الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضابط الخامس: لا رابطة بين الإمام والمأموم وكل منهما يصلي لنفسه
.
أورد السبكي هذا الضابط وعنون له ب (مأخذ) 1، ونص على أنه من ضوابط المذهب الشافعي حيث قال:"قال علماؤنا: لا رابطة بين الإمام والمأموم وكل منهما يصلي لنفسه"، ثم بين ضابط المذاهب الأخرى في ذلك2.
وقال الإمام الشافعي: "كما لا يجزئ عني فعلُ إمامي فكذلك لا يُفسد عليّ فعل إمامي"3، كما أشار إلى هذا الضابط ابن تيمية مبرزا قول الفقهاء في مدى الارتباط بين صلاة الإمام وصلاة المأموم4.
وذكره المقري في مواضع مفصلا رأي المالكية في ذلك5.
1 المأخذ في اصطلاحه ما تختلف فيه بين الأئمة، وانبنى عليه فروع فقهية.
2 الأشباه والنظائر للسبكي ومقدمةة تحقيقه 1/د، 2/254، والمرجع المتقدم 2/264.
3 مختصر المزني 1/92-93.
4 من مجموع الفتاوى 23/370-371، والقواعد النورانية ص101-102.
5 انظر: قواعد المقري 2/389، 446، 450.
وأشار إليه القرافي عند بيان الفرق بين ما يجوز فيه تقليد المجتهد لمجتهد آخر، ومالا يجوز فيه ذلك1.
المعنى الإجمالي:
لعل أوضح ما يبين معنى هذا الضابط ما أوضحه به السبكي حيث قال: "
…
ولا نعني بانتفاء الرابطة انتفاء العلاقة رأساً فإن بينهما علاقة بلا شك، وإنما نعني بالرابط أن لا يلزم من فساد واحدة، أو كونها مؤداة فساد الأخرى، ولا كونها مؤداة بل قد تكون صحيحة أو مقضية"2.
وقال في –موضع آخر-: "ولا ننكر بينه –أي المأموم- وبين الإمام علاقة لكنها لا تنتهي إلى الحد الذي قالوه"3 أي من ذهب إلى فساد صلاة المأموم بفساد صلاة الإمام كما سيأتي تفصيله إن شاء الله –تعالى-.
الأدلة:
استدل الآخذون بهذا الضابط بحديث: "يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم"4.
1 انظر: الفروق 2/100-101.
2 الأشباه والنظائر للسبكي 2/264.
3 المرجع السابق 2/266.
4 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – صحيح البخاري مع الفتح 2/219 (الأذان /إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه) .
نقل ابن حجر عن ابن منذر قوله: "هذا الحديث يرد على من زعم إن صلاة الإمام إذا فسدت فسدت صلاة من خلفه"، وقال: واستدل بعضهم على صحة الإئتمام بمن يخل بشيء من الصلاة ركناً أو غيره إذا أتم المأموم، وقيد ذلك بالأمور الاجتهادية. كمن يصلي خلف من لا يرى قراءة البسملة، ولا أنها من أركان القراءة، ولا أنها آية من الفاتحة. بل يرى أن الفاتحة تجزيء بدونها فإن صلاة المأموم تصح إذا قرأ هو البسملة؛ لأن غاية حال الإمام في هذه الحالة أن يكون أخطأ وقد دلّ الحديث على أن خطأ الإمام لا يؤثر في صلاة المأموم إذا أصاب1.
وقال ابن تيمية: إن هذا الحديث نص في أن الإمام إذا أخطأ كان درك خطئه عليه لا على المأمومين2.
2-
حديث: "الإمام ضامن فإذا أحسن فله ولهم، وإن أساء فعليه ولا عليهم"3. وهو في معنى الحديث الأول، وفي معنا هما
1 انظر الفتح 2/220، وانظر: شرح السنة للبغوي3/405.
2 انظر القواعد النورانية ص 102.
3 أخرجه ابن ماجة من حديث عقبة بن عامر –رضي الله عنه، وصححه الألباني.
سنن ابن ماجة 1/314 (إقامة الصلوات/ ما يجب على الإمام)، وانظر: صحيح سنن ابن ماجة 1/161.
أحاديث أخرى1.
3-
ما روي "أن عمر –رضي الله عنه – صلى بالناس وهو جنب فأعاد ولم يأمرهم أن يعيدوا"2
4-
ما روي "أن عثمان بن عفان –رضي الله عنه – صلى بالناس وهو جنب، فلما أصبح نظر في ثوبه احتلاماً فقال: كبرت والله، ألا أراني أجنب ثم لا أعلم ثم أعاد ،ولم يأمر هم أن يعيدوا "3.
5-
ما روي عن علي –رضي الله عنه – أنه قال: "إذا صلى الجنب بالقوم فأتم بهم الصلاة آمره أن يغتسل ويعيد ولا آمرهم أن يعيدوا"4.
1 انظر: نيل الأوطار 3/213-214.
2 أخرجه الدارقطني في سننه 1/364 (الصلاة الإمام وهو جنب أو محدث) ، والبيهقي في سننه 3/399 (الصلاة /إمام الجنب) .
3 أخرجه الدارقطني في سننه 1/365 (الصلاة الإمام وهو جنب أو محدث) ، والبيهقي في سننه 2/400 (الصلاة /إمام الجنب) ، وروي في ذلك عدة آثار أخرى في الباب المذكور.
4 أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/45 (الصلاة الرجل يصلي بالقوم وهو على غير وضوء) .
ولما كان هذا الضابط محل خلاف بين العلماء كان من المناسب بيان ما يستدل به المخالفون، وهم الذين يرون أن صلاة المأموم تفسد بفساد صلاة إمامه.
فقد ذكر السبكي، وابن تيمية أن مما استدلوا به حديث: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن
…
"1.
قال صاحب النهاية في غريب الحديث2: "أراد بالضمان –ههنا –الحفظ والرعاية لا ضمان الغرامة؛ لأنه يحفظ على القوم صلاتهم، وقيل: إن صلاة المقتدين به في عهدته وصحتها مقرونة بصحة صلاة فهو كالمتلف لهم صحة صلاتهم".
وقال السبكي: "ولا حجة لهم فيه إذ لا يلزم من كونه ضامناً أن تفسد صلاة المأموم بفساد صلاته لاسيما وقد فسر الضامن بخلاف هذا" يعني ما تقدم من حديث: "الإمام ضامن فإذا أحسن فله ولهم وإن أساء فعليه ولا عليهم"3.
1 تقدم تخريجه ص374، وانظر الأشباه والنظائر للسبكي 2/264، والقواعد النورانية ص 3/101، 102.
2انظر بذل المجهود 4/76، وعون المعبود 2/152وتحفة الأحوذي 1/613.
3 الأشباه والنظائر للسبكي2/264.
وقد استدل المرغيناني1 بحديث: "من أم قوماً ثم ظهر أنه كان محدثاً أو جنباً أعاد صلاته وأعادوا"2.
العمل بالضابط:
ذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى الأخذ بهذا الضابط واختلفوا في بعض التفصيل، فقد تقدم أن السبكي نص على أن مذهب الشافعية عدم الرابطة بين الإمام والمأموم وأن صلاة المأموم لا تفسد بفساد صلاة الإمام3، ومن نصوص الشافعية ما تقدم من نقل عن الإمام الشافعي.4
1 في الهداية 1/58.
2 لم أقف على هذا الحديث بلفظ في شيء من كتب السنة، وقال الزيلعي:"غريب، وفيه أثر عن علي رواه محمد بن الحسن في كتابه الآثار"، وقال العيني:"هذا الحديث لا يعرف".
انظر: نصب الراية 2/58، والبناية 2/360، وانظر بعض ما ورد في ذلك من آثار في: كتاب لمحمد بن الحسن ص 27 (باب ما يقطع الصلاة) ، وسنن الدارقطني 1/364 (الصلاة /صلاة الإمام وهو جنب) ، وسنن البيهقي 2/398 (الصلاة/إمام الجنب) .
3 انظر: الأشباه والنظائر للسبكي2/264ز
4 راجع ص 707.
وقول الشيرازي:"فإن صلى من خلف المحدث غير الجمعة ولم يعلم، ثم علم فإن كان ذلك في أثناء الصلاة نوى مفارقته وأتم، وإن كان بعد الفراغ لم تلزمه الإعادة؛ لأن ليس على حدثه أمارة فعذر في صلاته خلفه "، وزاد النووي:" سواء كان الإمام عالماً بحدث نفسه أم لا؛ لأنه لا تفريط من المأموم في الحالين".1
ونقل السبكي عن الإمامين مالك، وأحمد أنهما قالا: يسري النقص إلى المأموم عند عدم العذر لا مع العذر2، وكذالك نقله ابن تيمية، ونقل عن الإمام أحمد رواية أخرى بفساد صلاة المأموم3.
ومن أقوال الفقهاء المالكية في هذا قول الخرشي: "لو استمر الإمام على حدثه ناسياً للحدث، ولم يعلم المأموم إلا بعد فراغه صحت صلاة القوم دونه على المشهور"4
ومن أقوال فقهاء الحنابلة قول ابن قدامة: "إن الإمام إذا صلى بالجماعة محدثاً أو جنباً غير عالم بحدثه، فلم يعلم هو ولا
1 انظر: المهذب وشرحه المجموع 4/136-137ووشرح السنة للبغوي 3/205.
2 انظر: الأشباه والنظائر للسبكي1/264.
3 انظر القواعد النورانية ص10-102.
4 شرح الخرشي مع حاشية العدوي2/24.
المأموم حتى فرغوا من الصلاة فصلاتهم صحيحة، وصلاة الإمام باطلة"1
وأما الإمام أبو حنيفة فقد ذهب إلى أن بينهما رابطة، وأن كل خلل حصل في صلاة الإمام يسري إلى صلاة المأموم؛ لأن فرع عليه هذا ما نقله عنه السبكي2، وابن تيمية3.
وصرح فقهاء الحنفية بهذا فقال الإمام أبو زيد الدبوسي4: ((الأصل عندنا أنصلاة المقتدي متعلقة بصلاة الإمام تفسد بصلاة إمامه، وتجوز بجوازها))
وقال ابن عابدين: "فلو تبين فسادها –أي الصلاة – فسقاً من الإمام، أو نسياناً لمضي مدة المسح، أو لوجود الحدث أو غير
1 المغني 2/504.
2 انظر: الأشباه والنظائر للسبكي1/264.
3 انظر القواعد النورانية ص10-102.
4 هو عبيد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي نسبة إلى دبوسية قرية بين بخارى وسمرقد، توفي سنة 430هـ، وقيل: سنة 432هـ. من أشهر مؤلفاته كتاب [الأسرار]، و [تقويم الأدلة] . انظر: الجواهر المضية 2/499-500، وتاج التراجم ص36.
5 تأسيس النظر ص 107.
ذلك لم تصح صلاة المقتدي لعدم صحة البناء"1، وقال ابن تيمية: إن المذهب المفرق بين أن يكون المأموم معذوراً وبين أن لا يكون كذلك هو أوسط الأقوال2، وقال السبكي: "وزعما-أي الإمامين مالك وأحمد-أن هذا توسيط بين المذهبين"3.
1 حاشية رد المختار 1/551.
2 انظر القواعد النورانية ص102.
3 لعل مراد السبكي بقوله: "وزعما" أنه لا يرى هذا توسطاً بين المذهبين؛ لأن الشافعية يقولون بهذا؛ فإنهم يعللون صحة صلاة المأموم بكونه معذوراً لعدم العلم بحدث إمامه. لكن يمكن أن يلحظ نوع من الفرق بين مذهب الشافعية، وبين المذهب المالكية والحنابلة يجعل القول بأنه مذهب متوسط متوجهاً. وهو أن الشافعية نصوا – في أحد القولين عنهم – على أن الصلاة المأموم صحيحة حتى لو كان الإمام قد صلى محدثاً، وهو يعلم ذلك إذا لم يعلم المأموم بمعنى أن المأموم علم بعد انقضاء الصلاة أن الإمام صلى على غير الطهارة متعمداً. أما المالكية، والحنابلة فقد قالوا بعدم صحة صلاة المأموم في هذه الحال؛ لعدم العذر من الإمام وإن كان المأموم معذوراً.
انظر: الأشباه والنظائر للسبكي 2/264،وشر الخرشي مع حاشية العدوي2/32،والمجموع فتاوى ابن تيمية 23/352، والمجموع 4/37، والمبدع 2/74، وأنظر تفصيل القول في إمام المحدث في كتاب أحكام الإمامة والإئتمام في الصلاة لعبد المحسن المنيف ص 143-147.
وبالنظر في مسألة أخرى من المسائل هذا الضابط –وهي مسألة اقتداء المصلي بإمام يخالفه في الفروع1- بحيث تكون صلاة الإمام صحيحة في اعتقاده دون اعتقاد المأموم – نجد أن ما ذكره السبكي من رأي الشافعية ليس على إطلاقه، فقد حكى النووي في ذلك أربعة أوجه، ثم قال وإن تحققنا الإتيان بجميعه، أو شككنا صح، ونسب ذلك الوجه إلى الأكثرين منهم2.
وقد ذهب الحنفية إلى عدم صحة الصلاة المأموم في هذه الحال.
1 ذكر العلماء لهذه الصورة حالات ثلاث:
الحالة الأولى: أن يكون الإمام المخالف في الفروع ممن يحتاط في مواضع الخلاف بحيث لا يترك ركناً أو شرطاً يعتقده المأموم دونه، ولا يترك ركناً أو شرطاً يعتقده هو دون المأموم.
الحالة الثانية: أن يعلم المأموم أنه يترك ركناً أو شرطاً أو واجباً عنده، والمأموم دون الإمام.
الحالة الثالثة: أن يعلم المأموم أنه يترك ركناً أو شرطاً أو واجباً عنده والمأموم لا يرى ذلك ركنا ولا شرطا ولا واجباً.
انظر تفصيل ذلك في أحكام الإمام والإئتمام لعبد المحسن المنيف ص95-102ووالفقه الإسلامي وأدلته 2/881، إضافة إلى المراجع اللاحقة.
2 انظر المجموع 4/164، وتحفة المحتاج مع الحواشي 2/279.
قال ابن عابدين –بعد أن بين- فساد صلاة من صلى خلف إمام محدث، ثم علم بعد ذلك -:وكذا لو كانت صحيحة في زعم الإمام فاسد في زعم المقتدي، لبنائه على فاسد في زعمهم فلا يصح ". إلا أنه قال:"وفيه خلاف وصحح كل"1.
وذهب المالكية، والحنابلة إلى صحة الصلاة خلفه.2
من فروع هذا الضابط:
1-
صلاة المفترض خلف المتنفل مؤتماً به، حيث ذهب الشافعية، والحنابلة – في إحدى الروايتين – إلى جوازه، ومنعه الحنفية والمالكية والحنابلة في الرواية الأخرى.3
2-
صلاة المتنفل خلف المفترض. قال ابن قدامة: "لا نعلم بين أهل العلم فيه اختلافاً"4 وإن كان بعض الفقهاء لم يصرح بهذا الحكم لكنهم صرحوا بصحة إئتمام من يصلي فرضاً بمن يصلي
1 انظر: حاشية رد المختار 1/551ووانظر: البحر الرائق 2/50-51.
2 انظر الخرشي مع حاشية العدوي 2/31، والشرح الصغير 1/185-186، والمغني 3/23-24،والإنصاف 2/262.
3 انظر تفصيل المسألة وأدلتها في: الهداية 1/62، والقوانين الفقهية ص63، والمهذب 1/98.والمغني 1/67-68.
4 المغني 1/68.
وبالنظر في مسألة أخرى من المسائل هذا الضابط –وهي مسألة اقتداء المصلي بإمام يخالفه في الفروع1- بحيث تكون صلاة الإمام صحيحة في اعتقاده دون اعتقاد المأموم – نجد أن ما ذكره السبكي من رأي الشافعية ليس على إطلاقه، فقد حكى النووي في ذلك أربعة أوجه، ثم قال وإن تحققنا الإتيان بجميعه، أو شككنا صح، ونسب ذلك الوجه إلى الأكثرين منهم2.
وقد ذهب الحنفية إلى عدم صحة الصلاة المأموم في هذه الحال.
1 ذكر العلماء لهذه الصورة حالات ثلاث:
الحالة الأولى: أن يكون الإمام المخالف في الفروع ممن يحتاط في مواضع الخلاف بحيث لا يترك ركناً أو شرطاً يعتقده المأموم دونه، ولا يترك ركناً أو شرطاً يعتقده هو دون المأموم.
الحالة الثانية: أن يعلم المأموم أنه يترك ركناً أو شرطاً أو واجباً عنده، والمأموم دون الإمام.
الحالة الثالثة: أن يعلم المأموم أنه يترك ركناً أو شرطاً أو واجباً عنده والمأموم لا يرى ذلك ركنا ولا شرطا ولا واجباً.
انظر تفصيل ذلك في أحكام الإمام والإئتمام لعبد المحسن المنيف ص95-102ووالفقه الإسلامي وأدلته 2/881، إضافة إلى المراجع اللاحقة.
2 انظر المجموع 4/164، وتحفة المحتاج مع الحواشي 2/279.
الضابط السادس لاضمان على القاضي إذا أخطأ.
ذكر هذا الضابط الحصيري -من الحنفية - في عدة مواضع1، ونص في أحدها على أنه يكون في بيت المال2،وأورده ابن رجب تعريفاً على قاعدة المباشرة والسبب3.
معاني المفردات:
الضمان لغة: الكفالة يقال: ضمنت الشيء ضماناً أي كلفت به، ويأتي بمعنى الالتزام4. وله في اصطلاح الفقهاء إطلاقان:
أحدهما: أنه بمعنى الكفالة وعرف- حينئذ- بأنه: شغل ذمة أخرى بالحق، أو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق.
والثاني: أعم منه وهو: رد مثل التالف إن كان مثلياً أو
1 انظر القاعدة المستخلصة ص 356،419،وانظر القاعدة رقم 153ص 491.
2 المرجع السابق ص498 (القاعدة رقم 240) .
3 انظر: القواعد لابن رجب ص 285.
4 انظر: الصحاح 6/2155،والقاموس المحيط 4/234 (ضمن) .
قيمته إذ كان لا مثل له1، وهو المراد هنا.
المعنى الإجمالي:
هذا الضابط يقتضي أنه إذا حدث من القاضي خطأ في حكم، ونفذ ذلك الحكم، وترتب عليه إتلاف أو نحوه مما يقتضي الضمان، فإن القاضي لا يتحمل هذا الضمان في ماله وإن كان هو المباشر للحكم. وحينئذ فالضامن إما عاقلة القاضي، أو بيت مال المسلمين، أو الشهود، أو مقضي له (كل حالة بحسبها) .
وقد يطلق بعض الفقهاء أن على القاضي الضمان، وهذا لا يعني-قطعاً- أن المراد أن عليه الضمان في ماله. بل قد يكون هذا هو المراد، وقد يكون المراد أن عليه الضمان وتتحمل العاقلة، أو بيت المال، أو يرجع على الشهود، أو نحو ذلك2. وقد صرح
1 الخرشي مع حاشية العدوي 6/21، والمغني 7/71، والتعريفات ص124-125، ومعجم لغة الفقهاء ص 285 والقاموس الفقهي ص 224-225.
2 كما في الأثر عن عمر –رضي الله عنه –"أنه دعا امرأة إلى مجلسه لاتهامها بالسوء وكانت حاملا فلما بلغتهم دعوته – رضي الله عنه خافت، فأجهضت جنينها، فشاور الصحابة رضي الله عنهم فقال بعضهم لا شيء عليك إنما أنت مؤدب وقال علي: عليك الدية. فقال عمر: عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها في قومك" أي أنه جعلها على العاقلة. وهذا الأثر قد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 9/458-459 (العقول/من أفزعه السلطان) ، والبيهقي في سننه 6/123 (الإجارة/الإمام يضمن والمعلم يغرم) .
بعض الفقهاء بأن القاضي يضمن، ثم بين أنه يجب عليه في بيت المال أو على العاقلة أو غيرهما1 فيكون مرادهم بقولهم: يضمن أو يجب عليه الضمان أن المقضيَّ عليه يستحق الضمان.
ولخطأ القاضي عدة صور فمنها: أن يخطئ القاضي في الاجتهاد والحكم، ومن صوره أيضا: أن يخطئ بسبب الحكم بشهادة شهود، ثم يتبين كذبهم أو فسقهم أو غيره مما يقدح في صحة شهادتهم2.
ويُعد بعض الفقهاء من صور الخطأ القاضي أن يتعمد الحكم بما لا يصح الحكم بموجبه كشهادة الفاسق ونحوه لعلمه بصدقه في تلك القضية. وهاتان الصورتان وبخاصة صورة
1 انظر: قرة عيون الأخيار تكملة رد المحتار 7/51، والمهذب 2/342، والمغني 14/256.
2 انظر: أدب القاضي لابن القاصّ 2/389، وما بعدها، والمغني 12/35، 14/244 وما بعدها، وكتاب علم القضاء للدكتور أحمد الحصري ص429 وما بعدها.
تعمد الجور إنما تعدّ من قبيل الخطأ بمعنى عدم موافقتها لمطلوب الشرع لا من باب عدم القصد. وظاهر كلام الفقهاء الاتفاق على أن الضمان في هذه الصورة يكون في مال القاضي1.
والذي يظهر أن المراد بهذا الضابط هو الصور التي لا يتعمد القاضي فيها الجور، أو الحكم بما لا يصح الحكم بموجبه، ويدل على ذلك المثال الذي ذكره الحصيري لهذا الضابط2.
الأدلة:
يستدل لذها الضابط بعدد من الأدلة أهمها:
أولا: الأدلة الدالة على أنه لا إثم على الحاكم أو القاضي إذا حكم باجتهاده، ولو أخطأ إذا كان أهلا للحكم والاجتهاد، وبذل وسعه.
ومن ذلك حديث: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"3.
1 انظر: أدب القاضي لابن القاصّ 2/389، وقرة عيون الأخبار (تكملة رد المحتار) 7/51، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 7/165، ومغني المحتاج 4/487.
2 انظر: القواعد والضوابط المستخلصة من كتاب التحرير ص356.
3 متفق عليه من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. واللفظ لهما. صحيح البخاري مع الفتح 13/332 (الاعتصام/أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ) ، وصحيح مسلم مع النووي 12/13 (الأقضية/أجر الحاكم إذا اجتهد) .
وحديث: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألن بحجة من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قصيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"1.
ففي قوله: "فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" دليل على عدم إثمه. وعدم الإثم دليل على أنه فعل ما أذن له فيه شرعا، ومن فعل ما أذن له فيه شرعا لم يضمن بنفسه وإن كان الضمان يلزم بالنظر إلى أنه حق للغير. لكنه لا يلزم في مال المباشر كما في دية قتل الخطأ، وقد ثبت بالحديث الأول أن للحاكم أجرا واحد إذا اجتهد فأخطأ.
ثانيا: ما روي "أن رجلين أتيا عليّا فشهدا على رجل أنه
1 متفق عليه من حديث أم سلمة رضي الله عنها، واللفظ للبخاري. صحيح البخاري مع الفتح 12/355 (الحيل/حكم الحاكم لا يُحل ما حرّمه الله ورسوله) ، وصحيح مسلم مع النووي 12/5 (الأقضية/بيان أن الحكم لا يغير الباطن) .
سرق فقطع يده، ثم أتياه بآخر فقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا على الأول فلم يُجز شهادتهما على الآخر وأغرمهما دية الأول وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما"1.
والدليل فيه أنه جعل الغُرم على الشاهدين، وعلّق القصاص منهما على كونهما تعمدا ذلك. ولم يلزم نفسه باعتباره قاضيا بشيء ولم يذكر له مخالف من الصحابة2.
ثالثا: الأثر المتقدم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه لما أشير عليه بأن الدية أمر بها أن تقسم في عاقلته حيث قال: "عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها في قومك"3.
رابعا: أن جعل الضمان في مال القاضي يؤدي إلى نفرة الناس من القضاء، فتتعطل مصلحته؛ لأن القاضي عرضة للخطأ لكثرة ما يقضي فيه؛ ولأنه قد يستند في حكمه إلى أدلة غير
1 أخرجه بهذا اللفظ البيهقي موصولا، وأخرج البخاري نحوه تعليقا. صحيح البخاري مع الفتح 12/236 (الديات/إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب) ، وسنن البيهقي 8/41 (الجنايات/الاثنين أو أكثر يقطعان يد رجل) .
2 انظر في الاستدلال به المغني 14/246.
3 تقدم نص الأثر وتخريجه قريبا فراجع ص 720 /ح2
يحتمل ظهور خطئها، وكذلك جعله على العاقلة، وذلك على القول بأنه يكون في بيت المال1.
العمل بالضابط:
تقدم أن الغالب هو أن المراد بحكم هذا الضابط الصور التي لا يكون القاضي فيها متعمدا للجور، أو للحكم بما لا يصح الحكم بموجبه. وعلى هذا فقد اتفق الفقهاء على أن الضمان في هاتين الحالتين ونحوهما يكون في مال القاضي، فمنهم من صرح بذلك ومنهم من يؤخذ هذا من فحوى كلامه؛ إذا قد لا يعد بعضهم مسألة الجور من الخطأ2.
ويبقى البحث في أنه هل يجب الضمان في مال القاضي إذا أخطأ في غير هاتين الصورتين؟
فصّل الفقهاء في ذلك تفصيلا كثيرا وذكروا من المسائل مالا يضمن فيها القاضي إذا أخطأ، إلا أنهم صرحوا بأن الضمان قد يكون على القاضي في بعض الصور. وهذا كما نقدم ليس
1 انظر: المغني 14/256.
2 انظر: أدب القاضي لابن القاصّ 2/389، وقرة عيون الأخيار 7/51، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 7/165، والمهذب 2/342، والمغني 14/256.
بصريح في كونه في مال القاضي؛ لذا فإن منهم من أتبع ذلك ببيان معنى ضمان القاضي وهو أن يكون ذلك في بيت المال، أو على عاقلة القاضي، أو على الشهود، أو على المقضي له، وأطلق بعضهم القول بضمانه في تلك الصور وهذه بعض نصوص الفقهاء في ذلك:
جاء في قرة عيون الأخيار (تكملة رد المحتار) ما ملخصه: "أن القاضي يضمن بمعنى أنه متى ظهر خطؤه فيما قضى بيقين فإنه يضمن ما قضى به ويرجع بذلك على المقضي له أو على بيت المال"1.
وقال ابن جزي المالكي: "إذا حكم حاكم بشهادة شاهدين، ثم قامت بعد الحكم بينة بفسقهما لم يضمن ما أتلف بشهادتهما، ولو قامت بينة بكفرهما أو ورقهما ضمن"2.
وقال الشيرازي من الشافعية: "ومتى نُقض الحكم فإن كان المحكوم به إتلافا كالقطع والقتل ضمنه الإمام، وإن كان مالا فإن كان باقيا رده وإن كان تالفا ضمنه المحكوم له، فإن كان
1 انظر: قرّة عيون الأخيار 7/51.
2 والفرق بين الحالتين فيما يبدو أن الفسق مما يخفى بخلاف الكفر والرق. انظر: القوانين الفقهية ص269.
معسرا ضمنه الحاكم، ثم يرجع به على المحكوم له إذا أيسر"1،
وقال صاحب مغني المحتاج: "فإن قالوا أخطأنا فعليه نصف دية وعليهم نصف"2.
وقال ابن قدامة: "وأما إن تبين فسق المزكيين فالضمان على الحاكم لأن التفريط منه قبل شهادة فاسق من غير تزكية ولا بحث فيلزمه الضمان"، وقال:"ولو جلد الإمام إنسانا بشهادة شهود، ثم بان أنهما فسقة أو كفرة أو عبيد فعلى الإمام ضمان ما حصل من أثر الضرب"3.
وخلاصة ما تقدم فيما ظهر لي أن الأصل في القاضي ألا يضمن أي لا يكون الضمان في ماله إلا إذا فرط بوجه من الوجوه4.
1 انظر: التنبيه ص273-274.
2 انظر: مغني المحتاج 4/457.
3 المغني 14/258، وانظر: 12/35، والقواعد لابن رجب ص285-286.
4 انظر: القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير ص356، 419، وبدائع الصنائع 9/4078، وعلم القضاء ص431، والقضاء ونظامه في الكتاب والسنة ص98-99.
من فروع هذا الضابط:
تقدم ذكر بعض فروع هذا الضابط، ومن فروعه أيضا تغريم الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم بعد الحكم إذا تضمن الحكم إتلافا1.
وجه التيسير:
وجه التيسير في هذا الضابط أن الخطأ قد يقع في أحكام القاضي؛ لكثرة ما يصدر عنه من أحكام؛ ولأنه يحكم بموجب البينات والقرائن الظاهرة وقد يتبين الأمر بخلاف الظاهر.
فإذا عمل القاضي بمقتضى ما يلزمه من التحري في الشهود، والاجتهاد في الحكم مع أهليته لذلك، ثم حكم فأخطأ فإن مقتضى هذا الضابط أن لا يلزمه ضمان ما تلف بسبب حكمه في ماله؛ تيسيرا وتخفيفا؛ لأنه لو ألزم بضمان ذلك لكان إجحافا في حقه ولحقه الضرر، وكذلك لو ألزم بذلك عاقلته في كل قضية2، وربما أدى
1 انظر تفصيل ذلك في: قرة عيون الأخيار 7/242-243، وشرح الخرشي 7/220-221، والمهذب 2/340، والمغني 14/244، وما بعدها.
2 هذا مبني على القول بأ الضمان يكون في بيت المال لا على العاقلة.
ذلك إلى أن يترك الناس القضاء، وتتعطل بذلك المصالح العامة. كما تقدمت الإشارة إلى ذلك؛ ولأنه لا يتصرف في ذلك لنفسه. بل لغيره1.
1 انظر: المغني 14/256، والقواعد المستخلصة ص356، وعلم القضاء ص431، والقضاء ونظامه ص98-99.