المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة الثامنة والأربعون: يعمل بالقرعة عند تساوي الحقوق - القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير - جـ ٢

[عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌القسم الأول: القواعد

- ‌القاعدة الثالثة والأربعون: النفل أوسع من الفرض

- ‌القاعدة الرابعة والأربعون: نية الأداء تنوب عن نية القضاء، وعكسه

- ‌القاعدة السادسة والأربعون: يجزئ فعل غير المكلف عن المكلف في صور

- ‌القاعدة السابعة والأربعون: يجوز تصرف الآحاد في الأموال العامة عند تعذر قيام الأئمة بذلك

- ‌القاعدة الثامنة والأربعون: يعمل بالقرعة عند تساوي الحقوق

- ‌القاعدة الثانية والخمسون: يقدم النادر على الغالب أحياناً، وقد يلغيان معاً

- ‌القاعدة الثالثة والخمسون: يقوم البدل مقام المبدل منه إذا تعذر المبدل منه

- ‌القاعدة الرابعة والخمسون: ينزَّل غالب الظن منزلة اليقين

- ‌القاعدة الخامسة والخمسون: ينزّل المجهول منزلة المعدوم وإن كان الأصل بقاؤه إذا يُئس من الوقوف عليه أو شق اعتباره

- ‌القاعدة السادسة والخمسون: اليقين لا يزول بالشك

- ‌القسم الثاني: الضوابط

- ‌الضابط الأول: الحدود تسقط بالشبهات

- ‌الضابط الثاني: الشبهة تسقط الكفارة

- ‌الضابط الثالث: لا تجب الإعارة إلا حيث تعينت لدفع مفسدة

- ‌الضابط الرابع: لا تصح الوصية بكل المال إلا في صور

- ‌الضابط الخامس: لا رابطة بين الإمام والمأموم وكل منهما يصلي لنفسه

- ‌الضابط السابع: لا يتوقف الملك في العقود القهرية الاضطرارية على دفع الثمن بل يقع العقد ويكون الثمن مضموناً في الذمة

- ‌الضابط الثامن: لا يجب في عين واحد زكاتان إلا في مسائل

- ‌الضابط التاسع: اللهو واللعب عند الشافعي على الإباحة، وعند مالك على التحريم

- ‌الضابط العاشرة: ليس للنجاسة في الباطن حكم النجاسة

- ‌الضابط الحادي عشرة: من استحق القصاص فعفا عنه إلى بدل فهو له إلا في صور

- ‌الضابط الثاني عشرة: يجبر أحد المشركين على موافقة الآخر إذا كانا محتاجين على رفع مضرّة أو إبقاء منفعة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌القاعدة الثامنة والأربعون: يعمل بالقرعة عند تساوي الحقوق

‌القاعدة الثامنة والأربعون: يعمل بالقرعة عند تساوي الحقوق

. ((صياغة)) 1.

أشار إلى معنى هذه القاعدة عدد من الفقهاء، وإن كان كثير منهم لم يسقها مساق القاعدة، ومن هؤلاء العز بن عبد السلام2، والقرافي3، والزركشي4، وابن رجب5، وابن نجيم6، وساقها ابن سعدي مساق القاعدة وصاغها بقوله:"تستعمل القرعة عند التزاحم ولا مميز لأحدهما، أو إذا علمنا أن الشيء لأحدهما وجهلناه"7.

1 هذه الصياغة مستفادة من قول ابن عبد السلام: "فصل في الإقراع عند تساوي الحقوق".

2 انظر: قواعد الأحكام 1/90.

3 انظر: الفروق 4/111، وانظر: تهذيب الفروق معه 4/176.

4 انظر: المنثور 3/62.

5 انظر: قواعد ابن رجب ص348.

6 انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص362.

7 القواعد والأصول الجامعة ص67، ورسالة القواعد الفقهية ص47.

ص: 587

معاني المفردات:

القرعة لغة: هي السهم والنصيب، وأصل القرع ضرب شيء على شيء يقال: قَرَعَ الباب، أي دقه بالعصا إذا ضرب بها، والاقتراع: الاختيار، وقُرعه كل شيء: خياره1.

وعُرفت في اصطلاح الفقهاء بأنها استهام يتعين به نصيب الإنسان2.

المعنى الإجمالي:

إذا احتاج المكلف إلى تعيين مبهم من جملة أفراده ولم يوجد دليل التعيين، أو تساوى المستحقون لشيء واحد ولم يمكن اشتراكهم فيه ولا مرجح لأحد المستحقين على غيره فاحتاج الإنسان إلى تخصيص أحدهم بالحق فقد جعل الشارع لذلك طريقا يمكن المكلف من تعيينه، ويصيب بواسطته الحق وهو القرعة.

قال ابن القيم رحمه الله تعلى: "ومن طرق الأحكام الحكم بالقرعة، ثم قال: ومن الأسرار فيها أن الفقهاء اعتبروها بمثابة التفويض إلى الله؛ ليعين بقضائه وقدره ما ليس لنا سبيل إلى

1 لسان العرب 11/122. والمفردات ص401، والنهاية 5/44 (قرع) .

2 معجم لغة الفقهاء ص361.

ص: 588

تعيينه1.

ولما كان العمل بالقرعة لا يصح إجراؤه على العموم في كل أمر فقد ضبط الفقهاء ما تجري فيه القرعة ومالا تجري فيه ببعض الضوابط.

فقال ابن رجب: "تستعمل القرعة في تمييز المستحق ابتداء لمبهم غير معين عند تساوي أهل الاستحقاق، وتستعمل أيضا في تمييز المستحق المعين في نفس الأمر عند اشتباهه والعجز عن الاطلاع عليه، وتستعمل في الحقوق الاختصاص والولايات ونحوه"2.

وجعل القرافي الضابط لما يصح الحكم فيه بالقرعة توافر شرطين:

أحدهما: التساوي.

والثاني: أن يكون قابلا للرضى بالنقل.

فما فُقد فيه أحد الشرطين تعذرت فيه القرعة3.

1 انظر: الطرق الحكمية ص294، 305-306.

2 انظر: قواعد ابن رجب ص348.

3 انظر: الفروق 4/114، وانظر قواعد الأحكام 1/90-92، والمواهب السنية 4/167-168 وأحكام القرآن للجصاص 2/13.

ص: 589

وضبط ابن القيم ما تجري فيه القرعة بقوله: "إن الموضع الذي تلحق فيه التهمة شرعت فيه القرعة نفيا لها ومالا تلحق فيه لا فائدة فيها"1.

الأدلة:

ورد في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية نصوص دلت على صحة العمل بالقرعة عند الحاجة إليها.

فمن القرآن:

1-

قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} 2.

قال القرطبي: "استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة وهي في أصل شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة"3.

2-

قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} 4.

قال ابن العربي عند بيانه أحكام هذه الآية: "نصٌ على

1 انظر: الطرق الحكمية ص301.

2 آل عمران (44) .

3 الجامع لأحكام القرآن 4/86-87، وانظر: فتح القدير للشوكاني 1/339.

4 الصافات (141) .

ص: 590

القرعة وكانت في شريعة من قبلنا جائزة في كل شيء على العموم على ما يقتضيه موارد أخبارها في الإسرائيليات وجاءت القرعة في شرعنا على الخصوص"1.

وقال الإمام الشافعي: "فأصل القرعة في كتاب الله عز وجل في قصة المقترعين على مريم والمقارعين يونس عليه السلام"2.

ومن السنة:

1-

ما جاء في الصحيحين: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه

" الحديث3.

2-

ما جاء في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء

1 أحكام القرآن لابن عربي 4/1622.

2 أحكام القرآن للشافعي 2/157، وانظر أحكام القرآن للجصاص 2/13، والجامع لأحكام القرآن 15/125.

3 متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، واللفظ للبخاري. صحيح البخاري مع الفتح 5/257 (الهبة/هبة المرأة لغير زوجها

) ، وصحيح مسلم مع النووي 15/209 (فضائل الصحابة/فضل عائشة رضي الله عنها .

ص: 591

والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا

" الحديث1.

3-

حديث عمران بن حصين: "أن رجلا اعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرقّ أربعة، وقال له قولا شديدا"2.

العمل بالقاعدة:

ذهب جمهور المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى الأخذ بالقرعة واعتبارها طريقا للإثبات عند التساوي وعدم إمكان التعيين أو الترجيح3. وعملوا بها في عدة مواضع منها:

1 متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحيح البخري مع الفتح 2/114 (الأذان/الاستهام في الأذان) ، وصحيح مسلم مع النووي 4/157 (الصلاة/تسوية الصفوف وإقامتها) .

2 أخرجه الإمام مسلم. صحيح مسلم مع النووي 11/140 (الإيمام/صحبة المماليك)، وانظر: شرح النووي عليه. وانظر مزيدا من الأدلة في الطرق الحكمية ص294-295، ووسائل الإثبات للزحيلي 2/834 وما بعدها.

3 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 11/140.

ص: 592

الإقراع بين الزوجات في السفر1، والإقراع في القسمة2، والإقراع بين العبيد المعتقين إذا لم يصح عتقهم جميعا3.

أما الحنفية فقد ذهبوا إلى أن الحكم بالقرعة منسوخ4 فلا يصح العمل بها في إثبات الحق لكنهم استحبوها تطييبا للنفوس.

كما قال الكاساني5 معللا عدم وجوب القرعة بين الزوجات في السفر: "لأن بالقرعة لا يعرف أن لها حقا في حالة السفر أولا فإنها -أي بالقرعة- لا تصلح لإظهار الحق أبدا لاختلاف عملها في نفسها فإنها لا تخرج على وجه واحد، بل مرة هكذا، ومرة هكذا، والمختلف فيه لا يصلح دليلا على شيء. لكن الأفضل

1 انظر: حاشية الدسوقي 2/343، والتنبيه ص169، والمغني 10/252.

2 انظر: حاشية الدسوقي 3/500، والتنبيه ص258، والمغني 14/100.

3 انظر: الخرشي مع حاشية العدوي 8/130، والمجموع 14/449، والمغني 14/383، وانظر بابا مفردا للقرعة في الأم 7/336.

4 انظر: تكملة فتح القدير 6/2118، وشرح النووي على صحيح مسلم 11/140.

5 هو: أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، أو الكاشاني من فقهاء الحنفية، توفى سنة 587هـ من مؤلفاته [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع] و [السلطان المبين في أصول الدين] . انظر: الجواهر المضية 4/25-28، وتاج التراجم ص84-85.

ص: 593

أن يقرع بينهن تطييبا للنفوس فيخرج بمن خرجت قرعتها تطييبا لقلوبهن ودفعا لتهمة الميل عن نفسه"1. ولا يلزمه الخروج بمن خرجت قرعتها2.

وقد مضى ذكر بعض فروع القاعدة.

وجه التيسير:

وجه التيسير هو أن الله تعالى جعل للمكلفين طريقا إلى تعيين أحد المتساويين مما لا سبيل لهم إلى تعيينه بواسطة البينة أو المرجح، وهو تفويض ذلك إلى قضاء الله وقدره وَجَل سبيل معرفة ذلك هو القرعة دفعا للضغائن والأحقاد التي قد تنشأ بين الناس من جراء الاختيار بين المتساويين بدون مرجح3.

1 انظر: بدائع الصنائع 3/1549، 9/4116.

2 انظر: الدر المختار وحاشيته رد المحتار 3/206.

3 انظر: قواعد الأحكام 1/90-91، والفروق 4/114، وقواعد ابن رجب ص356، والطرق الحكمية ص305-306.

ص: 594

القاعدة التاسعة والأربعون: يُغْتَفَر ضمنا مالا يُغْتَفَر قصدًا.

وردت هذه القاعدة بعدة صيغ منها الصيغة المذكورة وهي التي أوردها ابن نجيم1 وبمعناها قول الكرخي، وغيره:"الأصل أنه قد يثبت الشيء تبعا وحكما وإن كان قد يبطل قصدا"2.

ومنها لفظ آخر ذكره السيوطي، وابن نجيم، وغيرهما وهو:"يغتفر في التوابع مالا يغتفر في غيرها"3، وعند ابن رجب "يثبت تبعا مالا يثبت استقلالا"4، وقد ذكرت بصيغ أخرى لا تخرج عن هذا المعنى5.

1 انظر: الأشباه والنظائر له ص121.

2 أصول الكرخي مع تأسيس النظر 166، وانظر: جامع الفصولين 2/233 (فصل 39) ، والوجيز ص284.

3 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص121، ولابن نجيم ص121، والمجلة مع شرحها 1/41، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء ص229.

4 القواعد لابن رجب ص298، وانظر: القواعد والأصول الجامعة لابن سعدي ص100.

5 القواعد والضوابط المستخلصة من كتاب التحرير رقم 156، وبدائع الفوائد 4/27، والإسعاف بالطلب ص117.

ص: 595

وأوردها بعضهم في صورة ضابط متعلق ببعض أبواب الفقه، كقول الزركشي:"يغتفر في العقود الضمنية مالا يغتفر في الاستقلال"1، وقول ابن تيمية:"يجوز من الغرر اليسير ضمنا مالا يجوز من غيره"2 وبمعناها قولهم: "مالا يتم الجائز إلا به فهو جائز"3.

وهي من القواعد المندرجة تحت القاعدة الأعم وهي: ((التابع تابع)) 4.

واعتبرها البعض بمعنى القاعدة الأخرى: ((يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء)) 5.

معاني المفردات:

يغتفر: الغفر في اللغة هو التغطية6.

1 المنثور 3/378.

2 القواعد النورانية ص140.

3 المرجع السابق ص162، وانظر الموافقات 1/140-141.

4 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص117، 121، ولابن نجيم ص120-121، والمدخل الفقهي العام 2/1017-1020، وغيرها من المراجع السابقة.

5 انظر: الوجيز ص284-285.

6 الصحاح 2/770 (غفر) .

ص: 596

وفي الاصطلاح: أن يستر القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته1.

ضمنا: تقدم بيان معناه2.

المعنى الإجمالي:

تعني هذه القاعدة أن الشرع يتسامح فيما يقع ضمن شيء آخر مباح وتبعا له مالا يتسامح فيما لو كان هو المقصود أصلا فقد يبيح ما الأصل عدم إباحته لوقوعه ضمن أمر مباح وتبعا له. وقد يتسامح في بعض الشروط فلا يشترط في التابع ما يشترط في المقصود الأصلي وإن كانت صورتهما واحدة؛ وذلك للحاجة إليه؛ ولأنه يحصل ضرورة لثبوت متبوعه أو ماهو في ضمنه فلو منع منه لأدى إلى منع أصله المباح3.

وبهذا تتضح علاقة قاعدة ((يغتفر ضمنا مالا يغتفر قصدا)) بقاعدة ((مالا يتم الجائز إلا به فهو جائز)) 4.

1 التعريفات ص223.

2 راجع ص 404.

3 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 10/156، وفتح الباري 4/418-419، وشرح القواعد الفقهية ص229، والمدخل الفقهي العام 2/1020، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية ص285.

4 انظر: القواعد النورانية ص161-163.

ص: 597

أما علاقتها بقاعدة ((الوسائل لها حكم المقاصد)) فهي علاقة عموم وخصوص، ويمكن إيضاحها بالقول: إن ما يقع تبعا لغيره هو في حكم الوسيلة له؛ لأنه لا يتحقق المقصود إلا ويتحقق تابعه وما في ضمنه.

فإذا كان المقصود الأصلي مباحا كانت وسيلته وما يحصل تبعا له مباحا كذلك1. ولا ريب أن حكم هذه القاعدة يجب أن يقيد بعدم مخالفة النص أو الإجماع.

الأدلة:

يدل على صحة هذه القاعدة ما يلي:

1-

حديث: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"2.

وذلك أن معنى الحديث على رأي الجمهور أن الجنين الذي

1 انظر: الفروق 2/32-33، والقواعد والأصول الجامعة ص10، ورسالة القواعد الفقهية ص25.

2 أخرجه بهذا اللفظ أبو داود من طريق جابر رضي الله عنه، والترمذي من طريق أبي سعيد رضي الله عنه وقال الترمذي:"هذا حديث حسن" سنن أبي داود مع عون المعبود 8/19 (الضحايا/ذكاة الجنين) ، وسنن الترمذي مع التحفة 5/48 (الصيد/ذكاة الجنين)، وانظر: صحيح سنن أبي داود 2/544.

ص: 598

في بطن الناقة أو الشاة ونحوهما إذا خرج ميتا بعد ذكاة أمه فإنه يكون حلالا كالمذكى1، فقد جاز في الجنين باعتباره تابعا لأمه مالا يجوز في الأصل وهو حل أكله دون تذكيته حيث اعتبر الشارع تذكية أمه تذكية له.

وهذا كالنص في القاعدة.

1 هذا هو مذهب الجمهور، وذهب الحنفية إلى عدم حله إلا إذا ذُكي يذكية مستقلة، وحملوا الحديث على معنى ذكاة الجنين كذكاة أمه بناء على ورود الحديث بنصب كلمة "ذكاة" الثانية فيكون التقدير ذكوا الجنين ذكاة أمه أو نحو ذلك. ورد الخطابي هذا التأويل بالرواية الأخرى للحديث وفيها "قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ قال: "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" فهذه الرواية تتضمن التعليل لإباحته من غير إحداث ذكاة ثانية. وهذه الرواية قد أخرجها أبو داود، وابن ماجه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وصححها الألباني. سنن أبي داود مع عون المعبود 8/18 (الضحايا/ذكاة الجنين) وسنن ابن ماجه 2/1097 (الذبائح/ذكاة الجنين ذكاة أمه) ، وانظر صحيح سنن أبي داود 2/544، وانظر آراء الفقهاء في هذه المسألة في تحفة الأحوذي 5/48-51، وحاشية رد المحتار 6/303-304، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 3/24، والمهذب 255، والمغني 13/308-309، ومعالم السنن 3/252.

ص: 599

2-

ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن بيع حَبَل الحَبَلَة"1.

ووجه الدلالة منه أن بعض الفقهاء قد فسر ذلك بالنهي عن بيع ولد الناقة الذي في بطنها2، وقد أجمعوا على عدم جواز بيع الحمل في البطن3 مع الاتفاق على جوازم بيع الناقة الحامل، والشاه ونحوها حيث لم يدل دليل على المنع منه فهو على أصل حل البيع4.

قال النووي رحمه الله تعالى: "وقد يُحتمل بعض الغرر تبعا إذا دعت إليه الحاجة كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع

1 متفق عليه. صحيح البخاري مع الفتح 4/418 (البيوع/بيع الغرر، وحبل الحبلة) ، وصحيح مسلم مع النووي 10/157 (البيوع/ تحريم بيع حبل الحبلة) .

2 فسره بعض الفقهاء بهذا، وفسره بعضهم بما فسره به راوي الحديث وهو أنه بيع لحم الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت. انظر: صحيح البخاري مع الفتح 4/418-419، وصحيح مسلم مع النووي 10/157-158.

3 انظر: الإجماع لابن المنذر ص52، والمغني 6/

4 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 10/156، والمغني 6/224.

ص: 600

الشاه الحامل، والتي في ضرعها لبن فإنه يصح البيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه فإنه لا يمكن رؤيته وكذا القول في حمل الشاة ولبنها"1.

3-

ذكر ابن تيمية أن بعض الفقهاء استدلوا بفعل عمر رضي الله عنه وهو ضرب الخراج على أرض السواد2 وغيرها حيث أقر الأرض التي فيها النخل والعنب في أيدي أهل الأرض وجعل على كل جريب3 من جُرب الأرض السواد والبيضاء4 خراجا مقدرا5 استدلوا به على أن مالا يتم الجائز إلا به فهو جائز.

1 شرح صحيح مسلم للنووي 10/156.

2 أرض السواد هي مابين الكوفة والبصرة، وهي سواد العراق سمى سوادا لخصبه فالزرع فيه من الخصوبة يكون أخضر داكنا يميل إلى السواد، ولكثرة نا فيه من القرى. انظر: الصحاح 2/492 (سود) ، ومعجم لغة الفقهاء ص251.

3 الجريب مقدار معلوم من الأرض، ومن الطعام يساوي من الأرض 5/1366م2 تقريبا، ومن الطعام 48 صاعا، 104.25 كيلو جرام تقريبا. انظر: الصحاح 1/98 (جرب) ، ومعجم لغة الفقهاء ص163، 450-451.

4 البيضاء هي الأرض التي لا نبت فيها ولا شجر، معجم لغة الفقهاء ص112.

5 ورد هذا الأثر بألفاظ كثرة وقد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو يوسف في كتاب الخراج ص87، وأبو عبيد في الأموال ص88، وغيرهم.

ص: 601

ووجه استدلالهم به أن هذه المخارجة من عمر رضي الله عنه تجري مجرى المؤاجرة وقد أجمع العلماء على عدم جواز إجارة الشجر1، وإنما جازت هنا تبعا لإجارة الأرض البيضاء؛ لأنها جائرة ولا تتأتى إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر، وفي هذا المعنى أيضا تجويز المزارعة2 عند بعض الفقهاء تبعا للمساقاة3، وإن كانت لا تجوز عندهم ابتداء4.

1 نقل هذا الإجماع ابن تيمية في القواعد النورانية ص162، وانظر الأموال لأبي عبيد ص89-90.

2 المزارعة لغة: مفاعلة من الزرع وهو الإنبات. وفي الاصطلاح: دفع الأرض إلى من يزرعها ويعمل عليها والزرع بينهما، أو عقد على الزرع ببعض الخارج. انظر: الصحاح 3/1225 (زرع) والمغني 7/555، والهداية 4/383.

3 المساقاة لغة: مفاعلة من السقي، والسقي أن يعطيه ما يشرب. وفي الاصطلاح: أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم من ثمره. انظر الصحاح 6/2379، والمفردات ص235 (سقى) ، والمغني 6/527، وأنيس الفقهاء ص274.

4 خلاصة أقوال الفقهاء في المساقاة والمزارعة كما يلي: ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز المساقاة، ومنعها الإمام أبو حنيفة وأجازه صاحباه، أما المزارعة فقد أجازها كثير من أهل العلم من الصحابة والتابعين، وأبو يوسف، ومحمد من الحنفية، وهو مذهب الإمام أحمد، ومنعها الباقون. انظر تفصيل ذلك في الهداية 4/383، 393، والمغني 7/527، 555، وانظر القواعد النورانية ص162.

ص: 602

العمل بالقاعدة:

تقدم أن عددا من فقهاء المذاهب الأربعة قد نصوا على هذه القاعدة، أو ذكروا من القواعد ما يدل على معناها.

كما تقدم نقل الاتفاق على جواز بيع الحمل تبعا لأمه وعدم جواز بيعه مستقلا، ونقل النووي الإجماع على جواز بيع الجُبَّة المحشوة وإن لم يُر حشوها، ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز1.

وهذا كله دليل على أن هذه القاعدة معمول بها في المذاهب الأربعة.

من فروع القاعدة:

1-

يجوز بيع الحمل تبعا لأمه ولا يجوز بيعه منفردا2.

1 انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 10/156.

2 انظر: الهداية 3/48، والقوانين الفقهية ص220، والمهذب 1/265، والمغني 6/299.

ص: 603

2-

إذا أبق العبد المغصوب ضمنه الغاصب ومَلَكَه عند بعض الفقهاء، ولو اشتراه لم يجز وكذا كل مغصوب تعذَّر ردّه1.

وجه التيسير:

تتضمن هذه القاعدة التيسير من جهة أن الشرع يتسامح في ما كان تابعا لغيره بحيث يصح وإن لم تتحقق فيه كل الشروط المطلوبة أصلا، ويكتفي بتحققها في متبوعه فيجوز تبعا وضمنا مالا يجوز قصدا مراعاة لحاجات الناس، ولفظ "يغتفر" في القاعدة مشعر بهذا المعنى. والله أعلم.

1 انظر الأقوال في هذه المسألة في الأشباه والنظائر لابن نجيم ص122، وشرح الخرشي 6/144، والمهذب 1/368-369، والمغني 7/400.

ص: 604

القاعدة الخمسون: يغتفر في الابتداء مالا يغتفر في الدوام1.

أورد كثير من الفقهاء هذه القاعدة بعد إيرادهم لعكسها وهي قاعدة ((يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء)) إما على سبيل الإتباع لها، وإما على سبيل ذكر المستثنيات منها2. وابتدأ الزركشي بذكر قاعدة ((يغتفر في الابتداء)) وأعقبها بالأخرى3.

معاني المفردات:

يغتفر: تقدم بيان معناها4.

1 حق هذه القاعدة التأخير عن قاعدة ((يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء)) وهي القاعدة التالية لأن هذه القاعدة أني قاعدة ((يغتفر في الابتداء)) استثناء من قاعدة ((يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء)) ولكن اقتضى منهج الترتيب تقديمها.

2 انظر: المجموع المذهب (رسالة) 2/718، والأشباه والنظائر للسيوطي ص186، ولابن نجيم ص122، وشرح القواعد الفقهية ص233، والقواعد الفقهية للندوي ص205.

3 انظر: المنثور 3/372-374.

4 راجع ص 596.

ص: 605

المعنى الإجمالي:

معنى هذه القاعدة أن الشرع قد يتسامح في ابتداء الأمور أكثر مما يتسامح في دوامها فيجيز بعض الأمور إذا فعلت ابتداء. لكنه لا يجيز الاستمرار عليها لو طرأت أثناء الفعل، أو يجيزها ابتداء لغرض معين ولا يجيز الاستمرار عليها.

مثال الأول ما ذكره ابن نجيم رحمه الله أنه يصح تقليد الفاسق القضاء ابتداء أما لو كان عدلا ابتداء ثم فسق فإنه ينعزل عند بعض العلماء بذلك.

ومثال الثاني شراء المسلم أحد أبويه مثلا فإنه يصح ابتداء ليتسنى له عتقهما، لكن لا يصح دوامه والاستمرار عليه.

الأدلة:

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بحديث: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" 1، وحديث: "لا يجزئ ولد والدا إلا أن يجده مملوكا

1 أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني. سنن أبي داود مع عون المعبود 10/340 (العتق/من ملك ذا رحم محرم) ، وسنن الترمذي مع التحفة 4/603 (الأحكام/من ملك ذا محرم) ، وسنن ابن ماجه 2/843 (العتق/من ملك ذا رحم محرم)، وانظر: صحيح سنن أبي داود 2/748.

ص: 606

فيشتريه فيعتقه"1.

فإن هذين الحديثين يدلان على صحة شراء الإنسان ذا رحمه المحرَّم وامتلاكه ابتداء ولا يصح دوام استمرار ملكه له وإنما جاز ذلك ابتداء لما فيه من مصلحة تحريره من العبودية كما يبدو للناظر في المسائل التي مثل بها الفقهاء لهذه القاعدة حيث يجعلون علة ذلك مراعاة المصلحة بما ر يتنافى مع النصوص في كل حكم بحسبه، ففي المثالين اللذين ذكرهما ابن نجيم رحمه الله وهما: أن الفاسق يصح توليته القضاء ابتداء وينعزل لو فسق في أثناء توليه القضاء، وأنه يصح الإذن للعبد الآبق ابتداء ولو أبق بعد الإذن له بطل ذلك الإذن، يتبين أنهم قالوا فيهما: يغتفر في الابتداء مالا يغتفر في الدوام؛ لأن حالة النائب أو المأذون معلومة ابتداء فإذا ولاه القضاء وهو فاسق صح ذلك عند القائلين به لأنه ولاه مع علمه بفسقه، أما إذا ولاه وهو عدل فكأنه شَرَط ضمنا في توليته القضاء أن يكون عادلا فإذا تغير حاله بما يقتضي تغيير الحكم

1 أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحيح مسلم مع النووي 10/152 (العتق/فضل عتق الوالد) .

ص: 607

وزواله لم يبق ذلك الحكم، وكذلك الإذن للعبد1.

العمل بالقاعدة:

نصت كتب الحنفية، والشافعية على وجود صور يغتفر فيها في الابتداء مالا يغتفر في الدوام كما تقدم.

وأما المالكية فقد أورد الونشريسي منهم قاعدة ((الدوام على الشيء كابتدائه أم لا؟)) ، وقوله ((أم لا)) يشمل هذه القاعدة وعكسها، لكن أكثر أمثلته تدل على أنه يريد بها أنه قد يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء2.

وأما الحنابلة فلم أقف على من يشير إلى هذه القاعدة منهم، بل قد ورد ما يدل على أن الابتداء كالدوام كما في تعليل ابن قدامة عدم صحة شراء الكافر مسلما بأنه يُمنع استدامةُ ملكه عليه فَمُنع لبتداؤه كالنكاح3.

1 انظر: الهداية 3/112، 4/329، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص122، والمغني 7/194، والمجموع المذهب (رسالة) 2/718، وانظر أمثلة أخرى في: المجموع المذهب (رسالة) 2/718، وراجع في مسألة تولية الفاسق القضاء ص107/ح2.

2 انظر: إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص163-166.

3 ذهب جمهور الفقهاء إلى منع استدامة ملك الكافر للمسلم، لكن منهم من أجاز ملكه ابتداء، وقال: يجبر على إعتاقه، ومنهم من منعه ابتداء، وذهب صاحبا أبي حنيفة إلى أن الكافر إذا اشترى مسلما لم يعتق. انظر: الهداية 2/244، والقوانين الفقهية ص212، والتنبيه ص90، والمغني 6/368.

ص: 608

وإن كان هذا لا يمنع من أن يكون لهم من المسائل ما يغتفر فيه في ابتدائه مالا يغتفر في دوامه كمسألة ملك ذي الرحم وعتقه التي ورد النص بها فقد اتفق الفقهاء على أن ذا الرحم يعتق على مالكه، فذهب الجمهور إلى أنه يعتق بمجرد ملكه، وذهب البعض إلى أنه لا يعتق إلا أن يُنشئ مالكه عتقا1.

وقد فرع الفقهاء على هذه القاعدة عددا من المسائل يرجع غالبها إلى قاعدة أخرى تقدمت وهي: ((من تعلق به الامتناع من فعل متلبس به فبادر إلى الإقلاع لم يكن ذلك فعلا للممنوع

)) 2.

وجه التيسير:

وجه التيسير في هذه القاعدة يتضح إذا علمنا أن الأصل أن

1 انظر: تحفة الفقهاء 2/266، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 8/120-121، والمهذب 2/4، والمغني 9/223-224.

2 راجع القاعدة السادسة والثلاثين.

ص: 609

يكون حكم الشيء في ابتدائه ودوامه واحدا فاستثنى الشارع من ذلك ما تكون مصلحة المكلفين فيه مقتضية لجعل حكم الابتداء متسامحا فيه بما لا يجوز دوامه والاستمرار عليه1، والله أعلم.

1 انظر: الفوائد الجنية 2/413-414.

ص: 610

القاعدة الحادية والخمسون: يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء.

نص على هذه القاعدة الزركشي1، وذكرها السيوطي على أنها أحد شقي قاعدة ((المانع الطارئ هل هو كالمقارن؟)) 2، وذكرها الونشريسي بصيغة الاستفهام3.

وذكرها العلائي لدى بيانه أقسام المانع حيث ذكر من أقسامه ما يُمنع في حالة الابتداء ولا يُمنع في حالة الدوام4، ووردت في المجلة بصيغة ((يغتفر في البقاء مالا يغتفر في الابتداء)) 5.

1 انظر: المنثور 3/374.

2 لعل مراد السيوطي أن هذه القاعدة، وعكسها وهي القاعدة المتقدمة ((يغتفر في الابتداء مالا يغتفر في الدوام)) كلاهما بمثابة أحد شقي القاعدة المذكورة؛ لأنه في كلتا القاعدتين يختلف الطارئ عن المقارن، ويكون الشق الآخر هو أن يكون الطارئ موافقا للمقارن في الحكم. انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص186.

3 انظر: إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص163.

4 انظر: المجموع المذهب (رسالة) 2/705، وانظر: القواعد والفوائد للعاملي 1/186.

5 المجلة مع شرحها لسليم رستم 1/42.

ص: 611

وأشار إليها السبكي وقال: "إن التحقيق أن وجود الشيء في الدوام بمنزلة وجوده في الابتداء إلا ما استثني، والمستثنى لا يكون قاعدة؛ ولذا فقد اعترض على إدخال ما يقال فيه (قد) كقولهم: ((قد يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء)) ضمن القواعد"1، وذكر في موضوع آخر أن المسائل التي يغتفر فيها في الدوام مالا يغتفر في الابتداء تدخل في فروع قاعدة ((الدفع أسهل من الرفع)) 2، وقد ذكر هذه القاعدة الأخيرة عدد من العلماء بهذه الصيغة، أو بصيغ مقاربة3.

المعنى الإجمالي:

معنى هذه القاعدة أن ما يمتنع على المكلف فعله إما مطلقا أو مقيدا بحال معينة يتسامح الشرع فيه في حال كونه امتدادا واستمرار لوجوده السابق على وجه صحيح4 مالا يتسامح في

1 انظر: الأشباه والنظائر للسبكي 1/315.

2 انظر: المرجع السابق 1/127.

3 انظر: المنثور 2/155، والقواعد لابن رجب ص200، والأشباه والنظائر للسيوطي ص138، وشرح القواعد الفقهية ص235.

4 قيد ((على وجه صحيح)) احتراز عن أن يقال: إن كل استمرار يسلقه ابتداء، فإذا كان مفهوم هذه القاعدة أن ما يغتفر في الدوام قد لا يغتفر في الابتداء فإنه ينبغي منع ذلك الأمر ابتداء.

ص: 612

إيقاعه ابتداءً.

ومن ذلك ما مثل به بعض الفقهاء وهو رَجعة المُحْرِم حيث قالوا: تصح؛ لأنها دوام واستمرار على النكاح، وهذا المثال يصلح على رأي الجمهور الذين يرون عدم صحة نكاح المحرم ابتداء1 وقد يُتَصور ذلك بطريقة أخرى مثل الإحرام فإنه يمنع صحة النكاح ابتداءً. لكنه لا يؤثر على دوامه واستمراره إذا ما كان ذلك العقد واقعا في حالة الإحلال2.

وسبب هذا التسامح من الشارع كون رفع الشيء بعد وقوعه أكثر مشقة وعسرا من دفعه ومنعه ابتداءً وقبل وقوعه.

وهذه القاعدة ليست على إطلاقها؛ لأن هناك قاعدة أخرى عكسها هي القاعدة المتقدمة، لذا فقد قيد بعضهم قاعدة ((الدفع أسهل من الرفع)) بقوله:"غالبا"3، وقد مثل السيوطي

1 هذا هو رأي الجمهور أما الحنفية فإنهم يرون صحة نكاح المحرم، والرجعة من باب أولى. انظر: كتاب المناسك من الأسرار للدبوسي 176 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص120، والمهذب 1/210، والمغني 5/174، والمنثور 3/374.

2 انظر: المجموع المذهب 2/705 (رسالة) .

3 انظر: المواهب السنية وحاشيتها الفوائد الجنية 2/203، وانظر الأنكحة الفاسدة للأهدل ص136، وتحفة المحتاج مع حواشيه 7/251.

ص: 613

والونشريسي، وغيرهما لهذه القاعدة بأمثلة تصلح أمثلة لقاعدة ((من تعلق به الامتناع من فعل وهو متلبس به فبادر إلى الإقلاع عنه لم يكن ذلك فعلا للممنوع)) 1 وهذا يدل على أن هناك تقاربا بين معنى القاعدتين، إلا أنه يمكن أن يُلتمس نوع من الفرق بينهما. ذلك أن نية المكلف وقصده في مسائل قاعدة ((يغتفر في الدوام

)) الاستمرار على ماهو عليه، وأما في نسائل قاعدة ((من تعلق به الامتناع

)) فنيته الإقلاع عما هو فيه لكن هذا الإقلاع لا يحصل إلا بالاستمرار على ماهو عليه قدرا ولو يسيرا من الزمن على صورة من الصور.

الأدلة:

أشار الندوي إلى أن قاعدة ((المنع أسهل من الرفع)) من القواعد التي نشأت عن تعليل الفقهاء2 ومن ذلك تعليلهم صحة رجعة المُحرم وقد تقدم التمثيل بها لهذه القاعدة.

قال ابن قدامة: "فأما الرجعة فالمشهور إباحتها وذكر رواية أخرى، ثم قال: "ووجه الرواية الصحيحة أن الرجعية زوجه والرجعة

1 انظر: إيضاح المسالك ص163، والأشباه والنظائر للسيوطي ص186.

2 انظر: القواعد الفقهية ص396.

ص: 614

إمساك بدليل قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} 1 فأبيح ذلك كالإمساك قبل الطلاق"2.

ويصح الاستدلال بما يقره الشرع من أنكحة الكفار بعد إسلامهم فإن الشرع يقر منها ما لم يكن سبب التحريم فيه قائما بعد الإسلام وإن لم يكن قد عقد على وجه مشروع ابتداءً3 بحيث لو ابتدأ النكاح في الإسلام على ذلك الوجه لم يصح فجاز في الاستمرار مالم يجز ابتداؤه.

وقد تقدم أن هذه القاعدة تقارب في معناها قاعدة ((من تعلق به الامتناع من فعل

)) وعلى هذا فإنه يصح الاستدلال لهذه القاعدة بما يستدل به لتلك من بعض الوجوه4.

1 البقرة (229) .

2 انظر: المغني 7/10، وانظر روح المعاني للألوسي 2/135.

3 المنثور 3/374.

4 أعني أنه لو قيل: إن مشي الغاصب مثلا للخروج من الأرض التي غصبها يعد معصية فإنه يغتفر فيه لكونه دواما واستمرار مالا يغتفر في الابتداء، وراجع أدلة تلك القاعدة.

ص: 615

العمل بالقاعدة:

يظهر من إيراد الفقهاء لهذه القاعدة بصيغتها أو ما يدل على معناها، ومن اتفاقهم على إقرار أنكحة الكفار بعد إسلامهم، ونحو ذلك أن جميع المذاهب الأربعة فيها مسائل يغتفر فيها في الدوام مالا يغتفر في الابتداء، وأن القاعدة معمول بها في المذاهب من حيث الجملة والخلاف إنما يكون فيما بندرج تحت هذه القاعدة من الفروع ومالا يندرج.

من فروع القاعدة:

1-

إذا وجد المتيمم الماء في أثناء الصلاة فهل يقطع صلاته أو يمضي فيها؟ قولان للعلماء1.

2-

إذا حلف لا يدخل الدار وهو فيها أو لا يركب الدابة وهو عليها2.

3-

من تزوج أمةً لعدم طَوْلِ الحرة، ثم أيسر وحصل له الطول

1 انظر آراء الفقهاء في المسألة في: الهداية 1/29، وشرح الخرشي 1/196، والمهذب 1/37، والمغني 1/347.

2 انظر حكم المسألة في: الهداية 2/360، وشرح الخرشي 3/72، والمهذب 2/132، والمغني 13/559-560.

ص: 616

فإن مقتضى القاعدة أن لا يفسد النكاح1.

وجه التيسير:

وجه التيسير في هذه القاعدة أن الشارع يتسامح في رفع الأمر الثابت المستمر مما هو ممنوع ابتداء؛ لكون المشقة في رفع الموجود الثابت أشد منها في دفع الأمر الذي لمّا يوجد بعد

وإن كان هذا ليس علبى عمومه؛ إذ قد يتسامح الشرع في الابتداء أكثر من الدوام إذا كانت مصلحة المكلفين فيه أرجح (على ما تقدم إيضاحه) .

1 هذا على رأي الجمهور في عدم جواز نكاح الأمة مع القدرة على طول الحرة، ويرى الحنفية أن نكاح الأمة جائز حتى مع الطول. انظر الهداية 1/20، وشرح الخرشي 3/221، والمهذب 2/45، والمغني 9/558.

ص: 617