المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثاني: استقراء السور لمعرفة الإشارات من النص - القول المعتبر في بيان الإعجاز للحروف المقطعة من فواتح السور

[إياس آل خطاب]

فهرس الكتاب

- ‌القول المعتبر في بيان الإعجاز للحروف المقطّعة من فواتح السور

- ‌دعاء

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌الفصل الأول: تصفية الأذهان مما شاب تأويل الحروف من أوهام

- ‌الباب الأول: مسالك المتحدثين في فواتح السور

- ‌الباب الثاني: أسباب تدعوا لفهم القرآن

- ‌الباب الثالث: سبب الخلاف في تأويل الحروف ومسببات الخلاف

- ‌الفصل الثاني: الحروف المقطّعة بين التفسير والتأويل

- ‌الباب الأول: حصر الأقوال في تفسير الحروف المقطّعة

- ‌الباب الثاني: حصر الأقوال في تأويل الحروف المقطّعة

- ‌الباب الثالث: حصر الأقوال فيما خص بعض الفواتح

- ‌الباب الرابع: بيان الشبهة في محاولة الجمع بين الأقوال

- ‌الفصل الثالث: إشارات الإعجاز في فواتح السور

- ‌الباب الأول: معرفة واقع التنزيل

- ‌الباب الثاني: استقراء السور لمعرفة الإشارات من النص

- ‌الباب الثالث: إشارة الإعجاز في الحروف وموافقتها لمجمل الإشارات

- ‌الفصل الرابع: دلالات الإعجاز في فواتح السور

- ‌الباب الأول: دلالات الإعجاز وأوجه التوافق مع فهم القرآن بحسب أصول التفسير

- ‌الباب الثاني: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على لغة القرآن

- ‌الباب الثالث: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على الكتابة بالحروف العربية

- ‌الباب الرابع: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على اللفظ العربي لكلمات القرآن

- ‌الفصل الخامس: بيان أسباب التحريف في الكتب المقدسة السابقة

- ‌الباب الأول: الأسباب الخفية للتحريف (الأسباب الأساسية)

- ‌الباب الثاني: الأسباب الجلية للتحريف (الأسباب الفرعية)

- ‌الفصل السادس: الدليل والبرهان على ما في الحروف من إعجاز في نظم البيان

- ‌الباب الأول: محاولات فهم النص بحسب النظم

- ‌الباب الثاني: استقراء بعض قواعد النظم في سور الفواتح

- ‌الفصل السابع: ما جاء فيها من بيان لحقيقة الإعجاز في أمية الرسول صلى الله عليه وسلم(راية الإعجاز)

- ‌الملحق الأول - نقوش ما قبل الإسلام

- ‌الملحق الثاني - نقوش ما بعد الإسلام

- ‌قائمة المراجع

- ‌الفهرس

الفصل: ‌الباب الثاني: استقراء السور لمعرفة الإشارات من النص

‌الباب الثاني: استقراء السور لمعرفة الإشارات من النص

ما سبق هو واقع التنزيل لأول السور المفتتحة بالحروف المقطّعة، ومنها هذه السور (القلم، ق، ص) وهذه السور مكية بالإجماع، وكانت سورة القلم (ن) من أول ما نزل من القرآن وأول ما نزل من فواتح السور، وكلها أتت على نسق واحد في واقع التنزيل، وهو أن المشركين نعتوا الرسول صلى الله عليه وسلم وتكرم ذكره بالكذب والسحر والكهانة والجنون، وقد أتى نعتهم هذا بعد إعجازهم بنظم القرآن وبيانه وحفظه، فجاءت هذه السور بالقسم الإلهي أن رسول صلى الله عليه وسلم صادق، وجاء الرد أولاً في (ن) بأنه ليس بمجنون، فالمجنون لا يجمع هذه العلوم في صدره من غير معرفة بعلم الكتابة وعلم الحروف، حتى الشعر لا يعرفه، وهو من أساليب نقل العلوم. فلن يعلم ما جاء في ذكر الأولين والآخرين وما يصلح للحكم والتشريع إلا من باب واحد، وهو السماء والوحي من خالق العباد، الخبير بما أنعم على البشر من حروف ولغات وأسباب لتحصيل العلوم، وهنا نزل قوله تعالى {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} فقد جاءت هذه السورة للرد على قولهم مجنون، وقالوا عنه مجنون لأنه ادعى القدرة إصلاح البشر جميعاً بما يقرأ من آيات، وقال بأنه أُرسل للناس كافة وليس لهم فقط، وأن الكتاب الذي أُنزل عليه فيه علم الأولين والآخرين وفيه شرع الله لأهل الأرض أجمعين، فهذا هو سبب التنزيل الظاهر في الآيات، وجاء في آخر السورة {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)} أي مع إعجابهم بك واستغرابهم بما لا يطيقه بشر، وما لا يمكن لرجل أن يفعله حتى كادوا ليوقعوك أرضاً من عيونهم ومن نظراتهم، هم يقولون بل هو مجنون! أوَمَا علموا أنها رسالة لجميع الأمم؟ وهي عزّ وفخر لهم لكونها بلغتهم؟ فامض يا محمد بالرسالة ولسوف يرون بأعينهم ما تؤول له الأمور.

ص: 108

وكذلك جاءت سورة ق {ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)} فقد نزلت لاستغرابهم بأن الرسول منهم فكذبوه وأظهروا كفرهم بالبعث، مع إيمانهم بأن الخالق هو الله، وهذا ظاهر في قوله تعالى بعد ضربه المثل بالأقوام التي كفرت {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} أي أعجزنا عن ابتداء الخلق من العدم لنعجز عن خلقه مما وجد، وجاء في آخر السورة {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} تأكيدا من الله أن الإيمان بالبعث لا يُجبر الناس عليه، وإن كانت الحجة فيه دامغة كما جاءت، فهو في قرارة النفوس ولا مجبر للنفوس إلا الله، ورسول الله بشر ليس بيده الإيمان والكفر، وجاءت هنا إشارة عظيمة على خفايا النفوس، لأن ما جاء على لسان الكافرين لم يكن السبب الحقيقي في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو عجبهم بأن يكون رسول الله من البشر، فتوعد الله الكافرين بما قالوا وزعموا وظنوا، وأمر الرسول بالتذكير لمن آمن بالبعث وأيقن بأن الله محي الموتى بقوله {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} وهذا الأمر جاء لإحقاق الغاية من نزول السورة، وهي ذكّر بالقرآن من يخاف وعيدي وأكمل الرسالة ليعلم الكافرون بأن الله يصطفي من عباده رسلاً، وأنه متمم أمره على لسانك، وهو وحده الجبار الذي بيده نفوس البشر. وما محمد صلى الله عليه وسلم وما في نفسه إلا من عظيم جبروت الله في بشره، بأن جعل من أنفسهم رجلاً هو كالرجال من البشر ولكنه على خلق عظيم، وله نفس طاهرة مطمئنة بأمر الله، وهو قادر على حمل رسالة الله للبشر جميعاً. ولكنهم أصرّوا واستكبروا وكانوا في عزة وشقاق، فقذفوا الرسول بأبشع الأقوال ووصفوه بما لا

ص: 109

يليق به، وأصروا على نكران الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه منهم فجاءت قاصمة الظهور في سورة ص {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (6)} وهي القاصمة لظهور المشركين لأن فيها نقض الحجج جميعها مما يدعون، فقد جاءتهم الرسالة على لسان نبي عربي من بني جلدتهم، فأنكروا وتعنتوا بأن يكون رسولاً منهم - والله قادر على أن يبعث مَلَكاً أو أن يبعث معه ملك - وكل هذا الإنكار والتعنت منهم وهو يحمل البرهان الساطع على صدق رسالته، والدليل الواضح على أنها ليست اختراعاً من نفسه، ولا هي خديعة لهم طمعاً بأيٍّ من أغراض الدنيا ومتاعها.

وما يدعوهم به من قرآن يأسر القلوب بأسلوبه، ويطهرهم بما يحمله من معاني، ويدعوهم إلى محاسن الأخلاق، ويذكر السماء وما فيها، والأرض وما عليها، والنفس البشرية وما حوته من أسرار، بل ولا يقولون قولاً بينهم أو في أنفسهم إلا وجاءهم به، مع هذا كله أخذتهم العزة بالإثم، وقالوا ما هذا إلّا سحر، وإن لم يكن مما سمعناه أو عرفناه عن السحر، فكيف نؤمن بك ونعادي الأمم كلها فيكون هلاكنا، وكيف نؤمن لك وما أنت إلا واحد منا، وما تريد إلّا أن تسحرنا بهذا الكلام، أمّا ما نريده نحن فهو ما نحن عليه، وما وجدنا آباءنا عليه من تعدد الآلهة، وسنصبر عليه لأنه الحق، والدليل بزعهمم أنّه حتى النصارى عبدوا آلهة متعددة ولم يوحدوها وهم أهل كتاب، وما هذا إلا سحر بحسب تحليلهم وإن لم يرَوا له مثيلاً، وكأنه بدعة من السحر لم يكن لها مثيل قبل ذلك. فشاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأقوالهم وناصبوه العداء، والسبب الظاهر في كلامهم أنهم أنكروا أن يكون الرسول منهم فقط، كما يظهر من قولهم {أَؤُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} فجاء الرد على تعنت المشركين وشقاقهم للرسول صلى الله عليه وسلم وما قالوه فيه وما دعوا أنفسهم

ص: 110

إليه، وجاءت لإبطال حججهم وبيانها، فضربت الأمثال العظيمة لرد الحجج الباطنة في نفوسهم والظاهرة على ألسنتهم، وأهمها العجب من كون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم كما قال تعالى {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 2] {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4]{أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8]، وجاء الرد عليها ظاهرا ومتضمناً للإشارة على رد شبهة تعدد الآلهة من وجهين، والإشارة على وجه واحد لرد شبهة السحر، ومهد للرد على حجة الوراثة في دين الآباء، والدعوة للصبر عليه، وكل رد مهد لما بعده بأروع ما يكون من بلاغة وتسلسل في النظم، فكيف جاء الرد على هذه الحجج وإبطالها؟ لنعرف التشابه بين الإشارات فيها مجتمعة والإشارة المبتغاة لتأويل الحروف.

الحجة الأولى: جاءت قصة نبي الله داود مع الخصم قبل الحديث عن سليمان وما ورث من ملك، فقال تعالى {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) ص} فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر - كما كان في السور قبلها- وأمره بذكر قصة داود، وكيف سخر الله الجبال تسبح بتسبيحه، والطير تحشر له، وقد شدّ الله ملكه وأعطاه الحكمة فوق الملك، وأعطاه البلاغة في القول، فتمت له أسباب الحكم والقضاء في الأرض، والشاهد في ذكر هذه النعم هو موطن الفتنة فيها، والاستشهاد به هو الدليل على بطلان الحجة،

ص: 111

فما هو موطن الفتنة؟ هو نبأ الخصم إذ تسوّروا محراب داود، وهم من الملائكة، وهذا ظاهر في قولهم (لا تخف) كما قالت الملائكة لإبراهيم (لا تخف) وفيه البيان بأن حالهم ليس من حال البشر، كما في حال المرسلين لإبراهيم عليه السلام من عدم الأكل وغرابة الهيئة، وحالهم هنا هو القدرة على الظهور من الأسوار واختراقها، وهو سبب الخوف. وتأكيداً على أنّهم من الملائكة قولهم "فاحكم بيننا بالعدل ولا تشطط"، فلا يأمر الناسُ ملِكاً سُخّرت له الجبال والطير وعُرف عنه الحكمة والبلاغة بقولهم (لا تمل أو لا تجر وتتجاوز عن الحق)(1)، فلا يقولها إلا من كان في وجوده مهابة، قال النحاس:"ولا اختلاف بين أهل التفسير أنه يراد به (أي بالخصم) ههنا ملكان"(2)، وأقول لم يخالف إلا من أخذ الآية على ظاهرها، ولم يفهم المقصود منها، فأوكل أمر علمها إلى الله ولم يتأوّلها (3). ومن ثم طرحوا عليه المسألة، وفيها موطن الفتنة، وهي مسألة بسيطة لو طرحت على أي عاقل لأفاد بأنها من الظلم والجور، ولَحَكم فيها بما حكم به داود وهو النبي والملك العادل الحكيم البليغ، فهذا له تسع وتسعون نعجة وهذا له نعجة واحدة، أو كان لغيره تسع وتسعون بقرة أو مثقالاً أو صاعاً من شيء، ولغيره بقرة أو مثقالاً أو صاعاً من ذات الشيء، فكيف يستقيم إجبار صاحب القليل على ترك الواحد لمن له تسع وتسعون، فالهوى فيها ظاهر ظهور الشمس وحكمه فيها هو عين الحق، ولكنه ليس الحق فيمن سأل، فالسائل ملَك من الملائكة، والخصمان من أهل السماء، وداود ملك في الأرض، وحاكم على أهل الأرض من البشر، فكيف يحكم بين من لا يعلم أحوالهم وما هي نعاجهم، ولو تشابهت الكلمات فلن تتشابه الأفهام والأحوال، فالخصم من أهل السماء والقاضي من أهل الأرض، وحكمه فيهم لا يصح ولو كان بأبسط القضايا المعروفة على الأرض، ولو حكم أهل السماء وأهل الأرض على بعض؛ لما أستخلف الله بني آدم في الأرض، فقد حكمت الملائكة وقالوا

(1) في تفسير معنى تشطط روى الطبري (176/ 21) بسند صحيح عن قتادة قوله "ولا تمل" أما لا تجر فقول البغوي (80/ 7) وهو الأصل فيها.

(2)

معاني القرآن، ج6ص94

(3)

ومنهم ابن كثير رحمه الله وجعله من أهل الجنة.

ص: 112

{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ

الآية 30 البقرة} فالحكم لا يكون إلا بما أمر الله وما قرر من أحوال، لعلمه بما تختص به بعض المخلوقات عن بعض، كما رد الله على قول الملائكة تمام الآية {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، والشاهد في القصة أن رسول الله إلى البشر لو لم يكن منهم لبغى عليهم، حتى لو كان من الملائكة، لعدم معرفته بحالهم وما يصلح للحكم بينهم، كما أن داود ظلم في حكمه بين الملائكة لذات السبب، فكيف تعجبون بأن الرسول منكم وهي رحمة من الله، ولو جعله الله مَلَكا لقضي عليكم من جهتين، سواء أردتم ذلك أم أراد الله ذلك، فإذا أردتم ذلك لقضى عليكم بالحكم في أبسط المعاصي، كما قضى الملائكة في أبيكم آدم، وإذا أراد الله أن يكون ملَك فسيكون مبعوثاً من الله لإنفاذ حكمه، كما هو الحال في الأمم قبلكم، وهو ما جاء في قوله تعالى {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] ولو أردتم أن يكون ملَك ويحكم بحكم البشر، لكان على هيئة البشر لاستحالة رؤيته على هيئته، ولعدتم لِما تقولون مهما كانت أحكامه كما في قوله تعالى بعدها {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)} ولكن داود عليه السلام لم يحكم فقط، بل أعطاهم الحكمة ليهديهم سواء الصراط، فبين لهم سبب الخلاف بقوله إن سنة الله في الخلطاء أن يبغي بعضهم على بعض في أكثر الأحيان، إلا من آمن منهم وعمل الصالحات، وهم القلة، ولكن الباغون هم الأكثر، وقياسه هنا كان بين الخلطاء في الأرض والخلطاء في السماء وهو القياس الخاطئ، وليس الخطأ في الحكمة، ولوضوح الفكرة في موطن الفتنة تنبه داود عليه السلام لها بعد إصداره للحكم. ولبيان ذلك نقول لو كانت الرواية عن قاض عادل تفاجأ بوجود شخصين في صدر بيته في ساعات الليل أو في وقت راحته، فخاف منهما لصعوبة الموقف، فبادراه بالقول لا تخف إنما أتيناك نسألك في مسألة لتقضي بيننا، هذا يملك أرضاً مساحتها آلاف الأمتار، ولي بجانبها مئة متر، ويريد أخذها مني، فماذا سيقول؟ من المؤكد أنه سيجيب على سؤالهم، ولكن ستبقى في نفسه حيرة من أمرهم وأمر سؤالهم، فإن ذهبوا ورضوا بحكمه، علم أنهم سفهاء، وإن لم يرضوا بحكمه علم أن من وراء السؤال فتنة، إما أنّهم جاءوا يقصدون الشر أو كانوا يستنطقونه بهذا الحكم لغاية في

ص: 113

نفوسهم، وكذا الأمر في قصة داود، وقد علم أن السائلين ابتداءً ليسوا بسفهاء، لأنهم ليسوا من البشر، وما أتوا إلا لعظيم، وعلم أنهم لا يكذبون لأنهم لو كانوا كاذبين لما كانوا من الملائكة بل كانوا من الشياطين، وهم إذ صدقوه وأظهروا عدم قصدهم الشر بقولهم (لا تخف) فهي الفتنة لاستنطاق الحكم منه، فعلم أن النعاج والسائل عنها أعلم من المسئول، وليست المسألة بهذه البساطة، وهنا ظن داود بعد انتهاء الحديث بينهم أنما يريد الله أن يختبره (1)، والظن هنا فعل نفسي بين اليقين والشك، وهو أقرب إلى ليقين لتوافر المسببات الداعية له (2)، والظن لا يُبنى إلّا على ظن، ولا يبنى على يقين أو محض شك (3)، كما أن ظنّ داود مبني على ظنّه القدرة على الحكم بين هذين الخصمين، وتقديرها هنا وظن داود أنها فتنة كما ظن أنّه قادر على الحكم بين الخصمين، فخر لله ساجداً واستغفر ربه ورجع إليه يطلب منه المغفرة، فغفر له؛ لأنه لم يخالف أمر الله في الحكم بالعدل، بل هو لم يتبع ما بين الله له من أسباب الحكم بالعدل، وهي مسببات الحكم باليقين، وقد بيّن الله هذه الأسباب بعدها كما ذكّر بها داود عليه السلام بقوله تعالى {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} فهو خليفة في الأرض لا في السماء {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} فحكمه بين الناس لا بين غيرهم من المخلوقات كالملائكة، {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إشارة بأن داود لم يحكم بالهوى قطعاً حتى وإن جانب الصواب، لأن الحكم بالهوى يقضي البقاء على ما يهوى الحاكم، أما داود فقد خر من فوره ساجداً طلباً للعفو، ولذلك غفر الله له فيما ابتلاه، ولو حكم بالهوى لحكم لصاحب التسع والتسعين، لعلمه بأنه الأقوى بينهم، وداود أضعف منهما، والوقوف مع القوي فيه عزّ وقوة، وهو لم يأخذ بهذه

(1) قال البيضاوي (43/ 5): {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ابتليناه بالذنب أو امتحناه بتلك الحكومة هل يتنبه بها.

(2)

قال الطبري (181/ 21): والعرب توجه الظن إذا أدخلته على الإخبار كثيراً إلى العلم الذي هو من غير وجه العيان.

(3)

وقد ظن بعض أهل العربية بأن كلمة ظنّ أتت بمعنى أيقن، مما يورد شبهة في اللغة بأن الكلمات لا تحمل المعاني إنما السياق هو من يحمل المعاني وهذا ظن خاطئ، ووقع التنبيه عليه في نفس السورة، فقد ذكر الله اليقين والشك والظن في موطن واحد لنعرف الفرق، فجاء في أول السورة {بل الذين كفروا} وهذا هو اليقين بعينه لأن الله قرر، و {بل هم في شك من ذكري} هو الشك بعينه لأن الله قرره، و {ظن داوود} هو الظن وهو إلى اليقين أقرب، ولا يكون يقينا مطلقا لما سلف من كلام الطبري ولما يقتضيه الجهل بما في النفوس.

ص: 114

الأسباب فخرج حكمه مجانباً للعدل، وبعد ذلك جاءت {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} وفيها توعد الله من يحكم بالهوى أن له عذابا شديدا. فهذه قصة داود وهو أحكم ملوك الأرض مُلكاً وأوسعهم حكمة وأعدلهم جميعا، وهو النبي الملك لم يحكم بالعدل في أهل السماء، لأنه ليس منهم، وهذا السبب هو نقض حجة المشركين في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه منهم، فأي حجة لهم بعد هذا البيان. وجاء في وسط السورة {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)} وذكر بعدها قصة خلق آدم واستعلاء إبليس، وكلها إشارات بذات النظم المتناسق.

الحجة الثانية: وهي قولهم كذّاب، وجاءت الإشارة على هذه الحجة وردها في حال الخصم وهم من الملائكة، ولفهم هذه الإشارة لنفرض أن اثنين من أهل مدينة حضرية علم الناس بأنها مكان يستحيل فيه عيش الأغنام لما عرف من حالها، وكانت لهم هيبة، وعلمنا بأن أهل تلك المدينة عُرفوا بطيب الأخلاق وحسن المعاملة فيما بينهم وبين الناس، ولم يقل أحد فيهم يوماً بسوء، فقال أحدهما في مجلس بمدينة أخرى: إن عندي مئة نعجة، بلغة الجالسين لا بلغته، لعدم معرفة الجالسين بلغته، فماذا سيتبادر لذهن الجالسين؟ أما السفهاء ومن لا يقْدر الناس قدرهم فسيهزأون به ويظنونه مدعياً كذاباً، وأما غيرهم فسيعلمون أنّه صادق، ويلتمسون لكلامه معنى، إما أنه يملكها في مكان يصلح لها أو أنّه قصد بالنعجة شيئاً آخر أو أنه يملكها بمدينته ولا يعرفون كيفية حفظها، وفي قصه داود كانت لديه خيارات، الأول: هو تكذيبهم، ولم يكن ليفعله أو ليظنه لحالهم ولمعرفته بأن أهل السماء لا يكذبون، والثاني: هو تصديقهم من غير سؤالهم عنها وفيه رفع لشأنهم واحترامهم، والثالث: هو تصديقهم مع سؤالهم عن حال نعاجهم وما هي على الحقيقة وهذا إن حصل ففيه التقليل من شأنهم، لأنهم سألوه عن مسألة ولم يقصّوا عليه خبراً، فاختار الثانية لحكمته، وكان ينبغي أن يقول علمها عند ربي وما أوتيت من العلم والملك إلا

ص: 115

قليلاً. والإشارة هنا في اختيار داود للثانية، وهي دلالة على أن السفهاء هم فقط من يكذّبون أهل الصلاح والتقوى، ويظنون بهم ظن السوء، وأهل الحكمة يصدّقون من عُرف بالصدق حتى سمي الصدوق بينهم، أو يصدقوه حتى يتبين لهم ما يقول من الحق، وبذلك جاء التقريع للمشركين. وفي هذا يقول ان خلدون: "ولا تنكرنَّ ما ليس بمعهود عندك ولا في عصرك شيء من أمثاله، فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات

وليس ذلك من الصواب، فإن أحوال الوجود والعمران متفاوتة، ومن أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلها فيها

فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمناً على نفسه، ومميزاً بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته. فما دخل في نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه." (1)

الحجة الثالثة: وهي القول بتعدد الآلهة، وقد جاءت الإشارة عليها من وجهين، الأول في قول داود بأن الخلطاء يبغي بعضهم على بعض، وهذا إن تشابهت أحوالهم، وكذلك الآلهة إن كانوا خالقين كلهم، وزعم كل منهم بأنه المستحق لعبودية الآخر، كما هو الحال عند البشر المخاطبين، فهم من الخلطاء وتتشابه أحوالهم، وبالتالي سيبغي بعضهم على بعض، وسيستعلي أحدهم على الآخر، وهو مذكور بالنص في قوله تعالى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] واختار داود كلمة الخلطاء ولم يقل الناس، لأنه قد أوتي الملك والحكمة وعلّمه الله مما يشاء كما جاء في سورة البقرة بقوله تعالى {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} وجاءت الإشارة للوجه الثاني بما حكم به داود وما يقتضيه الملك

(1) مقدمة ابن خلدون (309/ 1)

ص: 116

والحكم من رحمة الحاكم بالمحكوم قبل العدل، ولو لم يرحم الحاكم لفسدت أحوال المحكوم، كما أنه لو كان في الأرض إله وفي السماء إله، وحكم كل إله على الآخر ومن تبعه، فسيحكم من غير رحمة لإثبات وجود ولاستفراده بالحكم، مما يؤدي لفساد الأحوال في السماء والأرض كما في قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الانبياء: 22].

الحجة الرابعة: وهي ما وجدوا آباءهم عليه، والزعم بأنهم أحق بالإتباع، وهذا ما يريدون بالنهاية، وجاء الرد ضِمْنِيًّا عليها من ثلاثة وجوه، الأول بكلمة (واذكر) لقصص الأنبياء داود وسليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذا الكفل عليهم السلام وكأنه يقول هؤلاء سلفك، أما سلفهم فهم قوم نوح وفرعون وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة - وقد ذكرهم قبل الأمر بذكر الأنبياء - فلينظروا من أحق بأن يُتّبع، أهم الصالحون أم الهالكون، والوجه الثاني بذكر سليمان عليه السلام وذكر قصة أبيه داود عليه السلام، ولإيضاح هذا الوجه، لنفرض أن رجلاً قام في قومه وهم أهل تجارة، فقال لهم إنني أدعوكم لإتباع نظام تجاري يضمن لكم أن تكونوا سادة الأمم وأغناهم جميعاً، فافعلوا كذا وكذا، فقالوا له بل ما نحن عليه أفضل وأجدى مما تقول، وقد ورثنا هذه التجارة عن آبائنا وهم أهل تجارة كابراً عن كابر، فقال لهم يا قوم أنا لا أخترع هذا النظام، فقد اتّبَعتهُ أمم من قبلكم فسادوا على من سواهم، وجمعوا ما لم تجمعه أمة من الأمم، وأنتم تعرفونهم وسمعتم بهم ولم تعلموا بعد ما هو نظامهم، وأنا أقول لكم إن هذا هو نظامهم خالص لكم من غير تعب، وكذلك ذكر قصة داود وسليمان وهم من حكموا الأرض بكلمة لا إله إلا الله، وكان لهم ما لم يكن لأمة من الأمم، أما الوجه الثالث فهو بذكر الوراثة من داود لسليمان عليهما السلام، ولإيضاح هذا الوجه لنفرض أن اثنين من التجار ورَّثوا أبناءهم كل ما تعلق من تجارتهم من أموال وأفكار وطرق، فورث أبناء

ص: 117

الأول مالاً وفيراً ومجداً في الأسواق، وكان له أساليب في التجارة، ولم يكن لأبنائه علم بها ولا دراية، وورث أبناء الآخر ديوناً في أعناقهم وسمعة سيئة، وكانت لأبيهم أساليب في التجارة أيضاً، ولم يكن لهم من علم ولا دراية بها كما كان أبناء الأول، فمن منهما - وأعني التجار - أحق بأن يُتّبع في مسلكه؟ أيعقل أن يكون الثاني؟ فجاء ذكر الوراثة في الملك والحكمة والنبوة لسليمان من أبيه داود، وقد ورث منه الخير كله، والتقريع هنا بالسؤال لهم: أفي آبائكم من هو كداود أيها المشركون؟ أورثتم عن آبائكم مُلكاً ذاع صيته بين الأمم؟ أورثتم عنهم الحكمة حتى جاء القاصي والداني ليسألكم ويتقاضى عندكم؟ أورثتم عنهم مكارم الأخلاق وهذا حالكم؟ أورثتم عنهم الصلة بين الله والبشر كما ورث سليمان من أبيه، فكان حقاً عليه أن يتبعه؟ ولكن ما حالهم بخاف عليهم، وما حال آبائهم بخاف عليهم أيضاً، فلم يكن بينهم من نبي كما يعلمون، فالوراثة في المسلك والدين تكون للأخيار ومن في آثارهم دعوة لسيادة الأمم بالحق والفوز بما عند الله، وهي إشارة أيضاً على أن الوراثة في الملك والنبوة لا تكون إلا لمن شاء الله أن تكون فيه، وقد شاء الله أن يكون الحكم في يد رسوله صلى الله عليه وسلم فتنبهوا يا جاهلين فإن الله متمم ما أراد لا محالة {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} .

الحجة الخامسة: وهي حجة السحر والكهانة، فبعد الإشارة على وجه منها في قصة داود، وهو قول الملكين (لا تخف)، وفيه الإشارة على أنّهم لو كانوا شياطين لما أمروا بالمعروف بتهدئة فزعه، ولو كانوا شياطين لاستغلوا فزع داود لأخذ ما يريدون، فالشياطين تتبع الزلات وما يوجبها، والخوف من أكثر ما يوجب الزلات، والله لا يؤاخذ عبداً قال كلاماً وهو خائف، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم ساحراً ويتبع الشياطين لفعل ما تفعل الشياطين وسلك مسلكها من غير نظر للغاية في دعوته، وقد رد الله عليهم الحجة بذكر قصة سليمان عليه السلام، وذكر ما وهبه له من ملك لا ينبغي لأحد من بعده، وأنه سخر له الريح تجري بأمره، وسخر الشياطين تعمل

ص: 118

بأمره، ووجه الدلالة في ذكرها هو البيان بأن السحر وإن كان شأنه عظيماً كما يعتقدون إلا أنّ له حدوداً، وحدوده المعلومة في أيدي أهل السحر من شياطين الإنس والجن (السحرة والمردة)، ومردة الشياطين قد حكمهم سليمان كما حكم الإنس بإذن الله، لأنه مرسل من خالق الإنس والجن وخالق الحدود بينهم، ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم خير من سليمان وغيره من المرسلين، فهو خاتمهم، وكفاه هذا فخراً عن كونه حاكماً على الإنس والجن، وهو ليس برسول قوم دون سواهم، فكيف ترمونه بالسحر والسحر له حدود معلومة، وما تجدوه من أمره لا حدود له كما تعلمون، ولم تستطيعوا تقديره حتى. وفي آخر السورة قال تعالى {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} تأكيد من الله لإبطال حجتهم بأنه لو كان ساحراً يا سفهاء لكان كغيره من السحرة، ولطلب على سحره الأجر بما هو متاع في الدنيا، ولم يكن ليعاني كما هو الآن، ولو كان يتكلف على نفسه أو يكلفه غيره بطلب مادي، لكانت لديه غاية دنيوية، كما هي عند السحرة كلهم بلا استثناء، وكما هو الحال عند الكهنة بأن يكونوا مكلفين دائماً بالتكهن ويطلبون عليه المتاع، ولكنه رسول الله للناس جميعاً، والرسالة الإلهية تستحق المعاناة، وتستحق التضحية، ولسوف ترون بأم أعينكم كيف يكون من أمر هذا الدين.

الحجة السادسة: وهي قولهم اصبروا على آلهتكم إن هذا شيء يراد، أي إن هذا هو الحق فاصبروا عليه، وجاء الرد عليه من وجهين، الأول في قوله تعالى قبل ذكر الأنبياء (اصبر على ما يقولون) أي اصبر على هذا الأذى من أقوالهم وهذه المحنة من أفعالهم، وفيه بيان بأن الصبر يكون على الأذى وما فيه من المشقة، وليس على الراحة والعيش الرغيد، أما الثاني فبذكر قصة أيوب عليه السلام، وما كان بهِ من أَذَى في جسده، وما في عيشه من عذاب، فصبر واحتسب عند الله، ودعا الله أن يخفف عنه بعد طول صبره، فجعل الله فيما جاوره من ماء شفاءً لمرضه، وردّ

ص: 119