الفرض المطلق والواجب المطلق، وإما أنه محمول على القطعي تبعاً، وذكر الزركشي أن إطلاق الفقهاء لفظ (الفرض) في مثل هذا قد يكون من باب المشاكلة3.

أما الثالث - وهو إلزامهم تسميةَ النافلة فرضا - فهو مدفوع بأن كلا الموضعين في التقسيم مشترك أولاً في أنه مما يلزم ويتحتم ولا يجوز تركه في العمل، فلا يدخل في ذلك النوافل ابتداء، حتى التي تثبت بالقواطع لأنها ليست لازمة في العمل، فالفرض هو ما ثبت بدليل قطعي مما يلزم فعله ولا

1 حاشية ابن عابدين1/94-95 وانظر1/279،442، وانظر فتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم 2/62-64.

2 حاشية ابن عابدين1/95.

3 انظر البحر المحيط 1/178-179، والمشاكلة المماثلة وهي عند أهل البديع: أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته كقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} البقرة (194) وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٌ سَيِّئَةٌ مِثْلِهَا} الشورى (40) ، انظر مفتاح العلوم للسكاكي ص 661 والمعجم الوسيط ص 491.

ص: 229

يجوز تركه، والواجب ما ثبت بظني مما يلزم فعله ولا يجوز تركه، وليست التسمية في مطلق الأحكام فيدخل فيها النافلة1.

أما الرابع - وهو أنه لو عكس اصطلاحهم لم يبعد - فهو قريب من الاعتراض الأول، وقد أجيب عن ذلك ببيان وجه ذلك في اللغة والشرع والعقل2، ومن عكس ما فعلوه فهو مطالب ببيان وجه ما عكس.

مسألة: هل للخلاف أثر:

اختلف أهل العلم في أن هذا الخلاف المتقدم له أثر في الأحكام أم أنه خلاف لفظي:

- فذهب بعضهم إلى أن الخلاف نزاع لفظي.

قال الغزالي: "وأصحاب أبى حنيفة3 رحمه الله اصطلحوا على تخصيص اسم الفرض بما يقطع بوجوبه وتخصيص اسم الواجب بما لا يدرك إلا ظنا، ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون، ولا حجر في

1 انظر العدة لأبي بعلى2/381.

2 انظر الجواب عن الاعتراض الأول.

3 هو النعمان بن ثابت بن زوطى أبو حنيفة، من الأئمة المتبعين، إليه ينسب المذهب الحنفي، ينسب إليه كتاب الفقه الأكبر، وله مسند جمعه تلاميذه، توفي سنة (150) هـ. انظر الجواهر المضية في طبقات الحنفية1/49-63 ووفيات الأعيان5/405 وسير أعلام النبلاء 6/403-415 والفتح المبين1/101-105.

ص: 230

الاصطلاحات بعد فهم المعاني"1.

ومما يؤيد كون النزاع لفظيا أن كثيرا من المفرقين وغير المفرقين قد بنوا أحكام الفروع على التفريق، فإن الفقهاء يذكرون أن الصلاة مشتملة على فروض وواجبات وفرقوا بين الموضعين بجعل الفرض أقوى من الواجب2، وقال الزركشي مشيرا إلى ذلك:"وهذا ليس في الحقيقة فرقا يرجع إلى معنى تختلف الذوات بحسبه وإنما هي أوضاع نسبت للبيان"3.

- وذكر بعض العلماء آثارا للخلاف:

1- منها تكفير جاحد الفرض دون الواجب4.

وتعقب الزركشي ذلك بقوله: "وليس هذا من ضروريات الفرق"5 أي أنه يمكن أن يقول بالتكفير من لا يفرق في التسمية، وألا يقول بالتكفير من

1 المستصفى1/213.

2 انظر شرح مختصر الروضة1/276، وانظر التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للآسنوي ص58، ذكر بعض الفروع المخالفة لمذهب الشافعية في عدم التفريق بين الفرض والواجب.

3 البحر المحيط1/184، أي أن التفريق بين الموضعين في التسمية للإيضاح وليس أمرا ذا معنى، ونقل الآسنوي الخلاف في التفريق بين الفرض والواجب بين الحنفية والجمهور ثم قال:"فإن ادعوا [أي الحنفية] أن التفرقة شرعية أو لغوية فليس في اللغة ولا في الشرع ما يقتضيه، وإن كانت اصطلاحية فلا مشاحة في الاصطلاح"، ولم يخرِّج أية مسألة فرعية على هذا الخلاف بين الحنفية والشافعية، انظر التمهيد في تخريج الفروع على الأصول/58.

4 انظر أصول السرخسي1/110-112 وانظر التقريب والإرشاد1/295.

5 البحر المحيط1/183.

ص: 231

يفرق بالتسمية، لأن التكفير وعدمه من أجل الدليل المثبت للحكم ووصوله للجاحد وإقامة الحجة عليه وغير ذلك، وليس مبنيا على مجرد التسمية.

2-

ومنها: أن جميع الأحكام عند من لم يفرق قطعية، وليس الأمر كذلك عند من فرق1.

وهذا فيه نظر لأن القطعية في الأحكام تابعة للقطعية في الأدلة، وقد تقدم أن مذهب الجماهير من المذاهب الأربعة أن الأدلة الشرعية فيها أدلة قطعية وأدلة غير قطعية، فإذا ثبت الحكم بدليل غير قطعي لم يكن قطعيا سواء أفُرِّق بين الفرض والواجب أم لا. والله أعلم.

3-

ومنها: أنه على مذهب التفريق يجوز أن يكون بعض الواجبات آكد من بعض، وليس كذلك على مذهب الجمهور2.

ويرد على هذا ما ذكره بعض العلماء من أن بعض الواجبات آكد من بعض سواء أقيل بالتفريق في التسمية أم لا3، وذكر الغزالي أن غير المفرقين لا ينكرون أن بعض الواجبات ثابتة بدليل قطعي وبعضها بدليل غير قطعي4، وعلى ذلك فما ثبت بدليل قطعي من الواجبات كان آكد من

1 نقله الزركشي عن ابن برهان، انظر البحر المحيط1/183.

2 انظر كشف الأسرار عن أصول البزدوي2/305 وشرح الكوكب المنير1/351-354.

3 انظر شرح الكوكب المنير1/353-354.

4 المستصفى1/213.

ص: 232

جهة ثبوته مما لم يثبت بدليل غير قطعي.

4-

ومما ذكر من الآثار المترتبة على الخلاف السابق أن من فرّق بين الموضعين لا يكون عنده تَرْك قراءة الفاتحة في الصلاة مفسدا لها، ومن لم يفرق من الجمهور كان تركها فيها مفسدا للصلاة عندهم.

ورُدَّ بأن الخلاف في فساد الصلاة بترك قراءة الفاتحة لا يضر في كون الخلاف لفظيا، لأن ذلك أثر فقهي لا مدخل له في الخلاف في التسمية، فظنية الدليل عند الحنفية تسبب عنها أمران: التسميةُ بالواجب وعدمُ فساد الصلاة بترك ما أثبته، ولا يلزم إذا تسبب عن الخلاف أمران أن يكون أحدهما سببا للآخر1.

ويؤيد ذلك أمور: منها أن ما سبق من الخلاف في قراءة الفاتحة مبني على مسألة (الزيادة على النص وهل هي نسخ أم لا) وليس مبنيا على مجرد الخلاف في التسمية2، ومنها أن الحنفية قد يطلقون الواجب كما يطلقه

1 شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني 1/89.

2 يدل على ذلك أن التلمساني في مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول (ص108-109،45) ود. مصطفى سعيد الخن في كتابه أثر الاختلاف في القواعد الأصولية (ص264-265،273) ذكرا مسألة تعيين الفاتحة بالقراءة من آثار الخلاف في مسألة الزيادة على النص، وانظر أصول البزدوي مع كشف الأسرار3/191-198، ففيه أن مسألة تعيين قراءة الفاتحة مبنية على مسألة الزيادة على النص. ومن الفروع المبنية على مسألة الزيادة على النص مشروعيةُ التغريب مع الجلد في حد الزنا، فإن التغريب عند الحنفية غير لازم مع فرض حد الزنا وهو واجب، انظر أصول السرخسي 2/82 وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص50.

ص: 233

الجمهور على الحكم الجازم مطلقا سواء أثبت بدليل قطعي أم لا1، وقد أطلق علاء الدين السمرقندي2 من الحنفية على الفرض اسم "الواجب القطعي" وسمى الموضع الآخر "الواجب مع الاحتمال"3.

ويرد على هذا الاصطلاح ما ورد على اصطلاح التفريق بين الدليل والأمارة، فإن الدليل قد لا يكون مطردا في القطعية عند جميع العلماء، وعلى ذلك يكون الحكم فرضا عند من ثبت عنده بدليل قطعي واجبا عند من ثبت عنده بدليل غير قطعي، وذلك يمنع اطراد الاصطلاح4. والله أعلم.

1 انظر التوضيح على التنقيح 2/124. وانظر حاشية ابن عابدين على الدر المختار1/94-95.

2 هو محمد بن أحمد بن أبي أحمد أبو منصور علاء الدين السمرقندي، فقيه أصولي من الحنفية، من تصانيفه: تحفة الفقهاء، وميزان الأصول في نتائج العقول، وشرح الجامع الكبير، توفي سنة (539) هـ. انظر الأعلام للزركلي6/212 والفوائد البهية للكنوي/158 ومقدمة التحقيق من كتاب ميزان الأصول لمحمد زكي عبد البر ص ز-ف.

3 انظر ميزان الأصول ص29،31،33،97،103.

4 انظر مثل هذا الكلام في اصطلاح (الدليل والأمارة) ص (215) .

والتفريق بين الفرض والواجب عند الحنفية دون غيرهم من الجمهور يشير إلى مسألة أخرى الخلاف فيها معنوي وله أثر في الأحكام الشرعية، وهو الزيادة بالدليل غير القطعي على الحكم الثابت بالدليل القطعي، فإن الحنفية يمنعون أن تكون تلك الزيادة مثل الحكم الثابت بالدليل القطعي ويجعلون الثابت بالدليل القطعي فرضا يَبطل العمل بتركه والثابت بالدليل غير القطعي واجبا لا يبطل العمل بتركه، وذلك مثل مسألة تعيين الفاتحة بالقراءة فإنه ثابت بالخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى:{فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ} وعموم ذلك يقتضي إجزاء غير الفاتحة من القرآن، فالثابت بنص القرآن وهو لزوم القراءة مطلقا فرض لا تصح الصلاة بتركها، والثابت بالخبر وهو قراءة عين الفاتحة واجب تصح الصلاة بقراءة غيرها من القرآن، لأنه لو ثبت موجب الخبر فرضا وهو غير قطعي لنسخ موجب الآية وهي قطعية، ونسخ القطعي بغير القطعي لا يصح، أما الجمهور فلا يفرقون بين الثابت بالدليل القطعي والثابت بالدليل غير القطعي ولا يجعلون بين الآية والخبر تعارضا وهذه مسألة (هل الزيادة على النص نسخ؟) .

فإذا كان الخلاف راجعا في أن الحنفية يرتبون آثارا عملية على انقسام الأدلة الشرعية إلى قطعي وظني فذلك غير مسلم، وإن الأدلة الشرعية قطعيها وظنيها سواء في العمل والعمل بالأحكام الثابتة بالأدلة غير القطعية عمل بما هو معلوم قطعا ويقينا. راجع ص (82) من هذا البحث.

ص: 234

تفريق آخر بين الفرض والواجب:

وفرق بعض العلماء بين الفرض والواجب بفرق آخر غير ما سبق، وذلك بأن الفرض ما ثبت بالقرآن والواجب ما ثبت بالسنة، وهو رواية عن الإمام أحمد قال عنها في المسودة:"وهذه هي ظاهر كلام أحمد في أكثر نصوصه"1.

1 المسودة ص50 وانظر البحر المحيط1/183-184.

ونسب الشاطبي إلى الحنفية التفريق بين الفرض والواجب بهذا الفرق وهو كون الحكم في القرآن أو في السنة وقال: "وهو راجع إلى تقديم اعتبار الكتاب على اعتبار السنة"(الموافقات 4/7-8) ، ولم يذكر من رجعت إلى كتبهم من الحنفية أن هذا الذي ذكره الشاطبي مذهبٌ لهم ولا أنه قول لبعضهم، وأما ما سبق عنهم فالظاهر أنه غير مبني على كون الحكم ثابتا بالقرآن أو بالسنة بل هو مبني على قوة الدليل وقطعيته سواء أكان من القرآن أم من السنة، لكن الأمثلة المشهورة في ذلك كلها ثبت الفرض فيها بالقرآن وثبت الواجب فيها بالسنة، كفرضية مطلق قراءة القرآن مع وجوب تعين الفاتحة، وفرضية مطلق حد الزنا مع وجوب التغريب معه، وفرضية مطلق الطواف مع وجوب الطهارة له، والقطعي من السنة - وهو المتواتر - لا يكثر التمثيل له وبناء الأحكام عليه في كتب الفقه وأصوله، فلا يبعد أن تكون حقيقة قول الحنفية راجعة إلى ما أشار إليه الشاطبي.

ص: 235

والفرق بين هذا وبين ما سبق أن ما يظهر هنا أن النظر إلى وجود الحكم في القرآن أو في السنة مطلقا، أما ما سبق فالنظر إلى القطعية فما أثبته الدليل القطعي فهو فرض سواء أكان ذلك الدليل القطعي من القرآن أو من السنة المتواترة، وكذا الواجب هو الثابت بالظني مطلقا.

قال الزركشي ردا على هذا التفريق: "وألزمهم القاضي أن لا يكون شيء مما ثبت وجوبه بالسنة - مثل كيفية الصلاة ودية الأصابع والعاقلة - فرضا، وأن يكون الإشهاد عند التبايع ونحوه من المندوبات الثابتة بالقرآن فرضا"1.

ويمكن توجيه هذا الاصطلاح بأن يكون المراد بالفرض فيه الواجبات الثابتة بالقرآن والواجب خاصا بالواجبات الثابتة بالسنة، أو يكون المراد بالفرض فيه كل ما ثبت بالقرآن سواء أكان واجبا أم نفلا والواجب ما ثبت بالسنة من الواجبات والمندوبات، ولا يكون الفرض والواجب على هذا الاصطلاح متفرعا على الطلب الجازم الذي لا يجوز تركه2، والأمر في الاصطلاحات واسع، والله أعلم.

1 البحر المحيط 1/183-184، والظاهر أنه يريد القاضي أبا بكر الباقلاني، ولم أجده في الجزء المحقق من التقريب ولا في تلخيص التقريب عند الكلام على المسألة.

2 هذا حملٌ لما نقل عن أهل العلم على وجه معقول، غير أن الاصطلاح المشهور في الفرض والواجب أنهما يشتركان في كونهما مما طلب فعله طلبا جازما ولا يجوز تركه كما تبين في هذا المبحث. والله تعالى أعلم.

ص: 236

ابن عبد البر يفرق بين الفرض والواجب في العبارة:

وقال الحافظ ابن عبد البر1: "وأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل

ولا أقول إن حفظه كله فرض، ولكن أقول إن ذلك واجب لازم على من أَحَبَّ أن يكون عالما، وليس من باب الفرض"2.

فكأنه تحاشى رحمه الله أن يسمي ذلك فرضا فاكتفى بأنه واجب، وذلك تفريق لطيف مبني على أن الفرض أقوى من الواجب وأثقل في العبارة منه.

أثر آخر لقطعية الدليل في الاصطلاح:

ومن آثار قطعية الدليل في الاصطلاحات غير ما سبق من الدليل والأمارة والفرض والواجب: تفريق بعض العلماء بين مصطلحي المفسر والمؤول بأن المفسَّر ما تبين المراد منه بدليل قطعي، والمؤول ما تبين المراد منه بدليل غير قطعي3.

1 هو يوسف بن عبد الله بن محمد أبو عمر الحافظ ابن عبد البر النمري القرطبي، فقيه محدث نسّاب، من تصانيفه: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، (الاستيعاب) في تراجم الصحابة، الكافي في الفقه، جامع بيان العلم وفضله، توفي سنة (463) هـ. انظر وفيات الأعيان لابن خلكان7/66-72 وسير أعلام النبلاء18/153-163 والديباج المذهب 2/367-370.

2 جامع بيان العلم وفضله2/166-167.

3 انظر ميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي/360-361 والتحرير مع التقرير والتحبير 1/147-148، وللمفسر والمؤول تفسيرات أخرى (انظر المرجعين السابقين) .

ص: 237

فعلى هذا الاصطلاح يكون معنى التفسير تبيين المراد من الكلام على سبيل القطع، ومعنى التأويل تبيين المراد منه على سبيل دون القطع من الظن الراجح1.

1 انظر تفسير النصوص لمحمد أديب صالح1/366.

ص: 238