الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: دلالات الإعجاز وأوجه التوافق مع فهم القرآن بحسب أصول التفسير
هذه الدلالات ترتبط مع إشارات الإعجاز في الحروف المقطّعة، وترتبط مع فهم القرآن بالقرآن والسنة، ومع فهم السلف الصالح وما في أصول التفسير من قواعد، من عدة وجوه أُبَيُّنها فيما يلي:
الوجه الأول: أن أول ما نزل من فواتح السور {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} وهي كما قال مجاهد وقتادة: يعني: وما يكتبون (1)، وقد استدل علماء اللغة بهذه الآية على أن الرسم العثماني للقرآن توقيفي، ولا يجوز مخالفته بحرف واحد، ولسنا بصدد البحث في استدلالهم هنا، بقدر ما نستشهد بذكر السطر والكتابة بعد الحروف كما فعل أهل العربية، هذا أولاً، ولكون الثابت بدلالة النص موقوف على ما ثبت بمعاني النظم ثانياً، وهي الحروف الكتابية.
الوجه الثاني: أنه داخل في بيان القرآن كما في قوله تعالى {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) القيامة} والقارئ لكتاب الله يجد في هذه الآيات تعهدا من الله بأمرين، هما: جمع التنزيل، وجعله قرآناً ليقرأه الناس إلى أبد الآبدين. وجمعه يكون في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} "قال: جمعه في صدرك، ثم تقرأه،."(2) وجعله قرآناً يكون بتأليفه كما "قال قتادة في قوله نعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا
(1) رواها عنهما ابن جرير (528/ 23) بأسانيد صحيحة، وإن كان البعض يؤول "وما يسطرون" بالملائكة فهذا لا يصح لحديث أول ما خلق الله القلم، وقد سبق ذكره وبيان أنه لم يأت تفسيراً لهذه الآية.
(2)
الحديث في المسند عند الإمام أحمد وعند البخاري ومسلم في الصحيح وقد سبق تخريجه.
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} يقول حفظه وتأليفه" (1). والدليل على هذا الفهم ما تبعه من أمر {َفإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} كما قال ابن عباس: فاستمع له وأنصت (2)، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قال الزجاج: المعنى علينا أن ننزله عليك قرآناً عربياً فيه بيان للناس. وقيل المعنى: إن علينا أن نبينه بلسانك."(3) فكتابة القرآن في سطور وصفحات وجعله كتاباً كاملاً من غير نقص من ضمن ما أخذ الله على نفسه جل في علاه، وداخل في حفظه تعالى بقوله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
الوجه الثالث: أنّ فواتح السور لم تذكر في القرآن إلا وجاء بعدها إشارة على الإعجاز والنصر، وجاءت كلمة القرآن بعدها بلفظ الكتاب أو ما يفيد الكتابة للتنزيل، قال ابن كثير: "ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى:{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2 - 1]. {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:3 - 1]. {المص * كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف: 2 - 1]. {الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1]. {الم * تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 2 - 1]. {حم * تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 2 - 1]. {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 3 - 1]، وغير
(1) رواه عنه ابن جرير بأسانيد صحيحة (68/ 24) وهو قطعة من أثر عزاه السيوطي في الدر المنثور (348/ 8) لعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.
(2)
المرجع قبل السابق
(3)
فتح القدير (338/ 5)
ذلك من الآيات .... " (1) ودلل عليه الباقلاني في إعجاز القرآن وقال بأن سياقها "مبني على لزوم حجة القرآن، والتنبيه على معجزته" (2)، وحجة القرآن قائمة بنظمه ولغته، وبما أن القلم أحد اللسانين، فالإعجاز في القرآن حاصل بكل محتواه، "والكتاب مصدر، وهو بمعنى المكتوب." (3)
الوجه الرابع: إنّ الاتفاق حاصل على أنها حروف، وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله "ألف حرف ولام حرف وميم حرف"، وكما تقدم في بيان الحديث أن الظاهر منه هو تفسير الحروف بنفسها، ثم الدلالة على مسميات الحروف (وهي الحروف الكتابية)، إذ لو لم تكن الدلالة عليها لكان في الألف وحدها خمسون حسنة، وهذا مناف للحديث، كذلك لم يقل أحد بأنها كلمات لإجماع الأمة على لفظها كحروف، والحرف في أصله اللغوي هو الحد والطرف والجانب، "فسميت حروف الكلام حروفاً لأنها طرف الكلام وحَدُّهُ ومنتهاه، إذ كان مبدأ الكلام من نفس المتكلم ومنتهاهُ حَدُّه وحرفه القائم بشفتيه ولسانه ولهذا قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) البلد} فلفظ الحرف يراد به هذا وهذا وهذا. ثم إذا كتب الكلام في المصحف سموا ذلك حرفاً فيراد بالحرف الشكل المخصوص، ولكلامه شكل مخصوص هي خطوطهم التي يكتبون بها كلامهم ويراد به المادة ويراد به مجموعهما، وهذه الحروف المكتوبة تطابق الحروف المنطوقة وتبينها وتدل عليها فسميت بأسمائها إذ كان الإنسان يكتب اللفظ بقلمه"(4)، فمطلق اللفظ بالحروف يقصد به الحروف الكتابية وليس الصوتية، ثم يدل اللفظ علي تطابقهما، وهو ما أثبته علم اللغات في أصل الحروف وبداية استعمالها، ولذلك كانت العرب تقول: لم ينطق ببنت شفة ولم أسمع منه شيئاً، ولم يقولوا لم ينطق بحرف، فالحرف عندهم كان كلمة مبهمة إن كانت وحدها ولا بد من إضافتها لشيء، فتجد من الصحابة بعد نزول القرآن من يقول: لم أسمع منه حرفاً من القرآن، كما يقولون أيضاً: يقرأ القرآن على حرف قريش، لأنها إن أضيفت للقرآن كانت للتعريف والدلالة على قراءة الحرف المكتوب، وإن أضيفت لقبيلة كانت تدل على اللفظ الخاص بلهجة القبيلة.
الوجه الخامس: إنّ الحروف كُتبت على صورة المسميات وليس على صورة أسمائها كما في اللفظ، هذا وإن كان في لفظ بعضها إشكال عند بعض الناس من غير العارفين باللغة، فقالوا لم قلنا طا يا ولم نقل طاء ياء كما في (طه، يس) وهي أسماؤها، فنقول فيها همزة مخففة، وهذا "هو التخفيف بإزالة الهمزة لأجل السكت."(5) فكتابتها إذن على هذه الهيئة مما اتفق عليه الجميع. وأي قارئ في علم اللغات يعلم بأن الكتابة ابتدأت برسم الأشياء للدلالة على أسمائها، كما هو ظاهر في رسوم القدماء على جدران الكهوف من حيوانات ومعدات ورحلات للصيد، ومن ثم تطورت برسم الأشياء للدلالة على الكلمات أو الألفاظ، كما هو الحال في الكتابة التصويرية، فيرسمون مربعاً للدلالة على البيت مثلاً أو أفعى للدلالة على الشر، وبعدها تطورت لرسم الرموز الدالة على الألفاظ، كما كان عند البابليين باستعمال الرسم المسماري الأول، ثم تطورت باختزال الكلمات لرسم الرموز بأطراف الأقلام للدلالة على الحروف الصوتية الخالصة ومواقع النطق في الفم، أو للإشارة على اللفظ المجرد، كما في الحروف المسمارية المتطورة عند البابليين، وهو الظاهر في حروف المصريين القدماء، فيرسمون البوم دلالة
(1) تفسير ابن كثير (160/ 1)
(2)
إعجاز القرآن ص12
(3)
البغوي (59/ 1)
(4)
مجموع الرسائل والمسائل لابن تيمية، ج3 ص85
(5)
ابن عاشور (61/ 16) تفسير سورة مريم، وفصّل القول فيها عند تفسير سورة يونس (80/ 11).
على حرف قريب من الواو في العربية مثلاً، ومن هنا انطلقت الكتابة بالحروف أو الرموز، فأصل الحرف هو ما دل على لفظ معين، واكتسب به الحرف اسماً له، فنكتب (ب) لتدل على خروج الصوت من الفم باستعمال الشفتين وذلك بإطباقهما مع التشديد في الإطباق وكأنهما تغرسان ببعض حتى ينقطع النفس ليتكون الصوت داخل الفم حابساً إياه عند باب الفم مما يلزم اضطراب المخرج لسماعه مع خروج النفس، ويلفظ بحسب ما قبله وما بعده من حروف (بِه بَه بُه) ونطلق على هذا الحرف اسم (باء). ويكتب هذا الحرف على صورته إن جاء في كتابة الكلمات، وعلى صورة اسمه إن جاءت لذكر الحرف بذاته، وقد سميت هذه الحروف بحروف الهجاء، ومن ثم جاء اختراع الأبجديات عند الفينيقيين، ونقلوها لليونانيين وغيرهم من الأمم، ووصفت بحروف المباني التي يبنى عليها رسم الكلام. وفي فواتح السور كتبت الحروف على صورة لفظها (الم) ولم تكتب بأسمائها (الف لام ميم) كما هو الحال في الأبجدية، وتلفظ بحسب أسمائها لا على هيئة لفظها فنقول (ألف لام ميم) ولا نقول (ألم من الألم) فغايرت بذلك المعهود في الكتابة، للدلالة على شيء خاص في كتابة هذا الكتاب، وهذا الشيء هو الدليل على الاختلاف بين هذا الكتاب وغيره من الكتب، والاختلاف بين قواعد الكتابة فيه وغيره من الكتب، ونحن نعلم بأن الحروف لا تلفظ بأسمائها إلا للتعليم، والتعليم فيها إن كان مقصوداً فلا يحمل على ألفاظها، بل على كتابتها كونه الأبلغ في الدلالة وما يتناسب مع الوحي الإلهي.
(فائدة: في لفظ الحروف العربية "إن قيل: لم قالوا: ها يا، ولم يقولوا في الكاف: كا، وفي العين: عا، وفي الصاد: ص، لتتفق المباني كما اتفقت العلل؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: حروف المعجم التسعة والعشرون تجري مجرى الرسالة والخطبة، فيستقبحون فيها اتفاق
الألفاظ واستواء الأوزان، كما يستقبحون ذلك في خطبهم ورسائلهم، فيغيِّرون بعض الكِلَم ليختلف الوزن وتتغيَّر المباني، فيكون ذلك أعذب على الألسن وأحلى في الأسماع." (1))
الوجه السادس: إنّ علماء البلاغة ذكروا في معرض تفصيلهم لهذه الحروف أنها تمثل نصف الحروف العربية، كما قال الباقلاني في إعجاز القرآن:"وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفاً، ليدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم."(2)، وهذه ليست الغاية والقصد، بل إشارة على أن الحروف في أصلها مثلت كتابة صوت الإنسان أو ما اصطلح عليه بالصوتات، وكلنا يعلم بأن الأبجدية العربية فيها ثمانية وعشرون حرفاً من غير (لا) وتمثل الحروف الصوتية للسان العرب، وكانت قبل التنقيط كما في أصلها تمثل صوتات العرب من غير دلالة على التغيير في لفظها، ومن غير تغيير في حدة الصوتة التابعة لها عند الكتابة، أما في القراءة فتتبع التغيير في حدة الصوت، أو بالأحرى كانت هناك حروف كتابية وتسمى الحروف المعجمة (أي المبهمة) وحروف صوتية وتسمى حروف الهجاء (أي حروف القراءة)(3)، ولذلك كانت تكتب الباء والتاء والثاء والنون و (الياء في وسط الكلمة) برسم واحد وحرف كتابي مبهم واحد، ويتغير مع شدة الصوْتَه ليمثل هذه الحروف الصوتية عند القراءة، وكذلك الجيم والحاء والخاء. ومن بحث في أصل الكتابة العربية يجد اختلافاً واضحاً بين الحروف وأصلها في الحروف
(1) من كلام ابن الجوزي في زاد المسير (206/ 5) تفسير سورة مريم. وابن الأنباري (ت304هـ) هو أبو بكر محمد بن القاسم المقرئ النحوي، له مؤلفات كثيرة في علوم القرآن وغريب الحديث ومشكله وفي الوقف والإبتداء والنحو والشعر. انظر سير أعلام النبلاء (278/ 15)
(2)
إعجاز القرآن ص66، مع التحفظ على تسميتها حروف المعجم، فهي نصف عدد حروف الهجاء لا المعجم كما سبق.
(3)
جاء في لسان العرب - مادة هجا (353/ 15): قال "أبو زيد: الهِجاءُ القِراءَة، قال: وقلت لرجل من بني قيس أَتَقْرَأُ من القرآن شيئاً؟ فقال: واللهِ ما أَهْجُو منه حَرفاً؛ يريد ما أَقْرَأُ منه حَرْفاً." وأبو زيد هو سعيد بن أوس الانصاري النحوي (ت215هـ) احد شيوخ سيبويه ومن مراجع اللغة في عصره، انظر أخبار النحويين لأبي طاهر المقرء وانظر تهذيب الكمال (330/ 10).
النبطية، فأقدم نص جمع بين الحروف الأبجدية كان محتوياً على اثنين وعشرين حرفاً كتابياً، منها خمسة عشر حرفاً مختلفاً فقط (1)، وتمثل بمجملها الحروف الصوتية الثمانية والعشرين، بينما نجد اليوم سبعة عشر حرفاً مختلفاً إن ألغينا التنقيط، وهذا الاختلاف حاصل للفرض بأن الكتابة العربية أصلها من أبجدية وليست من حروف كتابية كما هو الأصل، والحقيقة أن الأبجدية العربية قد وضعت بعد الإسلام، فصارت تماثل غيرها كالحميرية، ولبيان الفكرة نعود للنقوش العربية في صدر الإسلام وما قبل الإسلام، فنجد الحروف في كتابتها خمسة عشر حرفاً لا سبعة عشر، لأن (د ذ ر ز) كانت تكتب بحرف كتابي مبهم واحد، كما هو الحال في غيرها من الحروف المتشابه، وعليه يكون الأصل فيها واحد (2)، وبالرجوع لحروف الفواتح نجدها أربعة عشر حرفاً، ومع الواو تكون خمسة عشر، والواو ذكرت مباشرة بعدها في بعض الأحيان وأفادت القسم أو العطف، ولا أقول إنها من ذات الحروف بل أقول بأن ذكرها بعدها أغنى عن ذكرها فيما بينها، ولم تذكر بينها لعدة أسباب: أولها أن الواو من أكثر الحروف حملاً للمعاني (3)، والثاني أن الواو من الحروف المفصولة عما بعدها وتكتب تحت السطر في كل أحوالها (ر ز د ذ و)، وقد ذكرت الراء عوضاً عنها جميعاً، والثالث أن الواو هو الحرف الوحيد من ضمن حروف العلة الذي يكتب بلا لفظ، كما في "عمرو" أو كما كانت تكتب "سعد" في العصر الجاهلي "سعدو"، هذا هو الدليل التاريخي بما جاء به علم الآثار، وما يتفق مع الأصل اللغوي المطابق، وهو اتفاق العلماء على ما قاله الباقلاني بأنها تشتمل على أنصاف صفات الحروف، وفصّله الزمخشري بقوله:"بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء. ومن المجهورة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون. ومن الشديدة نصفها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف. ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون. ومن المطبقة نصفها: الصاد، والطاء. ومن المنفتحة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون. ومن المستعلية نصفها: القاف، والصاد، والطاء. ومن المنخفضة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون. . . فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته."(4) وهي إشارة على أن الحروف الكتابية كانت تماثل أنصاف حروف الصوت، وتدل عليها كلها بتغيير نبرة الصوت، وإن كانوا استدلوا بهذا القول على ما جاء فيها من إعجاز
(1) هي أول مدونة كتبت بالحروف العربية عام 512م. وقد كانت مكتوبة بثلاث لغات وهي: اليونانية والسريانية والعربية، وعثر عليها في الزبداني بسوريا، وتلك المخطوطة قد احتوت على 22 حرفا عربيا، 15 منها فقط كان مختلفا، وتستخدم للإشارة إلى 28 حرفاً صوتياً - انظر الملحق -
(2)
انظر الملحق نقوش ما قبل الإسلام نقش النمارة 328م، ونقش أم الجمال الثاني (600 م تقريبي) كتبت بذات الحرف، ونقش حران اللحاه 568م بتمييز بسيط، وملحق نقوش ما بعد الإسلام وأشهرها نقش السد المبني بأمر معاوية، 678م تكتب بشبه كبير.
(3)
تأتي الواو لمطلق الجمع وللاستئناف وللحال وللمعية وللقسم - الموجز في قواعد اللغة العربية ص 389
(4)
أصل الفكرة والكلام للباقلاني وما أورده الزمخشري في الكشاف (29/ 1) كانت فيه الأسبقية على تسميتها "أنصاف أجناس الحروف" فقط، وهو قول بدعي، لم يتنبه إليه أحد، والزمخشري إمام المعتزلة في زمنه، وكان يرى بأن أجناس الحروف مخلوقة، وهو قول ساقط، فأجناسها غير معلومة وليست بمخلوقه، وصفاتها وكتابتها ومخارجها وعددها عند البشر معلومة مخلوقة، أما أول من قال بأن صفات الحروف هي أجناس لها فهو محمد بن الحسن بن دريد (ت321هـ) وساقه في كتاب الجمهرة ضمن كلامه عن بناء الكلمات في نهاية كتاب الجمهرة ج3 ص513 طبعة حيدر أباد وج3ص1338 طبعة دار العلم، وابن دريد شيخ الأدب كما قال عنه الذهبي، إلا أن العلّامة أبو منصور الأزهري اللغوي (ت 370 هـ) قال في مقدمة كتابه الفريد "تهذيب اللغة" (27/ 1): وممّن ألَّف في عصرنا الكتبَ فوُسمَ بافتعال العربية وتوليد الألفاظ التي ليس لها أصول، وإدخالِ ما ليس من كلام العرب في كلامهم. أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي: صاحب كتاب (الجمهرة)، وكتاب (اشتقاق الأسماء)، وكتاب (الملاحن)." وقد نقل ابن حجر هذا الكلام عنه في لسان الميزان (133/ 5) عند ترجمة ابن دريد. فالأصح إذن أن نقول أنصاف صفات حروف الهجاء، مع التنبيه أيضاً على أن الزمخشري لم يفصل في الحروف الشديدة والرخوة، وهي 8 شديدة و 20 رخوة منها 5 متوسطة وجاء منها في حروف الفواتح 4 شديدة و 5 رخوة وجاءت بالمتوسطة كلها أي 5. وذكر حروف القلقة ولم أوردها في كلامه لأنها من صفات الحروف التي ليس لها ضد، كالصفير والتفشي فلا يلتفت إلى ذكرها، كذلك لم يسند هذا الكلام إلى قائله، وهو في الإعجاز ص66 وقد نقل كثير من المفسرين هذا القول عن الزمخشري من غير تحقق لأصله ومنتهاه كابن كثير والشوكاني والنسفي والزركشي في البرهان، بل لم يتنبه لهذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وأورد التسمية واستشهد بها في تفسير الحروف في مجموع الرسائل والمسائل ج3 ص84، ومجموع الفتاوى ج12 ص110، وهو من دافع عن القول بنفي خلق أجناس الحروف، كما في مجموع الفتاوى ج12 ص110.
في النظم، فسآتي على تفصيل القول فيه عند الكلام على وجه الإعجاز في النظم إن شاء الله، وهذا كله يتوافق مع عدد مخارج الحروف على الصحيح بأنها خمسة عشر مخرجاً.
فهذه الوجوه تدل على أن في ذكر الحروف دلالات تخص الكتابة، بل تدل على أسس وقواعد الكتابة في القرآن، وإن قال قائل إن أسس الكتابة والتوثيق لم تعرف إلا في العصر الحديث مع انتشار واختلاف المؤسسات العلمية فهو جاهل، لأنها كانت وما زالت أساساً من أسس النظم في الكلام والكتابة، وهي الدليل الأول على جودة الكتاب وعلم الكاتب، وهو ظاهر في أقدم الكتب التاريخية اليونانية، وظاهر في كتب الإسلام الأولى، فهذا كتاب الصحيح للإمام البخاري، تجد من الناس من يستشهد بتنظيم أبوابه بل بذكر الحديث في باب معين على فقه الإمام البخاري رحمه الله، وهذا الزمخشري البليغ الشهير يقول في بداية كتاب أساس البلاغة:"وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولاً، وأسهله متناولاً، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف التمام وحبل الذراع، من غير أن يحتاج في التنفير عنها إلى الإيجاف والإيضاع؛ وإلى النظر فيما لا يوصل إلا بإعمال الفكر إليه"(1)، وغيره من الأمثلة التي لا حصر لها من كتب السلف والخلف.
وعلى ما سبق ولعلمنا بأن كل كلمة في الدنيا وفي أي لغة كانت لها أحكام: كيف تلفظ، وكيف تكتب، وما هو معناها، وما هو موقعها في نظم الكلام، وأساس ذلك كله لغة الكلمة، نستعين بالله على البيان ونقول:
(1) أساس البلاغة - المقدمة