الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: قطعية الخبر الواحد
…
المطلب الثاني: قطعية خبر الواحد
أهمية مسألة قطعية خبر الواحد:
من أهم مباحث القطعية في الأدلة الأربعة الخلاف في إفادة خبر الواحد العلم القطعي، وهو من مباحث القطعية التي يذكرها العلماء في غالب كتب أصول الفقه1، يشترك في ذلك مع مبحث قطعية العموم والخلاف فيها، والفرق بينهما أن الخلاف في قطعية العموم هو من حيث الدلالة والخلاف في قطعية خبر الواحد هو من حيث الثبوت.
ووجه أهمية مبحث قطعية خبر الواحد أن بعض العلماء ذهبوا إلى أن في المسائل ما يجب الاستدلال فيها بالقطعي من الأدلة دون غيره ومسائل أخرى يجوز أن يستدل فيها بالقطعي وغير القطعي من الأدلة الشرعية، فإذا كان خبر الواحد - وهو معظم الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكن البتة أن يفيد علما قطعيا فلا جرم كان غير مفيد عند أولئك فيما المطلوب منه القطع، ومن ذلك عندهم مسائل العقيدة2، فتكون النتيجة أن معظم الأخبار المروية عن
1 بحث شيخنا د. أحمد محمود عبد الوهاب هذه المسألة في باب كامل من كتابه خبر الواحد وحجيته ص67-121، وهو من المراجع المهمة في هذا المبحث.
2 انظر البحر المحيط4/261-262.
رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبْعَدة عن موضع من أهم مواضع الدين.
غير أن تقسيم الدين إلى ما سبق أمر غير ظاهر وقد لا يُسلم، وأما ما فُرِّع على التقسيم من التفريق في الاستدلال فأمر غير مسلم وهو غير صحيح1.
وعلى القول بعدم التقسيم وصحة الاحتجاج بكل دليل شرعي في كل مسألة شرعية يمكن القول بعدم قطعية خبر الواحد دون أن يكون لذلك ما سبق من الخطورة.
تعريف خبر الواحد:
أما تعريف الخبر فقد تقدم عند أول الكلام على قطعية الخبر المتواتر2.
وأما تعريف خبر الواحد عند الأصوليين فمن ذلك:
ما عرفه به الغزالي بأنه: "ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم"3.
وقال الآمدي: "خبر الواحد ما كان من الأخبار غير منْتَهٍ إلى حد التواتر"4.
وذكر الحافظ ابن حجر أنه في اصطلاح المحدثين: الخبر الذي لا يجمع شروط المتواتر5.
1 تقدم الكلام في مسألة تقسيم الدين إلى أصول لازم قطعية وفروع جائز القطعية انظر (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
2 انظر ص (5) .
3 المستصفى2/179.
4 الإحكام في أصول الأحكام للآمدي1-2/274.
5 انظر نزهة النظر ص70-71.
وعلى هذا فلا واسطة بين الخبر المتواتر وبين خبر الواحد، إذ عُرِّف خبر الواحد بكونه كل ما ليس متواترا، فيدخل في جملة خبر الواحد الخبر المستفيض والمشهور1، وهو قول كثير من الأصوليين2.
وقد جعل بعض العلماء الخبر المستفيض واسطة دون الخبر المتواتر وفوق خبر الآحاد.
1 المشهور في اصطلاح المحدثين: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ حد المتواتر، سمي الخبر مشهورا لوضوح أمره، وهو المستفيض على رأي جماعة من أئمة الفقهاء والأصوليين وبعض المحدثين، وسمي هذا مستفيضا لانتشاره وشيوعه في الناس، ومنهم من غاير بين المشهور والمستفيض بأن المستفيض يكون في ابتدائه وانتهائه وفيما بينهما سواء وأن المشهور أعم من ذلك فيشمل ما كان أوله منقولا من الواحد، ومنهم من فرق بينهما بوجه آخر وهو أن المستفيض ما تلقته الأمة بالقبول دون اعتبار عدد. انظر نزهة النظر لابن حجر56-57 وفتح المغيث للسخاوي3/32-33 وتدريب الراوي للسيوطي2/173.
وعرف الماوردي الأخبار المستفيضة بقوله: "هي أن تبدو منتشرة من البر والفاجر ويتحققها العالم والجاهل فلا يختلف فيها مخبر ولا يتشكك فيها سامع ويكون انتشارها في ابتدائها
…
كانتشارها في آخرها"أدب القاضي1/371-372.
وقال علاء الدين السمرقندي (ميزان الأصول/428) في تعريف الخبر المشهور عند الحنفية: "هو اسم لخبر كان من الآحاد في الابتداء ثم اشتهر فيما بين العلماء في العصر الثاني حتى رواه جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب
…
وقيل في حده: ما تلقته الأمة بالقبول"ويسمى (المستفيض) ، وهو يفيد عند بعضهم علم طمأنينة، ويفيد العلم اليقيني القطعي عند آخرين منهم. انظر المرجع السابق ص428-430 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار 2/368-369.
والأمر في هذا راجع إلى النظر في قرائن القطعية التي منها قرينة تلقي العلماء الخبر بالقبول وقرينة اشتهار الخبر واستفاضته.
2 انظر شرح الكوكب المنير2/345 وإرشاد الفحول1/207.
وألحق آخرون الخبر المستفيض والخبر المشهور بالمتواتر1.
وجعل الماوردي2 الخبر المستفيض أعلى رتبة من الخبر المتواتر وقال إنه "أقوى الأخبار حالا وأثبتها حكما"، لكنه سوَّاهما في القطعية3.
والأمر بالنظر إلى القطعية أن ما أُلحق من هذه الأخبار بالمتواتر فحكمه في القطعية عند الملحِق حكم المتواتر، وما ألحق منه بخبر الواحد فالخلاف في قطعية خبر الواحد يجري فيه، ومن جعل منه واسطة بين الخبر المتواتر وبين خبر الواحد فالنظر فيه متردد، فإن منهم من جعل المستفيض مفيدا للعلم
1 انظر البحر المحيط للزركشي3/249-251 وأصول الدين للبزدوي/84 وميزان العقول للسمرقندي ص428-429 ونزهة النظر/62-63 والباعث الحثيث ص160، وانظر سلاسل الذهب للزركشي مع تعليقات د. محمد المختار الشنقيطي ص310-311، وانظر مقدمة ابن الصلاح ص392-393 وتقريب النووي مع تدريب الراوي2/176، جعلا المتواتر من المشهور.
2 هو علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن البصري الماوردي، فقيه من أعلام المذهب الشافعي، من مصنفاته:(الحاوي) ، وأدب الدين والدنيا، والأحكام السلطانية، توفي سنة (450) هـ. انظر سير أعلام النبلاء18/64-68 وطبقات الشافعية لابن السبكي 5/267-285 والفتح المبين1/240-241.
3 انظر أدب القاضي لأبي الحسن الماوردي1/371، وانظر الحاوي الكبير له 16/85، وقال الزركشي: إنه تقسيم غريب، (البحر المحيط4/249) ، يدل على غرابة ما ذكر أنه جعل الخبر المتواتر ما كان أوله من خبر الآحاد ثم بلغ رواته قدرا يستحيل عليهم التواطؤ، وذلك الحديث المشهور عند الحنفية كما سبق قريبا، وهو قريب من الخبر المتلقى بالقبول.
أما في بداية كتابه الحاوي1/16-19 فقد قسم الماوردي الأخبار إلى قسمين: أخبار تواتر وأخبار آحاد، وذكر أن العلم الضروري حاصل بأخبار التواتر.
القطعي، ومنهم من جعله مفيدا للظن الغالب دون العلم القطعي، ومنهم من جعله مفيدا ظنا قويا مقاربا لليقين والقطع1، وسبب هذا التردد اختلاف النظر في الاستفاضة والشهرة وهل هما من القرائن المفيدة للعلم القطعي في خبر الواحد أم لا. والله تعالى أعلم.
تحرير محل النزاع:
تظهر الحاجة إلى تحرير محل النزاع في هذه المسألة بالنظر في أدلة المتنازعين فيها، فربما استدل بعضهم على قطعية خبر الواحد بأدلة حجيته، وإن حجيته غير قطعيته، وربما استدل بعضهم بما يوهم أن مخالفه يقول بقطعية مطلق خبر الواحد، وهو ما لا يقول به أحد كما سيأتي.
وتحديد المحل المتنازع فيه يكون ببيان أمور:
الأمر الأول: ليس مطلق خبر الواحد هو محل الخلاف، وإنما الخلاف في خبر واحد مقيّد بكون الخبر الذي رواه الواحد متصلا بنقل العدول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الحديث الصحيح2 الذي يجب العمل به دليلا على الأحكام الشرعية.
1 انظر البحر المحيط للزركشي4/251، والمراجع السابقة من كتب الحنفية.
2 وقال ابن الصلاح رحمه الله في تعريف الحديث الصحيح: "هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا"(مقدمة ابن الصلاح ص82)، والشذوذ: انفراد الثقة بما يخالف به من هو أو ثق منه (ص173) . والعلة في الحديث: "عبارة عن أسباب خفية قادحة فيه مع سلامته في الظاهر منها"(ص195) . وانظر كلام ابن دقيق العيد رحمه الله في الخلاف في قيد عدم الشذوذ والعلة القادحة زيادة على قيد العدالة في تعريف الحديث الصحيح بين الفقهاء والمحدثين في الاقتراح ص153-154.
قال ابن حزم: "أما احتجاج من احتج بأن صفة كل خبر واحد هي أنه يجوز الكذب عليه والوهم فهو كما قالوا، إلا أن يأتي برهان حسي أو برهان منقول نقلا يوجب العلم من نص ضروري على أن الله تعالى قد برّأ بعض الأخبار من ذلك، فيخرج بدليله عن أن يجوز فيه الكذب والوهم، وإنا حين نأخذ - إن شاء الله تعالى - في إيراد البراهين على أن خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة يوجب العلم ولا يجوز فيه البتة الكذب والوهم
…
"الخ1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فصل، يتعلق بمسألة خبر الواحد المقبول في الشرع هل يفيد العلم، فإن أحدا من العقلاء لم يقل إن خبر كل واحد يفيد العلم، وبحث كثير من الناس إنما هو في رد هذا القول"2.
وقال ابن القيم: "كذب بعض الأصوليين كذبا صريحا لم يقله أحد قط، فقال: مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه أن خبر الواحد يفيد العلم
1 إحكام الأحكام لابن حزم1/133-136
2 المسودة ص 244، وانظر شرح العضد على مختصر ابن الحاجب2/56.
من غير قرينة، وهو مطرد عندهم في كل خبر1" قال منكرا:"فيا لله العجب! كيف لا يستحي العاقل من المجاهرة بالكذب على أئمة الإسلام، لكن عذر هذا وأمثاله أنهم يستجيزون نقل المذاهب عن الناس بلازم أقوالهم، ويجعلون لازم المذهب في اصطلاحهم مذهبا"2.
وقريب من هذا قول الغزالي: "فإن قيل: فهل يجوز أن يحصل العلم بقول واحد، قلت: حكي عن الكعبي3 جوازه، ولا يُظَنّ بمعتوه تجويزه مع انتفاء القرائن"4.
ومنه ما نقله الزركشي عن ابن دقيق العيد5 أنه قال: "قد أكثر
1 ذكر الآمدي رحمه الله نحوا منه هذا في الإحكام 2/274، قال عند ذكره المذاهب في المسألة:"ومنهم من قال: إنه يفيد العلم اليقيني من غير قرينة، لكن من هؤلاء من قال: ذلك مطرد في كل خبر واحد كبعض أهل الظاهر وهو مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه". فالله يغفر لنا ولهم.
2 مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم اختصره الموصلي2/445.
3 هو عبد الله بن أحمد بن محمود أبو القاسم البلخي الكعبي، أصولي متكلم، إليه تنسب الطائفة (الكعبية) من المعتزلة، وله آراء في أصول الفقه يخالف فيها الجمهور كقوله: إن المباح مأمور به، وإن العلم الحاصل بالخبر المتواتر نظري، توفي سنة (319) هـ. انظر سير أعلام النبلاء 14/313 وشذرات الذهب2/281 والفتح المبين1/170-171.
4 المستصفى2/146-147.
5 هو محمد بن علي بن وهب أبو الفتح تقي الدين ابن دقيق العيد، من المتبحرين في كثير من العلوم الشرعية، من تصانيفه: شرح مقدمة المطرزي في أصول الفقه، والإلمام في الحديث، والاقتراح في علوم الحديث، توفي سنة (702) هـ. انظر طبقات الشافعية لابن السبكي 9/207-249 والدرر الكامنة 4/210-214 والفتح المبين2/102-103.
الأصوليون من حكاية إفادته [أي خبر الواحد] القطع عن الظاهرية أو بعضهم، وتعجب الفقهاء وغيرهم منهم لأنا نراجع أنفسنا فنجد خبر الواحد محتملا للكذب والغلط ولا قطع مع هذا الاحتمال"، ثم وجّه ابن دقيق العيد القول بالقطعية بأنه في الأخبار التي معها قرينة خارجة عن الخبر، وقال: "وإنما ذكرنا هذا لأن كثيرا من الفقهاء والأصوليين يعتقدون أن مذهبهم خارج عن ضروب العقل، فبَيَّنّا هذا دفعا لهذا الوهم، وتنبيها لما ينبغي أن ينظر ويبحث معهم فيه"1.
والحاصل أنه ليس مطلق خبر الواحد محل الخلاف، بل الخلاف فيما كان من أخبار الآحاد مقيدا على الأقل بكونه حجة شرعا.
الأمر الثاني: الخلاف في قطعية خبر الواحد وإفادته العلم معناه هل يَقطع المستدل الناظر في الخبر المتصل الذي يرويه الواحد العدل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله ويتيقن بذلك جازما أم هو يعمل به لظهور احتمال ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم ورجحان ذلك مع احتمال ضعيف بغلط الراوي الواحد أو وهمه أو نحو ذلك.
فليس أصل الخلاف هنا في وجوب العمل بخبر الواحد وأنه دليل من الأدلة الشرعية التي يتوصل بها إلى الأحكام الشرعية في الجملة، فذلك
1 انظر البحر المحيط نقلا عن ابن دقيق العيد4/264.
حجية خبر الواحد وهي غير قطعيته.
والقطعية فرع عن الحجية، فمن لا يثبت أن طريقا من طرق الأحكام حجة - لا يبحث معه عن قطعيته، فجميع من يرد هنا من المتنازعين في القطعية هم من القائلين بالحجية1.
الأمر الثالث: بعض الأخبار ليست من محل النزاع لأدلة خاصة، وذلك كخبر الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وخبر أهل الإجماع، فهؤلاء لا يجوز في حقهم الكذب لأدلة خاصة، وهي أدلة حجية الكتاب والسنة والإجماع.
وإنما الخلاف في خبرٍ وصل المستدل بنقل الواحد، فمن نفى القطعية عن مثل هذا الخبر فهو ينظر إلى ما نقله الواحد وليس أن خبر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفيد القطع واليقين، إذ هو حين ينفي القطعية لم يتيقن كونه خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو حكم جازما بصدق الناقل عنه صلى الله عليه وسلم كان الخبر صدقا قطعا.
يدل على ذلك أن كثيرا من المصنفين في أصول الفقه يذكرون في صدر الكلام على الأخبار أخبارا قطعية لأدلة خاصة ومنها خبر الرسول صلى الله عليه وسلم2.
1 لذا يكون بحث قطعية خبر الواحد في كتب الأصول مؤخرا عن بحث الحجية ومفرعا عليه.
2 انظر الإحكام لابن حزم 1/133 والتلخيص للجويني 2/734 والمستصفى 2/163 والتمهيد لأبي الخطاب 3/14 والإحكام للآمدي 1-2/256 وشرح مختصر الروضة للطوفي 2/64 والإبهاج لابن السبكي2/281-285 وانظر أصول الدين للبزدوي ص9، وميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي ص419.
ويدل على ذلك أيضا أن الغزالي أخرج خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد، لقطعيته، فقال:"قول الرسول عليه السلام لما علم صحته لا يسمى خبر الواحد"1.
فمبنى الخلاف في قطعية خبر الواحد: على أنه هل يقطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، وليس أنه هل يقطع بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وحديثه2.
أمور موضِّحة:
وهناك أمور إذا اتضحت ساعدت في توضيح محل النزاع وفي توجيه الأدلة ومناقشتها:
- منها: أن بعض أدلة من نفى القطعية مطلقا لا ترد إلا على من أثبت القطعية مطلقا، كما أن بعض أدلة من أثبتها مطلقا لا ترد إلا على من نفاها مطلقا، ومن توسط بينهما فقال بالقطعية عند وجود قرائنها يسلم من كثير من اعتراضات أدلة الفريقين.
- ومنها: ذهب بعض العلماء إلى أن خبر الواحد يفيد العلم الظاهر.
ونفى وجود العلم الظاهر من كلا طرفي النفي والإثبات في المسألة.
1 المستصفى2/179.
2 وفي إضافة الخبر إلى الواحد ما يشير إلى ما سبق، وأن الخلاف في خبر الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في فيما يعلم أنه خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن النافين: قوله في تلخيص التقريب: "فإن قيل: فالذي أطلقتموه هو العلم الباطن والذي أطلقناه هو العلم الظاهر، قلنا: هذا الكلام خلو من التحقيق فإن العلم مهما تحقق استحال أن يجامع الرَّيْب سواء كان علما بظاهر أو باطن
…
اللهم إلا أن يعنوا بالعلم الظاهر سماعهم الخبر فمسلم لهم ذلك، فإنه يعلم ضرورة
…
وإن حملوا العلم بالظاهر على غلبة الظن فيرتفع الخلاف في المعنى فيؤول الكلام إلى المناقشة في العبارة"1.
ومن المثبتين مطلقا: قول ابن حزم: "وقال بعضهم إذا انقطعت به الأسباب: خبر الواحد يوجب علما ظاهرا، قال أبو محمد: وهذا كلام لا يعقل، وما علمنا علما ظاهرا غير باطن ولا علما باطنا غير ظاهر، بل كل علم متيقن فهو ظاهر إلى من علمه وباطن في قلبه معا، وكل ظن يتيقن2 فليس علما أصلا لا ظاهرا ولا باطنا"3.
فالقول بإفادة خبر الواحد العلم الظاهر يرد عليه سؤال الاستفسار، فإنه إن كان هو اليقين والقطع فالقائل به يُجمع مع القائلين بالقطعية، وإن كان دون اليقين فهو مع النافين، وإن كان غير ذلك فلا بد من بيانه، كأن يكون مرتبة الظن القوي المقارب للقطع.
1 تلخيص التقريب للقاضي الباقلاني لخصه الجويني2/236.
2 أي يعلم قطعا أنه ظن وراجح وهو اعتقاد الرجحان.
3 الإحكام1/142-143.
والأقرب أن يكون المراد بالعلم الظاهر أمرا دون اليقين والقطع، لما سبق في استعمال الشافعي وغيره للعلم الظاهر دون الباطن أنه يرادف الظن الغالب والرجحان، وبين بعض العلماء المراد بالعلم الظاهر: فقال أبو الحسين البصري عند الكلام على الخلاف في قطعية خبر الواحد: "وحكي عن قوم أنه يقتضي العلم الظاهر وعنوا به الظن"1، وقال الغزالي:"وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل أو يسمي الظن علما، ولهذا قال بعضهم يورث العلم الظاهر والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن"2، وحمل السرخسي القول بأن خبر الواحد يفيد العلم على أن المراد بالعلم علم طمأنينة القلب وقال:"وطمأنينة القلب نوع علم من حيث الظاهر"3.
- ومنها: من أقوى أدلة نفاة القطعية في هذه المسألة أن خبر الواحد فيه احتمال أن يكون الواحد الراوي للخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم غير عدل في الواقع، لأن الحكم بعدالة المرء هو بحسب الظاهر من أمره مع احتمال خلاف ذلك في الباطن.
1 المعتمد2/93.
2 المستصفى2/179-180.
وتقدم أن التعبير عن الظن الغالب بالعلم الظاهر أو العلم في الظاهر دون الباطن استعمله الشافعي وغيره، انظر ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) ، والنفي هنا مبني على أن العلم مرادف للقطع مرادفة تامة.
3 أصول السرخسي1/329-330.
ولكن هذا الاحتمال وارد في حق غير الصحابة رضي الله عنهم، أما عدالة الصحابة فمقطوع بها بتزكية الله إياهم في غير ما موضع من كتابه وتزكية الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة من القرآن على تزكيتهم قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1 وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 2 وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 3 وقوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 4 وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةً وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5.
1 سورة آل عمران (110) .
2 سورة الفتح الآية (18) .
3 سورة التوبة (100) .
4 سورة الأنفال (64) .
5 سورة الحشر (8-9) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق، على أنه لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام وبذل المُهَج والأموال وقتل الآباء والأبناء والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين - القطعَ على تعديلهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم كافة أفضل من جميع الخالفين بعدهم
…
هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتمد قوله"1.
كما ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخير وأثنى عليهم.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "والأخبار في هذا المعنى تتسع وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم"2.
ومن الأحاديث المروية في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي! فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مُدَّ أحدهم، ولا نَصِيفه" 3، وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
…
"الحديث4.
1 الإصابة في تمييز الصحابة1/7
2 الكفاية للخطيب البغدادي ص96.
3 رواه البخار ومسلم. انظر صحيح البخاري مع فتح الباري7/21 وصحيح مسلم4/1967.
4 رواه البخاري ومسلم. انظر صحيح البخاري مع فتح الباري7/3 وصحيح مسلم4/1964.
أما احتمال النسيان فقد استبعده بعض العلماء كذلك في حقهم بسبب "صحبة النبي صلى الله عليه وسلم واختيار الله تعالى إياهم لحفظ دينه
…
وما عرف منهم من بذل الجهد في ذلك
…
فصار احتمال النسيان كاحتمال المجاز في الخاص والتأويل في النص فلا يعتد به"1.
ولا يقوى هذا قوة ما قبله من قطعية العدالة، على أنه جارٍ على أحد مذاهب العلماء في الاعتداد بالاحتمال2. والله أعلم.
الخلاف في المسألة:
وقد اختلف العلماء في إفادة خبر الواحد العلم القطعي إلى ثلاثة أقوال: النفي المطلق والإثبات المطلق والإثبات في الأخبار التي احتفت بها قرائن القطعية دون التي لم تحتف بها تلك القرائن.
القول الأول: أن خبر الواحد لا يفيد العلم القطعي بحال، فكل خبر لم يتواتر نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحصل العلم القطعي واليقين بأنه قاله، غاية ما يمكن أن يفيده مثل ذلك الخبر غلبة الظن ورجحان أنه صلى الله عليه وسلم قاله.
فكان أصل هذا القول: أن الخبر لا يمكن أن يحصِّل العلم القطعي إلا من حيث كثرة العدد كثرة يستحيل معها احتمال الكذب والوهم، وما دون
1 فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت2/112.
2 وهو مذهب كثير من الحنفية، أن الاحتمال إذا بعُد ولم يعتضد لا يرفع القطع ولا يمنعه. انظر مسلكي أهل العلم في أثر الاحتمال في نفي القطعية ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
ذلك لا يمكن أن يحصل العلم حتى مع احتفاف القرائن به، ويبين هذا الأصل عندهم أنهم يذهبون إلى أن خبراً ما إذا أفاد العلم القطعي في واقعة لشخص وجب أن يفيد العلم القطعي في كل واقعة ولكل شخص، لأن سبب حصول العلم القطعي فيه هو العدد فقط، وقد استوت الوقائع والأشخاص في ذلك.
وهذا مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني فيما نقله عنه غير واحد1، وفي تلخيص التقريب بعد نفي إفادة خبر الواحد العلم مطلقا وأن ما كان من الأخبار يفيد العلم تارة فإنه يفيده تارة أخرى قال:"ومقصدنا بما ذكرنا الرد على النظام، فإنه صار إلى أن خبر الواحد قد يقترن في بعض الأحوال بقرائن يفضي إلى العلم الضروري"، ثم رد على ذلك وقال:"ولا يَغرّنك تمويهه وتصويره في الواحد المخبر مع قرائن تقترن به، فإن كل ما يصوره قد يتقرر في العادة تصوير مثله مع تعمد الخلف أو تصور الغلط"2.
وذكر بعض العلماء أن هذا القول مذهب الأكثر3.
1 انظر المستصفى للغزالي2/145،148 والمحصول للرازي 4/282 والإحكام للآمدي 2/271-272 والمسودة ص240-241.
2 تلخيص التقريب للباقلاني لخصه الجويني2/736، وجعل في موضع آخر إفادة خبر الواحد العلم من قبيل انخراق العادة مثل انفطار السماوات ونضب البحار. انظر 2/716-717.
3 انظر المعتمد لأبي الحسين البصري2/92-93 وإحكام الفصول للباجي/323-324 وشرح الكوكب المنير2/347 وانظر جامع بيان العلم وفضله2/34: ففيه إشارة إلى أن إيجاب خبر الواحد العمل دون القطع به قول الأكثر.
ونازع في تلك النسبة شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره1.
ونسب ابن القيم هذا القول إلى الطوائف المخالفة للسلف وقال: "وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء ولا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك"2.
أدلة هذا القول3:
الدليل الأول: استدلوا بأن خبر الواحد لو أفاد القطع للزم من ذلك أمور باطلة وما يلزم منه الباطل باطل، ومن تلك اللوازم الباطلة:
أ- أنه يلزم منه تصديق كل خبر يُسمع، فإنه لن يخرج ذلك الخبر عن كونه خبر واحد.
وهذا خروج عن محل النزاع، لأن بطلان القول بقطعية مطلق خبر الواحد لا يختلف فيه، ولا يلزم من ذلك بطلان القول بقطعية بعض أخبار الآحاد المقيدة، فمحل الاتفاق في بطلان القطعية خبر واحد مطلق كان هذا الواحد فاسقا أو صادقا كافرا أو مسلما
…
وأما محل الخلاف في القطعية
1 انظر مجموع الفتاوى13/351، 18/41.
2 مختصر الصواعق المرسلة2/362-363.
3 انظر أدلة هذا القول في روضة الناظر لموفق الدين ابن قدامة1/261-262 وشرح مختصر الروضة للطوفي2/105-106 وانظر المحصول للرازي4/282-284 والمستصفى للغزالي 2/179-180.
فخبر واحد متصل بالعدول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فافترقا، وقد سبق في تحرير محل النزاع تغليظ ابن القيم القول على من زعم أن الخلاف في مطلق الخبر1.
ب- أنه يلزم من قطعية خبر الواحد ألا يقع تعارض بين خبرين مطلقا لأن القطعيين لا يتعارضان، لكن التعارض بين الأخبار واقع.
والجواب عن هذا أنه لا يسلم إمكان تعارض خبرين مفيدين للقطع على وجه لا يتبين الأمر فيهما بترجيح أو جمع أو نحو ذلك2.
جـ- أنه يلزم من قطعية خبر الواحد جواز نسخ القرآن والسنة المتواترة به، وذلك غير جائز.
والجواب عن هذا من وجهين:
الأول: أنه لا يسلم عدم جواز نسخ الدليل من القرآن أو من السنة المتواترة بالدليل غير القطعي مثل خبر الواحد، فإن ذلك محل متنازع فيه3،
1 انظر الأمر الأول من الأمور المذكورة في تحرير محل النزاع في بداية هذا المطلب.
2 شرح الكوكب المنير4/617، وانظر تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي على الإحكام للآمدي2/33-34 وخبر الواحد وحجيته لشيخنا د. أحمد محمود عبد الوهاب ص71.
3 فالأكثرون على جوازه عقلا لأن العمل بالظني مقطوع بوجوبه ولكنه عند الجمهور غير واقع شرعا، وذهب جماعة من أهل الظاهر إلى وقوعه احتجاجا بقصة أهل قباء لما حولوا قبلتهم بخبر الواحد، وفصل آخرون فقالوا بوقوعه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم دون غيره. انظر البحر المحيط 3/108-109 وإرشاد الفحول للشوكاني2/96-98.
ونصر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله الجواز والوقوع شرعا، وأيد ذلك بأن شرط التعارض اتحاد زمان المتعارضين ولا يتحد زمن الناسخ والمنسوخ، ومثّل للوقوع بنسخ إباحة الحمر الأهلية المنصوص عليها بالحصر الصريح في قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} الأنعام (145) - نُسخ بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها. انظر مذكرة الشيخ محمد الأمين في أصول الفقه ص86-87.
ولا يصلح الاحتجاج بمحل الخلاف1.
الوجه الثاني: أنه - على التسليم بعدم جواز نسخ القرآن والسنة المتواترة بالدليل غير القطعي - لا يتحقق المانع من ذلك على القول بقطعية خبر الواحد، لأنهما يستويان إذا في القطعية فيقوى خبر الواحد القطعي على نسخ القطعي، فجواز نسخ الدليل من القرآن أو السنة المتواترة بالدليل من خبر الواحد هو فرع عن مسألة قطعية خبر الواحد، فإذا قيل بالقطعية في المسألة لم يلزم من نسخ القطعي بخبر الواحد شيء محظور، لاتحادهما في القوة المجوز لذلك.
د- أنه يلزم من القول بقطعية خبر الواحد جواز الحكم بشاهد واحد دون الحاجة إلى شاهد ثان ولا يمين، لأن العلم إذا حصل بقول الشاهد الواحد لم تكن ثمة حاجة إلى سوى ذلك إلا تحصيل حاصل، وهو عبث.
والجواب عن هذا ببطلان الملازمة بين صدق خبر الواحد وبين صدق الشاهد الواحد.
1 انظر خبر الواحد وحجيته لشيخنا الدكتور أحمد بن محمود عبد الوهاب ص73-75.
ذلك أن هناك أوجه فرق بين الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الشهادة في الخصومات والأقضية، وحقيقة الفرق بينهما راجعة إلى أن ما يترتب على احتمال الكذب أو الوهم في الرواية من المحظورات لا يترتب على احتمال كذب الشاهد، بل إن مدار الحكم في الأقضية على الظواهر دون القطع واليقين بما في باطن الأمر والواقع في الحقيقة، كما في حديث أم المؤمنين أم سلمة1 - رضي الله تعالى عنها - أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم وقال:"إنما أنا بشر وإنه ليأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها"2، أما الرواية فإنه يلزم من احتمال كذب بعضها - كالخبر الذي تلقته الأمة بالقبول - أن يكون الناس قد ضلوا الحق واعتمدوا الكذب وقالوا على الله بغير علم، وذلك باطل.
والله سبحانه وتعالى لم يتكفل بحفظ الدماء أن تهرق ولا بصيانة الأموال أن تؤخذ ولا الفروج أن تستباح بغير حق في الخصومات والأقضية
1 هي هند بنت أبي أمية حذيفةَ بن المغيرة أم المؤمنين أم سلمة القرشية المخزومية، كانت ذات عقل بالغ ورأي صائب، وهي آخر أمهات المؤمنين وفاة، وذلك بين سنة (59) وسنة (62) هـ على اختلاف أقوال أهل العلم. انظر الإصابة8/240-242.
2 رواه البخاري ومسلم. انظر صحيح البخاري مع فتح الباري5/107 وصحيح مسلم 3/1338 وقد سبق تخريجه ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
بل ذلك واقع، ولكنه تكفل بحفظ الدين عن أن يختلط به ما ليس منه عند المسلمين1.
هـ- أنه يلزم من القول بقطعية خبر الواحد أن يستوي خبر العدل والفاسق في الإخبار، لأنه إذا حصل بالخبر العلم لم ينظر إلى عدالة قائله من فسقه كما في الخبر المتواتر، وباطل أن يستوي خبر العدل والفاسق وقد قال تعالى:{يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 2.
والجواب عن هذا أنه خروج عن محل النزاع أيضاً، فإن الخلاف ليس في مطلق خبر الواحد حتى يتناول خبر الفاسق، بل في خبر العدل خاصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
على أن هذا جمع بين موضعين مختلفين، إذ لا يلزم من كون خبر العدل صدقا قطعا أن يكون خبر الفاسق صدقا كذلك، فالعدل غير الفاسق.
و أنه يلزم من القول بقطعية خبر الواحد تصديق قول مدعي النبوة، لأنه خبر واحد.
1 انظر الإحكام لابن حزم 1/147-149 والمسودة ص245-247 ومختصر الصواعق المرسلة 2/368-369 وتعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي على الإحكام للآمدي2/34-35.
2 سورة الحجرات (6) .
والجواب بالفرق بين دعوى النبوة عن الله سبحانه وتعالى وبين الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باطراد العادة باستحالة صدق دعوى النبوة من مخبر واحد دون ضميمة معجزة، إذ هو يخبر عن الله سبحانه وتعالى بما لا يُعلم إلا من جهته، وثبوت النبوة له يستلزم أمورا عظيمة من الموالاة والقطع على طهارته ظاهرا وباطنا والتصديق في جميع ما يخبر به ونحو ذلك، وذلك يستدعي معجزة خارقة تدل على صدقه، بخلاف الراوي المخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم1.
الدليل الثاني: واستدل على القول الأول بأن الواحد العدل ليس معصوما من الخطأ والنسيان والوهم ونحوه مما يعرض للبشر، فاحتمال تلك العوارض وارد في حقه قطعا، بل إن الحكم بالعدالة هو بحسب الظاهر من حاله وليس يُقطع بأنه عدل في باطن أمره وسريرته، فاحتمال الكذب غير مدفوع عنه قطعا، ومع ورود هذه الاحتمالات لا يمكن القطع واليقين بأن ما قاله صدق وحق، بل ذلك على الظاهر واعتقاد الرجحان مع
احتمال خلافه.
قال إمام الحرمين: "والقول فيه أنه قد زَلَّ من الرواة الأثبات جمع لا يعدون كثرة، ولو لم يكن الغلط متصورا لما رجع راو عن روايته، والأمر
1 انظر الكفاية للخطيب البغدادي ص54-55 عند ذكره الرد على من يوجب القطع لقبول الرواية قياسا على مدعي النبوة.
بخلاف ما تخيلوه"1، ولذا توعد الرسول صلى الله عليه وسلم على الكذب في الحديث عنه وقال: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"23.
والجواب أن هذا الاحتمال يرد على خبر رواه عدل واحد لم يعرف عنه إلا عدالته وحفظه في الظاهر من أمره، أما من كان من الرواة قد تتبع النقاد الجهابذة المدققون سيرتهم ووقفوا على أحوالهم الخاصة في سرهم وعلنهم أو أجمعوا على عدالتهم وتعزز ذلك بورود خبر آخر مثل ذلك الخبر، مع رسوخ في العلم، وانضاف إلى ذلك تلقي الأمة للخبر بالقبول ونحو ذلك من القرائن التي لا تزال تحتف بالخبر حتى ينقطع فيه احتمال النسيان والخطأ والكذب ونحوها، ويفيد الخبر القطع واليقين بالنسبة لمن وقف على ذلك4.
هذا وقد استدل أصحاب القول بنفي القطعية مطلقا في هذه المسألة بأدلة خاصة على أن احتفاف القرائن بالخبر لا يفيده القطعية، ومن ذلك:
1- أن جميع تلك القرائن التي يذكر أن الخبر قد يفيد القطع معها يجوز أن يكون قد تعمد في وضعها مَنْ يريد التمويه والكذب فضلا عن أن
1 البرهان1/392، وانظر تلخيص التقريب2/237 وشرح الكوكب المنير2/347-350 وأصول السرخسي 1/329-330.
2 رواه البخاري ومسلم. انظر صحيح البخاري مع فتح الباري1/577-578 وصحيح مسلم 4/2299.
3 انظر العدة لأبي يعلى الفراء3/904.
4 انظر خبر الواحد وحجيته ص79-82.
تكون دليل الصدق، فإن أحدهم قد يريد أن يُمَوِّه على الناس ليعتقدوا موت ولد له مثلا، وذلك لغرض ما كالفرار من مسئوليته أمام سلطان أو نحو ذلك، فيذهب المذاهب المختلفة في البكاء والعويل والصراخ ويتصنع بإحضار الجنازة والأكفان ولا يألوا جهدا في ضرب خده وشق جيبه
…
بل قد يكون أُخبر عن موت ولده فقام بكل ذلك مع أن الولد في الواقع أغمي عليه أو أصابته سكتة1.
والجواب عن هذا: أن غاية ذلك أن هذه القرائن المذكورة والمعينة لا تفيد علما، ولا يلزم من ذلك أن كل قرينة لا تفيد العلم القطعي، لأن القدح في صورة خاصة لا يقتضي القدح في كل الصور2، على أن القرائن المحتفة بالخبر الذي هو الحجة شرعا ليس من قبيل ما سبق3.
2-
أنه لو كانت القرائن هي المفيدة للعلم لجاز ألا يقع العلم القطعي بالخبر المتواتر، لعدم لزوم تلك القرائن فيها، وذلك باطل4.
والجواب: أن العلم القطعي لا يستفاد من القرائن فقط، بل تارة من كثرة العدد كما في المتواتر ومن الخبر مع قرائن القطعية تارة أخرى كما هو القول هنا5.
1 انظر المحصول للرازي4/282-284.
2 انظر المرجع السابق، وشرح تنقيح الفصول للقرافي ص355.
3 انظر القرائن المحتفة بالخبر الحجة ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
4 المحصول كما سبق.
5 المرجع السابق.
3-
أن العلم المستفاد من الخبر المحتف بالقرائن إما أن يكون سببه القرائن وحدها أو القرائن بشرط وجودها مع الخبر أو الخبر وحده أو الخبر بشرط وجوده مع القرائن.
أما أن يكون سبب القطعية القرينة وحدها أو هي مع الخبر فباطل، لأن القرينة لا تتناول المخبر عنه وإنما المتناول لذلك الخبر، وأما أن يكون سبب القطعية هو الخبر وحده فذلك غير مسلم، لأن الخبر يقتضي القطعية عند التجرد عن القرينة إذاً وذلك ممنوع، وأما أن يكون سبب القطعية هو الخبر مع القرائن فباطل، لعلمنا أنه لو تجردت هذه القرائن عن الخبر لكان اعتقادنا المخبَر كاعتقادنا مع وجودها1.
والجواب: أن الخبر قد يكون من القوة بحيث لا يبقى من إفادته القطع إلا قدر يسير وتقوم القرينة مقام ذلك القدر، والقرينة تتناول ما تناوله الخبر - وهو المخبر عنه - لتعلقها به، كالصراخ في بيت من أخبر بموته ونحو ذلك فإنه يدل على الموت كالخبر بذلك2.
القول الثاني: أن خبر الواحد العدل إذا اتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيد العلم القطعي، ولا يجوز أن يكون كذبا بحال.
1 انظر المعتمد لأبي الحسين البصري2/93-94.
2 انظر المعتمد2/93-94.
وهذا قول ابن حزم الظاهري رحمه الله، قال:"خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة يوجب العلم، ولا يجوز فيه ألبته الكذب والوهم"1.
وعلى هذا فسواء اتصل بالخبر قرائن أم لم تتصل به يكون قطعيا، لكونه لم يقيد الخبر القطعي إلا بما هو المقيد به في الأخبار المقبولة شرعا من العدالة والاتصال، فكانت حجية الخبر عنده مستلزمة لقطعيته.
ونسب ابن حزم رحمه الله هذا القول إلى أبي سليمان داود الظاهري2، والحسين بن علي الكرابيسي3، والحارث بن أسد المحاسبي4،
1إحكام الأحكام لابن حزم1/132-133.
2 هو داود بن علي بن داود أبو سليمان الأصفهاني، إمام أهل الظاهر، من تصانيفه: إبطال القياس، وكتاب خبر الواحد وبعضه موجب للعلم، وكتاب العموم والخصوص، وإبطال التقليد، توفي سنة (270) هـ. انظر سير أعلام النبلاء13/97-108 وطبقات الشافعية 2/284-293 والفتح المبين1/159-161.
3 هو الحسين بن علي بن يزيد أبو علي الكرابيسي، كان إماما جامعا بين الحديث والفقه والكلام، وذكر من ترجم له أن له تصانيف في الفروع والأصول، وفي الجرح التعديل، توفي سنة (248) وقيل (245) هـ. انظر وفيات الأعيان لابن خلكان2/132-133 وسير أعلام النبلاء 12/79-82 وطبقات الشافعية2/117-126.
4 هو الحارث بن أسد أبو عبد الله المحاسبي، كان إماما في الفقه والأصول والتصوف والكلام والحديث، قال الذهبي:"له كتب كثيرة في الزهد وأصول الديانة"، توفي سنة (243) هـ. انظر وفيات الأعيان2/57-58 وسير أعلام النبلاء12/110-112 وطبقات الشافعية 2/275-284.
وابن خويزمنداد1 رحمهم الله.
ونازعه الزركشي في نقله عن الحارث المحاسبي فقال: "وفيما حكاه عن الحارث نظر، فإني رأيت كلامه في كتابه (فهم السنن) ، نقل عن أكثر أهل الحديث وأهل الرأي والفقه أنه لا يفيد العلم ثم قال: "وقال أقلهم يفيد العلم"ولم يختر شيئا، واحتج بإمكان السهو والغلط من ناقله كالشاهدين يجب العمل بقولهما لا العلم"2.
كما نقل الزركشي عن المازري3 أنه نازع ابن خويز منداد في نقله عن مالك أنه يفيد العلم لعدم وجود نص لمالك في ذلك، وأنه ربما اعتمد على مقالة له مشيرة إلى ذلك غير صريحة4.
1 هو محمد بن أحمد بن عبد الله أبو بكر أو أبو عبد الله بن خويز منداد، فقيه أصولي، ذكروا له كتبا في أصول الفقه والخلاف وأحكام القرآن، ولم أطلع على ذكر سنة وفاته في الكتب التي رجعت إليها في ترجمته، وجعل صاحب الشجرة الزكية ابن خويز منداد من طبقة القاضي عبد الوهاب المالكي المتوفى سنة (422) . انظر الديباج المذهب لابن فرحون2/229. وطبقات المفسرين للداودي2/68. وشجرة النور الزكية لمخلوف/103.
2 البحر المحيط4/262.
3 هو محمد بن علي بن عمر أبو عبد الله المازري، من كبار علماء المالكية، فقيه أصولي متكلم طبيب، من تصانيفه: شرح البرهان لإمام الحرمين المسمى (إيضاح المحصول من برهان الأصول) ، كتاب المعلم في شرح مسلم، ونظم الفوائد في علم العقائد، توفي سنة (536) . انظر الديباج المذهب2/251-252 وسير أعلام النبلاء20/104 والفتح المبين2/26-27.
4 انظر البحر المحيط4/263.
ونُسب هذا القول إلى الإمام أحمد بن حنبل وأصحاب الحديث1.
وخرّج القاضي أبو يعلى قول الإمام أحمد على أن المراد خبر واحد تلقي بالقبول أو احتفت به قرائن أخرى2.
أدلة هذا القول:
الدليل الأول: أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقول إلينا بخبر الواحد وحيٌ من الله تعالى وبيان للوحي كما قال عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} 3 وقال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 4، وقد قال الله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5 وقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمَتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} 6 وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ} 7، فكان الذكر والوحي كله محفوظا بضمان الله تعالى، ومثل ذلك لا يضيع منه شيء ولا يُحرّف
1 تقدم من ذلك ما ذكره الآمدي عن الإمام أحمد في تحرير محل النزاع في مطلع هذا المطلب، وانظر إشارة الغزالي إلى أن ذلك قول منقول عن المحدثين في المستصفى2/179-180.
2 انظر العدة3/900-901.
3 سورة النجم (3،4) .
4 سورة النحل (44) .
5 سورة الحجر (9) .
6 سورة المائدة (3) .
7 سورة آل عمران (85) .
ولا يختلط اختلاطا "لا يتميز بيقين عند أحد من الناس"1.
وإذا كان كذلك فلا سبيل إلى ضياع شيء مما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان الذكر، لأن ضياع ذلك من ضياع الذكر وذلك باطل، فكل خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مقطوع به غير مختلط ولا محرَّف ولا مكذوب ولا مخطوء فيه2.
ويرد على وجه الاستدلال بهذا الدليل على القطعية المطلقة: أن هذا الدليل إنما يفيد في بعض أخبار العدول ولا يفيد أن جميع أخبار الآحاد يلزم أن تكون قطعية.
وبيان ذلك: أن خبر الواحد العدل إذا اقترن به أن أجمعت الأمة على العمل به لزم من كونه غير صحيح أن يكونوا قد عملوا بما ليس صحيحا، ولزم من ذلك أن يكون بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للذكر المنزل قد اختلط به ما ليس منه مما وقع فيه الخطأ ولم يتميز، أما إذا فرض خبر واحد اختلف في صحته أولم يعمل به بعض الأمة فاحتمال كون مثل هذا الخبر غير صحيح لا يلزم منه شيء مما ذكر.
1 وهذا القيد الذي نص عليه ابن حزم رحمه الله يخرج بعض أخبار الآحاد مما ذكر ههنا من إطلاق، لأن قيد أن لا يتميز ما في الخبر عند أحد من الناس بيقين يخرج الأخبار التي اختلف في صحتها وقدح فيها بعض العلماء.
2 انظر هذا الدليل في إحكام الأحكام لابن حزم1/133-136، 141-142.
فعليه يقال: إن خبر واحد معيَّناً1 إذا وصل إلى مستدلين ناظرين في الأدلة الشرعية فصححوه وجب عليهم العمل به وإن كان غيرهم لم يصححه، مع أنه يحتمل أن يكون الصواب مع الذين ضعفوه، فيكون المصححون قد عملوا بما ليس صحيحا، ولا يلزم من ذلك محظور أن الأمة عملت بالباطل أو أن بيان الذكر قد ضاع
…
فخبر الواحد العدل لا يلزم من عدم صحته شيء مما ذكر، إلا أن يقترن به مثل تلقي الأمة له بالقبول والعمل، والتلقي بالقبول قرينة زائدة على مطلق الخبر الحجة وهو خبر العدل المتصل، والله تعالى أعلم.
وهذا وارد على كثير من أدلة هذا القول المطلق.
الدليل الثاني: أن العمل بخبر الواحد واجب، فدل على أنه يفيد العلم القطعي، إذ لو لم يكون مفيدا العلم القطعي لما وجب العمل به، لأن العمل بما ليس علما غير جائز، قال الله تعالى:{ولَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 2، ونهى الله أن يقال عليه ما لا يعلم فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإِثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ
1 انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حول الفرق بين خبر الواحد المعين وخبر الواحد مطلقا، في المسودة ص245-247.
2 سورة الإسراء (36) .
بهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 12.
والجواب أن العمل بما لا يفيد القطع من طرق الأحكام هو من العمل بالعلم، لقيام الأدلة القطعية على صحة الاعتماد على تلك الطرق في الوصول إلى الأحكام ووجوب العمل بها، فذلك مستند إلى القطع على الحجية، وليس ذلك من باب اتباع ما لا يعلم3.
الدليل الثالث: أن احتمال كون الخبر المحتج به كذبا أو وهما أو خطأ في واقع الأمر - يلزم منه أمور باطلة في الشرع، ومن تلك الأمور:
أ- اختلاط الحق بالباطل بدون تمييز، فلا يتميز ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته من أمور دينهم ودنياهم مما افتراه الوضّاعون أو غلط فيه الواهمون أو أخطأ فيه المخطئون، وذلك باطل شرعا لأن ضمان الشرع مكفول من الله تعالى.
ب - لزوم أن يكون الله سبحانه قد أمر بالكذب والعمل بالباطل، لأنه أمر بالعمل بما أخبر به الواحد العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كان ذلك يحتمل أن يكون كذبا لزم منه أنه تعالى أمر بذلك وكل ذلك غير صحيح4.
1 سورة الأعراف (33) .
2 انظر أصول السرخسي1/329 وشرح مختصر الروضة2/107-108 ومختصر الصواعق المرسلة 2/395-396.
3 تقدم ذلك في مبحث وجوب العمل بالأدلة القطعية والظاهرة. انظر ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
4 انظر الإحكام لابن حزم1/137-138.
جـ- تبدّل الدين وتغيّر سنة الله وتحوّلها، لأن ما علّمه الرسول صلى الله عليه وسلم من شرائع الدين وبيان الذكر هو من سنة الله وكلماته، وقد أخبر الله تعالى أنها لا تبدل فقال:{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} 1 وقال: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} 2 وقال: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} 3.
د- إضلال الخلق، لأنه لو أمر بالعمل بخبر الواحد العدل ثم ثبت كونه كذبا أو خطأ لزم من ذلك ضلال العاملين به، بسبب ما أمروا من العمل به4.
هـ- عدم تحقيق التبليغ، لأن التبليغ يكون بما تقوم به حجة الله على عباده، والحجة تحصل بما يحصل به العلم، وقد قال الله تعالى:{يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 5 وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلَاغُ الْمُبِينَ} 6، وعليه فإما أن يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ إلا القرآن وما رواه عدد التواتر من أخباره، وإما أن يقال إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علما ولا يقتضي قطعا ويقينا، وكلاهما باطل7.
1 سورة الأحزاب (62) .
2 سورة فاطر (43) .
3 سورة يونس (64) .
4 مختصر الصواعق المرسلة2/368، وانظر المسودة ص245.
5 سورة المائدة (67) .
6 سورة النور (54)
7 مختصر الصواعق المرسلة 2/396.
ويرد على جميع ما ذكر في هذا الدليل من اللوازم الباطلة شرعا على عدم القول بالقطعية المطلقة أن العمل بالدليل لا يشترط فيه أن يكون الدليل المعمول به قطعيا، فليس كل ما أوجب العمل يوجب العلم القطعي، لأن بعض الأدلة الصالحة للاحتجاج شرعا - كالأقيسة - يجب العمل بها عند جماهير العلماء وقد لا تفيد العلم القطعي1، ومن ذلك أيضا العمل بما ترجح عند المجتهد من وجوه الأدلة المختلفة، فإنه واجب عليه قطعا مع جواز أنه قد لا يقطع به، بل قد يكون خطأ2، فلا يمكن أن يُستدل بحجية الدليل على قطعيته مطلقا.
على أن كل هذه الأمور يلزم على خبر واحد مقيد كالخبر الذي تلقته الأمة بالقبول، وإلا فلا تلزم هذه الأمور في خبر صححه مستدل وهو غير صحيح عند غيره وقد يكون هو على خطأ.
وسيأتي إن شاء الله تعالى - عند الكلام على القول الثالث - أن أغلب أدلة العلماء من جميع الأقوال تشير إلى أن المفيد للقطع خبر واحد احتف به - زيادة على قيود الحجية (العدالة والاتصال) - قرائن أخرى من تلقٍّ بالقبول أو شهرة رواته أو تعدد طرقه ونحو ذلك3.
1 انظر وجوب العمل بالأدلة القطعية والظاهرة ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
2 انظر المستصفى2/179-180 في وجوب العمل بالظاهر المحتمل.
3 انظر ص (46) .
الدليل الرابع: واستدل لهذا القول بما حدث من الوقائع الكثيرة التي قُبِل فيها خبر الواحد، بحيث دل على أنه أفاد العلم القطعي1، حدث ذلك من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ومن الصحابة رضوان الله عليهم، ومن تلك الوقائع:
أ- قبول موسى عليه السلام خبر الذي جاءه من أقصى المدينة، قال الله تعالى في ذلك:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2، فقبل خبر الواحد وجزم به هاربا من المدينة خائفا من أن يدركه من أخبره الواحد عن ائتمارهم لقتله.
ب- قبول موسى عليه السلام خبر ابنة صاحب مدين، كما ورد في قوله عز وجل:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَومِ الظَّالِمِينَ} 3.
جـ- قبول موسى عليه السلام خبر أبيها فيما حكاه الله تعالى من
1 انظر ذلك في مختصر الصواعق المرسلة2/403-404.
2 سورة القصص (20،21) .
3 سورة القصص (25) .
قوله: {قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمَتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} إلى قوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} الآية1.
د- قبول يوسف عليه السلام خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك، وذلك في قول الله عز من قائل:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّ كَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونَ. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} إلى قوله: {قَالَ ارْجِعْ إِلى رَبِكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} الآية2.
هـ- وقبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر الآحاد الذين كانوا يخبرونه بنقض المعاهدين له مواثيقهم، فيغزوهم النبي صلى الله عليه وسلم بخبر أولئك الآحاد ويستبيح دماءهم وأموالهم وذراريهم.
ومما ورد من ذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قصة فتح مكة، فقد روي أن سببه أن بني بكر (حلفاء قريش) أغارت ليلا على خزاعة (حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وأعانهم قريش على ذلك بالسلاح وغيره خلافا لما كان المتفق عليه بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، فذهب عمرو بن سالم الخزاعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستنجده وأخبره في أبيات بنقض قريش الميثاق وإخلافهم العهد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
1 سورة القصص (27-29) .
2 سورة يوسف (45-50) .
"نُصِرتَ يا عمرو بن سالم"، ثم استعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة1.
وفي الآثار عن الصحابة:
و قبول أبي طلحة الأنصاري2 خبر الذي أتاهم بتحريم الخمر، وذلك في حديث أنس بن مالك3 رضي الله عنه قال: "كنت أسقي أبا عبيدة4وأبا طلحة وأُبيّ بن كعب5 من فَضيخ زهو وتمر6، فجاءهم آت فقال: إن
1 انظر البداية والنهاية لابن كثير4/277-278 والسيرة النبوية الصحيحة 2/473.
2 هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام أبو طلحة الأنصاري الخزرجي، زوج أم سليم أمِ أنس رضي الله عنهم جميعا، اختلف في وفاته، فقيل توفي سنة (50) أو (51) وقيل غير ذلك. انظر الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر3/28-29.
3 هو أنس بن مالك بن النضر أبو حمزة الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد المكثرين من الرواية عنه، توفي سنة (90) أو (91) هـ. انظر الإصابة للحافظ ابن حجر 1/71-73.
4 هو عامر بن عبد الله بن الجراح، شهرته أبو عبيدة بن الجراح، القرشي الفِهري، أحد السابقين إلى الإسلام لقّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين هذه الأمة، توفي في طاعون عمواس بالشام سنة (18) هـ انظر. الإصابة في تمييز الصحابة 4/11-13.
5 هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد أبو المنذر وأبو الفضل الأنصاري النجاري، من أصحاب العقبة الثانية، سيد القراء، شهد بدرا والمشاهد، توفي سنة (20) أو (19) أو (22) وقيل غير ذلك. انظر الإصابة في تمييز الصحابة1/16-17.
6 الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ أي المشدوخ، ويطلق الفضيخ على البسر وعلى التمر وعلى الخليط منهما، والزَّهْو: البسر الذي يحمر أو يصفر. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الجزري2/323 وفتح الباري10/38.
فالمعنى: أسقيهم شرابا خليطا من بسر وتمر.
الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فاهرقها، فهرقتها"1، فأتلفوا مالهم الذي كان لهم حلالا يقينا بخبر واحد.
ز- بل إن الصحابة أثبتوا بأخبار الآحاد الفروض والشرائع والتحليل والتحريم وجعلوا ذلك دينا يدان به، كما في إثبات أبي بكر الصديق رضي الله عنه ميراث الجدة بخبر محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة، وذلك فيما روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما جاءته الجدة تسأل ميراثها، قال لها: ما لكِ في كتاب الله شيء وما علمت لكِ في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم سأل الناس فأخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فأنفذه لها2.
وأثبت عمر بن الخطاب3 رضي الله عنه دية الجنين بخبر حمل بن مالك4،
1 رواه البخاري ومسلم. انظر صحيح البخاري مع فتح الباري10/37 وصحيح مسلم 3/1572، وفي رواية مسلم قول أبي طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرة فاكسرها، قال أنس: فقمت إلى مِهْراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت.
2 رواه أبو داود في سننه 8/100-101 والترمذي 8/251-252 وابن ماجه في سننه2/909-910. قال أبو عبد الله الحاكم في المستدرك4/339: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير3/95: "وإسناده صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسل"، وضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني وتعقب الحاكم والذهبي وابن حجر في تصحيحهم للخبر. انظر إرواء الغليل6/124-125 وضعيف سنن ابن ماجه ص218-219. لكن عليه العمل وسبق ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
3 هو عمر بن الخطاب بن نفيل أبو حفص القرشي العدوي، أمير المؤمنين وخليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهما، أحد المحدثين، توفي سنة (23) هـ. انظر الإصابة في تمييز الصحابة 4/279-280 وأسد الغابة لابن الأثير الجزري4/145-181.
4 هو حمل بن مالك بن النابغة بن جابر أبو نضلة الهذلي، صحابي عاش إلى خلافة عمر. انظر الإصابة في تمييز الصحابة2/38-39.
وأثر عمر رضي الله عنه فقد أخرجه النسائي 8/47 وأبو داود 12/314 وابن ماجه 2/882. وصححه الألباني، انظر صحيح سنن ابن ماجه 2/97.
أما حكم دية الجنين فقد رواه مسلم في صحيحه (3/1309) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
وأثبت ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الضحاك بن سفيان1 وحده رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وذلك في حديث سعيد بن المسيب2 قال:"كان عمر يقول: الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا، حتى قال الضحاك بن سفيان: كتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ورِّث امرأة أشيم الضبابي3 من دية زوجها، فرجع عمر"4.
فكل أولئك لم يرتبوا على تلك الأخبار ما رتبوا من أمور ذات خطر عظيم وهم يجوزون أن تكون تلك الأخبار كذبا5.
1 هو الضحاك بن سفيان بن عوف أبو سعيد الكلابي، قيل كان سيافا للرسول صلى الله عليه وسلم قائما على رأسه متوشحا بسيفه. انظر الإصابة في تمييز الصحابة3/267.
2 هو سعيد بن المسيّب بن حزن أبو محمد القرشي المخزومي، من أفضل التابعين علما وفضلا وهو عند بعض العلماء أفضلهم مطلقا، أحد السبعة الفقهاء في المدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع، وفاته بين عام (91) وعام (95) . انظر وفيات الأعيان 2/375-378 وتهذيب التهذيب 4/84-88.
3 هو أَشْيَم الضِبابي، صحابي قتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. انظر الإصابة في تمييز الصحابة 1/51-52.
4 رواه أبو داود 8/144-145 والترمذي 4/425-426 وقال: "حديث حسن صحيح". وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني، انظر صحيح سنن أبي داود 2/565.
5 انظر مختصر الصواعق المرسلة2/404.
ويرد على وجه الاستدلال بما سبق على أن خبر الواحد يفيد مطلقا العلم القطعي أمور:
منها: أن ما نقل هو عملهم بخبر الواحد، ووجوب العمل بخبر الواحد ليس هو محل النزاع هنا، لأن الراجح أن خبر الواحد إذا صح بنقل العدول والاتصال لزم العمل به، مهما كان الحكم الذي يفيده قد بلغ من الخطورة والعظم، سواء أفاد القطع عند المستدل أم لم يفد، كيف ويجوز إثبات الحدود التي فيها القطع وهتك العرض - بالقياس عند كثير من العلماء1 مع أن القياس قد لا يقطع به.
ومنها: أنه ليس فيما نقل من الوقائع ما يدل على أن الذين عملوا بتلك الأخبار قد قطعوا بمدلولها، بل قد يكون ذلك جاريا على ما استقر في العادة من وجوب العمل بالظواهر في المعاملات والأقضية عند اعتقاد الرجحان من دون قطع.
ومنها: أنه ليس في تلك الوقائع أنه لم يكن مع الأخبار التي فيها قرائن القطعية.
فما يفيده هذا الدليل هو حجية خبر الواحد ولزوم العمل بما يفيده مهما كان من العظم، وليس يلزم إذا عمل بالخبر في أمر عظيم أن يكون العامل به قد
1 انظر العدة4/1409 المحصول5/349-350. وهو خلاف مذهب الحنفية، انظر التحرير مع التيسير4/103.
قطع بمدلوله وحصل عنده يقين جازم بمغيبه. والله تعالى أعلم.
القول الثالث: أن خبر الواحد الواجب العمل به في الشرع قد يفيد العلم القطعي إذا احتف به قرائن القطعية، وذلك كتلقي الأمة له بالقبول والعمل وكون رواته من المجمع على عدالتهم ورجوع الخبر في معناه إلى القرآن الكريم، ونحو ذلك من المعززات للخبر في سنده ونقَلَته أو في معناه ومتنه، فكل ذلك لا يزال يُبعد احتمال الكذب والنسيان ونحوهما عن رواته ويُقصي احتمال الوهم والخطأ ونحوهما في متنه ومعناه بما يعزز ثبوته حتى تستقر في مثل هذا الخبر القطعية عند المطلع على ذلك ويتيقن نفي كل احتمال في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم1.
رجوع أقوال العلماء إلى القول الثالث:
وهذا القول هو الذي يرجع إليه - بعد التحقيق - قول أكثر العلماء، يستفاد ذلك ليس من إطلاقاتهم فقط ولكن منها ومن استدلالاتهم وردودهم وأجوبتهم عند المناقشة، ولكي يتبين هذا التحقيق ينبغي توضيح أمرين: تحقيق المراد بالقرائن ههنا، ثم أن مذهب أكثر العلماء راجع إلى الإقرار بهذا القول على الجملة.
1 وهذا هو النوع المقيد من نوعي القطعية أي الذي قد لا يقطع به بعض المستدلين الناظرين في الدليل بسبب أن القطعية نتيجة قرائنها الزائدة عن حد الحجية في الدليل.
الأمر الأول: قرائن القطعية في كل دليل تكون من جنس ما يجعل ذلك الدليل أقوى في الثبوت أو في الدلالة، وليس كل ما يفرض من قرائن يمكن أن يقوّي كل دليل، فليست قوة إسناد القياس إلى المجتهد القائس بمقوٍّ له، وإنما الذي يقويه هو ما من شأنه أن يقوي ثبوت كون الوصف علةَ الأصل أو يقوي وجودها في الفرع.
والمراد بقرائن القطعية في خبر الواحد هنا كل ما من شأنه أن يقَوّي الخبر في ثبوته وينفي عنه احتمالات النسيان والخطأ والوهم أو الكذب مما ليس لازما للخبر المقبول شرعا كالعدالة والاتصال، فتكون قرينة القطعية هنا أخص من مطلق القرائن التي يمكن احتفافها بالدليل1، بل وأخص من مطلق القرائن التي يمكن أن تحتف بمطلق خبر الواحد، لأن المراد هنا خبرُ واحدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقرائن هنا ما كان من قبيل الأمور المتعلقة برجال السند من قوة أو كثرة والأمور المتعلقة بما يعزز الحكم الذي أفاده الخبر كأن يوجد في معناه آية أو خبر آخر.
وجعل الحافظ ابن حجر رحمه الله الخبر المحتف بالقرائن راجعا إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: خبر الصحيحين أي صحيح الإمام أبي عبد الله
1 انظر الكلام على القرائن مطلقا ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
البخاري1 وصحيح الإمام مسلم بن الحجاج2رحمهما الله، وذلك لما لكتابيهما من مزايا وخصائص عند المسلمين.
النوع الثاني: خبر دون المتواتر له طرق متعددة مشهورة.
النوع الثالث: خبر تسلسل في روايته الأئمة الحفاظ المتقنين وتعاقب في نقله من المشهود لهم بالأمانة والورع والتقوى والفضل والحفظ والإتقان.
ثم نبه الحافظ على أن تلك القرائن لو اجتمعت في خبرٍ واحد فإن ذلك يضفي عليه من القوة ما قد يُسرع كثير ممن وقف عليها إلى القطع بذلك الخبر3.
هذا، ويقع التمثيل في كثير من كتب الأصول ببعض أنواع القرائن التي تحتف بالخبر: مثل خروج والد الذي أَخبر العدل عن وفاته حاسرَ الرأس حافي القدمين وما يتلو ذلك من مشاهدَ غيرِ معتادة في نفسه وحشمه4،
1 هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم أبو عبد الله البخاري، من أئمة الإسلام في حفظ الحديث وإتقانه، صنف الجامع الصحيح (صحيح البخاري)، ومن تصانيفه:(التاريخ) و (الضعفاء) ، و (خلق أفعال العباد) ، و (الأدب المفرد) ، توفي سنة (256) هـ. انظر وفيات الأعيان 4/188-191، وتذكرة الحفاظ للذهبي 2/555-556، والأعلام6/258-259.
2 هو مسلم بن الحجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري، من أئمة الإسلام في حفظ الحديث وإتقانه، من تصانيفه: صحيحه، والعلل، وغيرهما، توفي سنة (260) هـ. انظر وفيات الأعيان لابن خلكان 5/194-195 وتذكرة الحفاظ للذهبي2/588-590.
3 انظر نزهة النظر ص76-78.
4 انظر المستصفى 2/145 وإحكام الأحكام للآمدي 1/278-279.
ونحو ذلك من القرائن.
والظاهر أن المقصود من ذلك تقريب صورة قرائن القطعية في الخبر، وإلا فلا يظهر كيف يمكن أن تحتف عين هذه القرائن أو مثلها بخبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتطريق الاحتمالات إلى مثل هذه القرائن التي وقع التمثيل بها بذكر أمور قد تقع في بعض الأزمان المتأخرة وفي شئون هذه الدنيا حيث الأطماع والأغراض
…
لا ينفي ذلك كون قرائن القطعية في خبر الواحد الذي هو من الأدلة الشرعية التي يثبت بها الحلال والحرام
…
مفيدةً العلم القطعي لمن وفّقه الله للوقوف عليها وأنار قلبه لاستنباط اليقين منها1.
1 وذكر الدكتور محمد حسن هيتو في كتابه الوجيز في أصول التشريع (ص315) أنه كان يؤيد القول بقطعية الخبر مع القرائن لكنه رجع عن ذلك، وعلل رجوعه عن ذلك بأن "وقائع الحياة التي نراها أصبحت تشكك الإنسان في كثير من مثل هذه المظاهر"، ثم استشهد على ذلك بما يجري اليوم في العالم من تمويهات وكذب تحف بها القرائن الموهمة الصدق عمدا، وانتهى قائلا:"لا أريد أن أنفي احتمال حصول العلم به فالاحتمال وارد إلا أن نطاقه ضيق جدا ويكاد يكون محالا والأصل عدمه".
وهذا إن كان الكلام فيه في مطلق الخبر في كل عصر فلا يبعد أن يكون له وجه، ولكن الظاهر أنه لا يَرِد فيما فيه البحث هنا لأن الكلام في هذا البحث عن الخبر الذي هو دليل شرعي وهو خبر العدل عن مثله متصلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في البشارة والنذارة والحلال والحرام والأمر والنهي
…
فلا يظهر كيف يؤثر في مثل هذا الخبر وقرائنه الخاصة به ما يجري اليوم من وقائع التضليل والكذب وإن لم يأل واضعوها جهدا في تصنيع القرائن الكثيرة لتعزيزها، فهذا غير ذاك. والله تعالى اعلم.
الأمر الثاني: ويبين أن هذا القول الوسط هو الذي يرجع إليه قول كثير من العلماء أمور منها:
أولا: أنه قد تجد أحدهم عند الكلام على المسألة المعقودة لقطعية خبر الواحد يوحي كلامه بالنفي المطلق، ثم تجده في مواضع أخرى يذهب إلى أن خبر الواحد يفيد العلم القطعي إذا تلقته الأمة بالقبول أو كان بحضرة جماعة كثيرة لم ينكروا سماعه ممن ادعى سماعه منه أو نحو ذلك مما قد لا يسميها قرينة، مع أن كل ذلك أمور زائدة على مطلق خبر الواحد، فهي داخلة في المراد بالقرائن ههنا1.
ثانيا: أنه قد ينفي أحدهم قطعية خبر الواحد مع قرائن معينة من غير أن يدل كلامه على نفي أصل قطعية خبر الواحد مع القرائن2، لذا قال القرافي لما أورد اعتراضا على قطعية خبر الواحد بوقوع قرائن كثيرة مع أخبار لم تفيد القطع:"إنا نمنع أن الحاصل من تلك الصور علم بل اعتقاد، ونحن لا ندعي أن القرائن تفيد العلم في جميع الصور بل في بعضها"3.
1 انظر مثلا العدة لأبي يعلى3/904 ثم 3/898، وإحكام الفصول للباجي ص323-324 ثم 330، وشرح اللمع للشيرازي2/579-580، والوصول إلى الأصول لابن برهان 2/174 ثم 2/90، 150.
2 انظر إحكام الفصول للباجي ص236 والتمهيد لأبي الخطاب3/79-80 والوصول لابن برهان 2/174.
3 شرح تنقيح الفصول ص355.
ثالثا: أنه تجد أحدهم قد توهم عباراته بالإثبات المطلق في مواضع ثم تجده في مواضع أخرى يبين أن سبب القطعية بعض الأمور التي خفيت على من نفى القطعية، ولا يمكن أن تكون تلك الأمور إلا زائدة على مطلق خبر الواحد الحجة.
فهذا ابن القيم لما استدل بقصة قباء على قطعية خبر الواحد قال: "وغاية ما يقال أنه خبر اقترنته قرينة
…
ومعلوم أن قرينة تلقي الأمة له بالقبول وروايته قرنا بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها، فأي قرينة فرضتها كانت تلك أقوى منها"1، بل جاء مصرحا في مختصر الصواعق المرسلة أن الكلام في هذه المسألة "في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول وعملت بموجبه وأثبتت به صفات الرب وأفعاله"2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والصحيح أن خبر الواحد قد يفيد العلم إذا احتف به قرائن تفيد العلم
…
ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يَعلم علماء الحديث علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله تارة لتواتره وتارة لتلقي الأمة له بالقبول
…
وتارة يكون علم أحدهم لقرائن تحتف بالأخبار توجب
1 مختصر الصواعق المرسلة2/394.
2 المرجع السابق2/368، وذكر في موضع آخر قرائن القطعية في الخبر وأنها راجعة في الجملة إلى الأمور المتصلة بالمخبِر والمحبَر عنه والمخبَر به والمخبرَ المبلَّغ. انظر ذلك مع التفصيل في مختصر الصواعق المرسلة 2/377-380.
لهم العلم، ومَن عَلِم ما علموا حصل له من العلم ما حصل لهم"1.
فتعليق القطعية في خبر الواحد بأمور اطلع عليها القاطع بالخبر وجهلها من لم يقطع به - دليل على أن القطعية ليست مطلقة، بل سببها تلك الأمور وهي قرائن القطعية في خبر الواحد بمعناها المناسب هنا.
وبهذا النظر خرّج القاضي أبو يعلى الفراء قول الإمام أحمد بن حنبل في المسألة فحمله على أن مراده بالخبر القطعي خبرٌ نقله آحاد الأئمة المتفق على عدالتهم وثِقَتهم وتلقته الأمة بالقبول2.
وبه أيضا ذهب الشيخ أبو عمرو بن الصلاح إلى أن ما أسنده البخاري ومسلم في صحيحيهما يفيد العلم القطعي، "لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ"3.
1 مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 18/40-41، وانظر ما ذكره الشيخ أحمد
شاكر في الباحث الحثيث ص34.
2 انظر العدة3/900-901، وانظر شرح مختصر الروضة2/103-104.
3 مقدمة ابن الصلاح ص101، وقال ابن الصلاح في موضع آخر (المقدمة/79) : "إذا وجدنا فيما يروى من أجزاء الحديث وغيرها حديثا صحيح الإسناد ولم نجده في أحد الصحيحين ولا منصوصا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة - فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته
…
فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد".
فهذا يبين أن القطعية في خبر الواحد هي بأمور زائدة على مجرد ما هو المعتبر في الحجية من الصحة المستندة إلى ظاهر الإسناد، وذلك ما يحتف به من قرائن القطعية كأن يريه الأئمة الأعلام ويتلقوه بالقبول أونحو ذلك.
وذكر الزركشي أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفرائيبي سبق ابن الصلاح إلى القول بقطعية خبر الصحيحين، انظر سلاسل الذهب/420-421.
وبه رَدَّ النووي ما ذكره ابن الصلاح وخالفه، لأنه لم ير قرينة رواية الشيخين للحديث بالغة قدرا يفيد مع الخبر العلم القطعي، لذا قال معقبا على ما ذكره:"ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم"1.
وبه صحَّح الحافظ ابن حجر وغيره مذهب ابن الصلاح وردّ ما ذكره النووي بأنهم إذا أجمعوا على العمل به ولم يكن صحيحا كانوا قد أجمعوا على العمل بالباطل، وذلك غير ممكن2.
فكل ذلك من باب الخلاف في قرينة معينة هل هي من قرائن القطعية أم لا؟
رابعا: أن الحافظ ابن حجر جعل الخلاف في قطعية خبر الواحد لفظيا، بناء على أن العلم الذي أثبته القائل بالقطعية ليس هو العلم الذي نفاه غيره فلم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد، وذلك أن المثبت في رأي الحافظ أثبت علما نظريا حاصلا عن استدلال والنافي نفى علما قطعيا3، لذا
1 شرح مسلم للنووي1/19-20.
2 انظر النكت على ابن الصلاح لابن حجر1/378، وانظر تأييد ابن كثير لابن الصلاح في اختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث ص33.
3 انظر نزهة النظر ص73.
فهو يفرق في العبارة بين أن يقال: إن خبر الواحد يفيد العلم النظري وبين أن يقال: إنه يفيد العلم اليقيني القطعي، وذكر أن خبر الصحيحين يفيد الأول دون الثاني لأن خبرهما يقبل الترجيح قال:"فلو كان الجميع مقطوعا به ما بقي للترجيح مسلك"1.
وهذا - وإن كان قد لا يُسلم أن الخلاف لفظي2 - يدل على أن أقوال العلماء في هذه المسألة تتقارب، إذا حقق النظر في حقيقة كل قول.
خامسا: أن القول بأن خبر الواحد قد يفيد العلم مع القرائن في الجملة هو اختيار طائفة من مشاهير علماء أصول الفقه من المتكلمين وغيرهم،
1 النكت1/379.
2 قال الزركشي في البحر المحيط4/266 منبها بعد مسألة قطعية خبر الواحد: "زعم جماعة أن الخلاف في هذه المسألة لفظي، وليس كذلك بل هو معنوي"، ثم ذكر للخلاف فيها فائدتين: أولاهما أنه على القول بالقطعية يكفر جاحد خبر الواحد ولا يكفر على القول الآخر، والأخرى أنه على القول بعدم القطعية لا يقبل خبر الواحد في أصول الديانات ويقبل فيها على القول بالقطعية. انتهى قول الزركشي.
أما التكفير فإن من يرى أن قطعية خبر الواحد ليس من النوع الذي يجب أن يشترك جميع المجتهدين فيه لانبنائها على القرائن التي ربما خفيت على بعضهم لم يكفر جاحد الخبر على ذلك، على أن التكفير لا بد فيه من إقامة الحجة والبيان وذلك أمر زائد على مجرد القطعية. انظر الكلام على التكفير ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
وأما الفائدة الثانية فإنها مبنية على أن (أصول الدين) لا يستدل فيها إلا بالقطعي، وقد سبق ما في ذلك وأنه غير مسلم، انظر مبحث قطعية أصول الفقه ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
منهم الجويني1 والغزالي2 والرازي3 والآمدي4 وغيرهم5، وذكر الزركشي أن قطعية خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول هو قول كثير من الأصوليين6.
وقد يرد لأولئك عبارات تشير إلى خلاف ما سبق عنهم، وذلك محمول إما على الخلاف في قرائن معينة وإما على الوفاق في أصل المسألة مع عدم القول بالوقوع لقلة التجربة.
فمن ذلك أن الغزالي قال مشيرا إلى المسألة: "أما إذا اجتمعت قرائن فلا يبعد أن تبلغ القرائن مبلغا لا يبقى بينها وبين إثارة العلم إلا قرينة واحدة ويقوم إخبار الواحد مقام تلك القرائن" قال رحمه الله: "فهذا مما لا يُعرف استحالته ولا يُقطع بوقوعه فإن وقوعه إنما يعُلم بالتجربة ونحن لم نُجَرِّبه7،
1 انظر البرهان1/373-374.
2 انظر المستصفى2/145.
3 انظر المحصول4/284.
4 انظر الإحكام في أصول الأحكام2/374، وانظر نسبة القول بالقطعية مع القرائن إليهم في البحر المحيط4/274 والنكت على مقدمة ابن الصلاح لابن حجر1/377.
5 انظر الوصول إلى الأصول لابن برهان2/90-150 وشرح تنقيح الفصول/355 وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب2/55-56 وشرح مختصر الروضة2/108 والتحرير لابن الهمام مع التقرير والتحبير لابن أمير الحاج2/268.
6 انظر البحر المحيط4/244.
7 ومن هنا يتبين الفرق في هذه المسألة بين المشتغل بالأحاديث المتضلع في النظر في طرق الرواية والشواهد والمتابعات وبين من قلّت بضاعته في ذلك، وفي قول الغزالي رحمه الله من الإنصاف إشارة عظيمة.
ولكن قد جربنا كثيرا مما اعتقدنا جزما بقول الواحد مع قرائن أحواله ثم انكشف أنه كان تلبيسا"1.
ومن ذلك أن عبد العلي الأنصاري2 استَبْعَد تحققَ قرائن القطعية في خبر الواحد مع التسليم بجواز احتفاف قرائن القطع به، فقال في بيان أنواع القرائن التي يمكن أن تحتف بالخبر: "
…
وإن كانت القرائن قرائن صدق المخبر فإن كانت دالة عليه قطعا فإذا أخبر مع وجود تلك القرائن حصل القطع بصدق الخبر وتحقق مضمونه قطعا"قال: "لكن الكلام في تحقق مثل هذه القرائن في غير المعصوم وأهل الإجماع، فإنه لم يدل دليل على تحققها في مادة من المواد فلا بد من إثبات تحققها، ودونه خرط القتاد"3.
1 المستصفى2/146-147، وللخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم خاصية ليست لخبر الناس عن بعضهم.
2 هو عبد العلي بن نظام الدين بن قطب الدين، الأنصاري السهالوي اللكنوي، لقِّب ببحر العلوم وملك العلماء، فقيه أصولي متكلم، من تصانيفه: فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، والأركان الأربعة في الفقه، وحواشي على شرح المواقف، وشرح سلم العلوم مع المنهيات، توفي سنة 1225 هـ. انظر نزهة الخواطر وبهجة المسامع والمناظر للشريف عبد الحي الحسني 7/282-287.
3 فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت2/122.
وقوله: "دونه خرط القتاد"من الأمثال العربية يضرب به للأمر الذي دون تحققه مانع.
و (الخَرْط) قشر الورق وحتّه وهو أن تقبض على أعلاه ثم تمر يدك عليه إلى أسفله، وأما (القَتاد) فشجر له شوكة حجناء (أي معقوفة الرأس) وقصيرة. (انظر المحكم لابن سِيده6/182 (في معنى القتاد) ، والصحاح للجوهري3/1122 (في معنى الخرط) ، وانظر المثل في مجمع الأمثال للنيسابوري الميداني1/265.
ووجه المثل: أن القتاد دون خرطه مانع الشوك المعقوف، وكذا ما ادُّعِي هنا من المنع من تحقق القطعية في خبر الواحد، والجواب أن غاية ما في ذلك المطالبة، وقد قطع الحفاظ وأئمة الحديث بما لم يقطع به غيرهم كما تبين في هذا المبحث.
ومن اللطائف في هذا المثل أن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر هذا المثل نفسه في معرض الرد على دعوى عدم قطعية الدليل السمعي مطلقا فقال: "لكن كون السمعي لا يكون قطعيا دونه خرط القتاد"(درء تعارض العقل والنقل1/80) ، فوقع المثل في كلام الذي يستبعد وقوع القطعية مطلقا في خبر الواحد والذي يستبعد نفي القطعية مطلقا عن الأدلة السمعية.
فتبين أن أصل جواز أن يكون مع الخبر قرائن القطعية مسلم عند كثير من العلماء، وإن كانوا ربما نفوا القطعية مع قرائن معينة أو مثلوا ببعض القرائن التي يمكن احتفافها بمطلق الخبر لا خبر الواحد العدل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استبعدوا اجتماع قرائن القطعية لانتفاء التجربة.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: أن مجرد الخبر قد يفيد العلم بدون قرائن وذلك عند كثرة المخبرين كما في الخبر المتواتر، والقرائن المجردة قد يفيد العلم أيضا وإن لم يكن معها خبر، وذلك كما إذا رأينا شخصا يكثر من النظر إلى آخر مستحسَن فإنا نظن حبه له، فإذا اقترن بذلك ملازمته له زاد الظن، ولا يزال الظن يتزايد بزيادة خدمته له وبذل ماله له وتغير حاله بسببه إلى غير ذلك من
القرائن حتى يحصل العلم بحبِّه، كما في تزايد الظن في أخبار الآحاد حتى يصير تواترا"، فلا يبعد أن تنضم القرائن إلى الأخبار فيعزز بعضها بعضا وتقوم بعض القرائن مقام بعض المخبرين فيكون كالكثرة في الأخبار.
ومن ذلك أيضا أنه قد يخبر عدد من المخبرين عن موت ولد ولا يحصل العلم بصدقهم "لكن إذا انضم إلى خبرهم خروج والد المخبَر عن موته من الدار حاسر الرأس حافي الرجل ممزق الثوب مضطرب الحال يصفق وجهه ورأسه وهو رجل كبير ذو منصب ومروءة لا يخالف عادته ومروءته إلا عن ضرورة - فيجوز أن يكون هذا قرينة تنضم إلى قول أولئك فتقوم في التأثير مقام بقية العدد".
كما أن القرائن قد تكون من الكثرة قد بلغت حدا لم يبق بينها وبين إفادتها العلم القطعي إلا قرينة واحدة فيقوم إخبار الواحد مقام تلك القرينة1.
الدليل الثاني: الوقوع أي أنه قد وقع العلم بالخبر المحتف بالقرائن:
- وأشرف ما وقع من ذلك وألصقها بالمسألة حصول العلم القطعي ببعض الأحاديث غير المتواترة لأهل الحديث وغيرهم ممن اطلع على ما اطلعوا من القرائن التي ترجع إلى طرق الحديث وعددها ورواته
1 انظر المستصفى2/145 والإحكام في أصول الأحكام للآمدي1-2/278-279.
واختلاف مخارجه وموقف العلماء قاطبة من الخبر ونحو ذلك1.
- ومن ذلك أيضا إذا أخبر واحد مع كمال عقله وحسه بحياة نفسه وكراهيته الألم وهو في أرغد عيشه نافذ الأمر قائم الجاه - أنه قتل من يكافئه عمدا وعدوانا بآلة يقتل مثلها غالبا من غير شبهة له في قتله ولا مانع له من القصاص، كان خبره مع هذه القرائن موجبا صدقه عادة2.
- ومن ذلك أنه قد يعلم كون الشخص خجلا أو وجلا بقرائن تكون عليه3.
- ومن ذلك أن المريض قد يخبر عن ألم في بعض أعضائه مع أنه يصبح وتُرى عليه علامات ذلك الألم ثم إن الطبيب يعالجه بعلاج لو لم يكن صادقا في قوله لكان ذلك العلاج قاتلا له، فيحصل العلم بصدقه في خبره عن الألم في عضوه4.
الدليل الثالث: أن مدار نفي القطعية في الخبر على احتمال الخطأ أو الوهم أو الكذب في المخبِر لعدم عصمته، والقرائن التي تحتف بالخبر تؤثر في إزالة هذا الاحتمال ورفعه حتى يصبح احتمال كذب المخبِر العدل مع تلك
1 انظر مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم 2/357، وقد سبق الكلام على ذلك في مواضع كثيرة من هذا المبحث.
2 انظر الإحكام للآمدي 2/279.
3 انظر البرهان للجويني1/373 والمحصول للرازي4/284.
4 انظر المحصول كما سبق.
القرائن بعيدا مطرحا قريبا من احتمال كذب الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فيما أخبروا1.
الدليل الرابع: أن هناك قرائن معينة لا يمكن أن تكون كذبا حتى لو انفردت، فكيف إذا كانت مع خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل تلقي الأمة للخبر بالقبول والعمل فإن ذلك لا يكون إلا حقا، لأنهم وإن استند كل واحد إلى ظن فباجتماعهم يتقوّى ظنهم2.
الراجح:
بعد ذكر الأقوال وأدلتها وما أمكن من إيراد الاعتراض على بعضها يظهر - والله أعلم - أن الراجح في هذه المسألة هو القول الثالث، وهو أن خبر الواحد العدل المتصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قد يفيد العلم القطعي إذا احتفت به من قرائن القطعية قدر يكفي الناظر في الخبر وتلك القرائن من القطع واليقين بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قاله وأن نقلة الخبر لم يهموا ولا نسوا فيه، بل أدَّوْه كما سمعوا كلٌ ممن نقل عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يلزم أن يكون مثل هذا القطع حاصلا لكل أحد سمع الخبر مجردا
1 انظر مختصر الصواعق المرسلة2/359،409.
2 انظر مجموع فتاوى ابن تيمية18/44-45 ومقدمة ابن الصلاح ص101.
وانظر مختصر الصواعق المرسلة 2/334 والموافقات للشاطبي 3/16-17 فقد ذكرا طرفا من القرائن المقوية.
من قرائن القطعية أو وقف منها على قدر لا يكفيه في القطع بالخبر واليقين، فلا عليه عندئذ أن يكتفي باعتقاد الرجحان والظن الغالب الموجب للحجية ووجوب العمل، فإن العلم في مثل هذا منة من الله وفضل، وقد أوجب جلت حكمته العملَ بما دون ذلك.
فالقطعية في خبر الواحد من القطعية المقيدة التي لا يلزم اطرادها لجميع من وقف على الدليل، ذلك أن سبب القطعية ليس الخبر وحده حتى يكفي مجرد سماع الخبر المحتج به في أن يقطع السامع، بل سببها الخبر مع قرائن القطعية التي يحتاج الناظر للاطلاع عليها إلى جهد واستقراء وبحث عن الرجال والطرق والشواهد.
ولا مجال هنا للعقل المجرد عن شهادة الواقع أو الشرع ليطرّق إلى القطعية من هذا النوع الاحتمالات العقلية التي لا تشهد لها العادة بالوقوع
1، لأن القطعية التي تسببها القرائن هنا من القطعيات العادية.
والذي يؤيد هذا القول أمور:
منها: أنه المذهب الذي تجتمع عنده الأدلة وتنتظم في نظامه الشواهد، فأقرب دليل على نفي القطعية أن العصمة منتفية عن رواة الأخبار، ومع انتفاء العصمة يرد احتمال الخطأ والكذب حتما، ومع وروده يرتفع القطع واليقين.
1 وذكر الزركشي في البحر المحيط 4/241 أن قطعية المتواتر عادية، وانظر أثر الاحتمال في القطعية ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
فيقال: إن ذلك احتمال عقلي في مطلق الخبر الذي يرويه مطلق العدل، أما إذا كان المراد خبر الواحد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحب ذلك الاطلاع على خاصة الرواة وأحوالهم وسِيَرهم وما كانوا عليه من الصلاح والضبط والإتقان والحفظ وعزّز ذلك ورود الخبر من طرق أخرى مع تلقي الأمة له بالعمل
…
فإن ذلك يرفع الاحتمالات ويتركها ضعيفة بعيدة في ضعف أوائل الإمكان، فلا يصيب هذا الدليل القول بقطعية خبر الواحد مع قرائنها، لوروده على خبر مطلق غير محفوف بقرائن.
ومن أقرب أدلة القول بالإثبات المطلق: أن الخبر المقبول شرعا الذي يجب العمل به إذا احتمل أن يكون كذبا أو وهما لزم من ذلك ضياع الحفظ المضمون للذكر وبيانه وكان تقولا على الله بغير علم.
فيقال: إن تلك اللوازم لا تلزم على مجرد خبر الواحد، بل على خبر واحد تعزز بتلقي الأمة له بالقبول والعمل به، وذلك خبر واحد مع قرينة التلقي بالقبول.
ومنها: أن هذا القول هو الذي يرجع إليه قول كثير من العلماء، إذا اعتبر بلواحق كلامهم وقرائنه وسوابقه والله تعالى أعلم.
أثر اختلاف منهج البحث في المسألة:
ويبقى هنا التنبيه على أمر قد يكون من سبب انتشار الخلاف في هذه المسألة، وهو أنه ربما تكون المسألة مبنية على اختلاف في منهج البحث في
قواعد الأدلة الشرعية:
وهو أن نفي قطعية خبر الواحد مبني على النظرة التجريدية إلى أصول الفقه وأدلته عند تأصيل القواعد المتعلقة بتلك الأصول والأدلة، وإثبات القطعية ربما كان مبناه النظرة الشاملة للأدلة وأصول الفقه عند تأصيل قواعد الأدلة، أي النظر في القرائن واستقراء ملابسات الدليل أو القاعدة والنظر إلى جميع ما من شأنه أن يبين ذلك من الجزئيات والمقاصد الشرعية.
والنظر الأول هو الغالب في كتابات المتكلمين ومن نهج طريقتهم في أصول الفقه، فيكثر عندهم نفي القطعية ويعنون بذلك مطلق خبر واحد عدل، بل ربما أُخِذ من كلام بعضهم أنه ينازع في مطلق خبر واحد عدل أو فاسق1.
والنظر الثاني هو نظرة من يأخذ في الاعتبار شواهد الدليل ويستقرئ قرائنه عند الكلام عليه، ومحققو المحدثين - ممن ينظر في الشواهد والمتابعات2 وأحوال السند والطرق المختلفة للأخبار - يقفون على القرائن الكثيرة المعززة للخبر، فيكثر عندهم القول بقطعية خبر الواحد ويعنون به خبرَ واحدٍ احتف به قرائن اطلعوا عليها3، وهذا النظر من أهم خصائص منهج الإمام
1 انظر تحرير محل النزاع في مطلع هذا المبحث.
2 قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح في الاعتبار والشواهد والمتابعات: "هذه أمور يتداولونها في نظرهم في حال الحديث هل تفرد به راويه أو لا وهل هو معروف أو لا؟ ". مقدمة ابن الصلاح ص182، وانظر دليل أرباب الفلاح للشيخ حافظ الحكمي ص17-18.
3 والتقييد بالتحقيق في علم الحديث لأن من ينظر في الأحاديث قد يقع في خطأ آخر وهو القطع بخبر لم تحتف به قرائن القطعية، فهو يقطع اعتمادا على ظاهره فقط دون التحقيق، والقطع بدليل دون موجبه خطأ.
وأشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (13/352-354) إلى طرفي الناس الواقعين في الخطأ في هذا قائلا: "والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله لا يميز بين الصحيح والضعيف فيشك في صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به، وطرف آخر ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظاً في حديث قد رواه ثقة أو رأى حديثا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم به أهل العلم بصحته حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة أو يجعله دليلا في مسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط".
فدل ما ذكره رحمه الله في الطرف الثاني أنه لا يجوز القطع بأخبار لم تحتف بها قرائن تفيد القطع في الأخبار ولا جعلها في مصاف الأحاديث القطعية المجزوم بحقيقة الأمر فيها وإنما الواجب فيها اعتقاد الظاهر منها دون القطع لعله يتبين الأمر فيها بالتحقيق، وأن المسائل التي فيها أدلة شرعية مفيدة للعلم لا يستدل فيها بأخبار لم يعلم صحتها إلا من ظاهر أسانيدها دون النظر في التحقيق فيها وهو تتبع القرائن وقول أهل الشأن في علم الحديث، فقد يكون الخبر ظاهر الصحة بالنظر إلى إسناده ويكون فيه علة خفية قادحة.
أبي إسحاق الشاطبي1 - رحمه الله تعالى - في بحث أصول الشريعة وقواعدها. والله تعالى أعلم.
1 انظر مرتقى الوصول إلى تأريخ علم الأصول تأليف د. موسى بن محمد القرني ص35-36. ومن الأمثلة التطبيقية في بيان هذا المنهج في النظر في الأدلة والقواعد الكلية الطريقةُ التي اتبعها الشاطبي في مسألة قطعية العموم والقواعد المتعلقة بالعام، فهي مغايرة لمناهج بحث هذه المسألة في كتب الأصول. انظر الموافقات 3/260-307، وحلل د. عابد بن محمد منهج الشاطبي في هذه المسألة تحليلا يشتمل على بيان أمور كثيرة مفيدة في منهج الشاطبي عموما، انظر الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية ص320-354.