المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: القطعي من مسالك العلة - القطعية من الأدلة الأربعة

[محمد دكوري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: قطعية الدليل وأثرها

- ‌الفصل الأول: قطعية الدليل

- ‌المبحث الأول: جهة القطعية في الدليل

- ‌المطلب الأول: جهة الثبوت

- ‌المطلب الثاني: جهة الدلالة

- ‌المطلب الثالث: مسائل في جهة القطعية

- ‌المبحث الثاني: فيما يفيد القطعية في الدليل

- ‌المطلب الأول: إفادة الإجماع القطعية في الدليل

- ‌المطلب الثاني: أثر القرائن في إفادة القطعية

- ‌المبحث الثالث: فيما يمنع القطعية عن الدليل

- ‌المطلب الأول: أثر الخلاف في منع القطعية

- ‌المطلب الثاني: الاحتمال وأثره في منع القطعية

- ‌الفصل الثاني: أثر قطعية الدليل

- ‌المبحث الأول: أثر قطعية الدليل في الإصطلاح

- ‌المطلب الأول: في الدليل والأمارة

- ‌المطلب الثاني: في الفرض والواجب

- ‌المبحث الثاني: أثر القطعية في الاجتهاد والتخطئة

- ‌المبحث الثالث: أثر القطعية في التعارض والترجيح

- ‌الباب الثاني: أحكام القطعية في الأدلة الأربعة

- ‌الفصل الأول: أحكام القطعية في الكتاب والسنة

- ‌المبحث الأول: الكتاب والسنة أصل الأدلة الشرعية القطعية وغيرها

- ‌المبحث الثاني: أحكام القطيعة في السنة من جهة الثبوت

- ‌المطلب الأول: قطعية الخبر المتواتر

- ‌المطلب الثاني: قطعية الخبر الواحد

- ‌المبحث الثالث: أحكام القطعية في الكتاب والسنة من جهة الدلالة

- ‌المطلب الاول: قطعية النص

- ‌المطلب الثاني: قطعية العموم

- ‌المطلب الثالث: قطعية المفهوم

- ‌الفصل الثاني: أحكام القطعية في الإجماع

- ‌المبحث الأول: قطعية الإجماع

- ‌المبحث الثاني: الإجماع القطعي

- ‌الفصل الثالث: أحكام القطعية في القياس

- ‌المبحث الأول: قطعية القياس

- ‌المبحث الثاني: القياس القطعي

- ‌المبحث الثالث: القطعي من مسالك العلة

الفصل: ‌المبحث الثالث: القطعي من مسالك العلة

‌المبحث الثالث: القطعي من مسالك العلة

تعريف العلة ومسالكها:

المسالك جمع مسلك وهو الطريق الذي يسلكه المجتهد في إثبات العلة1، ومسالك العلة الأدلة على أن الوصف علة2، والعلة: الوصف الظاهر المنضبط المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، وهي الوصف الذي يجمع بين الأصل المقيس عليه والفرع المقيس في الحكم3.

فمسالك العلة: الطرق الشرعية المؤدية إلى معرفة كون وصف من الأوصاف مشتملا على حكمة التشريع ليكون الجامع الرابط بين الأصل والفرع في حكم القياس.

مسالك العلة أدلة شرعية:

تقدم أن قطعية القياس تقوم على ركنين رئيسين: أولهما القطع بكون

1 انظر تيسير التحرير 3/38.

2 انظر مفتاح الأصول إلى بناء الفروع على الأصول للشريف التلمساني ص145.

3 انظر تعريفات العلة والكلام على تعليل أحكام الله تعالى في مذكرة الشيخ محمد الأمين ص275 وتعليل الأحكام لمحمد مصطفى شلبي ص112-125 والوصف المناسب لشيخنا أحمد محمود عبد الوهاب ص41-61 ومباحث العلة في القياس لعبد الحكيم عبد الرحمن أسعد السعدي ص101 وما قبلها.

ص: 437

الوصف في الأصل علة، والثاني القطع بوجود هذا الوصف في الفرع، فلكي تستقيم القطعية في القياس لا بد من الدليل القطعي على التعليل في الأصل وعلى وجود العلة في الفرع.

أما وجود العلة في الفرع يثبت بسائر الأدلة من الحس والعقل والعرف كما يجوز أن يثبت بالشرع1، فكون النبيذ مسكرا أو كون الذرة مطعوما أو الأرز مطعوما مقتاتا مدخرا

يمكن إقامة الدليل القطعي عليه إما حسا أو عقلا أو غيرهما كما يمكن إثبات الوصف في الأصل بذلك، كالإسكار في الخمر والكيل أو الطعم أو الادخار مع الاقتيات في البر أو الشعير2.

وأما كون وصف معين في الأصل علةَ الحكم فيه فهو الذي لا يمكن أن يثبت إلا بالأدلة الشرعية، لأنه دعوى بأن الشرع حَكَم في الأصل بالحكم لأجل ذلك الوصف، وذلك غير مقبول إلا بدليل من الشرع3.

والدليل على العلية كسائر الأدلة الشرعية يختلف قوة وضعفا، بيد أن

1 انظر كشف الأسرار عن أصول البزدوي 3/351، وانظر روضة الناظر2/257.

2 وهذا غير إثبات كون ذلك الوصف علة لأن الأول مجرد إثبات وجود الوصف في الأصل والآخر ادعاء أن الوصف الموجود في الحكم علته. انظر روضة الناظر لابن قدامة مع نزهة الخاطر 2/353-356.

3 انظر المعتمد لأبي الحسين البصري 2/247-248 شفاء الغليل للغزالي/26 وميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي ص590 وكشف الأسرار لعبد العزيز البخاري3/351، وانظر الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 1/210.

ص: 438

القياس لا يكون قطعيا حتى يكون الدليل على علية الوصف في الأصل قطعيا وذلك ليس طريق جميع العلل، فقد لا تسهل إقامة الدليل القاطع على أن علة تحريم الربا في الأصناف الربوية الستة كونها مطعومة أو مكيلة أو مقتاتة مدخرة.

وقسم الفخر الرازي مسالك العلة إلى نقلية وعقلية 1، ولعل النظر في ذلك إلى أن في بعض المسالك قدرا من استعمال العقل أكبر من غيره كما في مسلكي الدوران والسبر والتقسيم2، لكن ذلك لا يخرجهما عن كونهما أدلة شرعية عند إثبات علية الوصف بهما3. والله أعلم.

فالتحقيق أن طرق إثبات علية الأوصاف في الأحكام الشرعية كلها شرعية، "لأن كون الوصف علة شرعا ودليلا على حكم الله تعالى أحدُ الأحكام الشرعية، فلا يثبت إلا بما يثبت به سائر الأحكام الشرعية"4.

إذا ثبت أن كون الوصف الجامع بين الأصل والفرع علة لا بد من الدليل الشرعي عليه وأن الدليل عليه - في القياس القطعي - لا بد أن

1 انظر المحصول5/452-453، وانظر مباحث العلة في القياس ص369.

2 سيأتي الكلام عليهما قريبا إن شاء الله.

3 انظر المعتمد 2/249، فلا بد في تلك المسالك من الاعتماد على الشرع في بعض مقدماته، فإن إبطال الأوصاف التي لا تصلح للعلية في نظر المستدل - في السبر والتقسيم - يعتمد على اعتداد الشارع بمثل تلك الأوصاف أو طردية الوصف وغرابته عن المقاصد الشرعية في العلية.

4 ميزان الأصول ص590، وانظر شفاء الغليل للغزالي ص26.

ص: 439

يكون قطعيا، تبين أن كل دليل شرعي قطعي يمكن أن يثبت به هذا الركن من القياس القطعي إذا دَلَّ عليه، وذلك مثل النص القطعي من الكتاب أو من السنة أو الإجماع القطعي، ومثل الأدلة الشرعية التي تحتف بها قرائن القطعية في جهتي الثبوت والدلالة، فطريق قطعية العلية كطريق قطعية الأدلة الشرعية.

والمجتهد يصل إليها مباشرة بواسطة الأدلة القطعية ثبوتا ودلالة، أو بالبحث عن قرائن القطع المحتفة والشواهد المعززة حتى يقطع بأن وصفا معينا علة حكم معين.

إلا أن أهل العلم - رحمهم الله تعالى - خصوا هذا المحل بالبحث عن الطرق المؤدية إلى العلية كما قسم بعضهم تلك الطرق إلى قطعية وغير قطعية.

وما تجمعه حدود هذا البحث من مسالك العلة هو المتعلق منها بالكتاب والسنة والإجماع1، وذلك مسلكا النص والإجماع.

1 وقد ذكر العلماء رحمهم من المسالك القطعية غير ما يدخل في هذا المبحث مسلكين آخران:

أحدهما: السبر والتقسيم وهو حصر الأوصاف الصالحة للعلية وحذف ما سوى الوصف المدعى عليته فيتعين الوصف المدعى، فمتى كان الحصر والحذف قطعيين كان هذا المسلك قطعيا. انظر البحر المحيط 5/224 ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/299-300.

ولم ينقل خلاف في قطعية هذا المسلك، لكن لم أقف له على مثال شرعي فقهي بل ذكر الفتوحي في شرح الكوكب المنير (4/146) أنه قليل في الشرعيات، وقال الشيخ عيسى منون

ص: 440

............................................................................................................................................

في نبراس العقول (ص373) إشارة إلى مسلك السبر والتقسيم: "ثم إن القطعي من هذا المسلك حجة في العِلميات والعَمليات بالاتفاق وإن كان حصوله في الشرعيات عسِرا جدا".

والمسلك الثاني: الدوران (ويسمى بالدوران الوجودي والعدمي وبالطرد والعكس) وهو: أن يوجد الحكم عند وجود الوصف وينعدم عند عدمه، والجمهور على أنه ليس من المسالك القطعية ويُنقل عن قوم من المعتزلة أنهم يقولون بقطعيته. انظر المحصول5/207 والإحكام للآمدي3/260 والتحصيل للأرموي2/203 والبحر المحيط5/246 والإبهاج لابن السبكي1/147 والتحرير والتيسير للكمال ابن الهمام3/49 ومذكرة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أصول الفقه ص260. لكن أبا الحسين البصري ذكر الدوران في (المعتمد) في جملة المسالك الظنية المستنبطة ولم يذكر في العلل القطعية إلا ما كان طريقها "نصا من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم أو من الأمة متواترا"المعتمد2/250. وانظر المعتمد 2/520-251،257-258، وانظر كتاب القياس الشرعي الملحق بالمعتمد 2/499.

والظاهر من المعتمد كما سبق ومن العمد وشرحه2/77-84: أن الدوران عندهم قطعي في إثبات العلل العقلية وأنه ظني في إثبات العلل الشرعية، فنسبة قطعية مسلك الدوران إلى بعض المعتزلة مقيَّدة بالعلل العقلية دون العلل الشرعية، والله تعالى أعلم.

ووجَّه بعض العلماء القول بالقطعية في مسلك الدوران بأنه حيث انضم إلى الدوران المناسبة أو كثرة التكرار أو انتفى المزاحم بالسبر والتقسيم. انظر كتاب الرد على المنطقيين لابن تيمية ص93 والبحر المحيط 5/246 وشرح المحلي على جمع الجوامع 2/289 وشرح الكوكب المنير 4/193-194 وانظر التحرير مع التيسير 3/49 ونبراس العقول ص258.

فهذان المسلكان أهميتهما ضعيفة بالنظر إلى القطعية، لأن الأول وهو السبر والتقسيم يعسر الإتيان فيه بمثال شرعي فقهي، والثاني وهو الدوران منازع في قطعيته منفردا، ولعل الراجح عدم قطعيته إلا مع ضميمة قرائن القطعية، فبقيت العمدة في المسالك القطعية على الكتاب والسنة والإجماع، أما غيرها فالأمر فيه راجع إلى النظر والبحث وقد يقطع الناظر بضميمة جمع من الأدلة غير القطعية، وذلك باب واسع من مآخذ القطعية. والله أعلم.

ص: 441

مسلك النص:

وهو النص القاطع من الكتاب والسنة على علية الوصف الجامع.

والمراد بالنص عند العلماء رحمهم الله في باب مسالك العلة لفظ الكتاب أو السنة، فيشمل القطعي وغيره، ومن ثم يصفونه بالقطعية أو بالصراحة إذا أرادوا تقييده فيقولون (نص قاطع) أو (نص صريح)1.

وهذا أشرف المسالك وأولى طرق العلة بالتقديم، لتعلقه بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم2.

وبحث القطعية فيه من جهة الدلالة أي دلالة اللفظ من الكتاب أو السنة على أن الوصف الجامع هو علة حكم الأصل قطعا، أما من جهة الثبوت فالبحث في ذلك يدخل في عموم البحث في قطعية الثبوت فما كان من تلك الألفاظ في القرآن الكريم أو في السنة المتواترة فقطعي وكذلك ما كان من أخبار الآحاد قد احتف به من القرائن ما يفيده القطعية على ما سبق تقريره في مطلع هذا الباب.

1 انظر المحصول 5/139-140 والإبهاج لابن السبكي 3/46 والبحر المحيط 5/148 ونبراس العقول ص229.

2 قال إمام الحرمين عند كلامه على مسالك العلماء في إثبات العلة: "وأما ما اعتمده الشافعي وارتضاه ولا معدل عنه ما وجد إليه سبيل فهو دلالة كلام الشارع في نصبه الأدلة والأعلام، فإذا وجدنا ذلك ابتدرناه ورأيناه أولى ما يُسلك"البرهان2/529. وانظر نبراس العقول للشيخ عيسى منون ص277.

ص: 442

النص القاطع والنص الصريح:

المراد بالنص القاطع من طرق العلة عند فخر الدين الرازي: ما كان من الألفاظ موضوعا للتعليل بحيث لا يحتمل غير العلية لا حقيقة ولا مجازا1، وذلك عنده أربعة ألفاظ أو ثلاثة وهي (لعلة كذا) و (لسبب كذا) و (لأجل كذا) و (لموجب كذا) 2، وما عدا هذه الألفاظ فليس من النص القاطع.

ودون النص القاطع عنده الألفاظ التي تكون (ظاهرة جدا) كالتي تكون موضوعة حقيقة للتعليل ويكون استعمالها في غير العلية محمولا على المجاز، وذلك كاللام والباء و (إنّ)3.

فمرتبة (الظاهر جدا) في جهة الدلالة هنا هي مرتبة الظني القريب أو المقارب للقطعي كما سبق نقله عن بعض من توسع في اعتبار مطلق الاحتمال في إزالة القطعية4.

1 انظر المحصول 5/139-140، 452-453، وقد أشار غير الرازيّ إلى تقسيم مسلك النص من طرق العلة إلى قطعي وغير قطعي، كأبي الحسين البصري في المعتمد (2/250) لكنه ذكر في (النص الصريح) : اللام و (كي) ، وأشار إلى ذلك علاء الدين السمرقندي في ميزان الأصول (ص590 فما بعدها) حيث ذكر أن طرق العلة أُسوةٌ في ذلك بطرق سائر الأحكام الشرعية، لكنه عند الكلام على المسلك الخاص بـ (النص) ذكر من أنواعه: اللام و (إن) والباء والفاء.

2 انظر المحصول في الموضعين السابقين، وسبب الترديد بأو بين الأربعة والثلاثة، أنه ذكر في الموضع الأول الأربعة الألفاظ وفي الموضع الثاني الثلاثة الأول، ومثل هذه الألفاظ لفظ (لمؤثر كذا) ، انظر نهاية السول 4/60-62.

3 انظر المحصول كما سبق.

4 انظر ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) في الظني المقارب للقطعي، وص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) ، نُقض مذهب الحنفية في التفريق بالقطعية بين الفرض والواجب بأحكام سميت فرضا ولم تثبت بدليل قاطع، فحمل الشيخ ابن عابدين ذلك على أن تلك الأحكام ثبتت بدليل من مرتبة الظني القوي المقارب للقطعي.

فحاصل ما ذكر في هذه الرتبة ثلاثة أمور: أولها أنه دليل بين الظني المطلق والقطعي المطلق قريبا من القطعية، وثانيها أنه يثبت به الفرض العملي عند الحنفية على ما ذكره الشيخ ابن عابدين، وثالثها أنه يثبت به عند فخر الدين الرازي مسلك (النص الظاهر جدا) ، من مسالك العلة، وقد يكون منها الخبر المشهور على ما حمله عليه بعض أهل العلم رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

ص: 443

وأضاف البيضاوي1 في المنهاج لفظ (كي) على ما ذكره الرازي فجعله من (النص القاطع)2.

وذكر بعض العلماء أن (النص القاطع) عند الرازي هو (النص الصريح) 3 عند الآمدي.

والذي يؤخد من الإحكام والمحصول أن (النص الصريح) عند الآمدي أعم من (النص القاطع) عند الرازي وأوسع منه وأشمل، لما يأتي:

أولا: أن الآمدي ذكر من أقسام (النص الصريح) : اللام و (إنّ) والباء4، وهذه عند الرازي من (النص الظاهر) قسيم (النص القاطع) كما

1 هو عبد الله بن عمر بن محمد، القاضي ناصر الدين أبو الخير البيضاوي، أصولي، مفسر، متكلم، من تصانيفه: منهاج الوصول إلى علم الأصول، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، المعروف بـ (تفسير البيضاوي) ، وطوالع الأنوار في أصول الدين، توفي (685) هـ. انظر طبقات الشافعية لابن السبكي 7/157-158 والفتح المبين 2/88 والأعلام 4/248-249.

2 انظر منهاج الأصول مع نهاية السول 4/59-62.

3 انظر الإبهاج لابن السبكي 3/46 ونهاية السول 4/59.

4 الإحكام 3/222-224.

ص: 444

يؤخذ من صريح كلامه.

ثانيا: أن الآمدي قال بعد أن ذكر الألفاظ الداخلة تحت قسم (النص الصريح) : "فهذه الصيغ الصريحة في التعليل، وعند ورودها يجب اعتقاد التعليل إلا أن يدل الدليل على أنها لم يقصد بها التعليل، فتكون مجازا فيما يقصد بها"1، مع أن الرازي عدّ ما كان خلاف التعليل فيه مجازا من الظاهر دون (النص القاطع) ، كما سبق من صريح كلامه في (اللام) آنفا.

ثالثا: أن الآمدي لم يقسم النص إلى صريح وظاهر كما قسم الرازي النص إلى قاطع و، وإنما ذكر الآمدي بعد مسلك (النص الصريح) مسلك الإيماء والتنبيه2وذلك يؤكد أن (النص الظاهر) عند الرازي يدخل في

1 المرجع السابق.

2 المرجع السابق، ويدل على هذا أيضاً فعله في منتهى السول القسم الثالث ص17، جعل من (صريح النص) اللام وإن والباء.

ومسلك الإيماء والتنبيه هو "اقتران الوصف بحكم لو لم يكن ذلك الوصف أو نظيره علة للحكم لكان بعيدا من الشارع"، ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بيع الرطب بالتمر: فقال: أينقص الرطب إذا جف، قالوا نعم قال: فلا إذا، فتبين أن نقصان الرطب بالجفاف علة النهي. انظر بيان المختصر 2/92.

وقد عطف الآمدي في الإحكام والمنتهى بـ (أو) بين أمثلة هذا المسلك، فقد يفهم من ذلك أن (النص الصريح) ينقسم إلى قسمين: أولهما يشتمل على ما اقتصر عليه الرازي في (النص القاطع) وثانيهما يشتمل على ما ذكره الرازي في (الظاهر) ، ولعل في ذلك ما يوجه قول من ذكر أن (النص الصريح) عند الآمدي هو (النص القاطع) عند الآمدي، لكن يبقى أن كلا القسمين معدود في (النص الصريح) عند الآمدي، وذلك حقيقة الفرق.

ص: 445

(النص الصريح) عند الآمدي.

فقِسْم (النص الصريح) عند الآمدي في هذا الباب غير (النص القاطع) عند الرازي، إذ لم يكن احتمال استعمال اللفظ في غير التعليل ولو مجازا - مانعا من دخوله في النص الصريح عند الآمدي، وذلك مانع من دخوله في النص القاطع عند الرازي. والله أعلم.

والذي يظهر من كتب بعض العلماء مثل كتاب تلخيص التقريب1 والمعتمد لأبي الحسين البصري2 والمستصفى وشفاء الغليل كليهما لأبي حامد الغزالي3 ومختصر ابن الحاجب4 وما نقله الزركشي عن الأبياري

1 فإنه ذكر في قسم (المصرح به في الكتاب) : (كي) و (من أجل) والباء، ثم قال:"فهذه الظواهر وأمثالها من السنة مصرحة بإثبات الأوصاف المذكورة فيها عللا" تلخيص التقريب للقاضي للباقلاني لخصه الجويني 3/231.

2 2/250، فذكر في الصريح لفظ العلة أو ما يقوم مقامه كاللام وكي ولأجل.

3 انظر المستصفى (بولاق) 2/288-289 فذكر: (لعلة) واللام و (لأجل) و (لكي)"وما يجري مجراه من صيغ التعليل"ثم قال: "فهذه صيغ التعليل إلا إذا دل دليل على أنه ما قصد التعليل فيكون مجازا". وانظر مثل ذلك في شفاء الغليل ص23-24: فذكر من النص الصريح في التعليل (إن) .

4 انظره مع بيان المختصر3/87-90 بل أدخل في (النص الصريح) الإيماء والتنبيه، وصرح به الأصفهاني في بيان المختصر 3/88 فقال: "المسلك الثاني: النص

وهو مراتب: المرتبة الأول الصريح وهو ما يدل بالوضع على العلية، وهو إما أن لا يحتمل غير العلية أو يحتمل غيرها احتمالا مرجوحا"فذكر من (النص الصريح) ما احتمل احتمالا مرجوحا. وانظر الإبهاج لابن السبكي 3/51.

وانظر مثل ذلك في مفتاح الوصول للشريف التلمساني ص145.

ص: 446

وغيره1 - أن المراد بـ (النص الصريح) فيها موافق لطريقة الآمدي في كونه أعم من المراد بـ (النص القاطع) عند الفخر الرازي، فعمل هؤلاء الأصوليين في مسلك (النص) مخالف لما ذهب إليه الرازي ومن تبعه في تقسيم هذا المسلك إلى (القاطع) و (الظاهر) ، على ما هو المعروف من معنى القاطع عنده في الأدلة الشرعية اللفظية، والله تعالى أعلم.

هل قطعية هذا المسلك ترد نقضا على الرازي:

المذاهب في القطعية تستصحب ههنا، فمن كان لا يرى قطعيا إلا ما كان متجردا عن كل احتمال قريب وبعيد فقياس مذهبه أن يكون القاطع من هذا المسلك كذلك، ومن كان يرى القطعية مع الاحتمال البعيد الغريب عن العرف والمقاصد الشرعية في استعمال الألفاظ فكذلك قياس مذهبه أن يكون القاطع عنده ههنا مثل ذلك.

ومن ثم اعترض القرافي وغيره2 على الرازي في عده بعض الألفاظ في هذا المسلك قطعيا، فإن مذهبه في الألفاظ عدم قطعيتها مطلقا أو عدم

1 انظر البحر المحيط 5/187.

2 انظر نفائس الأصول في شرح المحصول 3/ق57-أ، وانظر نهاية السول4/59، وفي التحصيل اختصار المحصول للأرموي 2/178 جعل المسلك الأول (النص) ولم يذكر (النص القاطع) مخالفا لتقسيم الرازي.

ص: 447

قطعيتها إلا باحتفاف القرائن بها، فطرد مذهبه أن لا يرى أيًّا من الألفاظ المذكورة قطعيا مطلقا أو لا يرى منها قطعيا إلا لفظا احتف به من القرائن ما أزال عنه الاحتمالات العشرة التي ذكر أنها ترد على الأدلة اللفظية1.

ورُدّ هذا الاعتراض بوجهين:

الوجه الأول: أن مراد الرازي من (النص القاطع) في مسالك العلة الصريحُ في دلالته على العلية، ولا يقصد الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا2.

1 على ما يبدو من مذهبه في القطعية في بعض المواضع، فقد اختلف العلماء في تقرير مذهب الرازي في القطعية في الألفاظ، فمنهم من رأى أنه ينفي القطعية عنها مطلقا ومنهم من حمل مذهبه على أنه ينفي القطعية عند عدم القرائن. انظر ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) فما بعد.

والأصفهاني في شرحه للمحصول (الكاشف قسم القياس ص171-172) بعد أن أبطل الاعتراض المذكور ذكر أنه يرد على كلام الرازي في تقسيم هذا المسلك "إشكال متجه"، وذلك أنه فسر القاطع بالصريح (المحصول5/139) فيكون القسم المقابل للقاطع (وهو النص الظاهر) غير صريح مع أنه قال بعد أن ذكر اللام في ذلك القسم المقابل للقاطع: "فإن قلت: اللام ليست صريحة في العلية

قلت: أهل اللغة صرحوا بأن اللام للتعليل وقولهم حجة"فظاهر هذا أنه عدّ اللام من (الصريح) ، فكانت اللام غير صريحة في أول كلامه صريحة في آخره.

لكن الرازي بيان مراده بـ (النص القاطع) في موضع آخر من المحصول (5/452) بأنه ما كان "لا يحتمل غير العلية"، وعلى هذا يكون (النص القاطع) عنده: الصريح الذي لا يحتمل غير العلية حقيقة أو مجازا، أما اللام فذكر أن استعماله في غير العلية - مع ثبوت تصريح أهل اللغة بأنه للتعليل - يكون من المجاز (المحصول5/140، 452) ، وهذا يحقق الاعتراض الذي ذكره القرافي وغيره على الرازي. والله تعالى أعلم.

2 انظر الكاشف عن المحصول لمحمد بن محمود الأصفهاني، قسم القياس ص171. وانظر نبراس العقول ص229.

ص: 448

ويُشكل على هذا ما سبق من أن مراد الرازي من (النص القاطع) يخالف مراد كثير من العلماء بـ (الصريح) في مسالك العلة، وأن ظاهر كلامه في المحصول أنه يعني بـ (النص القاطع) من طرق العلة ما يعني بالقطعي في غير هذا الموضع، وهو الذي لا يحتمل غير الظاهر منه ولو احتمالا بعيدا لا حقيقة ولا مجازا1، يؤيده أنه لم يذكر في (النص القاطع) إلا ما جاء فيه ذكر لفظ (العلة) أو ما يرادفه، وجعل سائر ما يذكره العلماء في (الصريح) من اللام والباء ونحوهما في قسم (النص الظاهر) .

الوجه الثاني: أن المراد بالقاطع في باب المسالك ما لم يوضع إلا

1 قال في المحصول في باب الترجيح 5/452: "وقد ذكرنا في كتاب القياس أن الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل إما الدليل النقلي أو العقلي، أما الدليل العقلي فإما أن يكون نصا أو إيماء، أما النص فقد يكون بحيث لا يحتمل غير العلية وهو ألفاظ ثلاثة وهي قوله: (لعلة كذا أو لسبب كذا أو لأجل كذا".

أما ما يدل على أن الرازي لا يَعُد من (النص القاطع) الظاهرَ الصريح الذي يكون غير التعليل فيه مجازا فهو أنه لم يعد اللام من (النص القاطع) مع أنه قال فيها: "أهل اللغة صرحوا بأن اللام للتعليل وقولهم حجة، وإذا ثبت ذلك وجب القول بأنها مجاز في هذه الصور"، إشارة إلى الصور التي اعترض بها على كون اللام من المسالك الصريحة للعلة (المحصول5/139-140) ، فأثبت أنها صريحة في العلية مجاز فيما عداها ولم يعدها من (النص القاطع) ، فكان (النص القاطع) من مسالك العلة عند فخر الدين الرازي - على ما يؤخذ من الموضعين السابقين - اللفظ الصريح في العلية الذي لا يحتمل غير العلية فيما سبق من الاستعمال ولو مجازا.

ص: 449

للتعليل ولم يسبق استعماله في غير التعليل ولو مجازا ولا مانع من الاستعمال اللاحق مجازا، أما الاحتمال والتجويز العقلي في غير التعليل فلا يمنع من إطلاق القاطع في هذا الباب1.

وعلى هذا يكون القطعي في باب المسالك عند الرازي ومن تبعه غير ما طوّل الكلام في تأصيله في قطعية الأدلة المعتمدة على الألفاظ، فإنه صرح بأن كل دليل لفظي لا يكون قطعيا حتى تندفع عنه عشرة احتمالات وأن مطلق الاحتمال ولو على أبعد الوجوه يدفع القطعية2، ومسلك النص من الأدلة اللفظية فيرد فيه احتمال عدم الوضع على أقل تقدير.

والظاهر مما ذكر من الاعتراض ووجهي دفعه أنه إذا أريد حمل ما ذكره الرازي في قطعية بعض طرق العلة على وجه لا يناقض المعروف من مذهبه في القطعية - فالمراد بالقطعية عنده في باب مسالك العلة أن الدليل اللفظي قد يكون بحيث ينتفي فيه احتمال عدم التعليل خاصة ولا يلزم من ذلك القطع بعدم الاحتمالات الأخرى فيكون إطلاق القطع مقيدا بقطع احتمال عدم التعليل، ولا يتوجه على ذلك إيراد الاحتمالات الأخرى، إذ نفي احتمال معين لا يلزم منه نفي مطلق الاحتمال.

وليس ببعيد أنّ كون القطعية مقيدة في هذا الباب بقطع احتمال غير

1 انظر نبراس العقول ص229، وتعليل الأحكام لمحمد مصطفى شلبي ص156.

2 انظر المحصول 1/215-217، 408، 3/214، 5/400.

ص: 450

التعليل خاصة مما يرجح التعبير بـ (النص الصريح) دون (النص القاطع) ، كما عبر به من سبق الرازي وبعض من جاء بعده لأن التعبير الثاني موهم بإطلاق القطعية لكل الاحتمالات. والله تعالى أعلم.

ولا يقال في دفع الاعتراض إن مذهبه في القطعية - على ما حمله عليه بعض العلماء - القول بالقطعية عند احتفاف القرائن، فيجعل مراده بالقاطع ها هنا اللفظ الذي احتفت به قرائن القطعية، من باب حمل المطلق من كلامه على المقيد منه.

فإنه يبعد أن يكون ذلك هو مراده، إذ على ذلك يدخل في القاطع الألفاظ التي أخرجها من (النص القاطع) إلى (النص الظاهر) كاللام والباء و (إنّ) ، لأن كل ذلك مما يمكن احتفاف قرائن القطعية به. والله تعالى أعلم.

ألفاظ هذا المسلك:

وقد ذكر العلماء رحمهم الله جملة من الألفاظ في قسم (النص القاطع) أو (النص الصريح) :

الأول: (لعلة كذا) أو (لسبب كذا) أو (لموجب كذا) أو نحو ذلك.

ولم أقف على مثال شرعي لذلك فيما اطلعت عليه من كتب أهل العلم، بل صرح علاء الدين السمرقندي أن النص بالتصريح على اسم العلة - مثل (لعلة كذا) - غير وارد من جهة الشارع، وإن كان مستعملا في

ص: 451

اللغة1، وذكر أن الوارد من جهة الشرع مما يرادف ذلك هو لفظ (معنى)، ومثّل لذلك بما روي من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأحد ثلاثة معان "2.

الثاني: (من أجل) أو (لأجل) .

ومن أمثلته قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائيلَ أَنهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأَنمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} 3.

1 ميزان الأصول ص590.

2 بهذا اللفظ (معان) لم أجده في أي من المراجع التي أخرجت الحديث وإنما الوارد من ألفاظ الحديث: "

إلا بإحدى ثلاث" أو "

إلا أحد ثلاثة نفر" أو "

إلا من استحل ثلاثة أشياء" (ابن أبي شيبة 9/414) أو "

إلا في ثلاثة خصال" (سنن الدرقطني 1/82) ولفظ (خصال) هو الذي ذكره شراح الحديث تمييزا للفظ (ثلاث) حيث ورد مطلقا.

ينظر الحديث في صحيح البخاري مع فتح الباري12/201 وصحيح مسلم3/1302 ومسند الإمام أحمد 1/382،428،444،465 وسنن الترمذي مع تحفة الأحوذي 4/658 وسنن أبي داود مع عون المعبود 12/5 وسنن النسائي 8/13 وسنن ابن ماجه 2/847 وسنن الدارمي 2/218 وسنن الدارقطني 1/81،82 وسنن البيهقي 8/19 ومسند أبي داود الطيالسي ص13،216 ومصنف عبد الرزاق 10/167 ومصنف ابن أبي شيبة 9/413-414 والمستدرك للحاكم 4/350 وشرح معاني الآثار للطحاوي 3/159-160 وشرح السنة للبغوي 10/147-148 والمنتقى من السنن المسندة لابن الجارود ص307. وانظر تخريج الحديث في إرواء الغليل 7/253-255 وتحقيق الشيخ عبد الله بن جبرين لشرح الزركشي على مختصر الخرقي 1/772.

3 سورة المائدة (32) .

ص: 452

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإذن من أجل البصر" 1، وقوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: نهيتَ أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال صلى الله عليه وسلم:"إنما نهيتكم من أجل الدافَّة التي دَفَّت، فكلوا وادخروا وتصدقوا"2.

الثالث: (كي) .

ومنه قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَللرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْلَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 3، وقوله تعالى:{فَرَدَدْنَاهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} 4.

الرابع: (إذن) .

ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيِاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} الآية5.

وقوله صلى الله عليه وسلم لأُبَيّ بن كعب رضي الله عنه لما قال له أبيّ: أجعل لك صلاتي

1 رواه البخاري ومسلم. انظر الصحيح مع فتح الباري 11/24 وصحيح مسلم 3/1698.

2 رواه مسلم3/1561، والدفيف الدبيب، والدافة القوم يسيرون جماعة سيرا ليس بالشديد، والمراد بهم قوم من الأعراب قدموا المدينة عند الأضحى، انظر الصحاح 4/1360 والنهاية لابن الأثير 2/124.

3 سورة الحشر (7) .

4 سورة القصص (13) .

5 سورة الإسراء (74-75) .

ص: 453

كلها، قال صلى الله عليه وسلم:"إذاً تُكفى همَّك، ويُغفَر لك ذنبك"1، وقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بيع التمر بالرطب:"أينقص الرطب إذا جف؟ "، قالوا: نعم، قال:"فلا إذا "2.

الخامس: بناء المفعول لأجله.

ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشِرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 3 وقوله عز وجل: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً} 4 أي من أجل الإعذار والإنذار5.

السادس: عَدَّ الزركشي من الصريح: التصريح بلفظ (الحكم) ، وذكر أنه - مع إهمال الأصوليين له - أعلى المسالك رتبة6.

1 رواه الترمذي. انظر سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي 7/152-153.

وحسنه الألباني. انظر صحيح سنن الترمذي2/299.

2 رواه بهذا اللفظ "إذاً" الإمام أحمد في المسند 3/50 والحاكم في المستدرك 2/38 وهو الشاهد. أما أصحاب السنن الأربعة فقد رووه بلفظ "فنهى عن ذلك". انظر سنن أبي داود 9/211-212 وسنن الترمذي مع تحفة الأحوذي4/418 وسنن النسائي 7/268-269 وسنن ابن ماجه2/261.

3 سورة النحل (89)، وجاءت اللام مصرحة في قوله تعالى من السورة نفسها (44) :{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .

4 سورة المرسلات (5-6) .

5 انظر البحر المحيط 5/189.

6 البحر المحيط5/187-189.

ص: 454

ومثَّل له بقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} 1، قال ابن كثير في تفسيرها: " {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} أي في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله

وهذه الآية كقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 23.

واعتُرض على الزركشي في ذلك بأن الكلام في هذه الآية بعيد عن التعليل، إذ ليس فيها حكم حتى يعلل بلفظ الحكمة، وإنما فيها ذكر حال المنكرين وعاقبتهم ثم وصف ذلك بأنه حكمة قد بلغت غايتها، إلا أن يكون مراد الزركشي مما ذكر أن لفظ (الحكمة) إذا ورد في مقام التعليل فإنه يكون من الطرق القطعية على العلية لا أنه في الآية للتعليل4.

ولعل فيما ذكره الزركشي في كتابه (البرهان في علوم القرآن) ما يبين ما

1 سورة القمر (4، 5) .

2 سورة الأنعام (149) ، وتقدم (صخطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) عن الطبري القرطبي - رحمة الله عليهما - أن الحجة البالغة هي القاطعة للعذر.

3 تفسير ابن كثير 4/282، وذكر كثير من المفسرين أن المراد بالحكمة القرآن الكريم أي هذا القرآن حكمة بالغة فهو يشتمل من الحكمة البالغة غايتها ليس فيه نقص ولا خلل، وقيل ويحتمل أن يكون المراد إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم والإنذار به أو الساعة المقتربة والآية الدالة عليها. انظر تفسير الطبري 27/53 وتفسير القرطبي17/128 والتفسير الكبير للرازي 29/32 فتح القدير للشوكاني 5/121 المفردات للراغب ص182.

4 انظر تعليل الأحكام لمحمد مصطفى شلبي ص158 ومباحث العلة في القياس عند الأصوليين ص348-349.

ص: 455

ههنا، فإنه ذكر التعليل في القرآن الكريم وعرفه بأنه: ذِكر الشيء معللا، وأنه يكون أبلغ في الاعتبار من ذكره غير معلل، ثم ذكر أن غالب التعليل في القرآن يكون على تقدير جواب سؤال عن العلة اقتضته الجملة السابقة، ثم بدأ في ذكر الطرق الدالة على العلة فيه فقال:"الأول التصريح بلفظ الحكم، كقوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} وقال تعالى: {وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 1، قال: "والحكمة العلم النافع والعمل الصالح"2.

فيمكن حمل كلامه - من مجموع ما سبق عنه ومما ذكر في تفسير تلك الآيات - على أن الآية على تقدير سؤال عن العلة بعد قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ما الحكمة من إنزال هذا القرآن المشتمل على أنباء الأولين وقصص المكذبين برسلهم وما حلّ بهم من العقاب، أو من إنزال الآية الكونية في انشقاق القمر؟ فجاء بيان الحكمة وأن في ذلك تحقيقا للحكم الكوني القاطع بهدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله، بما يؤدي إلى العلم النافع والعمل الصالح. والله تعالى أعلم.

أثر القرائن في قطعية هذا المسلك:

والطريق إلى القطع بكون وصف من الأوصاف هو علة الحكم أعم من

1 سورة النساء (113) .

2 انظر البرهان في علوم القرآن 3/91.

ص: 456

كل هذا، لأنه عين الطرق المؤدية إلى القطع في الأحكام الشرعية، وهي كثيرة، وإن كان المذكور ها هنا الطرق القريبة المعتمدة على اللفظ المجرد وما قرب من القرائن.

فأدلة الكتاب والسنة والإجماع تفيد القطعية إما مباشرة وذلك أن يدل لفظ على التعليل وضعا على سبيل القطع كما هنا، وقد تفيد القطعيةَ بتتبع العُرف الاستعمالي والمقاصد الشرعية في علل الأحكام في مظانها وغير مظانها والوقوف على القرائن والشواهد وسائر ما يعين المستدل الناظر في أن وصفا من الأوصاف هو مناط الحكم الشرعي حتى يقطع بذلك، وقد لا يقطع غيره ممن لم يقف على مثل ما وقف.

فالتنويع في القطعية هنا يوافق ما تقرر غير مرة في هذا البحث من خصائص القطعية في الأدلة الشرعية، وأن أوسع مصدر للقطعية في الأدلة الشرعية هو ما يؤخذ من تتبع القرائن المعززة والشواهد المعِينة والنظر في وراثة النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وشئونه في أمور الدين والدنيا مع آثار الصحابة رضوان الله عليهم ونهج السلف الماضين في الاستدلال واستنباط اليقين من كل ذلك، ففي ذلك لمن انتهج غُنيةٌ عن السبل الأخرى، وفيه لمن نظر وتحقق بلاغٌ إلى الطمأنينة والأمان بإذن الحكيم القدير. وهو تعالى أعلم.

ص: 457

مسلك الإجماع على العلة:

وهو أن يثبت اتفاق علماء الأمة في بعض العصور على كون وصف معين هو علة حكم الأصل1، فإن ذلك يكون دليلا قاطعا على أن ذلك الوصف هو علة الحكم قطعا.

ومما نقل من الإجماع على العلية:

- الإجماع على كون الصغر علة ثبوت ولاية المال على الصغير.

- الإجماع على أن علة تقديم الأخ من الأبوين في الإرث على الذي من أب - وجودُ النسبين في الأخ الشقيق2.

- الإجماع على أن علة منع القاضي من القضاء وهو غضبان التشويشُ المانع من استيفاء النظر في القضايا3.

اعتراض القاضي على قطعية هذا المسلك:

والإجماع الذي يفيد ههنا هو الإجماع القطعي على ما سبق4، فإذا كان الإجماع ظنيا لم تكن دلالته على العلية قطعية، وذلك ظاهر.

1 انظر اللمع للشيرازي2/801 والإحكام للآمدي3/222 ومفتاح الوصول للتلمساني ص148 وشرح الكوكب المنير 4/116.

2 انظر الإحكام ومفتاح الوصول وشرح الكوكب المنير كما سبقت، وانظر كشف الأسرار للبخاري 3/351.

3 انظر العدة لأبي يعلى5/1430 والبحر المحيط5/148.

4 انظر أقوال العلماء في تحديد الإجماع القطعي من ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .

ص: 458

ومن ثم اعترض القاضي أبو بكر الباقلاني على هذا المسلك ونفى صحة كونه من المسالك القطعية على العلة، وذهب إلى أنه لا يعدو أن يكون من المسالك الظنية لأن القائلين بالقياس ليسوا كل الأمة فلا يكون إجماعهم قطعيا، إلا إذا قدر رجوع المانعين لحجية القياس عن إنكارهم فيكون الإجماع عندئذ إجماع الكافة وتتحقق قطعيته1.

فمن كان عنده الإجماع قطعيا دون اتفاق منكري القياس كان الإجماع على العلة دونهم قطعيا، وصح عدُّه من المسالك القطعية، ولذا رُدَّ هذا الاعتراض بنفي كون منكري القياس من علماء الأمة الذين يعتد بخلافهم في الإجماع2.

1 انظر تلخيص التقريب للقاضي لخصه الجويني 3/215 والبحر المحيط 5/658.

2 انظر البحر المحيط 5/685.

ص: 459

الخاتمة

الحمد لله على ما منَّ به من التمام وعلى ما تفضَّل به من الختام، وله الشكر على نعمه وآلائه الظاهرة والباطنة، شكرا يوجبه مزيد نعمه وآلائه، ويحضرني حين الختام أمور وصل إليها البحث وتعلقت لظهورها بالذهن أُجملها فيما يلي:

1-

أصالة التعبير عن اليقين في الأدلة الشرعية بـ (القطع) و (القطعية) ونحوهما من العبارات المشتقة منهما في كلام أهل العلم بأصول الفقه وغيرهم.

2-

القطع في اصطلاح الأصوليين يطلق على ما لا احتمال فيه مطلقا وعلى ما فيه احتمال صار لبعده كلا احتمال، ومعنى القطع في الدليل مفرع عن ذلك.

3-

مذهب عامة أهل العلم والذي يدل عليه واقع الشريعة أن الأدلة الشرعية منها أدلة قطعية وفيها دون ذلك أدلة راجحة مع احتمال مرجوح فيها.

4-

الأدلة الشرعية إذا اتُّبِع فيها منهج الأخذ بالقرائن المبينة سَلِمت مما يطرق إليها من احتمال معارضة العقل وغيرها من الاحتمالات العشرة.

5-

كل دليل شرعي ثبتت حجيته يجب العمل به قطعيا كان أو غير قطعي.

ص: 463

6-

أهمية الدليل القطعي في إضفاء الأمن على الأحكام وفي حفظ قواعد الشريعة من أن يتلاعب بها مؤول أو يثير فيها من الشبهات معاند.

7-

أصول الفقه لا يلزم الاستدلال على مسائله بالدليل القطعي، لكن غالب قواعدها وأمهاتها ثبتت عند المحققين من العلماء بالقواطع.

8-

للقطعية في الأدلة جهتان متكافئتان غير متلازمتين: جهة ثبوت الدليل وسنده وجهة دلالته على المراد من متنه، وأعلى الأدلة بالنسبة للقطعية الدليلُ القطعي الثبوت والدلالة.

9-

مما يضفي القطعيةَ على الدليل كونه مجمَعا عليه أو احتفافُ قرائن القطعية به من حال أو لفظ أو سياق، فلا يزال الدليل يَقْوَى بذلك حتى يصل إلى درجة القطعية.

- وأَحكم مصادر القطعية في الأدلة الشرعية وأوسعها النظرُ مع الأدلة الشرعية المشهورة في علم وراثة النبوة وآثار الصحابة ومن تبعهم ممن جاء بعدهم - في الاستدلال على المطالب والمسائل الشرعية.

10-

الخلاف الصحيح في الدليل يمنع كون الدليل مطردا في القطعية لعموم الناظرين، لكن لا يلزم منه منع أصل القطعية، فتصح القطعية في دليل مختلف فيه وذلك لبعض الناظرين.

- والدليل القطعي بالنظر إلى ذلك نوعان: قطعي مطلقا وقطعي بالنسبة لمن حقَّق أسبابها.

ص: 464

11-

من القواعد المعمول بها عند عامة العلماء أن الاحتمال إذا ورد على الدليل من وجه صحيح أنه يمنعه من القطعية، فإذا كان الاحتمال مع ذلك مرجوحا فإن الدليل يبقى حجة راجحة غير قطعية.

- لكن يجب الحذر من كثرة إيراد الاحتمالات على الأدلة الشرعية.

- ولا يمنع القطعَ شرعا الاحتمالُ العقلي المجرد الذي لا يستند إلى شرع أو عادة.

12-

من آثار نظر أهل العلم في القطعية تفريق بعضهم في الاصطلاح بين الدليل والأمارة، وبين الفرض والواجب.

13-

من أثر كون الدليل قطعيا أنه يمنع الاجتهاد بما يؤدي إلى مخالفته، وذلك بعد تحقق القطعية، وأنه يوجب خطأ من خالفه.

14-

يمتنع وقوع التعارض حقيقة بين دليلين تحققت فيهما القطعية، وأنه لذلك لا يتأتى الترجيح فيها.

15-

الكتاب والسنة أصل الأدلة القطعية وغيرها.

16-

الخبر المتواتر لفظه أو معناه لازم القطعية فيما تواتر فيه عند جميع المسلمين.

17-

خبر الواحد جائز القطعية في قول عامة أهل العلم بعد التحقيق، وذلك باحتفاف ما من شأنه أن يحتف بالخبر الذي هو حجة شرعا من قرائن القطعية.

ص: 465

18-

القطعي المطلق من أدلة الكتاب والسنة بالنظر إلى جهة الدلالة منهما هو (النص المطلق) ، في اصطلاح من يستعمله فيما لا احتمال فيه من الجمهور، وكذلك (المفسّر) في اصطلاح الحنفية.

- ومفهوم الموافقة (أو دلالة النص) جائز القطعية.

- والعام المطلق جائز القطعية عند الحنفية وهو غير قطعي عند غيرهم.

- وإذا نُظر في اللفظ العام إلى عرف أهل اللغة ومقاصد الشريعة في استعمال الألفاظ كان جائز القطعية عند من حصّل ذلك.

19-

الإجماع حجة قطعا والحكم الثابت به قطعي وصواب، لكن مسالك العلماء مختلفة في تحديد القطعي منه، وأولى ما ذكر فيه أنه الإجماع القولي المشاهد أو المنقول تواترا.

20-

القياس جائز القطعية، والقطعي منه أنواع يجمعها أن يكون التعليل ووجود العلة في الفرع قطعيين.

21-

من الطرق المثبتة للعلية مسالك تدل على التعليل قطعا كالنص والإجماع.

هذا، وباب القطعية أوسع مما وقع في هذا البحث، فإنه إنما كان البحث فيه فيما يتعلق منها بالأدلة الأربعة، بل إن بعض جزئيات هذا الموضوع تحتمل ببعض النظر بسطا أوسع.

ص: 466

فهل هناك أدلة شرعية أخرى قطعية؟ وما ضابط القطعية فيها؟

وما حقيقة القطعية في عموم الشريعة؟

وما أثر القرائن والاحتمال في المسائل الأصولية مسألة مسألة؟

وما أثر الاحتمال العقلي في القواطع الشرعية في واقع الفقه وأصوله؟

وما القواعد الأصولية التي قامت عليها أدلة قطعية مطلقة؟

فهذه بعض الأسئلة التي بقيت عالقة بأنها لا يجمعها حَدُّ هذا البحث.

أسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لصالح الأعمال، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، وأن يعلمنا علما نافعا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه مجيب قريب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم، وعمل بسنته إلى، يوم الدين، آمين.... والله تعالى أعلم.

ص: 467