الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة السابعة والأربعون: يجوز تصرف الآحاد في الأموال العامة عند تعذر قيام الأئمة بذلك
ذكر هذه القاعدة العز بن عبد السلام تحت عنوان "فصل في تصرف الآحاد في الأموال العامة عند جور الأئمة"1.
وأشار إلى معنى القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية2، وكذلك فعل الجرهزي الشافعي3.
وهي داخلة في عموم قاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) ، أو قاعدة ((تدفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما)) .
وهي متعلقة بقاعدة مشهورة هي قولهم: ((تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة)) 4.
1 انظر: قواعد الأحكام 1/82.
2 انظر: مجموع الفتاوى 28/587.
3 انظر: المواهب السنية مع الأشباه والنظائر للسيوطي ص185.
4 انظر هذه القاعدة في الأشباه والنظائر للسيوطي ص121، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص132، وشرح القواعد الفقهية ص247.
معاني المفردات:
الآحاد: جمع أحد وهو بمعنى الواحد1، والمراد أفراد الأمة.
المعنى الإجمالي:
الأصل في الأموال العامة أن يكون التصرف فيها لإمام المسلمين ولا يجوز لأحد من المسلمين التصرف فيها إلا بإذن الإمام2.
1 انظر: الصحاح 2/440 (أحد) .
2 استدل بعض العلماء لذلك بقوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} التوبة (60) ، لأن جعل نصيب من الزكاة للعاملين عليها يدل على مشروعية تعيين من يجبي الزكاة من قبل الإمام، واستدلوا أيضا بقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة (103) ، لأن الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم ولمن بعده من الأئمة، كما استدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تأخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم". متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. صحيح البخاري مع الفتح 3/418 (الزكاة/أحذ الصدقة من الأغنياء) ، وصحيح مسلم مع النووي 1/197 (الإيمان/الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام) . وانظر تفسير القرآن العظيم 2/400، والتفسير الكبير للرازي 16/114، وفتح الباري 3/36.
قال الشيخ ابن عبد السلام: "لا يتصرف في أموال المصالح العامة إلا الأئمة ونوابهم"1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإذا كان بيت المال مستقيما أمره بحيث لا يوضع ماله إلا في حقه ولا يمنع منه مستحقه فمن صرف بعض أعيانه أو منافعه في جهة من الجهات التي هي مصارف بيت المال بغير إذن الإمام فقد تعدى بذلك إذ أمر ولايته للإمام2. هذا هو الأصل مادام الإمام قائما فيه بمصلحة المسلمين ولذا قالوا: "التصرف على الرعية منوط بالمصلحة" فإذا تعذر أن يتصرف فيه الإمام على الوجه الصحيح إما لجور فيه، أو لعدم كفاءة أو نحوهما فإنه في هذه الحالة يجوز لمن تحصَّل في يده شيء من مال المصالح العامة وأمكنه أن يصرفه على وفق ما يقيم المصلحة العامة جاز له ذلك بشروط.
أحدهما: أن يؤمن حدوث فتنة سدا لذريعة الاختلاف والشقاق3.
1 قواعد الأحكام 1/82، وانظر الأموال لأبي عبيد ص14، ولابن زنجويه 1/112.
2 انظر مجموع الفتاوى 28/578، والأموال لابن زنجويه 1/90، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص12.
3 انظر: سد الذرائع ص423، والإمامة العظمى ص349.
الثاني: ألا يكون متهما في ذلك التصرف كما لو أخذ المال لنفسه متأولا1، وربما كان في تقرير الفقهاء أن هذه القاعدة تنطبق فيما إذا تحصل في يد الكفؤ غير الإمام شيء من الأموال العامة تنبيه إلى تقييد ذلك الحكم بعدم الاستيلاء على الأموال العامة بالقوة؛ ولذا فإن العلماء كثيرا ما يمثلون لهذه القاعدة بما يكون في أيدي الناس من زكاة أموالهم أو مال من لا وارث له ونحوه2.
الأدلة:
استدل ابن عبد السلام لهذه القاعدة بعدد من الأدلة بعضها يدا عليها بعمومه من حيث عدم اختصاصها بالأموال وهي:
1-
قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 3 وهذا بر وتقوى.
2-
قول النبي صلى الله عليه وسلم: "
…
والله في عون العبد ماكان العبد
1 انظر: مجموع الفتاوى 28/587-588.
2 انظر: قواعد الأحكام 1/82، ومجموع الفتاوى 28/587، والتنبيه ص154.
3 المائدة (2) .
في عون أخيه"1.
3-
قوله صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة"2.
وبعضها يدل عليها بخصوص كونه متعلقا بالأموال وهي:
4-
أم رسول الله صلى الله عليه وسلم أجز لهند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف3 مع كون المصلحة خاصة؛ فلأن يجوز ذلك في المصالح العامة أولى.
5-
أن الشارع قد جوز لمن جُحِد حقه أن يأخذ من مال جاحده إذا ظفر به إن كان من جنس ما جُحد4.
1 أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحيح مسلم مع النووي 17/21 (الذكر/فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر) .
2 متفق عليه. صحيح البخاري مع الفتح 10/462 (الأدب/كل معروف صدقة) وصحيح مسلم مع النووي 7/91 (الزكاة/كل نوع من المعروف صدقة) .
3 في قوله صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
4 يعني حديث: "من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره" وقد تقدم تخريج الحديث، والحديث وإن كان نصا في المفلس إلا أن العلماء أخذوا منه جواز أخذ العين ممن امتنع عن الأداء بمطل أو نحوه قياسا على الفلس كما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 5/79.
6-
أنه لو مُنع ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال إلى مستحقيها ولأثم أئمة الجور بذلك1.
العمل بالقاعدة:
اشتملت كتب الفروع في المذاهب الأربعة على نصوص تدل على العمل بهذه القاعدة بقيودها المتقدم ذكرها، وكثيرا ما يتعرض الفقهاء لهذا المعنى في باب الزكاة، لأنها من أغلب ما يتحصل في أيدي الناس من الأموال العامة وقد ذهب أكثرهم إلى جواز أن يلي المسلم إخراجها بنفسه وخاصة إذا لم يكن من يتولاها من قبل السلطان عدلا يضعها في موضعها، وإن كان الأصل فيها من حيث الجملة أنها أموال عامة يتولى أمرها السلطان2.
فقد قال الحنفية: إن للمسلم أن يلي تفرقة زكاته بنفسه3. بل نقل السرخسي عن بعض أئمتهم بأنه أفتى بلزوم إعادة تأدية الزكاة إذا أديت إلى من لا يضعها موضعها4، وإلى ذلك ذهب
1 انظر الأدلة في: قواعد الأحكام 1/82.
2 انظر: كتاب الأموال لأبي عبيد ص685، والأموال لابن زنجويه 3/1147 وما بعدها، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص12، والإمامة العظمى ص338 وما بعدها.
3 انظر: تحفة الفقهاء1/316، وتبيين الحقائق 1/282.
4 انظر/ المبسوط 2/180.
المالكية أيضا فيما إذا جار الإمام في صرف الزكاة أو أخذها، أما إذا كان عدلا، أو كان جائرا في غير هذين الأمرين فإنه يلزم دفعها إليه في الأموال الظاهرة والباطنة1، وأجاز الشافعية الأمرين أي دفعها إلى السلطان وإخراجها من قبل صاحب المال في الأموال الباطنة، واختلفوا في الأفضل على ثلاثة أوجه. ثالثها أن تدفع إلى السلطان إن كان عدلا، ويلي تفرقتها بنفسه إن كان الإمام جائرا، ويجوز عندهم الأمران كذلك في الأموال الظاهرة في المذهب الجديد2.
أما الحنابلة فالأفضل عندهم أن يلي المزكي تفرقتها بنفسه على كل حال، ومن باب أولى إذا لم يكن السلطان ممن يضعها موضعها مع جواز دفعها إلى السلطان3، بل قد ذهب بعض العلماء إلى تحريم دفعها للسلطان الجائر4.
1 انظر: الخرشي مع حاشية العدوي 2/220، وحاشية الدسوقي 1/405.
2 انظر: المهذب 1/168.
3 انظر: المغني 4/92، ومطالب أولي النهى 2/120.
4 انظر: كشاف القناع 2/302، وانتظر جملة من أقوال السلف في أن للإنسان أن يلي زكاته بنفسه خاصة إذا لم يضعها الأئمة موضعها في كتاب الأموال لأبي عبيد ص678-685، والمغني 4/92.
من فروع القاعدة:
1-
من أظهر فروع هذه القاعدة الزكاة وقد تقدم القول فيها1.
2-
مل من لا وارث له فإنه لبيت المال، فإن لم يستقم بيت المال جاز لمن هو في يده من آحاد الناس التصرف فيه بالمصالح العامة2.
3-
ويقرب من ذلك اللقطة فإن منها ما لا يجوز لآحاد الناس التقاطه كالإبل. فإن حِفْظها من حق الإمام. لكن إذا تعذر حفظها من قبل الإمام لأي سبب فقد أجاز بعض الفقهاء لآحاد الناس التقاطها إذا ظن تلفها لو تركها3.
1 راجع في الصفحة السابقة.
2 هذا هو قول الأكثرين ولم أقف على تصريح بحكم المسألة في كتب الحنابلة، وظاهر العمل بالرد يقتضي أن لا تكون التركة لبيت المال، والله أعلم. انظر السراجية ص61، والقوانين الفقهية ص331، والتنبيه ص154، وكشاف القناع 4/479.
3 اللقطة ليست ملا عاما وإنما توجه إدراج هذا النوع تحت القاعدة من جهة تصرف الآحاد فيما هو من حق الإمام عند تعذر قيامه به. انظر حاشية رد المحتار 4/280، وشرح الخرشي 7/126، والمهذب 1/431، والمغني 8/346.
وجه التيسير:
وجه التيسير في هذه القاعدة أن الشارع قد أعطى لعامة الناس الحق في التصرف في الأموال العامة التي يكون التصرف فيها في الأصل من حق الإمام1 إذا لم يقم الإمام بالتصرف فيها على الوجه الصحيح؛ وذلك من أجل القيام بمصالح عموم الناس ودفع الضر عنهم وقُيّد ذلك بالقيود التي سبقت الإشارة إليها موازنة بين المصالح والمفاسد.
1 الأصل في الأموال العامة من حيث الجملة أن يليها الإمام ونوابه إلا أن بعض الفقهاء أجاز زكاة مال الإنسان بنفسه وإن كان الإمام عدلا باعتبار أن الزكاة عبادة الأولى فيها أن يليها بنفسه. انظر: المغني 4/92.