المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثاني: أسباب تدعوا لفهم القرآن - القول المعتبر في بيان الإعجاز للحروف المقطعة من فواتح السور

[إياس آل خطاب]

فهرس الكتاب

- ‌القول المعتبر في بيان الإعجاز للحروف المقطّعة من فواتح السور

- ‌دعاء

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌الفصل الأول: تصفية الأذهان مما شاب تأويل الحروف من أوهام

- ‌الباب الأول: مسالك المتحدثين في فواتح السور

- ‌الباب الثاني: أسباب تدعوا لفهم القرآن

- ‌الباب الثالث: سبب الخلاف في تأويل الحروف ومسببات الخلاف

- ‌الفصل الثاني: الحروف المقطّعة بين التفسير والتأويل

- ‌الباب الأول: حصر الأقوال في تفسير الحروف المقطّعة

- ‌الباب الثاني: حصر الأقوال في تأويل الحروف المقطّعة

- ‌الباب الثالث: حصر الأقوال فيما خص بعض الفواتح

- ‌الباب الرابع: بيان الشبهة في محاولة الجمع بين الأقوال

- ‌الفصل الثالث: إشارات الإعجاز في فواتح السور

- ‌الباب الأول: معرفة واقع التنزيل

- ‌الباب الثاني: استقراء السور لمعرفة الإشارات من النص

- ‌الباب الثالث: إشارة الإعجاز في الحروف وموافقتها لمجمل الإشارات

- ‌الفصل الرابع: دلالات الإعجاز في فواتح السور

- ‌الباب الأول: دلالات الإعجاز وأوجه التوافق مع فهم القرآن بحسب أصول التفسير

- ‌الباب الثاني: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على لغة القرآن

- ‌الباب الثالث: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على الكتابة بالحروف العربية

- ‌الباب الرابع: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على اللفظ العربي لكلمات القرآن

- ‌الفصل الخامس: بيان أسباب التحريف في الكتب المقدسة السابقة

- ‌الباب الأول: الأسباب الخفية للتحريف (الأسباب الأساسية)

- ‌الباب الثاني: الأسباب الجلية للتحريف (الأسباب الفرعية)

- ‌الفصل السادس: الدليل والبرهان على ما في الحروف من إعجاز في نظم البيان

- ‌الباب الأول: محاولات فهم النص بحسب النظم

- ‌الباب الثاني: استقراء بعض قواعد النظم في سور الفواتح

- ‌الفصل السابع: ما جاء فيها من بيان لحقيقة الإعجاز في أمية الرسول صلى الله عليه وسلم(راية الإعجاز)

- ‌الملحق الأول - نقوش ما قبل الإسلام

- ‌الملحق الثاني - نقوش ما بعد الإسلام

- ‌قائمة المراجع

- ‌الفهرس

الفصل: ‌الباب الثاني: أسباب تدعوا لفهم القرآن

في لغتهم." (1) لا من كلامٍ ولا من حروف، وهم يعلمون هذا علم اليقين، ولكن الغاية الباطنة هي تسفيه المسلمين وتحقيرهم؛ ليُخفوا ما في عقائدهم ودياناتهم من خزعبلات وتخريف يعلمه الجاهل بأيٍّ من هذه العلوم، وكلامهم ما هو إلا هروب من حسرتهم على فقر دياناتهم وضيق معتقداتهم وضعف وسائل التنصير لديهم.

المسلك الخامس: من كذّب القرآن من قبل أن يقرأها، وتحدث بها على أساس النقص بالقرآن لا الحديث عنها، وهم جهلة الكفرة، والغاية من كلامهم واضحة ولا تخفى على الأطفال، وهي كغاية التوفير مع العدم، فلا نقول لهم إلا ما قاله تعالى للرد على المشركين في ذات المسألة {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].

‌الباب الثاني: أسباب تدعوا لفهم القرآن

وهما سببان، الأول: سبب خفي ظننت أنه ما من أحد تنبه إليه، وسأقوم بتفصيله لبيان فائدته، والثاني: سبب ظاهر تنبه إليه الكثيرون، وقامت عليه تفاسير، وسأقوم بذكره وتفصيله للإشارة على أهميته في تأويل حروف الفواتح.

السبب الأول: تفصيل القرآن في الذكر لفهم الآيات مع عدم تقييد القرآن به

وتفصيل القرآن في الذكر هو تقسيم ما فيه من سرد للآيات على ثلاثة أقسام: ذكر ما كان، وذكر ما سيكون، وذكر ما يجب أن يكون، أو بمعنىً آخر: ذكر أخبار من سبق، وذكر الغيبيات، وتشريع الأحكام، وكلها لغاية واحدة وهي التوحيد، وهو تقسيم دل عليه العقل

(1) تفسير البيضاوي (89/ 1) تفسير سورة البقرة

ص: 16

والنقل؛ فالزمن له ماض وحاضر ومستقبل، كذلك الكلام له ماض وحاضر ومستقبل، وهذا التفصيل هو الأساس لنشأة اللغات، - بحسب علم البشر التجريبي - وهذا التقسيم ظاهر في القرآن بالاستقراء، وظاهر بصورة خاصة في أول سورة نزلت من سور الفواتح، وهي سورة القلم. ولكن هل يكون كلام الله مشابها لغيره من الكلام في أصله وتفصيله؟ ولم يأت بما هو أصيل لا تفصيل له! فلنقرأ سورة القلم لنعلم الحق، فهذه السورة قد ابتدأت بالقسم بحرف النون أداة الكلام، وبالقلم أداة الكتابة، وبما يسطرون وهو النظم المعجز، أقسم الله بها جميعاً على نفي صفة الجنون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ورفعت من قدر الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفه أحسن الأوصاف، وبعدها يُظْهر الله الذنب العظيم لمن رد كلام الخالق، ووصف القرآن بأنه من أساطير الأولين، وأن ما ورد فيه ما هو إلا روايات، وهذا الوصف بدوره ينفي التشريع وبيان الحق بحكم الله الظاهر في كتابه العزيز، وينفي أن ذكر الغيب بما فيه من حديث عن الآخرة والبعث والجنة والنار ضرورة عقدية، والإيمان به هو طريق السلامة. فكان رد القرآن صريحاً بوصف القائل بما يستحق من صفات، وتوعده الله بعدها بأن (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)، وهنا إشارة وتأكيد بأن في القرآن قصص وذكر لأخبار الأولين، ولكنها ليست مأخوذة مما سطر الأولون، وليست أقاويل على أي اعتبار، بل هي من كلام الله في كتابه العزيز إخباراً لنا، إما بما لم تذكره الكتب السابقة فيكون من الغيبيات المستحيلة على البشر، أو ذكرته الكتب السابقة على وجه غير صحيح بعد تحريفها وجاء القرآن ببيانه على الوجه الأمثل، فقد تتشابه القصص، ولكن الله يميز كلامه عن غيره بطرق كثيرة، لتكون عبرة لمن يعتبر. وبعد هذا تدور الآيات في السورة على هذا الهدف العظيم، وهو التأكيد على هذا التفصيل والتقريع على من أنكره، فبعد الوعد والوعيد يشبِّه الله حال الكافرين بأصحاب الجنة، {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ

ص: 18

كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)} والقارئ في التفاسير، يلتبس عليه الحال في التشبيه بين الكافرين وأصحاب الجنة، وهو الرابط لمعرفة هدف السورة، وهو الرد على من قال عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون وأن القرآن من أساطير الأولين، فنفى بذلك التشريع وعلم الغيب عنه، وفهم الرد سيأتي من فهم وجه الشبه بينهم بناءً على ما يلي:

أولاً: تم ذكر التشبيه في سياق الرد على من وصف القرآن بأنه من أساطير الأولين لما احتواه من قصصهم.

ثانياً: تم التأكيد على أن القرآن فيه ذكرٌ للأولين، وهذا لاستخلاص العبر، وليس لمجرد الذكر كما في كتب القصص، وجاء التأكيد بإيراد قصه أهل الجنة وتشبيه حال بلواهم بحال بلوى الكافرين.

ثالثاً: ذكر واقع الكافرين وأنهم اعتبروا القرآن ذكراً لقصصٍ ليس فيها الأمر بأحكام الله وشرعه ووجوب إتباعه، وأصرّوا واستكبروا، وأصحاب الجنة أخذوا فعل أبيهم من توزيع الصدقة على الفقراء والمساكين وقسمة الحق فيما رزقه الله لا لمصلحة دنيوية، بل لنيل رضا الله في الآخرة ولتطهير نفسه؛ أخذوا هذا كله كرواية وقصة لمن سبقهم، وأنْ ليس فيها من حكم بالحق ولا

ص: 19

تشريع من الله، وما كانت في نظرهم إلا خسارة في المنتج طمعاً بما هو في علم الغيب، فكلهم قد أنكروا تشريع الله وحكمه بقولهم، وكلهم أنكروا الغيب بفعلهم.

رابعاً: كلا الطرفين عذبه الله بنوع من عذاب الدنيا، فأصحاب الجنة كان عذابهم بخسارة المال وانعدام الربح، وليس هذا من عذاب الآخرة بشيء، والكافر ذو المال والبنين المدّعي بأن القرآن من أساطير الأولين قال فيه تعالى {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} قال ابن جرير:"سنبين أمره بياناً واضحاً حتى يعرفوه، فلا يخفى عليهم، كما لا تخفي السمة على الخرطوم."(1) ورغم اختلاف التأويل في معناها إلا أنها ليست من عذاب الآخرة بشيء. {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلًعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)} هذا لأصحاب الجنة، أما عذاب المشركين فهو {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} هذا عذاب الكافرين ومن كذّب بالقرآن.

خامساً: كلاهما تم تذكيره بالله وبحكمه من قِبَل أفضلهم وأوسطهم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان منذر القوم ومذكرهم بالله، وهو أوسط القوم على الإطلاق - وكان القسم ببداية السورة على صدقه وخلقه العظيم - وأصحاب الجنة {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)} .

سادساً: كلاهما أقسم على باطل، فأصحاب الجنة أقسموا على معصية الله بقطف الثمر وحرمان المساكين من نصيبهم، كما أن الكافر المهين قد تم وصفه بـ (حلّافٍ مهين)، "وذلك أن

(1) الطبري (541/ 23) تفسير سورة القلم

ص: 20

الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كل وقت في غير محلها." (1) وهذا القسم مخالف لشرع الله، ولذلك وجبت عليهم العقوبة، ولو لم يكن من تشريع أو عقوبة، فلن يضيرهم هذا الفعل العظيم.

وبعد هذا كله تم التأكيد على ذكر التشريع في الكتاب الإلهي {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)} وهو سؤال تحقير لهم، بكيفية حكمهم على الأمور من جهة وسؤال تنبيه وإشارة على أن التشريع لا يُترك لأمثالهم، فقد وُجد التحكيم والتشريع في القرآن وجاء القرآن لبيانه، إضافة لذكر الأولين، وبعدها خوّفهم الله من الآخرة ومن الحساب، بوصف دقيق لبعض وقفات الآخرة بقوله تعالى {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)} وهي إشارة بأن هذا القرآن يذكر الآخرة، ويتحدث عن الغيب مما لا يعقلون، ولن يجدوه في كتاب آخر، أي بالمحصلة هذا كتاب الله المعجز فيه ذكر القصص وفيه التشريع وفيه علم الغيب، وليس كمثله كتاب قط، ولذلك نجد في آخر آية من السورة قوله تعالى {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)} أي لزاماً عليكم التصديق بأنه يحوي أقسام الذكر الثلاثة، وأن من أنكر إحداها سيكون حاله كحال طرفي التشبيه، أصحاب الجنة والكافرين، وله من الوعيد ما لهم.

فهذا التفصيل فيه الحق، بل والإيمان به ضمنيّاً ضرورة، وقد جاء في القرآن واضحاً في بعض سوره وآياته، ومنها ما جاء بالإشارة في آية واحدة كما في سورة آل عمران بقوله تعالى {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} وقبل ذكر قصة مريم البتول، وكلام الملائكة لها، وذكر قصة زكريا، ودعائه لله وكفالته لمريم، وذكر قصة امرأة عمران ونذرها لما في بطنها لله، واصطفاء الله

(1) ابن كثير (190/ 8) تفسير سورة القلم

ص: 21

للصالحين من عباده آدم ونوح وإبراهيم وآل عمران، قبل ذلك كله جاء الأمر بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} وقبله قول الله تعالى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} وكان قبله أيضاً إشارة للإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من ذكر الجزاء والعقاب والحساب يوم القيامة، وكل هذا من ذكر الغيب، كما في قوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)} وكله يدور في فلك القصص والغيب والتشريع، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرو قصص الأوّلين وأخبارهم من عند نفسه أو مما سمعه من كلام السابقين، فقد جاء بالحق من قصصهم بتتابع بليغ، وجاء بما لا باطل فيه، ولم يكن بين الأوّلين ليعرف أخبارهم جميعاً، ولم يكن كذلك بينهم ليعلم أحكامهم، ويتعلم منها شرع الله بما يختصمون ويحكمون به، بل أخبر بما كان من أحوالهم والغاية من اصطفاء الله لهم بالنبوة، وهي عبادة الله ونشر الشرائع السماوية، فأحياها الله على لسانه، وهذا دليل على أنه لا يقص القصص لأجل القصص، وما شرع محمد صلى الله عليه وسلم إلا كشرع الأنبياء قبله، وما نزلت جميعاً إلا لذات الغاية (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). وهنا إشارة على إعجاز المتكلمين في نبوته "وذلك من الله عز وجل، وإن كان خطاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم، فتوبيخٌ منه عز وجل للمكذبين به من أهل الكتابين؛ يقول: كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم وأنت تنبئهم هذه الأنباءَ ولم تشهدْها، ولم تكن معهم

ص: 22

يوم فعلوا هذه الأمورَ، ولست ممن قرأ الكتب فعَلِم نبأهم، ولا جالَس أهلها فسمع خبَرَهم؟ " (1) ولو جالس أحدهم وسمع منه لادّعى النبوة من سمع منه، ولو كان ما يتلوا مما عرفوا أو قالوا، لأحيوه هم ولم يكتموه، وأماتوا بكتمانهم ذكر الأنبياء وشرعهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاطبه الله بأن "لا وجه لك إلى علم ذلك إلا بالكون معهم إذ ذاك، أو أخذ ذلك عن أهل الكتاب، أو بوحي منا؛ ومن الواضح الجلي أن بعد نسبتك إلى التعلم من البشر كبعد نسبتك إلى الحضور بينهم في ذلك الوقت، لشهرتك بالنشأة أمياً مباعداً للعلم والعلماء حتى ما يتفاخر به قومك من السجع ومعاناة الصوغ لفنون الكلام على الوجوه الفائقة، فانحصر إخبارك بذلك في الوحي منا" (2)، ولذلك جاء بعد هذه الآية ذكر عيسى عليه السلام وقوله تعالى {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)} فكلها جاءت للغاية ذاتها، وكلها جاءت بشرع الله أو لإحياء شرع الله وتطبيق حكم الله في الناس.

ولكن بناءً على هذا التفصيل، أين نضع الآيات التي قامت الحجة بها على المشركين وأعداء الدين برد شبهاتهم؟ وأين نضع الآيات المشتملة على ضرب الأمثال، والتي دعت للتدبر في خلق الله؟ ونحن نعلم بأن الحروف المقطّعة لم تأت كخبر، ولم تأت كأمر ظاهر، ولم تأت بشيء من الغيب! فما هي بحسب هذا التفصيل؟ أهي سر من أسرار التشريع وما لا نستطيع تطبيقه لعدم فهمنا إياه؟ أم خبيئة في علم الغيب لن نعرفها إلا بعد البعث؟ أم فيها خبر عن الأمم السابقة وجاءت بلغاتهم وما اندثر من علومهم؟

(1) الطبري (410/ 6) تفسير سورة آل عمران

(2)

البقاعي (88/ 2) تفسير سورة آل عمران

ص: 23

والجواب هو: أن هذا التفصيل فيه الحق والبيان، ولكن تقييد القرآن به باطل، ومن أخذ به واكتفى حكم على القرآن بمشابهة كلام البشر، وحكم على نفسه بعدم فهم القرآن كما ينبغي، وما هذا التقييد إلا نتاج حديث ضعيف آمن به بعض كبار المفسرين فضلاً عن طلبة العلم، وهو ما ذكره القرطبي في تفسيره "عن علي رضي الله عنه وخرجه الترمذي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون فتن كقطع الليل المظلم. قلت يا رسول الله وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله

(إلى آخر الحديث) " (1) فهذا تقييد للقرآن، فإن كان الحق كله في هذا التفصيل، فأين نفصل الردود على شبه المشركين في القرآن؟ والتي جاءت في أغلب السور المبتدئة بالفواتح (ومعظمها مكيّ كما نعلم) وهي مما إمتاز به القرآن عن غيره من الكتب، فهل من كتاب في الدنيا يدعو صاحبه لإيجاد نقص فيه ويتحدى الناس جَمِيعًا بإقامة الحجج والبراهين؟ ولو كان بشرياً لاقتصر على هذا التفصيل فقط! فهذا التفصيل وإن كان فيه حق، واتباعه طريق سليم لفهم الآيات، إلا أن تقييد القرآن به كان سبباً لبعد الناس عن فهم القرآن، والأخذ به سبب لفهم القرآن إن أخذنا التفصيل كما فعلنا فيما هو ظاهر في سورة القلم. ولهذا

(1) تفسير القرطبي (5/ 1) المقدمة، وعلق على أحد رواة الحديث في سنده بقوله:"الحارث" رماه الشعبي بالكذب وليس بشيء، ولم يبن من الحارث كذب، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي وتفضيله له على غيره. ومن هاهنا - والله أعلم - كذبه الشعبي، لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر، وإلى أنه أول من أسلم." وتبعه ابن كثير في التفسير (21/ 1) كما في فضائل القرآن (ص45) ورجّح تصحيح الحديث موقوفاً على علي رضي الله عنه. قلت: نعم رواه الترمذي (172/ 5) ولكنه قال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحارث مقال"، أي أن السند ضعيف جداً بسبب الجهالة في السند أولاً، ولأن الحارث فيه مقال ثانياً، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (164/ 7) والبيهقي في شعب الإيمان (335/ 3) والدارمي في السنن (526/ 2) والبزار (71/ 3) ومحمد بن نصر المروزي في مختصر قيام الليل (174/ 1) وكلهم بهذا السند، وهو ضعيف، وكذا قال عنه الألباني في ضعيف الترمذي (349/ 1) وزاد في المشكاة (رقم 2138) بأنه ضعيف جداً. ورواه الطبراني في الكبير (84/ 20) من حديث معاذ بن جبل بسند فيه عمرو بن واقد وهو متروك.

ص: 24

تجد من علماء اللغة وأهل البلاغة من يفصّل القرآن بهذا التفصيل من غير تقييد فيقول: "إن استقراء القرآن وهو شريعة وأخبار وآداب، هو بعض أدلة إعجازه، بل أقواها، بل دليل الزمن المنسحب على الزمن"(1)، فجمع القائل آيات الردود والإعجاز وضرب الأمثال مع الغيبيات، وسماها آداب القرآن لأن غايتها تأديب البشر، وهذا هو الحق الأبلج.

ولكن ما وجه الدلالة على فهم الفواتح إن أخذنا بهذا التفصيل أم لا؟ أقول وجه الدلالة هو معرفة السبب لعدم رد المشركين على هذه الفواتح، فقد ردوا على ما جاء فيه من قصص كما في قوله تعالى {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31] "نزلت في النضر بن الحارث، كان خرج إلى الحيرة في التجارة فاشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكسرى وقيصر، فلما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار من مضى قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا. وكان هذا وقاحة وكذباً."(2) وقاموا بالرد على التشريع، كما سبق في سورة القلم، وما في أحكامهم على بني هاشم وغيرها من الأحكام كثير، وردّوا على الغيب بتكذيب البعث وغيره، ولكنهم لم يردوا بشيء على الإعجاز في نظم القرآن وما جاء فيه من حجج عليهم، وهذه الحروف ما هي إلا ردّ على شبهة، وإعجاز بإقامة الحجة، كما في سياق سورها وما تضمنته أوائل السور المفتتحة بها، وأغلب الأقوال في هذه الفواتح تفيد بأنها من باب إقامة الحجة، ولو اختلفت الآراء لعدم معرفة الشبهة، فليس لأحد أن يسقط حقيقة القول بأن الغاية في ضرب الأمثال وما فيها من أسرار للنظم الإلهي هو الدلالة على إبطال الحجة، فإعجاز

(1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ص11 - مصطفى صادق الرافعي

(2)

القرطبي (397/ 7)، والخبر بأنها نزلت في النضر رواه ابن جرير (504/ 13) بسند صحيح عن سعيد بن جبير في حادثة قتل النضر.

ص: 25

القرآن في نظمه واختيار كلماته ومعانيه جاء لإقامة الحجة، ولإخراس المشركين ومن سار على دربهم إلى أبد الآبدين، كما هو الحال في إعجاز الفواتح وغيرها من آيات بالنظم الإلهي.

السبب الثاني: معرفة المقصود من التأويل وتمييزه عن التفسير

نعلم جَمِيعًا علم اليقين بأن القرآن نزل منجّماً على فترات، وكان ذو شقين عظيمين بحسب الفترات، فمنه مكّي ومنه مدني، ولا خلاف على هذا بين أهل الإسلام، ومن باب آخر نعلم علم اليقين أن المكي نزل في أهل قريش، ولم يكونوا بحاجة لتفسير المعاني وقد نزل بلغتهم، ولولا هذه الحقيقة لما اعتبر نظم القرآن معجزاً وقد نزل بلسانهم، ولكنهم بنص القرآن لم يؤمنوا {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] (1) أي لم يؤمنوا بالغيب وما فيه من إلزام للبعث، وما يليه من جزاء وعقاب ورحمة، ولم يفعلوا بالتالي ما أمر الله من تشريع وما فيه من الهدى، ولم يعتبروا بما جاء في القرآن من أخبار السابقين وما فيه من الموعظة، وهذا هو ما لم يحيطوا بعلمه، وكذبوه ولم يروا بعدُ ما يؤول إليه أمر القرآن من نصر للمؤمنين وخسران للكافرين، كما هي سنة الله في الذين خلوا من قبل. وجاء التأويل هنا بالمعنى اللغوي له (من آل الشيءُ يَؤُول إِلى كذا أَي رَجَع وصار إِليه)(2)، ومعناها كقوله تعالى (ولتعلمن نبأه بعد حين) ولم يأت التأويل هنا بمعنى

(1) بخلاف قول بعض المفسرين كقول الطبري (93/ 15): "ولما يأتهم بعدُ بَيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعّدهم الله في هذا القرآن." فسياق الآيات دالّ على معنى الإتباع بالإيمان والعمل به والدعوة إليه، ولذلك قال الله في الآيات بعدها {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)} فنفت الآيات عنهم إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وما شرع، ونفت عنهم الإيمان بالغيب وضربت لهم مثلاً من الأمم السابقة في عاقبة التكذيب، ودعاهم لاتباع الرسول وهي الغاية.

(2)

لسان العرب - مادة أول

ص: 26

التفسير، ولو كان كذلك لما كان القرآن حجة على الكافرين إن لم يفهموه ولم يسألوا عن معانيه، بل هم أقدر الناس على فهم المعاني وتمييز البليغ من القول، وقد وصفوه بأروع الوصف كما جاء ذلك في كتب السيرة والسنة، من ذلك ما قاله ابن عباس:"إن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً! قال: لم؟ قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟! فوالله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر (يؤثر يأثره عن غيره)، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}."(1) وزاد البيهقي "عن عكرمة قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: اقرأ عليّ، فقرأ عليه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] قال: أعد، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: والله، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا بشر."(2) فلا يعقل أن يأتي معنى التأويل هنا

(1) من حديث عكرمة عن ابن عباس، رواه ابن جرير عن عكرمة مرسلاً (24/ 24) ورواه موصولاً الحاكم في المستدرك (550/ 2) والبيهقي في شعب الإيمان (287/ 1) ودلائل النبوة (198/ 2) والواحدي في أسباب النزول (ص447) كما في السيرة لابن كثير (498/ 1) وقال الحاكم في المستدرك:"هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي." وأورده الألباني في صحيح السيرة النبوية ص159

(2)

دلائل النبوة (199/ 2)

ص: 27

بالتفسير وإعطاء المعاني «ولما يأتهم تأويله» أي لم يعلموا بعد بما يؤول إليه ما نزل من الكتاب عليهم.

أما المدني فنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من أصحاب في عصر بناء المجتمع الإسلامي بالتشريع الإلهي، لتنظيم العلاقات بين البشر وخالقهم من جهة، وبين البشر أنفسهم من جهة أخرى. فكان التأويل بينهم كما جاء في الآثار:"عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"يتأوّل القرآن"(1)، قال صاحب اللسان عن بيان الحديث:"تعني أَنه مأْخوذ من قوله تعالى: فسبح بحمد ربك واستغفره"(2)، وعنها رضي الله عنها:"أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال إنها تأولت كما تأول عثمان"(3)، قال في اللسان:"قوله «قال تأولت إلخ» كذا بالأصل. وفي الأساس: وتأملته فتأولت فيه الخير أي توسعته وتحرَّيته كما تأَوَّل عثمانُ؛ أَراد بتأْويل عثمان ما روي عنه أَنه أَتَمَّ الصلاة بمكة في الحج، وذلك أَنه نوى الإِقامة بها."(4) فالتأويل عندهم كان ما دل عليه القرآن، وبعرفهم هو التطبيق والتوسع في فهم المقاصد، وهو ما أتى الأمر به على الوجوب بقوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي اتبع ما يقوله القرآن، وجاء في هذا المعنى: "عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: إتق الله وقل سداداً، ذهب الذين يعملون

(1) رواه الإمام أحمد (43/ 6) والبخاري (163/ 1) ومسلم (350/ 1) أبو داود (294/ 1) والنسائي (220/ 2) وابن ماجه (59/ 2) وغيرهم.

(2)

لسان العرب - مادة أول

(3)

رواه البخاري (44/ 2) ومسلم (478/ 1) وابن راهوية (106/ 2) وابن أبي شيبة (339/ 2) والدارمي (424/ 1) وغيرهم واللفظ لمسلم.

(4)

لسان العرب - مادة أول

ص: 28

فيما أنزل القرآن." (1) ومنه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس "اللهم علمه الكتاب" (2) أو "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" (3)، ويظهر فيه هذا المعنى للعلم بالكتاب أو التأويل، أي التوسع في فقه القرآن، والقدرة على فهم المقاصد المتعددة في ظاهر الآيات، ليبيّن للناس منهج القرآن بما أُنزل لأجله. ويبينه أيضاً ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تقديمه لابن عباس، وتعجب الصحابة من تقديمه وهو صغير السن، فسأل الحاضرين قبل سؤال ابن عباس عن سورة الفتح {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فما قال فيها أحد إلا ما دل عليه الظاهر وهو الحق، وقال ابن عباس: "هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، قال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم." (4) أما الذين أسلموا في العهد المدني ولم يعلموا بتفصيل التنزيل، وأخذوا العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد احتاجوا لمعرفة الوقائع وما تدل عليه الآيات ببيانها على الوجه الأمثل، ليتم العلم بها ومن ثم

(1) أسباب النزول للواحدي، المقدمة ص9

(2)

رواه الإمام أحمد (359/ 1) والبخاري (26/ 1)، وفي رواية عند البخاري (27/ 5) والترمذي (680/ 5) والنسائي في الكبرى (52/ 2) وابن حبان (530/ 15)"اللهم علمه الحكمة" وعند ابن ماجه (114/ 1)"اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب."

(3)

رواه الإمام أحمد (266/ 1) وابن أبي شيبة (520/ 7) وابن راهويه في مسنده (230/ 4) والبيهقي في الدلائل (193/ 6) وابن حبان (531/ 15) والطبراني في المعجم الصغير (327/ 1) والأوسط (112/ 2) والكبير (263/ 10) والحارث في مسنده (ص301) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (287/ 1) والبزار (282/ 11) والحاكم في المستدرك (615/ 3) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيحة (رقم 2589)، وقال الطبري في تهذيب الآثار (182/ 1) عند بيان ما في هذه الأخبار من تشابه: وقد تأولت جماعة من أهل التأويل من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين الحكمة في قول الله تعالى ذكره: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} أنها القرآن، وتأولت الحكمة في قوله تعالى:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أنها السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله جل ثناؤه إليه، وكلا التأويلين في موضعه صحيح، وذلك أن القرآن حكمة.

(4)

رواه الإمام أحمد (337/ 1) والبخاري (149/ 5) والنسائي في الكبرى (251/ 4) والوفاة (ص18) والترمذي (450/ 5) والبيهقي في الدلائل (167/ 7) وأبو نعيم في الحلية (317/ 1) وابن جرير (669/ 24) والبزار (296/ 1) والطبراني في المعجم الكبير (264/ 10) والحاكم في المستدرك (620/ 3) والخطيب في الجامع (311/ 1) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (رقم 123) واللفظ للبخاري.

ص: 29

العمل بها، وبيان التنزيل أمر واجب على الصحابة بل (من كتم علماً مما علمه الله ألجمه الله بلجام من نار بما كتم) كما قال صلى الله عليه وسلم، وعليه يتميز الصحابة فيما بينهم في البيان والتأويل وما حازوا عليه من علم بالكتاب الشريف، وكلٌّ له أجر بما يبين للناس من أمر دينهم ودنياهم كما أمر الله ورسوله. "قال أَبو منصور: يقال أُلْتُ الشيءَ أُؤَوِّلهُ إِذا جمعته وأَصلحته فكان التأْويل جمع معاني أَلفاظ أَشكَلَت بلفظ واضح لا إشكال فيه"، وفيه "قال الليث: التأَوُّل والتأْويل تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح إِلاّ ببيان غير لفظه؛ وأَنشد: نحن ضَرَبْناكم على تنزيله، فاليَوْمَ نَضْرِبْكُم على تَأْويلِه." (1) وهذا مأخوذ من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مخبراً عن علي (سيقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله) وقد قاتل الخوارج على تأويل القرآن، حيث أخذوا بعض الآيات على ظاهر اللفظ بفهمهم السقيم، وقد انتدب علي رضي الله عنه عبد الله ابن عباس ليناظرهم ويبيّن لهم الحق في التأويل والتفسير. وبذلك فقد اشترطوا للتفسير أن يكون هناك إشكال في المعنى، إن تم أخذه على ظاهر اللفظ، كما هو الحال في الترجمة، أما إن لم يكن من إشكال، فالحق هو الأخذ بظاهر اللفظ، وفيه القصد يكون من غير طلب للتأويل، أما التأويل فقد اشتمل على التفسير ولم يقتصر على ما فيه من بيان المعاني والقصد منها، بل زاد عليه ببيان المقاصد الخفية المتنوعة بحسب ما في القرآن من جوامع الكلم وجوامع المعاني، وإعطاء الدلالات والإشارات لبيان أسرار النظم والإعجاز، فاجتمع التأويل والتفسير فيهم لوجوب البيان في بعض الأحيان.

(1) لسان العرب - مادة أول، وأبو منصور هو العلامة أبو منصور الأزهري اللغوي (ت 370 هـ) صاحب كتاب "تهذيب اللغة" أحد المراجع الأساسية للسان العرب.

ص: 30

وخلف من بعدهم خلف جعلوا وصف الكلمات ومعانيها غاية الخطاب في القرآن، وخلطوا التأويل بالتفسير، بل كان التأويل والمعنى والتفسير عندهم واحد، فقاسوا الناس على ما رأوه من مقاصد، وكأنها المعاني الظاهرة، وأقاموا بها الحجة على مخالفيهم، وأخذوا مما ذكر لهم من تأويل الصحابة ومن نقل عنهم - وإن كان بالإشارة- مسوغاً للقول في القرآن كل حسب رأيه، ومنهم الصادقون ومنهم الفاسقون، وقاس بعضهم القرآن بالرأي، وأدخلوا فيه علم الكلام ليثبتوا ما قالوا من مقاصد، فكان التأويل بينهم ما جاء في اللسان "المراد بالتأْويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأَصلي إِلى ما يَحتاج إِلى دليل لولاه ما تُرِك ظاهرُ اللفظ"(1)، فاقتصر التأويل عندهم على تفسير الكلام بمعانيه، لنقل ظاهر اللفظ عن وضعه من غير النظر لحقيقة الإشكال في الظاهر، وعدم الرجوع للدليل في حصول الإشكال كما طالبوا هم لرفعه.

وبناءً على هذا التفصيل نعود لأصل الخلاف على كلمة التأويل بين المفسرين في تفسير قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، لنعلم الحق ونتبعه، فالقرآن ينزل في العهد المدني بسورة آل عمران، مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن حاز علمهم فكان راسخاً فيه، فيقول هو الذي أنزل هذا الكتاب عليك، وهو من قال هذا الكلام وهو أعلم بما يقول، وقد علمنا أن ما نزل من الكتاب في حينه كان يشمل ما نزل في مكة لإقامة الحجة على المشركين، ويشمل ما نزل وينزل من أنباء السابقين وتشريع للمسلمين، ويشمل ما جاء من ذكر للغيب بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب

(1) لسان العرب - مادة أول

ص: 31

بشر، وهذا يلزم أن يأتي فيه آيات محكمات المعنى والدلالة، وذلك إما لإقامة الحجة على المشركين أو لما فيه التشريع للمسلمين، كقوله تعالى {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] وفيه ما يلزم مقاصد التشريع من أمر ونهي وبيان للثواب والعقاب والترغيب والترهيب، أو ما فيه العبرة بما حل بالسابقين كقوله تعالى {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) الحجر} وهي تمثل معظم القرآن بالقول هنَّ أم الكتاب، ومنه آيات متشابهات المعنى، لضرورة القياس والتشبيه بما رأت العين أو سمعت الأذن، كوصف الجنة والنار، ووصف بداية الخلق، ووصف أفعال الله جلّ في علاه، وهذا لإقامة الحجة على الناس بإفهامهم، وخير طريق للإفهام هو ضرب المثال كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] فتجد في تفسيرها وما جاء في معانيها كغيرها من الآيات المتشابهة ما افترق عليه كثير من المسلمين، وتميزت بها فرق المتكلمين على قول دون سواه، وكل هذا لمعرفة المعنى الحقيقي لها، ونسوا أنها تحمل المعاني، والغاية وما يلغون فيه هو المقاصد، وأنها جاءت من وصف الخالق لما غاب عن إدراك البشر وفاق مداركهم، وهذا ما تمت الإشارة إليه بقوله تعالى {وأخر متشابهات} ، بأن الذين في قلوبهم زيغ (وهو الميل عن الحق لما سواه من أنواع الباطل - كالهوى والشك وإتباع الرجال -) يتتبعون المتشابه من القرآن للكلام فيه فقط، وقد عُلم السبب من فعلهم -وهو الزيغ- والغاية هي خلق الفتنة أو إثرائها أو إتباعها في الباطن، وبيان المعاني لا المقاصد بتأويل هذه الآيات في الظاهر استناداً على الأمر بتدبر القرآن، والدليل على زيفهم هو جعلهم هذه المعاني دليلاً على صدق المؤمنين، وقد

ص: 32

جاء الحديث مبيناً لها "عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} إلى قوله: {وما يذَّكر إلا أولوا الألباب}، فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"(1)، ولذلك لم يسأل الصحابة عن المتشابه كما سأل عنها الناس بعدهم، والأهم من هذا أنهم لم يسألوا عن المحكم المفهوم لأنه نزل بلغتهم، فمقاصد الشرع واضحة فيه، وليس فيها التأويل على فهمنا بل فيها التأويل على فهمهم، فالمتشابه عندهم لا يدل على فعل هم مطالبون به إلا القصد منه، وهو الإيمان بالله، وهو القصد العام للرسالة، ومن ثم التبليغ، والمحكم يدل على فعل مباشر هم مطالبون به، وهو العمل وما دارت مقاصد الشرع عليه، ومن ثم التبليغ به. "فمن قال: إن التأويل بمعنى التفسير وقف على قوله: (والراسخون في العلم) أي أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه ببيان معناه لغة وشرح ألفاظه، ومن قال: إن التأويل بمعنى حقيقة ما يؤول إليه الكلام وقف على قوله (إلا الله) بمعنى أنه لا يعرف حقيقة ما يؤول إليه المتشابه إلا الله تعالى." (2) والحق فيها الوقف على (إلا الله) ولكن البعض من أهل هذا الرأي أخذوا هذا الحق مسوغاً للقول بأن في القرآن ما لا يكون مفهوماً للخلق، أو أن في القرآن أسراراً في المعاني، كما أن البعض من أهل الرأي الأول سوّغوا وجود ما لا معنى له في القرآن، كما قالوا عن الحروف المقطّعة، وما قاله البعض من الطرفين هو الباطل، فلا يكون في كتاب الله ما لا معنى له، وحاشا لله أن يكون في كلامه شيء بلا معنى، فالمعاني ظاهرة في كل حرف من القرآن، والمقاصد تتنقل بين المقاصد الظاهرة والمقاصد التي يعلمها الراسخون في العلم، وتأويل القرآن جملة واحدة لا يعلمه إلا الله على الحقيقة، وفي هذا يقول الآمدي:"من قال بجواز

(1) رواه الإمام أحمد (48/ 6) والبخاري (33/ 6) ومسلم (2053/ 4) وأبو داود (609/ 2) والترمذي (223/ 5) وابن ماجه (23/ 1) والكثير من أهل الحديث، واللفظ للبخاري

(2)

الدكتور عبد الله الوهيبي، التفسير بالأثر والرأي وأشهر كتب التفسير فيهما، مجلة البحوث الإسلامية عدد7

ص: 33

التكليف بما لا يطاق جوز أن يكون في القرآن ما له معنى وإن لم يكن معلوماً للمخاطب ولا له بيان ولا كذلك فيما لا معنى له أصلاً لكونه هذياناً ومن لم يجوز التكليف بما لا يطاق منع من ذلك لكونه تكليفاً بما لا يطاق ولما فيه من إخراج القرآن عن كونه بياناً للناس ضرورة كونه غير مفهوم وهو خلاف قوله تعالى: {هذا بيان للناس آل عمران 138} " (1) ولا ننسى فمن المحكم ما لم يسأل عنه الصحابة في ظاهر آيات الأحكام، فآمنوا به وعملوا به ثم بلّغوه، ومنه ما غاب عن أذهان بعض الصحابة كالقصد من سورة الفتح، وعلمه ابن عباس وغيره، فآمنوا به وعملوا به ثم بلغوه جميعاً، وكذلك فعلوا في آيات المتشابه من تبليغها وقراءتها وكتابتها، وليس وصفها أو التعبير عنها بكلمات لكونها تحمل إشكالاً لا يزيله إلا كلمات البشر، وقد علموا أن جُلّ ما تحمله من معاني هي ما ذَكَرَتْه بالتشبيه لما يراه البشر، والقصد منها الإيمان بالله والدعوة للتبليغ، وهو ما ذهب إليه من سار على درب الصحابة ومن تبعهم، ولم يقولوا فيها قولاً غير ما جاء فيها، لأن معناها على الحقيقة الملموسة والمرئية والمسموعة لا يعلمه إلا الله، وقد جاء في الآية هنا بيان من الله بأن الجدال فيها لغرض التأويل باطل، لأن الله وحده يعلم ما تدل وتعنيه على الحقيقة. وما لوثة علم الكلام التي أصابت الكثير من المسلمين بعد عصر الصحابة والتابعين إلا تَفْسِيرًا عملياً لهذه الآية، فقد كان همهم إخراج كلام الله بما لا يناقض أصول علم الكلام، أو محاولة تفسير المتشابه بكلمات لها دلالات حقيقية، ووصفٌ للغيب بلسان البشر ومنطقهم، ولذلك يقول الراسخون في العلم ممن تبع الصحابة والتابعين وتنبه لهذا: آمنا بها كما جاءت من غير تأويل وتفسير مُحْدَث على تأويل وتفسير السلف لها، وقد أتى التأويل في الآية هنا بمعنى ما

(1) الإحكام في أصول الأحكام (168/ 1)، وأورد الرازي في التفسير (4/ 2) حجج القائلين بعدم جواز ورود ما لا معنى له في كتاب الله أو أنها من الأسرار الإلهية، وعد أربعة عشر دليلاً من آيات القرآن، واثنين من السنة أحدهما ضعيف، كما ذكر الدلائل العقلية على بطلان هذا القول، وانتصر له وهو الحق، كما سيأتي التفصيل لاحقاً.

ص: 34

يدل عليه القرآن كله من دلالات وإشارات ومعاني للكلمات، وما فيها من مقاصد للشرع، وهو المستحيل علمه على بني البشر.

وبناءً على هذا التفصيل نجد الفرق بين التفسير والتأويل ظاهراً، ولبيان الفرق نضع قاعدة لكي لا نحيد عن الصواب: أما التفسير فهو بيان المعاني وكشف المراد عن اللفظ المشكل لإيضاح مبانيه، والحجة فيه هم أهل اللغة العربية، وأهل البيان، وما هو مقرر عندهم من النحو والتصريف، (1) أما التأويل فهو ردّ أَحد المحتملين إلى ما يطابق التفسير، ثم التوسع في فهم المقاصد، بضوابط الأصول المقررة في علم الحديث والفقه وعلوم القرآن. (2)

وبالنظر للحروف المقطّعة في فواتح السور، وكونها لم تأت لإعجاز البشر فيما شرع الله لهم، ولا هي من الرموز الدالة على خبر، ولا هي من إعجاز البشر على فهم الغيب وأسرار الكون وعلومه المدفونة، لم يتأوّلها الصحابة ممن عاصر العهد المكي والمدني بمفهوم التأويل عندنا بل بمفهومه عندهم، وهو العمل بما جاء فيها: بقراءتها وتبليغها وكتابتها كما هي، وكانوا بذلك (كتبة الوحي) وقد "كانوا إذا اقترأوا عشر آيات من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينتقلوا إلى غيرها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل."(3) ولم يصلنا أنهم سألوا عن معناها أو تحدثوا فيها، وهذا إما

(1) مجموع ما في اللسان والصحاح ومقاييس اللغة، ويدخل في أهل العربية "القراءات" كونها بيانٌ لبعض ألسنة العرب.

(2)

ردّ أَحد المحتملين إلى ما يطابق التفسير هو ما في اللسان والصحاح ومقاييس اللغة، وما بعده هو المقرر من الأحاديث السابقة، ولا تلتفت لما يفصل في كتب المفسرين والمتكلمين من التعريف اللغوي والاصطلاحي، فهذا كله من تأثير علماء الكلام لتحديد العقول لا لإمعان النظر في كتاب الله.

(3)

رواه الإمام أحمد (410/ 5) وابن أبي شيبة (152/ 7) والبيهقي في شعب الإيمان (344/ 3) والفسوي في المعرفة والتاريخ (590/ 2) والطحاوي في مشكل الآثار (82/ 4) والفريابي في فضائل القرآن (ص241) وابن جرير (80/ 1) والحاكم في المستدرك (743/ 1) وقال صحيح الإسناد. كلهم من طريق عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن رجل من الصحابة، وقد تغير عطاء في آخر حياته، قال محقق المسند شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن من أجل عطاء. ورواه ابن جرير (80/ 1) من طريق الأعمش عن شقيق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال أحمد شاكر: هذا إسناد صحيح.

ص: 35

لعلمهم بأنها من المحكم وجاءت لتقرأ وتكتب، وهي مفهومة عندهم، ووجه الإعجاز فيها من وجه الإعجاز في نظم القرآن كله، أو أنهم علموا أن بها أَسْرَارًا ولم يعرفوها ولم يسألوا عنها لأنها من المتشابه، وهذا بعيد كل البعد لأنها تكررت في تسع وعشرين موضعاً، وليست تشابه غيرها من الكلمات في المعاني، بل لم يكن الخطاب بمثلها في العرب قبل القرآن لنقول إنها من المتشابه أصلاً، وعليه فقول بعض المفسرين هي من المتشابه أو من متشابه المتشابه فيه نظر وهو قول بعيد (1)، فهي من المحكم بل من محكم المحكم، وإن كنا نجد فيمن تبع كتبة الوحي وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن أسلم أو وُلد بعدهم وعاصروا الصحابة ولم تكن لهم يد في كتابة القرآن الأولى، من كانوا يتأولون الحروف ببيان ما فيها من مقاصد ودلالات، فهذا كله من التأويل المستحب بل هو من فقه الكتاب ومما هم مطالبون به لنشر العلم، لكونهم السبيل الوحيد أمام من تبعهم لبيان التأويل بعد التفسير كل حسب علمه، وما كان ذلك إلا للتوسع في بيان المقاصد، وهو ما سار عليه من تبعهم وأخذ العلم عنهم ولم يعاصر العهد المدني، فكانوا تابعين للصحابة بإحسان رضي الله عنهم ونقلوا عنهم كل ما سمعوه منهم. (2)

وهذا كله ليس بدليل على تفسيرها بل هو التوسع في تأويلها لبيان المقاصد، وقد ظن البعض من الذين أتوا بعدهم أنها بلا معنى لمخالفتها المعروف من الكلام البشري، مما ألزم المتكلمين والكثير من أهل العلم على رد هذا القول، وإبطال حجة من قال بأن فواتح السور لا تأويل لها على الحقيقة، فقال المتكلمون: "لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لَا يَكُونُ مفهوماً للخلق، واحتجوا

(1) كالشوكاني في التفسير (31/ 1) يقول: "فإنه ينبغي أن يقال فيه (تأويل الحروف) إنه متشابه المتشابه." وقد شذ ابن حزم في رأيه إذ اعتبر المتشابه في القرآن منحصر في الحروف المقطّعة والأقسام في أول السور فقط! وأن ليس في القرآن متشابه سواهما ويقول في تأويل الحروف: "فحرام على كل مسلم أن يطلب معاني الحروف المقطّعة التي في أوائل السور." انظر الإحكام في أصول الأحكام (123/ 4)

(2)

وإن كان مما سمعوه بعض الروايات عن بني إسرائيل، فنقلوها إتباعاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. وسآتي على الخلل في فهم المنقول إتباعاً لهذا الحديث بعد الكلام عن أسباب التنزيل.

ص: 36

عليه بآيات منها: قوله تبارك وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] بالتدَّبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم، فكيف يأمر بالتدبّر فيه" (1)، وقد أخذ المتكلمون هذه الحجج الصحيحة - وهي الحق الأبلج - مسوغاً للقول في تفسير الحروف بما طاب لهم ظلماً وعدواناً على القرآن، واحتجّوا على القرآن بجهلهم، ويا ليتهم تدبروا القرآن - وهي حجتهم - لبيان ما فيه لرد الشبهة عنه، أما نحن فنتبع ما سار عليه أهل العلم، ونقول بل كل حرف في كتاب الله لا بد أن يكون له معنى، ونزيد عليه بأنه لا بد لكل حرف في كتاب الله أن يكون فيه دلالة أو إشارة أو مقصد، بل ولا تختلف إحدى الإشارات أو الدلالات أو المقاصد مع بعضها، وهي على نسق واحد بلا اختلاف، كما هو الحال في هذه الفواتح، وتسويغهم للقول في التأويل برأيهم كان لجهلهم بأن كتاب الله لا بد وله تفسير نعلمه علم اليقين لما يقتضيه من بيان المعاني، أما تأويله فمنه تأويل يعلمه الناس ومنه تأويل لا يعلمه إلا الله، والله يعطي الحكمة من يشاء، فالتفسير حاصل مع ظاهر اللفظ لا محالة.

لذلك السبب نجد التفاسير قد امتلأت أقوالاً عن فواتح السور، فمنهم من يقول فيها برأيه، ومنهم من يقول فيها ما قاله الصحابة فيما وصله من غير تحقق ولم يزد عليه إتباعاً للسلف الصالح، ومنهم من تأمل وتدبر وقال فيها ما رآه في كلام العرب من نحوهم وصرفهم وما ظهر فيها، وهو من الحق في تدبر القرآن لبيان مقاصده للناس، ومنهم من زاد وأنزله منزلة كلام الناس

(1) اللباب لابن عادل (253/ 1) تفسير سورة البقرة، نقلاً عن الخطيب البغدادي، وأفضل من نقل إنكار المتكلمين وأهل العلم على القائلين بأنها لا تحمل المعاني هو الفخر الرازي واحتج لقولهم بإيراد أربع عشرة آية غير الآثار والأدلة العقلية، كما أورد حجج المخالفين وأبطلها، أما ما أورده ابن عادل بقوله "ولأن القول بأن هذه الفَوَاتح غير معلومة مروي عن أكابر الصَّحابة رضي الله عنهم فوجب أن يكون حقَّاً"(256/ 1) فهذا ليس بصحيح وقد علمنا أنها لم ترو عن كبار الصحابة فالحجة ما زالت قائمة، والقول ساقط. قال ابن كثير في التفسير (160/ 1):"ومن قال من الجهلة: إنَّه في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية، فقد أخطأ خطأً كبيرًا، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر" وقد سبق رد الآمدي عليهم.

ص: 37