الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني: الضوابط
الضابط الأول: الحدود تسقط بالشبهات
.
…
الضابط الأول الحدود تسقط بالشبهات.
ورد ذكر هذا الضابط في عدد كبير من كتب القواعد الفقهية في المذاهب الأربعة إما بهذه الصيغة، أو بصيغة أخرى مقاربة1، وأطلق عليه كثير منهم مصطلح "قاعدة"2، ويورده الفقهاء كثيراً في باب أو كتاب الحدود من كتاب الفروع 3.وقد تقدمت قاعدة أعم وهي:((حقوق الله مبنية على المسامحة)) 4.
1 انظر: - على سبيل المثال-: القواعد والضوابط المسنخلصة صرقم123، 124، ص 488، 489، وقواعد الأحكام 2/160، والفروق4/172، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 122-123، ولابن نجيم ص 129.
2 يصح إطلاق مصطلح "القاعدة" باعتبار أن الحدود متنوعة تدخل في أبواب متعددة، والذي جعلني أعد هذا اللفظ في قسم الضوابط هو النظر إلى الصيغة فإنها تضمنت حكما متعلقاً بموضوع واحد من موضوعات الفقه وهو حدود، والله أعلم. راجع ما تقدم في التفرقة بين القاعدة والضابط ص41.
3 انظر: -على سبيل المثال -: حاشية رد المختار 4/18، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 8/80 والمهذب 2/266،والمغني12/378.
4 راجع: ص257-266.
والحدود منها ما هو حق خالص لله -تعالى-، ومنها ما هو حق للآدميين، أو فيه شائبتان1.
معاني المفردات:
الحدود: جمع حدّ. والحد في اللغة: الحاجزان بين الشيئين، وحد الشيء: منتهاه، والحدّ: المنع2.
وفي الاصطلاح عرفه كثير من العلماء: بأنه عقوبة مقدرة وجبت حقاً لله3 وأطلق بعضهم فقال: هو عقوبة مقدرة
1 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 3/1336.
2 الصحاح 2/462 (حدد)
3 يفرق بين ما يكون من الحدود حقا لله تعالى ،وبين ما يكون حقاً للآدمي بأن ما يكون حقا ًللآدمي يستحق بالطلب ويسقط بالعفو؛ إذ هو حق لشخص بعينه، وأما الحدود التي هي حق لله.فهي ما شرعت لمصلحة تعود إلى كافة الناس من صيانة الأنساب، والأقوال، والعقول، والاعتراض بمعنى أنها ليست حقاً لمعين يملك العفو عنها بل نفعها يعود إلى كافة الناس وهذا التقييد بكون الحدود حقوقاً لله -عند من قيد به- لا يخرج حد القذف وإن كان فيه حق للعبد من حيث دفع العار عن المقذوف؛لأنهم يرونه حقاً مشتركاً بين الله -تعالى-، وبين العبد وذهب البعض إلى أنه حق للعبد وهذا مبني على تعريف الحد بدون هذا القيد. انظر: في تعريف الحد، وفي بيان معنى القيد الأخير: حاشية رد المختار 4/3، 31، المغني12/386، مجموع الفتاوى 28/297 وأحكام القرآن لابن العربي 3/1335-1336، وأنيس الفقهاء ص173 ونيل الأوطار 7/250.
شرعاً1
وسميت هذه بالحدود؛ لأنها تمنع المعاودة؛ أو لكونها مقدرة من الشارع2.
الشبهات: جمع شبهة. وهي في اللغة: الالتباس3.
وفي الاصطلاح: عرفت بأنها مالم يتيقن كونه حراماً أو حلالاً، وتختلف الشبهة باختلاف سببها الذي تضاف إليه4.
1 انظر: زاد المستقنع مع حاشية الروض المربع 3/304-305،ومعجم اللغة الفقهاء ص176.
2 انظر: تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص323، وفتح الباري 12/59.
3 الصحاح 6/2236 (شبه)
4 ذكر العلماء للشبة عدة أنواع - باعتبار ما تضاف إليه- منها:
1-
شبهة العقد: وهي ما وجدت فيه صورة العقد لا حقيقة كالزواج بدون شهود.
2-
شبهة الفعل: وهي أن يظن الحرم حلالا، فيأتيه.
3-
شبهة المحل وهي أن يظن المحل محلا فإذا هو ليس كذلك.
4-
شبهة الملك: وهي أن يملك من الشيء جزأ أو تكون له فيه شبهة ملك، كسرقة الشخص من مال ابنه. انظر: التعريفات ص124، وحاشية رد المختار 4/19-23، ومعجم لغة الفقهاء ص257.
المعنى الإجمالي:
معنى هذا الضابط أن الله -تعالى - الذي شرع وقدر العقوبات جزاءً على بعض المعاصي شرع درء هذه الحدود والعقوبات، وإسقاطها بكل أمر يورث شكاً ولبساً إما في ثبوت تلك المعصية على من ادّعيت عليه، أو في علم من أقدم على ذلك الفعل بتحريمه، أو نحوها من أنواع الشبه. وذلك بأن شرع من القيود في ثبوت بعض هذه الحدود ما يجعلها قليلة الثبوت، وشرع للمسلمين الستر على من وجدوه على شيء من تلك المعاصي بعد نصحه وإرشاده، وشرع للحاكم عدم القصد ونحوه من الشبه.
وذلك أن الشارع يتشرف إلى الستر على المؤمن وعدم فضحهم. فإن هذه الحدود وإن كانت لم تشرع إلا لتطبيق ولم تشرع إلا أن الشارع غلّب مصلحة حرمة المؤمن على هذه المصلحة مال م يجاهر الإنسان بمعصيته، وما لم يثبت ذلك عند
الحاكم1.
الأدلة:
الأدلة على هذا الضابط كثيرة جداً ومنها ما يلي:
أولا: أشهر وأصرح الأدلة على هذا الضابط هو حديث: "ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"2.
ثانياً: ما يدل على التشدد في إثبات بعض الحدود سواء كان ذلك بالشهادة أم بالإقرار. خاصة فيما يكون خفياً عادة كالزنا، فإنه لا يثبت إلا بأربعة شهود عدول يصفون الزنا بما لا يوجد معه شك ولا ريب، وبما لا يكاد يطلع عليه إلا إذا جاهر العاصي بمعصيته، أو بالإقرار الصريح أربع مرات أيضاً3.
1 انظر: نيل الأوطار 7/271.
2 تقدم تخريجه، وبيان أن الصحيح أنه موقوف، وأنه كان في سنده مقال فإنه يصلح للاحتجاج به لاعتضاده بأدلة أخرى. راجع 260/ح1.
3 اشترط أربع شهود في الزنا مجمع عليه وقد ورد به النص، أما الإقرار فذهب الحنفية، والحنابلة إلى اشتراط أن يكون الإقرار أربع مرات، وذهب المالكية، والشافعية إلى أنه يكفي فيه الإقرار مرة واحدة كغيره من الإقرارات. انظر الهداية 2/382، والقوانين الفقهيةص305، والمغني المحتاج4/150،والمغني 12/354، وفتح الباري12/128-129، ونيل الأوطار 7/259-262،وسقوط العقوبات في الفقه الإسلامي 1/70.
يدل على ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1.
وقوله -تعالى-: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 2.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز بن مالك: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت". قال: لا. قال: "أفنكتها"؟ قال: نعم. قال: فعند ذلك أمر برجمه"3.
وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن رجلا من أسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه، ثم
1 النور (4) .
2 النور (13) .
3 أخرجه أبو داود، وصححه الألباني. سنن أبي داود مع عون المعبود 12/71 (الحدود /رجم ماعز بن مالك) ، وانظر صحيح سنن أبي داود 3/838.
اعترف فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع شهادات: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أبك جنون؟ " قال: لآ قال: "أحصنت؟ " قال: نعم. قال: فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم في المصلى" الحديث1.
فإن مجموع هذه الأدلة يدل على رغبة الشارع في دفع الحد قدر الإمكان2
ثالثا: الأدلة التي فيها الحث على ستر العاصي بعد نصحه وإرشاده والإنكار عليه3.
فمن الأدلة العامة على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة"4
1 أخرجه أبو داود أيضا وصححه الألباني. سنن أبي داود مع عون المعبود؛ وانظر صحيح سنن أبي داود في الموضع المتقدم.
2 انظر: عون المعبود 2/72.
3 انظر: فتح الباري 5/117، 12/128.
4 متفق عليه، واللفظ للبخاري. صحيح البخاري مع الفتح 5/116 (المظالم/لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يُسلمهُ) ، وصحيح مسلم مع النووي 16/134 (البر والصلة/تحريم الظلم) .
ومما يدل على الستر فيما يوجب الحدّ خاصة حديث: أن ماعزا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات فأمر برجمه وقال لهزّال1: "لو سترته بثوبك كان خيرا لك"2.
رابعا: مشروعية اللعان بين الزوجين لتخليص من يرمي زوجته بالزنا من حدّ القذف فقد شق على بعض الصحابة رضي الله عنهم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 3 فاشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} 4. إلى قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ
1 هو: هزّال بن ذئاب، أو ابن يزيد بن ذئاب الأسلمي رضي الله عنه. انظر أسد الغابة 5/60، والإصابة 6/536.
2 أخرجه أبو داود، وصححه الألباني. سنن أبي داود مع عون المعبود 2/27 (الحدود/الستر على أهل الحدود) ، وانظر صحيح سنن أبي داود 3/837.
3 النور (4) .
4 النور (6) .
غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 1.
قال الإمام ابن كثير: "هذه الآية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة أن يلاعنها"2
خامسا: حديث: "لا قطع في ثَمَرٍ ولا كثر3"4، وما في معناه من الأحاديث الكثيرة التي تقييد القطع في السرقة بما
1 النور (9) ، وانظر ما روي في سبب نزول هذه الآية مطولا في تفسير القرآن العظيم 3/276-277، وأحكام القرآن لابن عربي 3/1340-1342، وجامع النقول في أسباب النزول ص232-233.
2 انظر: تفسير القرآن العظيم 3/276، وانظر أحكام القرآن لابن العربي 3/1340، ونيل الأوطار 7/68.
3 الكثر: جُمّار النخل أي شحمها الذي في وسطها، وقيل: طلعها. انظر: الصحاح 2/803 (كثر) ، 617 (جمر) ، والنهاية 4/152.
4 أخرجه الترمذي والنسائس وابن ماجه من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وصححه الألباني. سنن الترمذي مع التحفة 5/10 (الحدود/لا قطع في ثمر ولا كثر) ، وسنن النسائي مع شرح السيوطي 8/87 (قطع السارق/مالا قطع فيثه) ، وسنن ابن ماجه 2/865 (الحدود/لا يقطع في ثمر ولا كثر) ، وانظر صحيح سنن الترمذي 2/74.
يضمن انتفاء شبهة الحاجة ونحوها1.
العمل بالضابط:
اتفق العلماء على درء الحدود بالشبهات من حيث الجملة كما تقدم بيانه، وقد نقل الإجماع عليه ابن المنذر2، وابن قدامة3، وغيرهما.
من فروع هذا الضابط:
1-
سقوط حد الزنا عمّن وَطَئَ في نكاح مختلف فيه4.
2-
سقوط حد القذف عن القاذف إذا كان قذفه تعريضا لا تصريحا عند جمهور العلماء، وذهب المالكية إلى أنه يُحدّ، وهو رواية عن الإمام أحمد5.
1 انظر: نيل الأوطار 7/296-304.
2 انظر: الإجماع لابن المنذر ص69.
3 انظر: المغني 12/378.
4 انظر: الهداية 2/388، والقوانين الفقهية ص303، والتنبيه ص242، والمغني 12/343.
5 انظر: الهداية 2/400، والقوانين الفقهية ص306، والتنبيه ص343، والمغني 12/392.
3-
سقوط حد السرقة عمّن سرق طعاما عام مجاعة إذا لم يجد ما يأكله1.
وجه التيسير:
وجه التيسير في هذا الضابط واضح في حق من وقعت منه المعصية وهو دفع العقوبة المؤلمة، أو المزهقة للنفس عنه، وعدم افتضاحه بين الناس، وتيسير سبيل التوبة والرجوع إلى الله تعالى2.
1 انظر: حاشية رد المحتار 4/91، والقوانين الفقهية ص308، والتنبيه ص246، والمغني 12/462.
2 انظر: نيل الأوطار 7/271، وسقوط العقوبات في الفقه الإسلامي 1/63-71.