الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: مسالك المتحدثين في فواتح السور
المسلك الأول: الذين داروا في فلك التأويل، فكانوا ممن لهم أجر أو أجران، وهم المفسرون بالأثر وأقوال أهل اللغة، وأوَّلوها على أكثر من عشرين قولاً بحسب ما أحصيتها، وبحسب من أحصاها من العلماء (1)، فقالوا عنها مثلاً: هي اسم من أسماء القرآن أو أسماء للسور، وقالوا: هي فواتح يفتتح الله بها القرآن، أو جُعلت فصلاً بين السور، وقالوا: هي حروف مقطّعة من أسماء أو أفعال، وهي قَسَم، وهي من حروف الهجاء لأسماء الله الحسنى، أو فيها اسم الله الأعظم، وهي حروف هجاء موضوع، وهي حروف تحمل في كل منها معنى مختلف، وهي سر القرآن ومما استأثر الله بعلمه، وهي حروف تدل على أصلها كحروف، وجُعلت فواتح لقرع الأسماع، أو هي من حروف المعجم أساس نظم القرآن، وهي إعجازٌ للعرب عن صياغة مثل القرآن بها، وهي إعجازٌ في النظم لكونها تُمثّل أنصاف صفات الحروف، وهي تنبيه لمغايرتها عُرف العرب، وهي ذات دلالة مباشرة على معنى، كتفسير (ألم) بـ (أنا الله أعلم)، وسآتي على ذكر هذه الأقوال لاحقاً بالتفصيل (في الفصل الثاني) من خلال بيان موافقتها أو مخالفتها لأصول التفسير والتأويل. هذا وإن تعددت الأقوال إلّا أنها تدور في فلك التأويل المستحب، والخلاف فيها كان من تعدد الآثار والروايات، وكثرة الضعيف منها عن الصحابة رضي الله عنهم، وابن عباس تحديداً، وقد احتجّ أصحاب تلك الآراء بهذه الروايات كلٌّ حسب ما يؤيد رأيه من روايات وإن كان فيها اضطراب واضح، وظنّوا بأنّ وقوفها على التابعين يعضدها في كثير من الأحيان وإن لم تصح عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
(1) كالرازي في التفسير (6/ 2) والزركشي في البرهان (173/ 1) والسيوطي في الإتقان (26/ 2)، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح أنها بلغت ثلاثين قولاً عند تفسير سورة المؤمن (غافر)(554/ 8) وقصد بالأقوال ما بين الشاذ والمشهور منها.
ويجب التنبيه هنا بأنّ الكثير من علماء الحديث وأهل التفسير قد تساهلوا في نقل الكثير من روايات التفسير في الآثار، كما تساهلوا في نسبة أقوال المتكلمين وأهل اللغة لمعرفة المصدر لكل قول، وذلك لما اقتضاه واقع الحال في التفسير، وجاء هذا التساهل لاعتبارات كثيرة، ذَكر منها أهل الحديث بأنه قد يُستأنس بهذه الأقوال لفهم المعاني، وهذا أمرٌ حاصل، ولكن الاحتجاج به باطل، فالتساهل له أسباب حميده وليس منها تفسير معاني القرآن بمجرد الخبر، والتساهل ليس بدليل على حجية ما نقلوه إن كان ضعيفاً أو فيه شبهة، وقد يُستأنس بهذه الأحاديث لبيان فهم قائليها، ولا يُحتج بها في التوقيع عن رب العالمين، ونقل مقاصد الشارع في آياته عن ظاهر اللفظ بدليل ظنيّ الثبوت أو ظنيّ التأويل، ونقول:"لا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه، ولأن النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» "(1). هذا إن كانت الروايات من المسند الضعيف أو ما فيه علة لم تبلغ به رد الحديث، وقد نقلها علماء التفسير والمحدثون وقالوا: العهدة على الراوي، أما أقوال العلماء والتابعين المشكوك في نسبتها إليهم فهي أولى بالتمحيص والتدقيق والردّ، لأنها الأكثر والأغلب، فما كان منها جميعاً من المسند الموضوع فهو داخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النَّار"(2)، والكذب على القرآن هو كذب على مُبلّغه وقائله، فلا نقول العهدة على الراوي، بل العهدة علينا إن أخذنا بها، وعلم الجرح والتعديل قادر على بيان الحكم الواجب اتباعه فيها. وقد كان هذا القول من أهم أسباب الخلاف في تفسير فواتح السور، وسبباً في تنازع الآراء عليها،
(1) أضواء البيان للشنقيطي (184/ 5) تفسير سورة الحج، وقال:"كما هو مقرّر في الأصول" سورة النور (498/ 5)، والحديث بهذا النص عند النسائي (327/ 8) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه، قال الألباني:"إسناده صحيح"، ورواه جمع غفير من أهل الحديث منهم الإمام أحمد (200/ 1) والترمذي (668/ 4) بلفظ "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة" وهو صحيح، انظر الإرواء للألباني (44/ 1).
(2)
رواه الإمام أحمد (166/ 3) والبخاري (80/ 2) ومسلم (10/ 1) وأصحاب السنن وأكثر أهل الحديث.
وقد حاول بعض العلماء الجمع بين تلك الأقوال ولم يستطيعوا، لأنهم وجدوا في بعض الآثار تناقضاً في نفس الرواية أحياناً، فالأَولى أن يتم تنقيح الصحيح من الضعيف عند الحديث عن الشُبَه وما خفي تفسيره، ولا نكتفي بهذا بل نجتهد لمعرفة أصل المتن وما هو الحق فيه، لكي لا نرمي ما جاءنا من علم التابعين ومن تبعهم من رواة الحديث وأهل التفسير من العصور المفضلة، فهم أعلم وأتقى من أن نرد كلامهم بمجرد كلامنا. ولو تتبعنا أقوال الأئمة من المفسرين - أمثال ابن جرير الطبري - لوجدنا أكثرها من الروايات عن التابعين، وهؤلاء العلماء هم قدوتنا وطريقهم سبيلنا لفهم القرآن لا سواه، ولو وصلنا من العلم ما وصلنا ونقّحنا لهم ما نقّحنا وكان بيننا وبينهم من فضل لما كان إلا كفضل الرضيع على أمه، لأنهم ورّثونا المنهج في ابتغاء العلم وبيّنوا لنا طريق الحق، لذلك سنسير على دربهم في هذه الفواتح لنجد ما قيل فيها من أحاديث وآثار وآراء، فما كان منها صحيحاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم وضعناه موطن اليقين، وما كان منها عن الصحابة والتابعين وضعنا ضعيفه موطن الشك وصحيحه موطن الظن - لأسباب سأبينها - كما نضع الموضوع منه على رف النسيان. ولا ننسى ما لأهل العربية وفرسان الكلام من علم أتحفونا به، وما جاء في أقوالهم ومؤلفاتهم من بيان وإفهام، فلا نكتفي بإيراد كلامهم، بل نجتهد في معرفة الأصل فيه ونسبته لقائله، فمعرفة الإسناد في اللغة لا تقل أهمية عن معرفته في الأثر، لأن كلام العرب هو الشاهد على فهم كلام الله.
المسلك الثاني: الذين شذّوا وأنزلوا كتاب الله منزلة العلم بالتجريب ولو بحسن نية، كمن جعل من هذه الحروف خبيئة في علم الحساب، أو من قال هي حروف من حساب الجمَّل؛ وهذا عليه الوزر، وهو كما قال الشوكاني: "وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادّعوه من لغة العرب وعلومها لم يبق حينئذٍ إلا أحد أمرين: الأوّل التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه، والوعيد عليه، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه، والصدّ عنه، والتنكُّب عن طريقه، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبةً لهم يتلاعبون به، ويضعون حماقات
أنظارهم، وخُزَعْبَلات أفكارهم عليه. الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع، وهذا هو المهيع الواضح، والسبيل القويم، بل الجادة التي ما سواها مردوم، والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم، فمن وجد شيئاً من هذا، فغير ملوم أن يقول بملء فيه، ويتكلم بما وصل إليه علمه، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري، أو الله أعلم بمراده." (1) وقد اعتمد بعض الذين تحدثوا فيها برأيهم هذا، على بعض الآثار التي ذَكرت محاولات اليهود لفهم هذه الحروف زمن التنزيل، وكلها آثارٌ ضعيفة (2)، ولا يحتج بها حتى لو كانت صحيحة، فكيف نقتدي باليهود لفهم كلام الله؟! وقد كفروا بكلامه قبل التنزيل وبعده بناءً على فهمهم وتأويلهم، فهؤلاء ليسوا معذورين، إذ الجهل بأصول الحديث لا يُعتبر مُسوغاً للخوض في القرآن. ولنا كل العبرة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر، فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: "أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيّاً ما وسعه إلا إتّباعي" (3)، وفي رواية "ولكني أعطيت جوامع الكلم، واختصر لي الحديث اختصاراً." (4)
المسلك الثالث: الذين أرادوا إعطاء تفسير لها بغض النظر عن الوسيلة، إما طلباً للشهرة أو دفاعاً عن القرآن، وكأنها نقيصة في كتاب الله، فرموا القرآن من حيث لا يعلمون بالنقص والتحريف، فكان منهم من إدّعى وجود أمثال للحروف المقطّعة في بعض ألسنة العرب، وأنها كانت معروفة لديهم، وأنها من باب الاختصار للكلام، وأن أصحاب هذا اللسان قد اندثروا واندثرت معهم معاني الحروف، وهذا ما لا دليل عليه من التاريخ والآثار، ولا حتى من
(1) فتح القدير للشوكاني (31/ 1)
(2)
كما قال ابن كثير فيها من باب التحقيق (161/ 1)، وهي كما قال.
(3)
رواه الإمام أحمد (387/ 3) وابن أبي شيبة (228/ 6) والبيهقي في شعب الإيمان (347/ 1) ورواه الدارمي من وجه آخر (126/ 1) من حديث جابر بن عبد الله وقال الألباني في الإرواء "حديث حسن"(34/ 6).
(4)
رواه الخطيب البغدادي في الجامع (161/ 2) وابن الضريس في فضائل القرآن (54/ 1) بسند صحيح عن الحسن البصري مرسلاً.
قصص الإخباريين، فضلاً عن أنه رمْيٌ لكتاب الله بما لا يليق من دعوى عدم الحفظ. كما أن منهم من إدّعى وجود تفسير لها في لغات الأمم المندثرة من غير العرب، وأنها نزلت كرموز، ولها معاني في اللغات الأخرى، كما قام أحدهم بنقل الحروف إلى اللغة الهيروغليفية (1)، وقام بابتداع تفسير لها، وكأنه لم يقرأ {بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مَبِينٍ} فجعلها (بخط مصريّ مُبهم ومُشفّر). وهؤلاء كلهم سائرون في درب مظلم، لا مرشد لهم فيه ولا مُعين، وكلامهم لا يرقى لمراتب النقد العلمي، فالهيروغليفية نوع من خطوط المصريين القدماء وليست بلغة يقوم على فهمها واستدراك معانيها علماء اللغات واللسانيات، والقائلون بهذا القول مُدَّعون لعلمٍ وهو منهم براء، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} وكأن الناس قبلهم لم يفقهوا أصول هذا العلم، فقد كان العرب والمسلمون على دراية بهذا العلم قبل قرابة ألف سنة، وقد فعلوا بلغات العالم القديمة المندثرة ما فعله علماء العصر الحديث، بمحاولة فك رموز اللغات المندثرة، وتفسير معانيها، بل وإيجاد ألفاظها. (2) ولو كان عند الناس شكٌ فضلاً عن العلماء بأن في هذه الرموز تشابهاً، لوَصَلَنا منهم خبر، بل لما كانت هذه اللغات قد اندثرت أصلاً لمجرد ذكر بعض رموزها في
(1) صدر كتاب "الهيروغليفية تفسر القرآن الكريم" ولا أرى ضرورة للخوض في تفاصيل آراء الكاتب كون الهيروغليفية ليست بلغة، وإنما رموز تمثل أحد خطوط المصريين القدماء، والعلم بمفرداتها ورسمها ونظمها لا يعبر عن ألفاظ لغة أخرى، كما لا تعبر عن نسبة موافقة رسمها لكلمات في لغات أخرى، إضافة أن الكاتب قد أعطى أمثلة على ما لا يقول به أحد من علماء اللغات أو علماء التاريخ أو علماء اللغات المصرية القديمة، ولا يقوله به عاقل حتى، كزعمه أن الفرعون أخناتون هو إبراهيم عليه السلام! أو تقسيمه ألفاظ الحروف وكأنها شعر لتوافق كلمة بعينها، وأعتبره كلاماً ساقطاً.
(2)
اقرأ ابن وحشية النبطي وريادته في كشف رموز هيروغليفية في كتابه (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) للدكتور يحي مير علم، حيث يشير العالم العربي يحي مير علم أن ابن وحشية وضع في مخطوطته أكثر من 80 نوعاً من الأقلام القديمة وحروفها وما يقابلها من حروف باللغة العربية، ومن بين هذه اللغات إلى جانب الهيروغليفية، اللغات المصرية القديمة مثل الديموطيقية والهيراطيقية والقبطية القديمة إلى جانب الأشورية والكلدانية والنبطية. وقد نشرت صحيفة الأوبزيرفر البريطانية هذا الخبر بتاريخ 2004/ 10/3 وصحيفة الثورة السورية بتاريخ 2005/ 3/21 - تحت عنوان "العرب .. هل سبقوا شامبليون في حل رموز حجر رشيد؟ " وحدد الزركلي في الأعلام وفات ابن وحشية بعد 291هـ وهو تاريخ ترجمة كتابه الفلاحة النبطية، وقال:"عالم بالكيمياء ينسب إليه الاشتغال بالسحر والشعوذة، أورد ابن النديم أسماء كثير من مؤلفاته"، ونسب إليه هذا لأنه ترجم بعضا من كتب السحر للعربية كما ترجم الكثير من الكتب المندثرة.
القرآن. فهؤلاء إذن هم الطبقة الأدنى من المتقولين على القرآن، لاشتغالهم بالحروف فقط، وقولهم ساقط يميزه الساذج، ولو أن أحدهم قد رأى في الآثار الضعيفة والموضوعة مسوّغاً لفعله فهو آثم، فالجهل بأصول الحديث لا يُعتبر مسوغاً للطعن في القرآن، وقد صدق فيهم قول الإمام أبي حنيفة:"من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالجدال تزندق، ومن طلب غريب الحديث كُذّب."(1) لأن علامة الكذب غرابة المذهب، حتى لو كان سائغاً في عقل صاحبه وله وجهٌ صحيحٌ برأيه، "والفرق بعيد بين علم يُورِد منه المؤلف إشباعاً لكتاب، وبين كتاب يُفرده إشباعاً للعلم نفسه."(2)
المسلك الرابع: الذين أنزلوا القرآن مراتب كتب التاريخ، وقاسوه بغيره من إرث الأمم، وكأنه حجر رشيد (3) واعتبروا هذه الحروف كأي رموز غريبة لا تُفهم إلا بفهم اللغات الدارجة أيام التنزيل، وأنّ هذا الكتاب الأوحد خاضع لأبجدياتها، وهذا هو التحريف، وهو كفر بالإجماع، (4)"ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه أنه كافر"(5)، وهؤلاء هم الطبقة الأعلى من المتقولين على القرآن، وهم العدو المبين، لاشتغالهم به كله وحجتهم كانت هذه الحروف. فكان منهم مثلاً من عمد إلى قراءة الرسم القرآني دون أي تغيير قراءة سريانية، وزاد عليه بتغيير نقاط الحروف، لإيجاد كلمات
(1) الجامع للخطيب البغدادي (159/ 2) من طريق تلميذه أبي يوسف القاضي ويروى القول عنه أيضاً.
(2)
الرافعي - تاريخ آداب العرب ج1 ص 18
(3)
حجر رشيد هو حجر نقش عليه نصوص هيروغليفية وديموطيقية ويونانية، كان مفتاح حل لغز الكتابة الهيروغليفية، سمي بحجر رشيد لأنه اكتشف بمدينة رشيد الواقعة على مصب فرع نهر النيل في البحر المتوسط.
(4)
قالها القاضي عياض في كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم ج2 ص305
(5)
ابن قدامة المقدسي، لمعة الاعتقاد - القرآن كلام الله ص82
مشابهة بعد التغيير في اللغة السريانية! (1) ظلمات بعضها فوق بعض، وكأن ألسنة العرب ولغتهم قد انقرضت لعدة قرون، حتى أتوا هم وأحيوها، أو كأنهم وجدوا هذا الكتاب وسور القرآن في بعض الحفائر والكهوف، ولم تتناقله الأجيال تباعاً رسماً ولفظاً، وهم يعلمون بأن القرآن كان وما زال التلقي له قراءةً وكتابةً ولفظاً بسلاسل هي أشدّ من الحديد، فأسانيد القراءات وطبقات القراء وتراجمهم موثّقة في مئات الكتب، كما هو رسم القرآن وكتابة حروفه، ولا يسعهم قياسه على أي كتاب آخر؛ لأن التلقي لهذا الكتاب أيضاً لم يقتصر على القراءة والكتابة واللفظ، بل زاد عليه بنقل مواضع السكون والسكوت بين الكلمات، وأحكامها في آخر الآيات أيضاً، حتى أن علماء المسلمين من المتخصصين في القراءات قد ألّفوا أكثر من خمسين كتاباً في الوقف والابتداء فقط قبل نهاية القرن الرابع الهجري، ولم يقف النقل للقرآن عند حركة الشفاه في سياق اللفظ، بل تعداه لما هو أعجب وأعظم من أن يفهمه الحاقدون، وهو نقل حركة الفم من غير كلام، كما ثبت من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ .. الآيات} [القيامة: 19 - 16] "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال: جمعه لك في
(1) صدر كتاب بعنوان "قراءة آرامية سريانية للقرآن - مساهمة في تفسير لغة القرآن" للكاتب كريستوفر لوكسمبورغ الألماني وطرح فيه وجهة نظره ومحاولاته في فهم نصوص القرآن من خلال تحويلها للسريانية، وقد لاقت فكرته رواجاً عند أعداء الإسلام سواءً من العرب الملحدين أو غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، ليس لأنها قدّمت طرحا علميّاً جديدا بل لأنها لامست أحقاداً دفينة فغذّتها وأشعلت فيها الحماس، فهبّ البعض منهم للطعن في القرآن هائماً ليس في يده إلا كلمات هذا المدعي، فخابوا وخسروا. قال تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) فصلت}
صدرك وتقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال: فاستمع له وأنصت، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل". (1)
فمجال بحثهم هذا بعيد عن القرآن من وجوه عدّة، أيسرها في الذكر: أنه نزل بلسان عربي وصوت عربي، وهو القرآن قبل الكتابة {لِسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مَبِينٌ} [النحل: 103] وكل ما سوى لسانهم وصوتهم وما لا يفهموه كان أعجمياً بعرفهم، قال الشنقيطي: "واعلم أن كل صوت غير عربي تسميه العرب أعجم، ولو من غير عاقل ومنه قول حميد بن ثور يذكر صوت حمامة:
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها
…
ولا عربياً شاقه صوت أعجما" (2)
ولم نسمع أن العرب قالوا فيما سمعوه من القرآن «ما معنى هذا؟» وبناءً عليه فإن أصحاب هذا الرأي جاهلون تماماً بما لدينا من علوم خاصة، هي من أعجب العلوم وأشرفها لتلقي القرآن وتجويده ورسمه، وذِكْر أصول اللفظ فيه، وتنوع قراءاته على ألسنة العرب. وإن قال قائل: هم معذورون لجهلهم بعلوم المسلمين الخاصة، قلت: بل إنّ هذا القول لا يقوله إلا مدلس على البشر، وكاذب على التاريخ مزور للآثار، واستغلالهم لعلم مقارنة اللغات مفضوح غير مستور، لأن هذه العلوم حيادية تجريدية، وهي قادرة على إظهار الزيف بنفسها، ومن يقرأ في هذه العلوم وينتهج فيها المبادئ الأساسية من المنهج العلمي، لن يجد دليلاً واحداً على أن أصل الكتابة العربية كان من لغة شقيقة. وهنا تفصيل لم يتنبه إليه الكثيرون، بأنّ هناك فرقاً بين اللغة (نظام
(1) رواه الإمام أحمد (343/ 1) والبخاري (8/ 1) ومسلم (330/ 1) والترمذي (430/ 5) والنسائي (149/ 2) وابن حبان (226/ 1) والطبري (66/ 24) وابن أبي حاتم (3386/ 10) وغيرهم.
(2)
أضواء البيان (98/ 6) تفسير سورة الشعراء.
يتحقق به الكلام) والكتابة (نظام تتحقق به الحروف) والخط (نظام يتحقق به رسم الحروف)، وعليه فجلُّ ما يجد الباحث وما يستقر عليه من رأي، أن اللغة العربية لغة سامية، كالأكادية والآرامية والعبرية، وكانت الكتابة فيها عربية جنوبية وعربية شمالية، نسبة إلى جزيرة العرب، وأن الكتابة بالحروف العربية الشمالية النبطية للغة العربية هو أقرب الاحتمالات لأصل الحروف المستعملة في الكتابة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل بعثته بفترة طويلة، وهو ما أثبته علم الآثار باكتشاف (نقش النمارة)(1) وغيره من النقوش، "وعلى الرغم من أن العربية الشمالية آخر اللغات السامية تدويناً إلا أنها احتفظت بجل خصائص اللغة السامية الأم، كالإعراب الذي اختفى من كل اللغات السامية باستثناء الأكادية. واللغة السامية الأم هي لغة فرضية تُوُصل إليها بعلم اللغة المقارن (أي مقارنة الساميات ببعضها). ويُعلل ذلك بسبب العزلة النسبية التي عاشتها القبائل العربية التي بقيت في الجزيرة العربية بينما تأثرت لغة القبائل السامية المهاجرة باللغات الأخرى غير السامية التي اتصلت بها وأخذت منها وأعطتها، الشيء الذي أدى إلى حدوث تغيرات لغوية أبعدتها من الأصل السامي وهذا ما وقع للأكادية والعبرية والحبشية وغيرها."(2) فهذه اللغات السامية ومنها الآرامية - وهي اللغة الأم للسريانية والكلدانية - كانت نشيطة قبل الإسلام، "وظلت الآرامية نشيطة حتى جاء الفتح الإسلامي فأخذ يسري إليها الضعف لاتصال أهلها بالعرب، وهكذا تغلبت عليها العربية في القرن العاشر وبقيت الآرامية لغة دينية مقرها الكنيسة تقام بها الصلوات .. وما زالت مستعملة في كنائس السريان والكلدان والموارنة إلى اليوم"(3)، والأعجب من هذا أنه كان عند السريان كتابة تدعى بالقلم الكرشوني، وهي كتابة العربية بالأحرف السريانية (4)، وهي معروفة إلى الآن، فكأن هؤلاء قد نسبوا الجد إلى أحفاد أحفاده بزعمهم. أما الخطوط العربية وغيرها فهي من الفنون، وليست حكراً على أحد، وقد يستعمل العرب خطوط السريان أو العكس، كما يستعمل العرب الخطوط الفارسية والعكس، وهو حاصل ومتَّبع إلى الآن من تشارك الكتابات في الخطوط، ومن الحق أن يقال بأن العلم ليس فيه انحياز لمذهب أو دين، وهو واقع ملموس، ولكنّ ما قالوه لا يكون إلا إتباعاً لآراء الرهبان والأحبار، وَانْحِيَازاً للطعن في القرآن والإسلام فقط، وبما أن أساس هذا العلم هو المقارنة بين الشبيهين، فأين قرآنهم السرياني؟ وأين نسختهم النقدية؟ حتى لو كانت هذه النسخة سورة واحدة من القرآن من أصغرها لأكبرها، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) فأعطونا دليلاً تاريخياً واحداً ولو أصغر من حجر رشيد، على إيجاد المترادفات والاقتباسات، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) فأعلمونا بكيفية المعالجة لما خالف لفظه رسمه في كلام العرب وأين ستجدونه؟ هيهات، فهم داخلون في قوله تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) فصلت} . أي أقرآن أعجمي، ورسول عربي؟ (5) وعليه فهذا المسلك باطل لما سبق و"لقوله تعالى:{بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مَبِينٍ} فلا يحمل على ما ليس
(1) نقش النمارة الذي اكتشف في الصحراء السورية، وهو نص مؤرخ بتاريخ 328 م ومكتوب بنوع من الخط النبطي القريب من الخط العربي الحالي، وهو عبارة عن رسم لضريح ملك الحيرة امرئ القيس بن عمرو وُصف فيه بأنه "ملك العرب" وموجود في متحف اللوفر، وصورة جيرية له في متحف الخط العربي بسوريا، انظر الملحق نقوش ما قبل الإسلام.
(2)
د. عبد الرحمن السليمان - مقال بعنوان اللغات والآداب السامية في موقع القصة السورية، وانظر (الساميون ولغاتهم لحسن ظاظا) حيث يقول بعد التأكيد على ما ذكر:"مما يؤيد مذهب القائلين بأن العربية الفصحى، وإن كانت آخر وأحدث اللغات السامية من حيث النصوص المكتوبة، هي أقربها إلى السامية الأم، لأنها عاشت في أمية العرب، محفوظة بعيدة عن التغيير والتبديل" ص55
(3)
دراسات في اللغتين السريانية والعربية - إبراهيم السامرائي ص 8، والقرن العاشر هو بالميلادي
(4)
تاريخ آداب العرب - الرافعي ص70
(5)
أضواء البيان (98/ 6) تفسير سورة النحل