الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الخامسة والخمسون: ينزّل المجهول منزلة المعدوم وإن كان الأصل بقاؤه إذا يُئس من الوقوف عليه أو شق اعتباره
.
أورد هذه القاعدة ابن رجب1 بهذه الصيغة، وذكرها ابن تيمية أيضا2، وذكرها ابن سعدي بصيغة أخص حيث قال:"إذا تعذر معرفة من له الحق جعل كالمعدوم"3، وقد تقدمت قاعدة أعم منها وهي:((ينزل غالب الظن منزلة اليقين)) .
معاني المفردات:
المجهول: اسم مفعول من جهل، وقد تقدم بيان معناه.
المعدوم: اسم مفعول من عَدِم، والعدم: وهو الفَقْد4.
1 القواع دله ص237.
2 انظر: مجموع الفتاوى 29/262، 323.
3 انظر: القواعد والأصول الجامعة ص60.
4 انظر: الصحاح 5/1982 (عدم) .
المعنى الإجمالي:
معنى هذه القاعدة أن ما يكون مترددا بين الوجود والعدم، ويجهل المكلف حاله ويعسر أو يستحيل عليه العلم به ويكون الحكم الشرعي فيه مبنيا على وجوده أو عدمه، فإنه ينزّل في حق هذا المكلف منزلة المعدوم فيُجزي الحكم الشرعي فيه كما لو كان غير موجود حقيقة وإن كان الأصل بقاؤه أو وجوده وذلك إذا غلب على ظنه بعد البحث والتحري عدم الوجود.
على أنه لابد من بيان أن غلبة الظن بعدم الوجود يمكن أن تفسر بأحد معنيين:
أحدهما: أن يغلب على ظنه هلاك الشيء أو زواله أي عدمه حقيقة كما إذا انتُظر المفقود المدة التي يغلب على الظن أن المفقود لا يعيش بعدها1.
1 غلبة الظن بموت المفقود تختلف باختلاف الحال التي خرج فيها. وإن كان الغالب فيها السلامة أو الغالب فيها الهلاك، وقد اختلف العلماء في تقدير المدة التي يُنْتَظر فيها المفقود ثم يحكم بموته بعدها فقيل: مائة وعشرون سنة منذ ولد، وقيل تسعون سنة منذ ولد أيضا، وقيل: أربع سنين منذ فقد. انظر تفصيل ذلك في الهداية 2/478-479، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 4/149-150، والمهذب 2/146، والمغني 11/247، وفتح الباري 10/431.
والثاني: أن يغلب على الظن عدم إمكان العلم به -أي عدمه حكما- كما إذا غلب على الظن عدم الوارث، لأن المتحري في هذه الحال لا يغلب على ظنه عدم العاصب، لأنه لا يخلو الأمر من وجود بني عم أعلى؛ إذ ليس كلهم بنو آدم فمن كان أسبق إلى الاجتماع مع الميت في أب من آبائه فهو عصبته ولكنه مجهول فلم يثبت له حكم1.
وتشترك هذه القاعدة مع سابقتها في العمل بغلبة الظن فغالب ما يراد بالقاعدة السابقة هو غلبة الظن في جانب الوجود، وهنا غلبة الظن في جانب العدم، والله أعلم.
الأدلة:
يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بما يلي:
1-
حديث زيد بن خالد2 رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللُّقطة فقال: "اعرف عفاصها3
1 انظر: فتح الباري 5/96، والقواعد لابن رجب ص238.
2 هو: زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه يكنى أبا عبد الرحمن، وقيل: أبا زرعة، وقيل: أبا طلحة، شهد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلف في وفاته على عدة أقوال فقيل: سنة 87هـ، وقيل غيره. انظر: أسد الغابة 2/238، والإصابة 2/603.
3 العفاص: جِلْدُ يُلْبَس رأس القارورة كما في الصحاح، ويطلق على الوعاء الذي تكون فيه النفقة جلدا كان أو غيره فهو من العفص وهو الثني والعطف. انظر الصحاح 3/1045 (عفص) ، وفتح الباري 5/45، والنهاية في غريب الحديث والأثر ص263.
ووك اءها1، ثم عرّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك به"2 الحديث.
ففي إباحة الانتفاع باللقطة لملتقطها بعد تعريفها وعدم معرفة صاحبها دليل على تنزيل عدم العلم بالشيء -بعد بذل الجهد في معرفته- منزلة المعدوم فقد نزّل اللقطة التي يُجْهَل صاحبها منزلة المال الذي لا مالك له في إباحة الانتفاع وذلك بعد أن يغلب على ظنه عدم معرفة صاحبها.
2-
ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "أيّما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو فإنها تنتظر أربع سنين، ثم
1 الوكاء: هو الخيط الذي تشد به الصرّة والكيس وغيرهما، وقال الجوهري:"هو ما يشد به رأس القربة:" انظر الصحاح 6/2528 (وكى) ، والنهاية 5/222.
2 متفق عليه أخرجاه بعدة ألفاظ، واللظ لهما. صحيح البخاري مع الفتح 5/101 (اللقطة/إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها) ، وصحيح مسلم مع النووي 12/20 (اللقطة) .
تعتد أربعة أشهر، ثم تحل"1.
قال ابن قدامة بعد أن ساق هذا الأثر وغيره: "وهذه قضايا انتشرت في الصحابة فلم تُنْكَر فكانت إجماعا"2.
3-
كما يصح الاستدلال لها بأدلة التيسير العامة كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} 3، وقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 4. ونحوهما.
وذلك أن من بذل وسعه في البحث والتعرف على أمر ينبني عليه حكم فلم يعلم وجوده، وغلب على ظنه عدمه أو عدم قدرته على الوصول إليه فإن هذه الأدلة تقتضي بعمومها أن يعتبره معدوما ويبني الحكم على هذا بحيث لا يلزمه الاستمرار في البحث؛
1 أخرجه الإمام مالك، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وغيرهم بصيغ عدّة. الموطأ 2/575 (الطلاق/عدة التي تفقد زوجها)، ومصنف ابن أبي شيبة 4/237 (النكاح/من قال: امرأة المفقود تعتد وتزوج
…
) ، وسنن البيهقي 7/445-446 (العدد/من قال تنتظر أربع سنين ثم
…
) .
2 المغني 11/251.
3 البقرة (286) .
4 التغابن (16) ، وانظر مجموع الفتاوى 29/322.
لأن هذا ليس في قدرته، ولا تنزيله منزلة الموجود إذا كان هذا يشق عليه. بل يعمل بموجب غلبة ظنه بالعدم.
العمل بالقاعدة:
لم أحد تصريحا لكثير من الفقهاء بهذه القاعدة؛ لذا فإن معرفة عملهم بهذه القاعدة تقوم على النظر في المسائل التي مثل بها من أورد القاعدة، وعلى معرفة أقوالهم في تنزيل غالب الظن منزلة اليقين لتقارب معناهما.
فممّا مثل به ابن رجب مسألة اللقطة، ومال من لا يُعلم له وارث.
وقد ذهب الشافعية، والحنابلة إلى أن لملتقط اللقطة أن يتملكها وينتفع بها بعد تعريفها سنة إذا لم يعرف صاحبها1، وكذلك المالكية لكن مع الكراهة2.
أما الحنفية فالحكم عندهم أن يتصدق بها عن صاحبها إذا لم يجده بعد تعريفها3.
وعلى كلا الحالين يكون قد نُزّل المجهول منزلة المعدوم كما
1 انظر: المهذب 1/430، والمغني 8/299.
2 انظر: القوانين الفقهية ص293.
3 انظر الهداية 2/470.
أشار إلى ذلك ابن رجب1، وابن تيمية2.
وأما من لم يُعلم له وارث3 فقد اتُّفق على أن ماله يرجع إلى بيت مال المسلمين4 وإن كان الأمر لا يخلو من وجود بني عم أبعد فيكون قد نُزّل المجهول منزلة المعدوم.
وقد تقدم أن جمهور الفقهاء قد أخذوا بقاعدة تنزيل غالب الظن منزلة اليقين.
وعلى هذا يمكن القول: إن هذه القاعدة معمول بها في المذاهب الأربعة وإن كان الأمر لا يخلو من اختلاف في بعض تطبيقاتها كما في مسألة المفقود، فإن الجمهور على أنه إذا مضى له مدة يغلب على الظن عدم بقائه بعدها حيا تعتدّ زوجته عدة الوفاة، ثم تحل
1 انظر: القواعد له ص238.
2 انظر: مجموع الفتاوى 29/322.
3 يشمل ذلك أصحاب الفروض، والعصبة، وذوي الأرحام عند من يقول بتوريثهم. انظر تفصيل ذلك في الفقه الإسلامي وأدلته 8/382-383، وراجع القاعدة السابعة والأربعين.
4 انظر حاشية رد المحتار 6/766، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 8/207، والتنبيه ص154، وشرح منتهى الإرادات 2/639-640.
للأزواج، وذهب الشافعي في مذهبه الجديد إلى أنها زوجته أبدا1.
من فروع القاعدة:
تقدم ذكر عدد من فروع هذه القاعدة ومن فروعها أيضا:
المستحاضة فإنها تترك الصلاة والصوم المدة التي يغلب على ظنها أنها حيض ثم تعتبر هذا الحيض كالمعدوم فتصلي -على ما بيّنه الفقهاء من طريقة تطهرها- وتصوم2.
وجه التيسير:
وجه التيسير في هذه القاعدة أن الشارع قد راعى حال المكلف من حيث ضعف قدرته وعلمه. فإذا كان الحكم الشرعي متوقفا على العلم بوجود شيء ما أو عدمه ولم يتمكن المكلف من العلم به والوقوف عليه، فإن جهله بوجود ذلك الشيء يجعله في حقه كالمعدوم قيبني الحكم على ذلك.
فلم يكلف الله تعالى المخلوق بأكثر من طاقته ولا بما يشق
1 انظر: الهداية 2/478-479، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 4/149-150، والمهذب 2/146، والمغني 11/247.
2 انظر التفصيل في: الهداية 1/34، والقوانين الفقهية ص40، والتنبيه ص22، والمغني 1/411، وانظر مزيدا من فروع القاعدة في قواعد ابن رجب ص238.
ويعسر عليه العلم به.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لو لم يُحكم بعدم المجهول في مثل هذه الحال لأدّى ذلك إلى توقف كثير من الأحكام وتعطل كثير من المصالح. ولذلك قال في القاعدة:"أو شقَّ اعتباه" أي شقّ اعتباره موجودا بأن كان الحكم المترتب على اعتباره موجودا موجبا للعسر والمشقة"1.
1 انظر: مجموع الفتاوى 29/322، والقواعد الفقهية للندوي ص395.