الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الرابعة والأربعون: نية الأداء تنوب عن نية القضاء، وعكسه
.
أورد هذه القاعدة الونشريسي بصيغة الاستفهام1، وأشار إليها عدد من الفقهاء وإن يسوقوها مساق القاعدة، ومن هؤلاء العلائي2، والسيوطي3، وابن نجيم4.
معاني المفردات:
النية: تقدم بيان معناها5.
الأداء: تقدم بيان معناه6.
القضاء لغة: الحكم، ويطلق بمعنى الانتهاء وبلوغ الغاية7.
1 وذلك للدلالة على عدم الاتفاق عليها. انظر: إيضاح المسالك ص195، وانظر دراسة الكتاب ص93.
2 انظر: المجموع المذهب (رسالة) 1/259-260.
3 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص19.
4 انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص38.
5 راجع ص 197.
6 راجع ص 493.
7 انظر: القاموس المحيط 4/378-379 (قضى) .
وفي اصطلاح الأصوليين والفقهاء: فعل العبادة بعد وقتها المقدر لها شرعا1.
المعنى الإجمالي:
المراد أن العبادة ذات الوقت المعين التي يُتَصَوَّر فيها الأداء، ويتصور فيها القضاء2 تصح إذا فعلت في وقتها المقدر لها شرعا -أي في وقت الأداء- بنية القضاء، أو فعلت بعد وقتها المقدر –أي في وقت القضاء- بنية الأداء. وقد قيد كثير من العلماء ذلك بأن لا يكون مُتعمَّدا، لأنه في حالة التعمد يكون عبثا ممنوعا3.
1 انظر: مناهج العقول 1/88، وشرح الكوكب المنير 1/363.
2 العبادات من حيث الأداء والقضاء على ثلاثة أقسام:
1-
قسم لا يوصف بأداء ولا قضاء وهو ماليس له وقت محدود كالإيمان.
2-
وقسم له وقت محدود لكنه لا يقبل القضاء كصلاة الجمعة.
3-
وقسم له وقت محدود يمكن أن يقع أداء ويمكن أن يقع قضاء كالصلاة المفروضة. انظر: المجموع المذهب (رسالة) 1/129، والأشباه والنظائر للسيوطي ص19-20، ولابن نجيم ص38، وشرح الكوكب المنير 1/363.
3 انظر: المراجع السابقة، وإيضاح المسالك ص160، والمجموع 3/226، والنية وأثرها في الأحكام الشرعية 1/452-454.
الأدلة:
لم أقف على شيء من النصوص يدل على هذه القاعدة ولكن يمكن التعرف على مبناها من خلال ما ذكره بعض الفقهاء من تعليلات لصحتها.
فقد قال العلائي معللا لقول من قال بصحة تأدية العبادة بنية القضاء وعكسه إذا لم يتعمد: "فالأوقات ليست قُربة ولا صفة للقربة وإنما تذكر في النية لتمييز المرتبة"1.
وجاء في منح الجليل شرح مختصر خليل2 (في الفقه المالكي) : "
…
وإذا لم ينو الأداء في التي حضر وقتها، أو لم ينو ضده –أي القضاء- في التي خرج وقتها فلا تبطل والوقت يستلزم الأداء وخروجه يستلزم القضاء".
ولذا فقد بنى ابن نجيم المسامحة في نية الأداء والقضاء على أنه أتى بأصل النية لكنه أخطأ في الظن والخطأ في مثله معفو
1 المجموع المذهب (رسالة) 1/260، والمراد بتمييز المرتبة هنا -والله أعلم- تمييز الأداء عن القضاء وذلك يحصل بمجرد إيقاع العبادة في وقتها أو خارجة وإن لم ينو أو لم تطابق النية الواقع، انظر: جامع العلوم والحكم ص7.
2 1/148.
عنه1.
والمقصود بأصل النية أنه قد عين في قلبه ظهر اليوم الذي يريد صلاته مثلا فلا يضر وصفه له بكونه أداء أو قضاء2.
العمل بالقاعدة:
يتضح مدى إقرار الفقهاء لهذه القاعدة وعملهم بها من النظر في فرعين من فروعها:
أحدهما: من صلى الفريضة بنية الأداء فبان أنه صلى بعد خروج الوقت فإنه يكون قد صلى قضاء بنية الأداء، وعكسه من صلى بنية القضاء يظن الوقت قد خرج فبان أنه في الوقت حيث يكون قد صلى أداء بنية القضاء.
والثاني: الأسير إذا اشتبهت عليه الأشهر فصام بنية الأداء، ثم تبين أنه صام بعد انقضاء الشهر فإنه يكون قد صام قضاء بنية الأداء، وعكسه مالو صام بنية القضاء يظن الشهر قد انقضى فبان صيامه فيه فإنه يكون قد صام أداءً بنية القضاء.
1 انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص38، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 1/138.
2 انظر: حاشية رد المحتار 1/422، وانظر: حاشية العدوي 1/217، والكافي لابن قدامة 1/161.
وقد ذهب الحنفية والمالكية، والحنابلة إلى صحة صلاة المصلي في الفرع الأول في الحالين1، وهو الذي صححه النووي من أقوال أربعة نقلها عن الشافعية2، وذهب الجميع إلى صحة الصيام في الفرع الثاني في الحالين3.
فظهر من هذا أن الغالب عمل الفقهاء بهذه القاعدة، وإن كان قد يرد عليها بعض الاستثناءات4.
وأوضح فروع القاعدة الفرعان اللذان تقدم ذكرهما قريبا وهما
1 انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص38، وحاشية رد المحتار 1/422، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 1/138، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/235، ومنح الجليل شرح مختصر خليل 1/148، والمغني 2/133، والكافي لابن قدامة 1/161.
2 انظر: المجموع شرح المهذب 3/226، وانظر المجموع المذهب (رسالة) 1/259-260، الأشباه والنظائر للسيوطي ص19.
3 انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص38، وحاشية رد المحتار 1/422، والقوانين الفقهية ص204، ومنح الجليل 1/395، والمجموع 6/240، والمغني 4/422.
4 انظر: إيضاح المسالك وحاشية المحقق ص195، والنية وأثرها في الأحكام الشرعية 1/452.
صلاة الفريضة، وصوم رمضان.
وذكر السيوطي فروعا أخر منها: نية الأداء في قضاء الحج أو العكس، وكذا صلاة الجنازة حيث ذكر أن وقتها محدود بالدفن فيتصور فيها الأداء والقضاء1.
وجه التيسير:
يظهر التيسير في هذه القاعدة من جهة أنه قد يشتبه على المكلف وقت أداء عبادة ما بوقت قضائها، بحيث لا يعلم في وقت فعله للعبادة هل هي أداء أو قضاء فينوي عكس ما عليه الحال فجعل الله تعالى ذلك عذرا في حقه وأباح له أن تقوم نية كل واحد منهما مقام الأخرى، وإن كان الأصل أن الأعمال بالنيات وأن لكل امرئ ما نوى.
1 انظر هذه الفروع وغيرها في: الأشباه والنظائر للسيوطي ص19-20.
القاعدة الخامسة والأربعون: الواجب في النية استصحاب حكمها لا ذِكرُها1.
أورد المقري هذه القاعدة بلفظ قريب من هذا اللفظ2، وأورد ابن عبد السلام ما يدل على معناها3، وصرح به القرافي، والزركشي، وابن نجيم4، ونص السبكي على أن كل نية تجب مقارنتها لأول العمل، ولم يصرح بعدم لزوم استحضارها في أثنائه5.
1 بهذه الصيغة وردت القاعدة في بعض كتب الفقه المالكي وهي أظهر في الدلالة على معنى التيسير. انظر: هامش التحقيق لكتاب القواعد للمقري 1/285.
2 انظر: القواعد للمقري 1/285.
3انظر: قواعد الأحكام 1/213-214.
4 انظر: الفروق 1/200، والمنثور 3/293، 297، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص45.
5 التصريح بوجوب مقارنة النية لأول العمل قد يكون مفهومه عدم صحة تقدمه عليه أو تأخره عنه، وقد يكون مفهومه عدم لزوم الاستحضار الحقيقي للنية في كل أجزاء العبادة وقد يكون كلاهما مرادا. انظر: الأشباه والنظائر للسبكي 1/58.
معاني المفردات:
النية: تقدم بيان معناها.
استصحاب: الاستصحاب في اللغة طلب الصحبة. يقال: استصحبه إذا دعاه إلى الصحبة، والصحبة هي مقارنة الشيء ومقاربته1.
وفي اصطلاح الأصوليين يعرف بأنه الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على أنه كان ثابتا في الزمان الأول، ويعرف بغير هذا.
المعنى الإجمالي:
إذا كان العمل مما لا يصح إلا بنية كالصلاة والصوم فإنه يكفي أن يحصِّل المكلف النية عند أول جزء من أجزاء العمل أو قبله على حسب العبادة وعلى حسب اختلاف الفقهاء في تقديم النية
1 انظر: مقاييس اللغة 3/335 (صحب) ، والقاموس المحيط 1/91 (صحب) .
ولا يلزمه أن يستحضرها في جميع أجزاء العمل. بل يستصحب حكمها1 بحيث يكون الأصل بقاؤها فلا تزول إلا بنية الخروج من ذلك العمل ولو ذهل عن استحضارها في بعض أجزاء العبادة لم يضره ذلك، ولم يؤثر في صحة العبادة مع أن الأصل وجوب ملازمة النية لكل جزء من أجزاء العبادة لكون النية شرطا في صحة كل العبادة2. لكن لعُسرِ ذلك لم يلزم، وقد نقل بعضهم الاتفاق على استحبابه3.
ويجدر التنبيه هنا إلى أن الفقهاء قد استثنوا من وجوب تعلق النية بأول الفعل ما يكون ذلك فيه مؤديا إلى مشقة كالصوم؛ لكون أول وقت الصوم عرضة لأن يكون المكلف فيه نائما أو غافلا فأجازوا تقدم النية على العمل واستصحابها في سائر العمل مالم
1 الفرق بين ذكرها واستصحاب حكمها أن استصحاب ذكرها معناه أن يكون الإنسان ذاكرا لنيته ومستحضرا لها من أول العمل إلى آخره، وأما استصحاب الحكم فمعناه أنه إذا نوى في أول العمل استمر هذا الحكم ولا يزول إلا إذا نوى رفعه. انظر: النية وأثرها 1/376.
2 انظر: الأمنية في إدراك النية ص42-43.
3 انظر: المجموع 1/368، وكتاب النية وأثرها في الأحكام الشرعية 1/378.
معها غير مستحضر لنية الصلاة1.
2-
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة"2.
ووجه الدلالة منه كوجه الدلالة من الحديث.
3-
قياس الصلاة على الصوم فإن الصوم متفق على عدم لزوم استحضار النية له في جميع النهار؛ إذ قد ينام الإنسان وقد يغفل ولا يضره ذلك3.
4-
كون استحضار حقيقة النية في كل أجزاء العبادة مما يشق على المكلف مشقة عظيمة بل قد يستحيل، وقد علل المقري بهذا في نصه على القاعدة4.
1 انظر: فتح الباري 3/108-109، والنية وأثرها 1/377.
2 أخرجه البخاري تعليقا، وقال ابن حجر:"وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي"، ولفظ ابن أبي شيبة: "إني لأجهز جيوشي
…
". صحيح البخاري ومعه فتح الباري 3/107، ومصنف ابن أبي شيبة 2/424 (الصلوات/من حدث نفسه في الصلاة) .
3 انظر: المغني 4/342، 345، ومقاصد المكلفين ص238.
4 انظر مجموع هذه الأدلة في المغني 2/134-135، وانظر: القواعد للمقري 1/285.
العمل بالقاعدة:
ذهب أكثر الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة إلى صحة هذه القاعدة فقد تقدم تصريح المقري بها على أنها من قواعد الفقه المالكي، وكذلك إيراد بعض علماء الشافعية لها.
وقد صرحت كتب الفروع بهذا الحكم.
فقد نقل ابن نجيم عن محمد أنه لو نوى عند الوضوء أن يصلي الظهر أو العصر مع الإمام ولم يشتغل بعد النية بما ليس من جنس الصلاة إلا أنه لما انتهى إلى مكان الصلاة لم تحضره النية جازت صلاته بتلك النية، ونقل عن عامتهم عدم المخالفة في هذا، وردَّ ابن عابدين في حاشيته على من أوجب استحضار النية منهم1.
وفي مواهب الجليل من كتب الفقه المالكي: "أن من شروط النية في الوضوء أن تكون مقارنة للمنوي؛ لأن أول العبادة لو عرا عن النية لكان أولها مترددا بين القربة وغيرها، وآخر الصلاة مبني على أولها"، ثم قال: "إن النية تنقسم بحسب ما يعرض لها إلى قسمين فعلية موجودة، وحكمية معدومة فإذا كان في أول العبادة فهذه نية فعلية ثم إذا ذُهِلَ عنها فهي نية حكمية بمعنى أن الشرع
1 انظر: البحر الرائق وحاشية ابن عابدين عليه 1/292.
حكم باستصحابها
…
"الخ1.
ونص الإمام الشافعي على هذا الحكم فقال: "وإذا توضأ ينوي الطهارة ثم عزبت2 عنه النية أجزأته نية واحدة فيستبيح بها الوضوء مالم يحدث نية أن يتبرد أو يتنظف بالماء لا يتطهر به"3، وقال: نحوه في الصلاة4.
وجاء في المغني: "استصحاب حكم النية دون حقيقتها بمعنى أنه لا ينوي قطعها، ولو ذهل عنها أو عزبت عنه في أثناء الصلاة لم يؤثر ذلك في صحتها"5.
من فروع القاعدة:
1-
نية الوضوء حيث تحصل بتحصيلها في أوله ولو ذهل عنها في أثنائه وهذا على القول بوجوبها أو سنيتها6.
1 انظر: مواهب الجليل 1/233.
2 عَزَبَت أي أبعدت.
3 الأم 1/25.
4 انظر: الأم 1/86.
5 المغني 2/134.
6 انظر: حاشية رد المحتار 1/108، ومواهب الجليل 1/233، والأم 1/25، والمغني 1/159.
2-
نية الصلاة كذلك على ما تقدم1.
3-
نية الصوم فلا يشترط مقارنتها لكل أجزاء اليوم. بل يكفي إيجادها في الليل إن كان الصوم واجبا، وأجاز بعض الفقهاء الصوم الواجب بنية من النهار2.
وجه التيسير:
لما كانت النية شرطا في صحة كثير من العبادات، وكان الأصل لزوم حضورها ومقارنتها لكل جزء من أجزاء العبادة، وكان في ذلك أعني استحضار النية في كل أجزاء العبادة من المشقة والحرج مالا يمكن للمكلف غالبا التحرز منه، سامح الشارع في اعتبار هذا الشرط، واكتفى بحضور النية حقيقة في أول العبادة واستصحاب حكمها في بقية العبادة بحيث لا يكون غيابها في أثناء تلك العبادة مؤثرا على صحتها رحمة من الله بعباده وتيسيراً عليهم3.
1 انظر: حاشية رد المحتار 1/416، وشرح الخرشي 1/269، والأم 1/86، والمغني 2/134.
2 انظر: حاشية رد المحتار 2/377، وشرح الخرشي
3 انظر: المغني 2/134، والأمنية في إدراك النية ص42.