المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة الثانية والخمسون: يقدم النادر على الغالب أحيانا، وقد يلغيان معا - القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير - جـ ٢

[عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌القسم الأول: القواعد

- ‌القاعدة الثالثة والأربعون: النفل أوسع من الفرض

- ‌القاعدة الرابعة والأربعون: نية الأداء تنوب عن نية القضاء، وعكسه

- ‌القاعدة السادسة والأربعون: يجزئ فعل غير المكلف عن المكلف في صور

- ‌القاعدة السابعة والأربعون: يجوز تصرف الآحاد في الأموال العامة عند تعذر قيام الأئمة بذلك

- ‌القاعدة الثامنة والأربعون: يعمل بالقرعة عند تساوي الحقوق

- ‌القاعدة الثانية والخمسون: يقدم النادر على الغالب أحياناً، وقد يلغيان معاً

- ‌القاعدة الثالثة والخمسون: يقوم البدل مقام المبدل منه إذا تعذر المبدل منه

- ‌القاعدة الرابعة والخمسون: ينزَّل غالب الظن منزلة اليقين

- ‌القاعدة الخامسة والخمسون: ينزّل المجهول منزلة المعدوم وإن كان الأصل بقاؤه إذا يُئس من الوقوف عليه أو شق اعتباره

- ‌القاعدة السادسة والخمسون: اليقين لا يزول بالشك

- ‌القسم الثاني: الضوابط

- ‌الضابط الأول: الحدود تسقط بالشبهات

- ‌الضابط الثاني: الشبهة تسقط الكفارة

- ‌الضابط الثالث: لا تجب الإعارة إلا حيث تعينت لدفع مفسدة

- ‌الضابط الرابع: لا تصح الوصية بكل المال إلا في صور

- ‌الضابط الخامس: لا رابطة بين الإمام والمأموم وكل منهما يصلي لنفسه

- ‌الضابط السابع: لا يتوقف الملك في العقود القهرية الاضطرارية على دفع الثمن بل يقع العقد ويكون الثمن مضموناً في الذمة

- ‌الضابط الثامن: لا يجب في عين واحد زكاتان إلا في مسائل

- ‌الضابط التاسع: اللهو واللعب عند الشافعي على الإباحة، وعند مالك على التحريم

- ‌الضابط العاشرة: ليس للنجاسة في الباطن حكم النجاسة

- ‌الضابط الحادي عشرة: من استحق القصاص فعفا عنه إلى بدل فهو له إلا في صور

- ‌الضابط الثاني عشرة: يجبر أحد المشركين على موافقة الآخر إذا كانا محتاجين على رفع مضرّة أو إبقاء منفعة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌القاعدة الثانية والخمسون: يقدم النادر على الغالب أحيانا، وقد يلغيان معا

‌القاعدة الثانية والخمسون: يقدم النادر على الغالب أحياناً، وقد يلغيان معاً

((صياغة))

أورد القرافي هذه القاعدة عند بيانه الفرق بين ما يعتبر من الغالب وما يلغى منه، ثم بين أنه قد يلغى الغالب ويقدم النادر، وأن تقديمه يدخل تحته قسمان أحدهما: اعتبار النادر وإلغاء الغالب، والثاني: إاغاؤهما معا1، وذكر لكل قسم أمثلة لا يخلو بعضها من نظر2، وهي مسألة تعارض الأصل والظاهر، أو تعارض الأصل والغالب3 التي ذكرها عدد من الفقهاء كالنووي4، والمقري5، والزركشي6، وابن رجب7،

1 جعل القرافي هذين القسمين داخلين في تقديم النادر والأولى جعلهما داخلين تحت إلغاء الغالب؛ لأنه في حالة إلغائهما معا لا يكون النادر قد قدم على الغالب إلا على معنى أنه قدم بحيث أصبح مساويا للغالب، ولعل السبب في ذلك هو التلازم الحاصل بين إلغاء الغالب وتقديم النادر، والله أعلم.

2 انظر: الفروق 4/104-111.

3 انظر: المنثور 1/311، وحاشية محقق الأشباه والنظائر للسبكي 1/14.

4 انظر: الأصول والضوابط للنووي ص45.

5 انظر: قواعد المقري 1/239.

6 انظر: المنثور 1/311، وانظر: مختصره (رسالة) 1/206.

7 انظر: القواعد له ص339.

ص: 619

والونشريسي1، والسيوطي2، وابن نجيم3، وتبحث في أصول الفقه في مبحث الاستصحاب4.

معاني المفردات:

النادر لغة: الشاذ. اسم فاعل من نَدَرَ أي سقط وشذّ5.

المعنى الإجمالي:

يشير القرافي بهذه القاعدة إلى أن الأصل في قواعد الشرع مراعاة الغالب وإلغاء النادر6 كما نص على ذلك كثير من الفقهاء في قاعدة ((العبرة بالغالب، والنادر لا حكم له)) ، ونحوها7.

1 انظر: إيضاح المسالك ص178.

2 انظر: الأشباه والنظائر له ص64.

3 انظر: الأشباه والنظائر له ص57-58.

4 انظر: الإحكام 4/111-118، وشرح تنقيح الفصول ص447، وشرح الكوكب المنير 4/406.

5 انظر: الصحاح 2/824 (ندر) .

6 انظر: الفروق 4/104.

7 انظر هذه القاعدة في أصول الكرخي المطبوع مع تأسيس النظر ص164، والمنثور 3/243 وما بعدها، ومختصره للشعراني (رسالة) 2/746، وخاتمة مغني ذوي الأفهام ص175، ومجلة الأحكام العدلية مع شرحها 1/37.

ص: 620

فإذا كان للمسألة الواحدة وجهان للحكم أحدهما باعتبار الغالب فيها والآخر باعتبار النادر، فإن الشارع يأخذ بالغالب ويبني الحكم عليه. هذا هو الأصل، لكنه قد يلغي هذا الأصل ويقدم العمل بالنادر على العمل بالغالب إذا كان الحكم بموجب النادر أكثر تيسيرا على المكلفين أو يلغيهما معا للعلة نفسها.

وينطبق هذا المعنى على من جعل ذلك من باب تقديم الأصل على الظاهر عند تعارضهما، فإن قواعد الشرع تقتضي العمل بالظاهر وترجيحه على الأصل عند تعارضهما لكن الشارع قد يلغي العمل بالظاهر ويُعمل الأصل تيسيرا على المكلفين ويكون هذا مرجحا للأصل النادر على الظاهر الغالب1.

الأدلة:

يستدل على هذه القاعدة وأمثالها باستقراء الشرع فإن المستقرئ للشرع يجد أنه يلغي الغالب ويعمل بالنادر أحيانا عندما يكون ذلك أيسر للمكلفين وأقرب إلى مصلحتهم، ومن الأدلة التي جاء فيها إلغاء الغالب:

1-

قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ

1 انظر: حاشية محقق الأشباه والنظائر للسبكي 1/14.

ص: 621

لَكُمْ} 1.

قال القرافي: "إن مما قدم فيه النادر ما يصنعه أهل الكتاب من الأطعمة في أوانيهم وبأيديهم. الغالب نجاسته؛ لعدم تحرزهم عن النجاسات؛ ولمباشرتهم الخمور والخنازير ولحوم الميتات، والنادر طهارته، ومع ذلك أثبت الشرع حكم النادر وألغى حكم الغالب وجوّز أكله؛ توسعة على العباد"2.

2-

وحديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة3 بنت زينب بنت

1 المائدة (5) .

2 كلام القرافي رحمه الله هذا وإن كان متوجها في بعض الصور والمسائل كالآنية التي يستعملها الكفار لغير الطبخ. إلا أنه يحتاج إى تقييد في بعض مسائله، إذ المشروع غسل آنية أهل الكتاب التي يطبخون فيها قبل استعمالها على وجه الاستحباب عند بعض الفقهاء. انظر: الفروق 4/105، والجامع لأحكام القرآن 6/78، والمغني 1/110.

3 هي: أمامة بنت أبي العاص بن الربيع القرشية أمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، ولدت على عهده صلى الله عليه وسلم وكان يحبها، وتزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة أبي العاص، وبعد وفاة فاطمة رضي الله عنها. انظر: أسد الغابة 5/400، والإصابة 7/501-504.

ص: 622

رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي العاص1 بن ربيعة بن عبد شمس فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها"2.

قال ابن حجر في الفتح: "واستدل به على ترجيح العمل بالأصل على الغالب كما أشار إليه الشافعي"3

فالغالب على ثياب الصبيان النجاسة ولم يعتبر الشرع هذا الغالب بل اعتبر الأصل وهو طهارة الثياب ولإن كان في الصبيان نادرا.

1 هو: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس القرشي رضي الله عنه، صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلف في اسمه فقيل: لقيط، وقيل: هشيم، وقيل: مهشم، أسلم قبل الفتح أول السنة الثامنة وتوفي سنة 12هـ.

أما ما جاء في رواية هذا الحديث من أنه ابن ربيعة بن عبد شمس فقد قال ابن حجر: "إن الصواب أنه ابن الربيع، وقد جاء في بعض روايات الحديث ذكر اسمه صحيحا (ابن الربيع)، وقال: إن قول الراوي: ابن عبد شمس نسبة لأبي العاص إلى جده. انظر: أسد الغابة 5/336-338، والإصابة 7/248-251، وفتح الباري 1/704.

2 أخرجه البخاري. صحيح البخاري مع الفتح 1/703 (الصلاة/إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة) .

3 فتح الباري 1/705، وانظر الأم 1/47.

ص: 623

3-

قول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} 1، وقوله تعالى:{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} 2، وقوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} 3.

حيث أخذ العلماء من مجموع هذه الآيات أن أقل دمة الحمل ستة أشهر هي نتيجة طرح مدة عامين (وهي زمن الرضاعة) من مجموع مدة الحمل والرضاعة وهي ثلاثون شهرا4.

فيكون الشارع قد اعتبر النادر في أقل مدة الحمل وهو ستة أشهر وألغى الغالب وهو حصوله في تسعة أشهر، فإذا ولدت المرأة بعد ستة أشهر من وطء صحيح فإن الولد يُلحق بالزوج وإن كان الغالب أنه أي الولد حصل من وطء سابق على الوطء الصحيح (أي من الزنا) لكون الغالب في مدة الحمل تسعة أشهر؛ وذلك صونا للأعراض وسترا للعباد، وكذلك بالنسبة إلى أكثر مدة الحمل فلو طلّق رجل امرأته أو مات عنها، ثم جاءت بولد بعد طلاقه إياها أو موته عنها بخمس سنين، أو بأربع سنين ولم تكن قد

1 البقرة (233) .

2 لقمان (14) .

3 الأحقاف (15) .

4 انظر: تفسير القرآن العظيم 4/169، والجامع لأحكام القرآن 16/193.

ص: 624

تزوجت فإنه يعتبر ولدا له يُلحق به وإن كان الغالب أنه حاصل بعد موته عن زوجته أو تطليقه إياها (أي من زنا) ، فقد ألغى الشارع هذا الغالب؛ سترا للعباد وصونا للأعراض أيضا. ودليل أكثر مدة الحمل هو الاستقراء؛ لأنه لا نص فيه فقد وجد من وُلد لأربع سنين ووجد من ولد لأكثر من ذلك.

وقد اختلف العلماء في أكثره فمنهم من قال: أربع سنين، ومنهم من قال: خمس سنين، ومنهم من قال: سنتان إلى غير ذلك1، والاستقراء يُثبت صورا أخرى يلغى فيها الغالب، وقد ذكر القرافي عددا منها كما تقدم2.

وإما إلغاء الغالب والنادر معا فقد مثل له القرافي بشهادة ثلاثة عدول في الزنا وأكثلة أخرى نحوه وبين معنى إلغاء النادر والغالب فيه فقال: "الغالب صدقهم ولم يحكم الشرع به سترا على المدعى عليه، ولم يحكم بكذبهم. بل أقام عليهم الحد من حيث أنهم قذفوه لا من حيث أنهم شهود زور"3.

1 انظر في مسألة أقل مدة الحمل وأكثره: المغني 11/321.

2 انظر: الفروق 4/104-108.

3 الفروق 4/109، وانظر الجامع لأحكام القرآن 12/178، والمغني 14/188.

ص: 625

وعلى هذا فإنه يستدل لهذا القسم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 1 فأما إلغاء الغالب في هذا المثال قظاهر، وأما إلغاء النادر فعو محل نظر -فيما أرى- وقد يُعارض بقوله تعالى:{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 2.

قال القرطبي: "أي في حكم الله كاذبون وقد يعجز الرجل عن إقامة بينة وهو صادق في قذفه، لكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله تعالى، وهو إنما رتّب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ماهو عليه"3.

العمل بالقاعدة:

لقد تقدم أن هذه القاعدة بمثابة الاستثناء من قاعدة ((العبرة بالغالب، والنادر لا حكم له)) وما في معناها، ويبدو من نصوص الفقهاء الاتفاق على أن هناك مسائل راعى فيها الشارع النادر ولم يراع الغالب. وصرح القرافي بأن العمل بالغالب مطلقا خلاف

1 النور (4) .

2 النور (13) .

3 الجامع لأحكام القرآن 12/203.

ص: 626

الإجماع1، وورد في كتب الفقه ما يدل على أنه قد يعمل بالنادر ويلغي الغالب، وقد يعبر عنه بالعمل بالنادر وقد يعبر عنه بالعمل بالأصل2.

من فروع القاعدة:

1-

ما تقدم ذكره من جواز الصلاة في الثياب التي ينسجها الكفار، والأكل في آنيتهم ونحو ذلك.

2-

مثّل ابن رجب لما يعتبر فيه النادر بدعوى المرأة بعد زمن عدم إنفاق زوجها عليها فإن القول قولها مع اليمين وإن كان الغالب عكس ذلك وهو الإنفاق هذا على رأي الجمهور، وذهب المالكية إلى أن القول قول الزوج3 وهذه الأحوال وما شابهها عمل فيها بالنادر ولكن لا من جهة كونه نادرا بل من جهة كونه على الأصل.

1 انظر: الفروق 4/107.

2 انظر: حاشية رد المحتار 1/325، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 1/97-98، والمجموع 1/317، والمغني 1/112-113، وراجع ما تقدمت الإحالة إليه من كتب القواعد.

3 انظر تفصيل المسألة في: الدر المختار مع حاشية رد المحتار 3/595، وشرح الخرشي 4/311، والمهذب 2/164، والمغني 11/370.

ص: 627

وجه التيسير:

وجه ذكر هذه القاعدة ضمن قواعد التيسير أن الشرع قد راعى مصلحة العباد وما هو أيسر عليهم، فإذا كانت مصلحتهم في مراعاة النادر فإن الشارع يراعيه ويعمل بمقتضاه مع أن القاعدة الشرعية الثابتة بالتتيع أن الحكم للغالب لا للنادر.

قال القرافي: "اعلم أن الأصل اعتبار الغالب وتقديمه على النادر، وهو شأن الشريعة كما يقدم الغالب في طهارة المياه، وعقود المسلمين، ويُقصر في السفر ويُفطر بناء على غالب الحال وهو المشقة، ويَمنع شهادة الأعداء؛ لأن الغالب منهم الحيف، وهو كثير في الشريعة لا يحصى كثرة، وقد يلغي الشرع الغالب رحمة بالعباد"1.

1 انظر: الفروق 4/104-107، وكتاب أحكام النجاسات في الفقه الإسلامي 2/683-685.

ص: 628