الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: أحكام القطعية في الإجماع
المبحث الأول: قطعية الإجماع
…
المبحث الأول: قطعية الإجماع
تعريف الإجماع:
الإجماع في اللغة يأتي بمعنى العزم، ومن ذلك قوله تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} 1، وقوله:{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً} 2، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له"3.
ويأتي الإجماع بمعنى الاتفاق4.
أما الإجماع في الاصطلاح فهو: اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد وفاته، في حادثة، على أمر من أمور الدين، في عصر من الأعصار5.
1 سورة يونس (71) .
2 سورة طه (64) .
3 أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي من حديث ابن عمر عن حفصة رضي الله عنهم، انظر سنن أبي داود مع عون المعبود 7/122 وسنن النسائي 4/196-197 وسنن الترمذي مع تحفة الأحوذي 3/426.
قال الحافظ في تلخيص الحبير2/200: "واختلف الأئمة في رفعه ووقفه"، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني، انظر إرواء الغليل4/25 وصحيح سنن الترمذي 1/222.
4 انظر الصحاح للجوهري3/1198 ومعجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس1/479 لسان العرب 8/57 والقاموس المحيط3/15 والمصباح المنير/109.
5 التعريف نصا من البحر المحيط للزركشي4/436 إلا قيد الأمر المتفق عليه بما كان من أمور الدين، فذلك من المراجع الأخرى. انظر تعريف الإجماع في العدة لأبي يعلى الفراء1/170 والحدود للباجي ص63-64 والمعونة في الجدل للشيرازي ص135 المستصفى2/294 والمحصول للرازي 4/20 والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/168 ومختصر ابن الحاجب مع بيان المختصر 1/521 شرح مختصر الروضة للطوفي 3/5 جمع الجوامع لابن السبكي 2/176 شرح الكوكب المنير2/211، وانظر التحرير لابن الهمام3/224 وفتح الغفار لابن نجيم 3/3 ومذكرة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص151.
معنى قطعية الإجماع وجهتها:
ومعنى قطعية الإجماع أنه دليل قطعي على صواب الحكم المجمع عليه وخطإ خلافه، فالحكم مقطوع به ودليل القطع فيه الإجماع الذي لا يحتمل في دلالته إلا صحة الحكم.
فتكون قطعية الإجماع ملحقة بجهة الدلالة، أما قطعيته من جهة الثبوت فذلك تابع لطريق نقله، فقد ينقل بالخبر المتواتر وقد ينقل بخبر الواحد، والكلام في قطعية المتواتر وقطعية خبر الواحد جارٍ فيه.
فرجعت حقيقة البحث في قطعية الإجماع إلى البحث في قطعيته من حيث الدلالة.
هذا هو المراد من قطعية الإجماع ههنا، وهناك وجه آخر لقطعيته يقصد به قطعيته من حيث الحجية أي هل الأدلة المستدل بها على كون الإجماع حجةً شرعيةً أدلةٌ قطعية، وقد وقعت الإشارة - غير مرة في هذا البحث - إلى أن بحث الحجية غير بحث القطعية وأن بحث القطعية مفرع على الحجية،
فمن لا يرى حجية الإجماع لا يقع البحث معه في قطعيته.
قطعية الإجماع:
مذهب جماهير أهل العلم من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم أن الإجماع دليل قطعي1، وإن اختلفوا في تحديد القطعي منه كما سيأتي إن شاء الله2.
وذكر القرافي أن هذا القول مذهب كل من تقدم الرازي3.
والحجة للجمهور على قطعية الإجماع أن أدلة حجيته دلت على أمرين:
الأمر الأول: اليقين بأن الإجماع حجة شرعية يجب العمل بما دل عليه من الأحكام كسائر الحجج الشرعية من الكتاب والسنة والقياس.
الأمر الثاني: اليقين بأن الحكم المجمع عليه حكم قطعي لا يحتمل غير كونه صوابا.
1 انظر الرسالة للشافعي ص322 والعدة لأبي يعلى 4/1058 وإحكام الفصول للباجي ص435 والبرهان للجويني 1/120 والمستصفى للغزالي 2/298-331 والوصول إلى الأصول لابن برهان 2/72-76،88 والإبهاج لابن السبكي2/406 والبحر المحيط4/443 والموافقات للشاطبي 1/41-42 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/17 وشرح الكوكب المنير 2/214-215 وانظر أصول السرخسي 1/295 وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 3/251 وشرح تنقيح الفصول ص 338.
2 انظر ص (12) .
3 انظر نفائس الأصول في شرح المحصول 3/ق5-ب.
ذلك أن أدلة الحجية تضمنت نفي الخطأ عما أجمعت عليه الأمة وما انتفى فيه احتمال الخطأ كان صوابا قطعا، وهذا هو معنى قطعية الإجماع1.
1-
ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 2 فالحق يتعين أن يكون في سبيلهم إذا كان غير سبيلهم قد وقع التوعد على اتباعه.
2-
ومنه قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتنهوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهِ} 3 فيكون ما أجمعوا عليه من جملة المعروف من غير احتمال، لأنهم إذا أجمعوا على أمر فلن يوجد من ينهى عنه، ولو لم يكن معروفا لوجد من ينهى عنه كما أخبر الله تعالى.
3-
ومنه قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا} 4، فكان نهيه عز وجل عن التفرق دليلا على أن ما أجمعوا عليه يتعين فيه الصواب وإلا لما وقع الأمر بالاعتصام به.
4-
وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية على حجية الإجماع بأدلة يدل
1 انظر أدلة الحجية في المراجع السابقة.
2 سورة النساء الآية (115)
3 سورة آل عمران (110) .
4 سورة آل عمران (103) .
وجه الاستدلال بها على قطعية الإجماع: كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1 وقوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانَوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيهِمْ فَرِحُونَ} 2 وقوله تعالى: {يَأَيهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 3، قال ابن تيمية في بيان وجه الدلالة:"فإنهم إذا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين فلا يكون طاعة الله ورحمته بفعل لم يأمر الله به من اعتقاد أو قول أو عمل، فلو كان القول أو العمل الذي أجمعوا عليه لم يأمر الله به لم يكن طاعة لله ولا سببا لرحمته"4 اهـ فانتفى احتمال كون الأمر المجمع عليه خطأً لم يأمر الله به، فتثبت قطعية الإجماع كما ثبتت حجيته.
5-
ومن أدلة القطعية في أدلة الحجية قوله تعالى: {يأَيُهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ
1 سورة الشورى (13) .
2 سورة الروم (31،32) .
3 سورة المؤمنون (51-53) .
4 مجموع الفتاوى1/17.
وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1 فما لم يكن فيه تنازع وكان محل إجماع تعين أن يكون هو الصواب.
ومن أدلة السنة على حجية الإجماع أدلة على قطعيته.
1-
ومن ذلك ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم بألفاظ تدل على نفي احتمال أن تجتمع هذه الأمة على الخطأ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"إن أمتي لا تجتمع على ضلالة"أو "إن الله عز وجل لا يجمع أمتي إلا على هدى "2.
2-
ومن ذلك ألفاظ دلت على أن الحق يلزم أبدا هذه الأمة ولو في طائفة منها، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"3 فإذا أجمعت كل الأمة قُطع بأن الحق فيما أجمعوا عليه، لأنها حينئذ مشتملة على الطائفة الظاهرة.
3-
كما أن أحاديث لزوم الجماعة والنهي عن مفارقتها تدل على أن الصواب في الأمر المجمع عليه، لأنه الذي يلزم اتباعه ويحظر تركه4.
1 سورة النساء (59) .
2 أخرجه الإمام أحمد في المسند5/145 وأبو داود في السنن (مع عون المعبود) 11/325-326 والترمذي في سننه 4/466. وصححه الشيخ ناصر الدين. انظر صحيح الترمذي 2/232.
3 رواه البخاري ومسلم. انظر صحيح البخاري مع فتح الباري 13/293 وصحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1/137، 3/1523، ورواه مسلم بألفاظ عديدة منها اللفظ المذكور.
4 انظر الكلام على أحاديث حجية الإجماع مفصلة مع التخريج في تحقيق د. طه جابر العلواني للمحصول للرازي 4/35-100.
فهذه الأمة معصومة فيما أجمعت عليه من أن يكون ذلك المجمع عليه خطأ أو ضلالة.
وقد استدل الشاطبي على حجية الإجماع بعصمة الأمة1 وفي ذلك وجه للقطعية أيضا.
واستدل بعض العلماء على حجية الإجماع بأدلة عقلية أو عادية فيها دلالة على قطعية الحكم المجمع عليه، ومن ذلك أن للإجماع صورتين:
أولاهما أن يجمع علماء العصر على حكم مظنون ويكون ذلك الحكم مما يتطرق إليه الاحتمال ويمكن فيه الخلاف واضطراب الآراء، فيكون قطعهم بالحكم في مثل ذلك دليلا قاطعا على استنادهم إلى مصدر سمعي قطعي وإن لم ينقل مستندهم.
وثانيهما: أن يجمع علماء العصر على حكم مظنون ويعلم أن مستندهم في ذلك دليل ظني، ودليل القطعية في هذا الصورة أن العصور المتلاحقة بعد عصر الإجماع يجمعون على تبكيت المخالف للإجماع ونسبته إلى الخروج عن الجادة وإلى الضلالة والعُقوق، ولا يجمعون على ذلك إلا بأنهم استندوا إلى قاطع شرعي كالأخبار المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما فيه دلالة على تحريم مخالفة الحكم المجمع عليه وإن لم ينقل ذلك بطريق قطعي2.
1 انظر الموافقات 2/58-61، 258.
2 انظر البرهان 1/436-438.
المخالف في قطعية الإجماع:
وخالف الفخر الرازي في (المحصول) ما سبق من مذهب الجمهور فذهب إلى أن الإجماع حجة غير قطعية، لأن مسألة حجية الإجماع نفسها غير قطعية بمعنى أن الأدلة على أن الإجماع حجة لا ترتفع إلى القطع1.
وتبعه شمس الدين الأصفهاني في ذلك وأيده وانتصر له ورد على من خالفه ثم قال: "واعلم أن إقامة دليل قاطع على أن الإجماع حجة قطعية قد عرفت صعوبته وعدم انتهاض القاطع في ذلك"2.
وفصّل نجم الدين الطوفي فقال: "ليس المراد بكونه حجة قاطعة القطع العقلي وهو الجزم الذي لا يحتمل النقيض في نفس الأمر
…
"قال: "فدل على أن المراد بكونه قاطعا القطع الشرعي لا العقلي"3، ثم بيَّن قصر قطعيته في كونه مقدما في البحث عن الدليل على سائر الأدلة الشرعية، لعدم احتمال النسخ4، بل صرح باختياره أن الإجماع ظني بعد أن ضعَّف أدلته وطرَّق إليها الاحتمالات5، ومما استدل به على عدم قطعية الإجماع الخلافُ
1 انظر المحصول 4/91-96.
2 الكاشف عن المحصول للأصفهاني القسم الخامس ص305، وانظر الكلام على المسألة فيه من ص273-306.
3 شرح مختصر الروضة 3/29-30.
4 المرجع السابق.
5 انظر شرح مختصر الروضة 3/138-142.
في عدم تكفير مخالف الحكم المجمع عليه قال: "لأن القواطع العقلية لا يختلف فيها ولا في تكفير من أنكر أحكامها المعتبرة شرعا"1.
أما الآمدي فقد نقل غير واحد من أهل العلم عنه القول بعدم قطعية الإجماع2، وذكر بعض العلماء أنه مقتضى كلامه في كتابيه الإحكام والمنتهى3.
أما في (الإحكام) فقد صرح في موضع منه بالقطعية، فإنه لما اختار المنع في مسألة صحة الإجماع بعد الخلاف قال معللا اختياره:"وذلك لأنا بينا أن اتفاق الأمة على الحكم ولو في لحظة واحدة كان ذلك مستندا إلى دليل ظني أو قطعي أنه يكون حجة قاطعة مانعة من مخالفته
…
"4، ويدل على ذلك أيضاً صنيعه عند الاستدلال على حجية الإجماع في الإحكام، فقد عوّل على السنة وذكر أن مجموع ما ورد فيها من أحاديث مفيدة للقطع لأنها من المتواتر المعنوي5.
1 المرجع السابق2/29-30، وانظر الخلاف في تكفير منكر الحكم المجمع عليه في الإحكام للآمدي 1/239.
2 انظر جمع الجوامع لابن السبكي 2/195-197 والبحر المحيط 4/443 وشرح الكوكب المنير 2/214-415.
3 انظر نهاية السول 1/41، 3/262.
4 الإحكام في أصول الأحكام 1-2/235.
5 المرجع السابق 1-2/186-191.
أما في (منتهى السول) فظاهر كلامه فيه عدم القول بالقطعية، فقد قال عند الاستدلال على حجية الإجماع: "وقد احتج المثبتون بحجج نقلية وعقلية
…
أما الحجج النقلية فكلها ظنية"1، وذكر أن الأحاديث الواردة في ذلك تفيد "الظن الغالب المقارب للقطع"وأنه - أي الظن الغالب المقارب للقطع - هو المطلوب في مسألة حجية الإجماع، ثم ذكر أن الدليل العقلي لا يفي بالغرض المقصود من المسألة2.
فالآمدي - وإن صرح في (الإحكام) بالقطعية لدلالة السنة - فهو في (المنتهى) مثل الرازي في المحصول في تضعيف أدلة حجية الإجماع والقول بعدم قطعيتها. والله تعالى أعلم.
ترجيح مذهب الجمهور:
والذي يترجح - والله أعلم - هو ما ذهب إليه الجمهور من أن الإجماع حجة قطعية مقطوع بصواب ما دل عليه وبخطأ ما خالفه، وذلك لما يأتي:
أولا: لقوة ما استدلوا به على ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على لزوم اتباع سبيل المؤمنين والحذر من مخالفتهم ونفي احتمال الخطأ عن الأمر الذي عليه جماعتهم، وهي أدلة - وإن أمكن تطرق أطراف
1 منتهى السول ص50.
2 المرجع السابق ص51-52.
الاحتمالات العقلية في دلالتها على قطعية الإجماع مع حجيته إلى بعض منها منفردة أو بالنسبة لمستدل بها - فإنها تأبى الاحتمال بمجموعها عند من حققها واطلع على مجموعها وأخذ بها مع كافة قرائن القطعية.
وهذا أصل عظيم في وجه دلالة هذه النصوص من القرآن والسنة على قطعية الإجماع مع حجيته، وهو مبني على تتبع وراثة النبوة التي تلقاها السلف من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم ممن نهج منهجهم قرنا بعد قرن - رحمة الله عليهم- في مسائل الدين وطرق الاستدلال عليها وكيفية استفادة العلم واليقين فيها، فكل ذلك يدل على أن ما عليه أمر المسلمين جميعا من أمور الدين هو الحق قطعا وأنه لا تجوز مخالفته.
وقد بالغ بعض علماء أصول الفقه في الرد على دعوى الرازي عدم قطعية الإجماع، وأن سببها عدم الالتفات إلى هذا الأصل.
قال التبريزي1 إشارة إلى أحد الأسئلة التي أوردها الرازي على حجية الإجماع: "أما السؤال الرابع عشر فقد انقاد له المصنف وكاع2
1 هو مظفر بن أبي الخير (وقيل أبي محمد) بن إسماعيل أبو سعد أمين الدين التبريزي، فقيه أصولي، من تصانيفه: تنقيح المحصول وهو اختصار المحصول للرازي، والمختصر، وسمط الفرائد كلاهما في الفقه. انظر طبقات الشافعية لابن السبكي8/373-374 والأعلام 8/165-166.
2 قال ابن دريد في جمهرة اللغة (1/113) : "كَعَّ عن الشيء فهو يكَعُّ كعوعا: إذا ارتد عنه هيبة، ولا يقال: كاع، وإن كانت العامة قد أولعت به"، وانظر معجم مقاييس اللغة 5/129، أما الجوهري فقال في الصحاح (3/1278) :"كِعْت عن الشيء أكيع وأكاع لغة في كعَعْت عن الأمر أكِعُّ: إذا هبته وجبنت"، فالوارد في كلام التبريزي جائز عند الجوهري وهو من عبارات العامة التي لا يجوز استعمالها عند ابن دريد وفيما نقله ابن فارس.
عن دعوى القطع وتفسيق المخالف، ومن المعلوم الواضح إطباق التابعين وكل قائل بالإجماع على القطع بأن الإجماع حجة قاطعة
…
"ثم بيّن رحمه الله الأصل السابق في مأخذ القطعية1.
وقال القرافي في شرحه على المحصول عن الرازي وإنكاره القطعية وأن سببه عدم أخذ الأدلة مجموعة: "إن المصنف قد أكثر من التشنيع في هذا المقام، وأداه صعوبة هذا الموضع إلى أن قال: الإجماع ظني، وهو خلاف إجماع من تقدمه كما حكاه ههنا، وما سببه إلا عدم النظر في هذا البحث"2.
وقال الشاطبي رحمه الله في إشارة إلى قطعية الحجية: "وقد أدى عدم الالتفات إلى هذا الأصل
…
إلى أن ذهب بعض الأصوليين إلى أن كون الإجماع حجةً ظنيٌ، إذ لم يجد في آحاد الأدلة ما يفيده فأداه ذلك إلى مخالفة مَن قبله من الأمة ومَن بعده3، ومال بقوم آخرين إلى ترك الاستدلال بالأدلة
1 انظر تنقيح المحصول 2/373-389، وذكر القرافي والشاطبي نحوا مما ذكر في بيان هذا الأصل، وأشار الأصفهاني إلى ذلك. انظر الكاشف القسم الخامس/287.
2 نفائس الأصول3/ق5-ب.
3 كلامه هنا قريب مما سبق عن القرافي والتبريزي، وانظر مثله في كشف الأسرار 3/202.
اللفظية والأخذ بأمور عادية1 أو الاستدلال بالإجماع على الإجماع"2.
ثانيا: أن عمدة المخالف في القطعية أن الأدلة المستدل به على الحجية يحتمل أن يكون المراد منها غير حجية الإجماع أو قطعيته، وذلك مدفوع بأنه احتمال منبوذ عند الأخذ بالأدلة مجموعة، فإنها لا تزال تغلّب على الظن أن المقصود من آحادها أن ما أجمعت الأمة عليه لا يحتمل إلا الصواب حتى يقطع الناظر فيها - مع قرائن القطعية والكليات الشرعية - بحجية الإجماع وقطعيته، وقد سبق رد القرافي وغيره على الرازي في قوله بظنية
1 انظر الدليل العادي أو العقلي على حجية الإجماع وقطعيته ص (خطأ! لم يتم العثور على مصدر المرجع. خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
وقال أبو المعالي الجويني: "المسألة الثالثة في التنصيص على المسلك الذي ثبت الإجماع به إذ لا مطمع في إسناده إلى العقل وكذلك لا مطمع في إسناده إلى دليل قاطع سمعي هجوما عليه من غير اعتبار واسطة، فإذاً الواسطة التي هي العمدة النظرُ في قضيات اطراد العادات
…
نعم إذا أنعم الباحث نظره كان متعلقه دليلا قاطعا سمعيا يشعر بالإجماع"اهـ فالعادة مستعملة ههنا واسطةً إلى القاطع الشرعي. وانظر في الاستدلال على القطعية بالاستحالة العادية في الوجيز في أصول التشريع ص368-359.
2 الموافقات 1/41-42.
واستدل صاحب الوجيز في أصول التشريع (ص 358-359) على قطعية الإجماع، ثم أورد على نفسه اعتراضا بأن الأدلة التي سيقت في حجية الإجماع ظنية إما في الثبوت أو في الدلالة فكيف يستفاد حجة قطعية من أدلة ظنية!؟ فأجاب عن ذلك - معترفا بظنية الأدلة التي ساقها في حجية الإجماع - بقوله:"إن وقوع الظن مقطوع به ووجوب العمل عنده مقطوع به تلقيا من إجماع قاطع"اهـ. فعرّج في بيان وجه قطعية الإجماع على الإجماع القاطع الموجب وجوب العمل بالظن، مع كون المسألة في قطعية الإجماع، فالتعريج فيها على الإجماع القاطع أمر مشكل، ويوشك أن يكون مما ذكره الشاطبي. والله تعالى أعلم.
الإجماع وأن سببه عدم النظر في الأدلة مجموعة1.
أما ما ذكره نجم الدين الطوفي رحمه الله من عدم الاتفاق على تكفير منكر حكم الإجماع فهو مدفوع بأن التكفير لا يلزم من مخالفة القطعي مطلقا، فربما خالف للجهل أو لشبهة عنده أو لعدم الوقوف على مأخذ القطعية من الأدلة لكونه مما يحتاج إلى نظر2، على أن التوقف في التكفير حتى يتبين أولى من الهجوم عليه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما، إن كان كما قال وإلا جاءت عليه" 34، والأولى ترك تكفير المخطئ المخالف في المسائل المختلف فيها الخلاف بين الأئمة ولو كانت قطعية عند بعضهم، فإن العلماء اختلفوا في مسائل كثيرة من الأصول والفروع ولم يكفر فيها بعضهم بعضا بمجرد الخلاف مع قطعهم بأحكام تلك المسائل5، والاختلاف في مسألة التكفير لا ينفي القطعية في الإجماع، لأن
1 انظر نفائس الأصول3/ق5-ب والموافقات1/41-42.
2 انظر المستصفى (بولاق) 2/357-358، ذكر أن من القطعيات ما لا يُكفَّر جاحده إذا كانت قطعيته عن طريق النظر، ومثل لذلك بحجية الإجماع.
3 رواه البخاري ومسلم. صحيح البخاري مع الفتح 1/514 وصحيح مسلم1/79 واللفظ له.
4 انظر البحر المحيط للزركشي1/295.
5 انظر طرفا من الكلام على التكفير في المسائل الخلافية في إحكام الفصول للباجي/718 ومجموع فتاوى ابن تيمية 19/206-207، وانظر المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين للدكتور محمد العروسي عبد القادر ص302 فما بعد، وص317 فما بعد، وذكر أن المسألة من مسائل الكلام التي دخلت إلى أصول الفقه.
الخلاف لا يرفع أصل القطعية من مسألة التكفير نفسها فكيف يرفعها في مسألة الحجية! والصحيح أن الخلاف لا يمنع من القطع بالحكم وإن كان المعتد به منه يمنع دعوى اطراد القطعية لجميع الناظرين في الدليل1. والله تعالى أعلم.
1 تقدم أن الخلاف لا يرفع مطلق القطعية، انظر أثر الخلاف في رفع القطعية ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .