الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: دلالات الإعجاز في فواتح السور
لقد تجلى حفظ القرآن عبر العصور، ولم يمسسه ما مس غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء من تحريف وتبديل، وهذه الحقيقة من اليقينيّات المسلم بها في دين الإسلام، وما من مسلم يقرأ القرآن إلا وعنده اليقين التام بأنه يقرأ ما كُتب من الذكر بعد تنزيله على محمد صلى الله عليه وسلم، ويتلفظ بذات الكلمات التي استقرت في قلبه الشريف، وما من قارئ لكتاب الله - مسلم أو غيره - إلا وفي نفسه الإجلال من كيفية الإعجاز في حفظ القرآن على مدى الأزمان وإلى أبد الآبدين في الصدور والسطور، فقد نزل القرآن مؤيداً بحفظ الله على لسان العرب، وعلى قلب خاتم الأنبياء والمرسلين وخير البشر أجمعين محمد النبي العربي الأمين، ولم يأت الأمر فيه صراحة للنبي بكتابته وتأليفه، بل أمرَه بقراءته من حفظه كما في قوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ومن ثم تبليغه للناس كما في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ .. الآية 67 المائدة} ولم يكن لهذا النبي المختار صلى الله عليه وسلم من علم بالكتابة والقراءة للحروف، كآية باقية من الله لإعجاز البشر، ولذات السبب لم يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسُساً وقواعد لكتابة القرآن الكريم، ولم يشرف على تأليفه في كتاب مفرد بنفسه، ولم يأمر بذلك أيضاً، واكتفى بأمر الصحابة بكتابته ونشره بين الأمم، فلم يكن له القدرة على تدقيق الكتابة ولا العلم بما يصلح من حروف وسطور لكتابة الألفاظ، ولا حتى الفرق بينها وبين سواها من لغات الأمم، وكان موقناً بحفظ القرآن في السطور كما تعهد ربه بحفظه في الصدور، مؤمناً بقوله جل في علاه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، ولذلك رد أبو بكر رضي الله عنه على عمر عندما قال له: أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقال:" كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول
الله صلى الله عليه وسلم " (1)، فكان القرآن بذلك متعالياً على البشر جميعاً، ومنهم العرب أصحاب هذه الحروف، لكي لا ينسبوه لأنفسهم تأليفاً ونظماً، فلو أن القائل لم يكن له الأمر من قبل ومن بعد، لجاء فيه الأمر صراحة بالكتابة على حروفهم، وجاء فيه إصلاح ما فيها من عيوب لا تخفى على أهل ذلك الزمان أو هذا الزمان، ليتم بذلك تنظيم الكتابة لأعظم كتاب كتبه البشر بأيديهم، ولو أتى الأمر بكتابته فسيكون شرعاً متبعاً ولا سبيل لمخالفته، بل ستنتفي بذلك معجزة الأمية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يقابلها من ضد الأضداد، فسيكون أعلم الناس بها، لأن في لسانه بيان مقاصد الشرع، وليس بين الناس من هو أعلم بالشرع منه، وسيكون أعلم أهل الأرض بالكتابة وعلومها.
إذن كيف يتم العهد بالحفظ في الصدور إن لم يحفظ في السطور كما أمر الشارع أن يكون؟ هل تُرك الأمر لمن يكتب الوحي، كلٌّ على ما يرى من أسس الكتابة؟ أم نزل في هذا القرآن ما يُلزم الكاتب إتباعه وعدم مخالفته؟ وكيف يتم بيان هذا الكتاب لباقي الأمم باللفظ والكتابة وهم لا يعرفون ألفاظنا وحروفنا؟ هل ترك التفصيل فيها للمبلّغين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كلٌّ على ما يرى من أساليب البيان؟ أم ألزم القرآن أتباعه بقواعد للبيان الذي لا لبس فيه؟ وإن كان هذا الأمر قد أتى ولم يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نقله إلى البشر ولم يبينه بجملة واضحة بينه؟ أقول: انظر
(1) رواه الإمام أحمد (13/ 1) والبخاري (74/ 9) والترمذي (283/ 5) وابن أبي داود في المصاحف (ص53) والنسائي في الكبرى (7/ 5) وفي فضائل القرآن (ص74) وعبد الرزاق في التفسير (249/ 1) وابن حبان (359/ 10) والقاسم بن سلام في الفضائل (ص283) وأحمد بن علي المروزي في مسند أبي بكر (ص96) والطبراني في الكبير (146/ 5) والبيهقي في الدلائل (149/ 7) وفي السنن (41/ 2) وأبو يعلى (66/ 1) والفسوي في المعرفة والتاريخ (410/ 1) وأبو عمرو الداني في المقنع (ص15) من حديث زيد بن ثابت، وفي رواية عند البخاري (183/ 6) وابن أبي داود في المصاحف (ص52) وابن حبان (364/ 10) والطحاوي في مشكل الآثار (305/ 5) بلفظ "كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ورواه البيهقي في الشعب (339/ 1) والطيالسي (ص3) بلفظ "كيف نفعل"، ورواه أبو عمرو الداني في المقنع (ص13) بلفظ "كيف نصنع بشيء لم يأمرنا فيه رسول الله بأمر، ولم يعهد إلينا فيه عهدا".
لفواتح السور وستعلم أين جاء الأمر بالكتابة وعلى أي حرف، وكيف ألزم الناس على اتباع أشرف الأسس في الكتابة، وأبلغ الطرق في التبليغ والبيان، فكانت هي القواعد البينة، وكان تأويل الرسول صلى الله عليه وسلم لها بما آتاه الله من تأويل لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فأمر صلى الله عليه وسلم بتلاوتها كما جاء الأمر للقرآن كله بقوله (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله عشر حسنات) وأمر بكتابتها - كما هو الأمر للقرآن كله - على هيئة المسميات بقوله (لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) أي أن الحرف يمثل كلمة واحدة، وفي هذا النص حث على التدبر فيها وإن لم نعلم تأويلها، فكانت تحوي ما هو أبلغ مما حمل غيرها من المعاني. وقد علمنا أنه جاء فيها أبلغ الردود على أدق الشبهات الباطنة في قلوب العرب في ذلك الزمان - كما هي في هذا الزمان - وزاد على ذلك بأن جاء فيها من الدلالات المعجزة للبشر، لاتباع ما جاء فيها من غير مجال للحيد عنه من دون أدنى تصريح، وأعطت أبلغ الإشارات على أسباب حفظ القرآن بالسطور، لتتم الغاية من حفظ معانيه وألفاظه كما نزلت من غير زيادة أو نقصان، ولم تقتصر على ذكرها من غير إعجازٍ لقدرة البشر عن الإتيان بمثلها، فكان فيها إعجازا للعرب في دقة معانيها وبيان الغاية منها، كما في القرآن من إعجاز في نظمه وبلاغته ودلالات معانيه، ولو لم يعجز المشركون العرب عن الرد عليها، لما عجز علماء العربية عن تأويل معانيها بما يتوافق مع سمو الإعجاز الإلهي في نظم القرآن، ليعلم البشر كلهم بأن هذا الكتاب يحوي كلام الله، وهو عربي اللغة من جهة، وإلهي المبدأ والمنتهى بإعجازه العرب من جهة أخرى.
والسؤال هنا: كيف كان لذكر الحروف المقطّعة في فواتح السور أثر وسبب في حفظ القرآن وحمايته من التحريف؟
والجواب هو: إنها حملت في طياتها دلالات إعجاز عجيبة، كانت كالقواعد المتينة لحفظ القرآن من التحريف، وهذه الدلالات تعلقت بذكر الحروف على هذا الوجه، وكيفية ورودها على هذه الهيئة، وهذه الدلالات تتفق بنسق عجيب مع الغاية والقصد من ذكرها، باعتبارها الأحكام الثابتة بدلالة النص، وهي الثابتة "بمعنى النظم لغة لا استنباطاً بالرأي، لأن للنظم صورة معلومة ومعنى هو المقصود به"(1)، وهذه الدلالات تتفق مع إشارات الإعجاز المذكورة سابقاً، من غير قياس على ما يزيد عن كتابة وهجاء الحروف في اللغة العربية، ولا أقصد بالإعجاز هنا أنه كالإنبهار من عظيم المعاني، كما يتخيلها البعض في هذا الزمان، بل الإعجاز هنا على أصله، وهو نقيض الحزم وعدم القدرة والضعف (2)، فهذه الحروف قد أعجزت متبعيها على مخالفة ما فيها من دلالات، وكانت بمثابة الأسس والقواعد لتنظيم الكتابة، وإن نظرنا للأسلوب العلمي في العصر الحديث لكتابة البحوث والمراجع العلمية، نجد المؤسسات العلمية ومراكز الأبحاث المتطورة تضع أسساً وقواعد للكتابة، لما تراه من حق لها في تنظيم الكتب المنسوبة إليها، ولضمان جودتها المرتبطة بسمعة المؤسسة، وأي باحث مهما علا شأنه محكوم بهذه القواعد المنصوص عليها من أعلى جهة رقابية في المؤسسة، وفهم دلالات الحروف المقطّعة في فواتح السور يبدأ من هذه النقطة، أي أن نعتبرها تأصيل وتنظيم لكتابة القرآن الكريم بالسطر، وذلك لأهمية كتابته وضرورة تبليغه باللفظ والكتابة معاً، قبل اعتبار ما جاء فيها من إعجاز في مضمون ذكرها.
(1) أصول السرخسي، ج1 ص241
(2)
كما في اللسان ومقاييس اللغة والصحاح في اللغة