الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضابط الثالث: لا تجب الإعارة إلا حيث تعينت لدفع مفسدة
.
…
الضابط الثالث: لا تجب الإعادة إلا حيث تعينت لدفع مفسدة.
أورد هذا الضابط السيوطي بهذا اللفظ، تحت عنوان قاعدة1، وذكر بعده قاعدة أخرى هي قوله:"العرية لا تلزم إلا في صور"2، وأشار إلى معناها عدد من الفقهاء بذكر بعض صورها، وأورد الزركشي قاعدة لفظها:((الفرض لا يؤخذ عليه عِوَض)) ، وذكر من فروعها مسائل مما يجب بذله بالإعارة ونحوها3، وأورد ابن رجب قاعدة أعم من هذا الضابط خلاصتها أنه "يجب بذل ما تدعو الحاجة إلى الانتفاع به من الأعيان -ولا ضرر في بذله- مجانا في الأظهر" ولكن يظهر من أمثلته أن البذل المقصود غي أغلب صورها هو البذل على سبيل الإعارة أو مافي معناها4.
1 وقد اعتبرته ضابطا لتعلقه بباب واحد من أبواب الفقه وهو باب العارية. راجع ما تقدم في بيان الفرق بين القاعدة والضابط.
2 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص467.
3 انظر: المنثور 3/28-32.
4 انظر: القواعد لابن رجب ص227.
معاني المفردات:
الإعارة لغة: مصدر أعار يُعير وبمعناها العارية، وهي من التعاور وهو التداول. يقال: عار السيء إذا ذهب وجاء، وقيل: كأنها من منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها عارٌ1.
وفي اصطلاح الفقهاء: هي تمليك منفعة بلا بدل2، وقيّدها بعضهم بأن تكون مؤقتة3.
وقيل: إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال4.
المعنى الإجمالي:
العرية في أصلها عقد جائز أي أن لمالك العين أن يعيرها وله أن يمنعها، وإذا أعارها كان له أن يستردها متى شاء ما لم يكن ذلك محددا بوقت؛ فإن كانت محددة بوقت لم يكن للمعير استرجاعها قبله.
وهذا الضابط يدل على أن الإعارة قد تجب على مالك العين
1 انظر: مقاييس اللغة 4/184، والصحاح 2/761 (عود) .
2 التعريفات ص146.
3 انظر: المجموع 13/247.
4 المغني 7/340.
وذلك عندما يترتب على معناها وعدم إعارتها مفسدة1.
والظاهر من إيراد السيوطي للضابطين المتقدمين أنه يريد بالأول منهما أن الإعارة قد تجب ابتداء كوجوب إعارة الدلو لمن يريد أن يستقي أو يسقي مواشيه وهو مضطر لذلك، ويريد بالآخر أن الإعارة قد تلزم بمعنى وجوب استمرارها وعدم جواز استرجاع العين المعارة إذا كان في استرجاعها مفسدة ظاهرة، وضرر على المستعير كمن أعار غيره أرضا ليزرعها فأراد المعير أن يرجع قبل أن يحصد المستعير ما زرع، وكمن أعار غيره أرضا ليدفن فيها ميتا، ثم أراد الرجوع فيها قبل أن يبلى ذلك الميت حيث ذهب كثير من الفقهاء إلى منعه من ذلك على ما سيأتي تفصيله قريبا إن شاء الله؛ وذلك دفعا لأعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما؛ إذ في لزوم الإعارة في هذه الأحوال مضرة في حق المعير لكن الشارع لم يراعها لكون ارتكابها يدفع مفسدة أعظم.
وقد قيد بعض العلماء هذا الضابط وما في معناه بعدم تضرر
1 انظر حكم العاريّة في: الكشاف للزمخشري 4/237، وأحكام القرآن لابن العربي 4/1985، وأضواء البيان 9/556، والمحلى 10/160، والمغني 7/340، ونيل الأوطار 6/42.
صاحب العين كما نص على ذلك ابن رجب1؛ ولذا فإن بعض الفقهاء قد نصوا على أن الإعارة إذا كانت مؤقتة بزمن معين أو غرض ولزم استمرارها لدفع مضرة المستعير، فإن عليه أجرة المثل فيما زاد عن المدة المؤقتة لدفع الضرر عن المعير2.
ولا يخفى أن الضرر أمر نسبي؛ إذ لا يخلو بذل عين من الأعيان وإباحة الانتفاع بها من قدر من الضرر.
الأدلة:
يمكن الاستدلال لهذا الضابط بما يلي:
أولا: قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} 3.
فقد أخذ بعض العلماء من الوعيد الوارد في هذه الآيات وجوب العاريّ عند احتياج الناس إليها4.
1 انظر: القواعد لابن رجب ص227.
2 انظر: بدائع الصنائع 8/3903، وروضة الطالبين 4/440، والمغني 7/351.
3 الماعون (4-7) .
4 انظر: الكشاف للزمخشري 4/377، وأحكام القرآن لابن العربي 4/1985، وأضواء البيان 9/556، والمغني 7/340.
ثانيا: بعض الأدلة التي فيها الأمر بأنواع معينة من البذل وذم منعها.
كحديث: "لا يمنع جار جارَه أن يغرز خشبه في جداره"1.
ومن هذا القبيل الأثر المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن الضحاك2 بن خليفة ساق خليجا3 له من العُرَيْض4
1 متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ للبخاري. صحيح البخاري مع الفتح 5/131 (المظالم/لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) ، وصحيح مسلم مع النووي 11/47 (المساقاه/غرز الخشب في جدار الجار) .
2 هو: الضحاك بن خليفة بن ثعلبة الأنصاري الأشهلي رضي الله عنه، شهد أحدا وتوفي في آخر خلافة عمر رضي الله عنه. انظر: أسد الغابة 3/35، والإصابة 3/475-476.
3 الخليج هنا هو: نهر يساق من النهر الأعظم. انظر الصحاح 1/311، والمجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1/604 (خلج) .
4 العريص: واد بالمدينة كما ذكره الفيروز آبادي، وقال عاتق البلادي:"هو ناحية من المدينة في طرف حرة واقم شملها العمران، ومازالت معروفة" انظر القاموس المحيط 2/336 (عرض) ، ومعجم المعالم الجغرافية في السنة النبوية ص205-206.
فأراد أن يمر في أرض محمد بن مسلمة1 فأبى محمد. فقال له الضحاك: لمَ تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولا وآخرا ولا يضرك؟ فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة، فإمر أن يخلي سبيله، فقال محمد: لا، فقال عمر: لمَ تمنع أخاكم ما ينفعه وهو لك نافع تسقي به أولا وآخرا وهو لا يضرك؟ فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرنّ ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمرّ به، ففعل الضحاك"2.
ثالثا: العمومات التي فيها الحث على التعاون، وإحسان الناس بعضهم إلى بعض، وبذل المعروف وهي كثيرة منها: قوله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} 3، وقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 4.
1 هو: محمد بن مسلمة الأنصاري الحارثي يكنى (أبا عبد الرحمن) ، ولد قبل البعثة بالثنتين وعشرين سنة، شهد بدرا والمشاهد كلها إلا تبوك، وتوفي بالمدينة سنة 43هـ، وقيل سنة 46هـ. انظر: أسد الغابة 4/330-331، والإصابة 6/33-35.
2 أخرجه الإمام مالك غي الموطأ 2/746 (الأقضية/القضاء في المرفق) .
3 البقرة (237) .
4 المائدة (2) .
فإن هاتين الآيتين ومافي معناهما تتضمنان بعهومهما الأمر بالإحسان إلى الناس ببذل ما تدعو حاجتهم إلى بذله1.
رابعا: عموم الأدلة الدالة على النهي عن إبقاع الضرر على الغير. كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" 2؛ فإن منع ما يحتاج الناس إليه مع عدم التضرر ببذله يعدّ من قبيل الإضرار بالغير3.
ولما كان بعض الفقهاء قد ذكر القاعدة بلفظ أعم بحيث يشمل البذل على سبيل العارية، وغيرها؛ فإنه يمكن الاستدلال بحديث:"لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ"4، ومافي
1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 6/46، وأضواء البيان 9/555، والمهذب 1/362، وجامع العلوم والحكم ص268.
2 تقدم تخريجه ص 282.
3 هذا مبني على مسألة أصولية وهي: هل الترك فعل؟ زهز عند الجمهور فعل إذا وجد ما يدعو إلى الفعل. انظر: المحصول ج1ق2/505-507، والإحكام للآمدي 1/136، ونشر البنود 1/64، وجامع العلوم والحكم ص271، وأضواء البيان 9/556.
4 متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحيح البخاري مع الفتح 5/39 (الشرب والمساقاة/من قال: صاحب الماء أحق بالماء حتى يروي) ، وصحيح مسلم مع النووي 10/230 (المساقاة/تحريم بيع فضل الماء) .
معناه من الأحاديث.
عمل الفقهاء بهذا الضابط:
اتفق العلماء على استحباب العاريّ في حق المعير لكونها من الإحسان المأمور به ولما فيها من قضاء حوائج الناس، وعلى أنه يتأكد هذا الاستحباب في حال الحاجة والضرورة.
أما وجوبها ابتداء فإن أكثر الفقهاء لم يصرحوا به، ولعل ذلك راجع إلى أن عدم وجوبها هو الأصل، وقد صرح ابن قدامة بأن أكثر العلماء لا يرون وجوبها1 وقد تقدمت الإشارة إلى أنه قد نقل عن بعض العلماء إيجابها.
وإنما أوجب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة العارية بمعنى استمرارها إذا ما كان المستعير يتضرر من استرجاع العين المعرة، كالذي يستعير أرضا ليزرعها أو ليبني عليها بناء أو نحو ذلك، ويكون ذلك مؤجلا بأجل محدود فإنه إذا انتهى الأجل قبل الحصاد، وقبل الانتفاع المقصود لزم المعير عند الجمهور
1 انظر: المغني 7/340.
أن يستمر في إعارة الأرض ولم يجز له إلزام المستعير بتخليتها، وعلى المستعير أجرة المثل عند أكثر الفقهاء. على تفصيل في ذلك سيأتي بيانه إن شاء الله.
قال الكاساني من الحنفية: "فأما إذا استعار أرضا للزراعة فزرعها ثم أراد صاحب الأرض أن يأخذها لم يكن له ذلك حتى يحصد الزرع. بل تترك في يده إلى وقت الحصاد بأجرة المثل استحسانا"1، وذكر ابن نجيم عددا من الصور التي للمستعير فيها حق المنع من أداء ما استعاره بعد أن يطلب منه2،
وذكر النووي في مثل هذه الصورة أنه إن كان مما يُعتاد قطعه كلّف قطعه وإلا فأرجه أصحها: أنه يلزم المعير إبقاؤه إلى أوان الحصاد، وهل له الأجرة؟ وجهان3.
وقال ابن قدامة: "وللمعير الرجوع في العارية في أي وقت شاء سواء كانت مطلقة أو مؤقتة ما لم يأذن في شغله بشيء يتضرر بالرجوع فيه"4
1 بدائع الصنائع 8/3903-3904.
2 انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص401.
3 انظر: المجموع 13/244، وروضة الطالبين 4/440.
4 المغني 7/350-351.
وظاهر مذهب المالكية أنه لا يلزم المعير ذلك.
قال الخرشي: "من أعار شخصا أرضه ليبني فيها، أو يغرس غرسا إلى مدة معلومة ثم انتقضت مدة البناء أو الغرس المشترطة أو المعتادة، فإن المستعير حكمه حكم الغاصب فإن شاء أمره بالقلع وتسوية الأرض، أو أمره بإبقاء ما فعل ويدفع له قيمة ذلك منقوضا
…
الخ كلامه1.
فظهر من هذا أن الجمهور يقولون بلزوم استمرار الإعارة في حالة كون الرجوع فيها يؤدي إلى ضرر بالمستعير، وهذا نوع من وجب الإعارة بعد اتفاقهم على استحبابها، والله أعلم.
من فروع هذا الضابط:
تقدم ذكر بعض فروع هذا الضابط ومنها أيضا:
1-
من أعار غيره لوحا ليرقع به سفينة، فليس للمعير طلب العارية ما دامت في البحر لما يترتب عليه من ضرر2
2-
ومن فروعها ما ذهب إليه بعض الفقهاء من وجوب إعارة
1 انظر شرح الخرشي مع حاشية العدوي 6/127.
2 انظر حكم هذه الصورة ونحوها ف: ي الأشباه لابن نجيم ص401، والأشباه للسيوطي ص467، والمغني 7/351.
الدلو، والفأس، ونحوهما ابتداء إذا احتيج إلى بذله لدفع مفسدة، وتعيّن1.
وجه التيسير:
وجه التيسير في هذا الضابط على القول بوجوب الإعارة في بعض الصور أن الشارع قد ألزم مالك العين ببذل منفعتها لمن يحتاج إليها مراعاة لحاجة الناس وهذا ظاهر في حق المستعير؛ لأنه هو المستفيد من هذه المنفعة.
أما في حق المعير فقد يبدو الأمر على خلاف ذلك؛ لأنه يتضرر ببذل ماله لكن الشارع رجّح دفع المفسدة العظمى على دفع المفسدة الدنيا على القاعدة المشهورة في الموازنة بين المصلحتين أو المفسدتين عند تعارضهما وذلك بناء على أن ملك الإنسان للمال إنما هو من قبيل الاستخلاف فيه كما قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} 2.
1 الأصل في العارية استحبابها وعدم وجوبها وهو قول الجمهور، وإنما أوجبها من أوجبها في هذه الحال من باب دفع الحاجة أو رفعها. انظر: المغني 7/340، وقواعد ابن رجب ص227، والأشباه والنظائر للسيوطي ص467، وشرح النووي على صحيح مسلم 7/71.
2 الحديد (7)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن 17/238.