الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأشعارهم وهذا هو الباطل بعينه، كما أن قياسه على علوم البشر باطل لا شك فيه، لأن الحروف لم تشتمل على تشريع أو نقل خبر أو إعلام بغيب، وبذلك علم المتكلمون فيها من غير علم أن بها إعجازاً لما في نظم القرآن كله من إعجاز ولم يجدوه، فكانوا من إحدى الفرقتين "إحداهما: قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه والمخاطب به." (1)
الباب الثالث: سبب الخلاف في تأويل الحروف ومسببات الخلاف
أما سبب الخلاف في تأويل الحروف فهو سبب أصيل، وتفترق مسبباته على ثلاث، أما السبب الأصيل: فهو التساهل في نقل المعاني الظاهرة لعبارة النص أو اللفظ عن وضعها الأصلي بدليل ظني الثبوت أو بدليل لا حجة فيه على المعاني وإن كانت فيه دلالة على سعة المقاصد في كتاب الله، وهذا ما يلزم التأويل لا التفسير، "ونحن لا ننكر إزالة للنص عن ظاهره وعمومه ببرهان من نص آخر أو إجماع متيقن أو ضرورة حس وإنما ننكر ونمنع من إزالة النص عن ظاهره وعمومه بالدعوى فهذا هو الباطل الذي لا يحل في دين ولا يصح في إمكان العقل"(2)، كما لا نقبل بأن يقال في النصوص ما هو أدنى من ظاهرها، بالقول إنه لا معنى لها، فهذا من الزلل، وهو من أخطاء القائلين بمطلق الظاهر من غير فهم، وهو إنكار للقياس الصحيح المتفق عليه بين البشر لا المسلمين فقط، "وسبب هذا الخطأ حَصْرهم الدلالةَ في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه
(1) ابن تيمية - مقدمة في أصول التفسير ص 33
(2)
الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهري ج5 ص128
وإشارته وعُرْفِه عند المخاطبين." (1) وكلا الطرفين من تساهل في نقل الظاهر ومن قال بمطلق الظاهر قد أنكروا الظاهر ونفوه، "فأين لهم العلم من أن الله تعالى لم يرد ظاهره؟ هل عندهم علم من أن الله لم يرد ظاهر ما أضافه لنفسه؟! والله تعالى يقول عن القرآن: إنه نزل بلسان عربي مبين، فعلينا أن نأخذ بدلالة هذا اللفظ حسب مقتضى هذا اللسان العربي المبين، فمن أين لنا أن يكون الله تعالى لم يرد ظاهر اللفظ؟! فالقول بنفي ظاهر النص قول على الله بغير علم." (2) ومن إدعى بأن في ظاهر الحروف إشكالاً وبه وجب القول بنقل المعنى الظاهر فيها عن وضعه سواء بدليل أو من غير دليل للحاجة فنقول له:"فأي معنى فاسد يلزم من ظاهر النص حتى يقال: إنه غير مراد؟! "(3) وهل يقاس القرآن على جهل الناس بمقاصده؟! فالمعاني فيها ما دلت ألفاظها عليها، وهي من حروف الهجاء ومن حروف الكتابة العربية المعروفة عند العرب، قالها رب العزة تكريماً لها فرفع شأنها لموافقتها المكتوب والملفوظ من كلامه، كما رفع شأن اللغة العربية لموافقة ألفاظها تنزيل كلامه، وقد كانت هذه الحروف محصورة على استعمال النذر اليسير من العرب في زمن التنزيل، كما كانت لغة العرب محصورة على عرب الجزيرة، وهذا هو الأصل فيها، أما المقاصد منها فلا تظهر إلا بالتدبر في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة ومن تبعهم بإحسان من العلماء، وإن ثبت فيها ما هو دليل قطعي على المعاني؛ فيتعين علينا إثباتُ ما فيه كدليل قطعي دون ما ثبت من الظاهر، وإن لم يثبت في الكتاب والسنة وأقوال السلف وأهل العربية مما فيه الحجة على المعاني؛ أثبتنا ما دل عليه الظاهر ولا نجتهد في بيان معانيه، فالاجتهاد فيه غير معتبر، بل الاجتهاد فيه خطأ لمصادمته ظاهر النص، والاجتهاد في بيان المقاصد لا يكون
(1) جامع المسائل لابن تيمية، ج2 ص234
(2)
مجموع فتاوى ابن عثيمين، ج5 ص160
(3)
المرجع السابق، ج4 ص164
مع التكلف بتحميل القرآن ما لا يحتمل، وكأن فهم الحروف أمر مستحيل كفهم الرموز الغريبة، فالله جلّت قدرته لم يجعل ظاهر اللفظ في كلامه شيئاً مستحيلاً على فهم الناس ثم يأمرهم بالتدبر فيه، ويميز بعضهم عن بعض كل حسب قدرته على التأويل. ولا نقول هذا لنريح أنفسنا من عناء البحث، بل نبذل أقصى الجهد ولا نكتفي بمجرد التقليد وترديد القول (الله أعلم بمرادها) فنحن نعلم بأن الله أعلم، وقد شقينا إن لم نعلم بأن الله أعلم - كما قال عمر بن الخطاب (1) - فنحن في أمسّ الحاجة للمعرفة وقد كثرت شبهات وأقاويل أعداء الدين في هذه الحروف، ورحم الله ابن تيمية عندما قال:"إن الطالب الذكي يَضيق صدرُه بأسْرِ التقليد، ويُحِبُّ أن يخرج إلى بُحْبُوحة العلم، فلا تقنَع نفسُه ويَرضَى عقلُه إلّا بالوقوفِ على التأويل، وهو بدونه يعتور عقله الشبهات وصدره الحرج والضيق، فإذا عرفَ التأويل اطمأنّ قلبُه وانشرحَ صدرُه ورَضِيَ عقلُه."(2)
هذا هو السبب الأصيل للخلاف عليها، أما مسبباته فمنها ظاهر معلوم ومنها غير ظاهر ولم يتطرق إليه كثير من المفسرين وهي:
المسبب الأول: كثرة الروايات الضعيفة والموضوعة في تأويل الحروف وهو من الأسباب الرئيسة، فقد تساهل الكثير من المفسرين بنقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأَصلي لمجرد دليل ظني
(1) من روايات كثيرة عندما كان عمر رضي الله عنه يسأل عن تأويل بعض الآيات فرد عليه القوم: "الله أعلم" فقال: إني أعلم أن الله أعلم، وإنما سألت إن كان عند أحدكم من علم وسمع فيها بشيء. عزاه في كنز العمال (356/ 2) لعبد ابن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (47/ 2)، وفي رواية أخرى قال: قد شقي عمر إن لم يكن يعلم أن الله أعلم. عزاه في كنز العمال (564/ 2) لابن ماجه في التفسير وابن مردويه وابن أبي حاتم، وأوردها الآبي في نثر الدرر (218/ 1) من كلمات عمر المشهورة، وفي البيان والتبيين (261/ 1) أوردها الجاحظ في باب تأديب العلماء.
(2)
جامع المسائل لابن تيمية، ج5 ص88
الثبوت، سواء كان حديثاً موضوعاً أو ضعيف السند أو ضعيف المتن، أو حديثاً صحيح السند مع علة فيه ومضطرب المتن، وكثرة الروايات فيها كانت بسبب تأخر تدوين علم التفسير للنصف الثاني من القرن الثالث الهجري، هذا وإن كان التأخير مُبرَّراً بل هو الحق الأبلج، وسببه ظاهر بتاريخ ما وصلنا من كتب عنيت بالتفسير، وما جاءنا من أحاديث تدل عليه، وما نقله العلماء المحققون مثل الخطيب البغدادي عندما أورد قول الإمام أحمد:"ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير."(1) وبيّن أن هذا القول كان لانعدام الكتب الأصيلة المختصة بالتفسير والسير والملاحم في زمان الإمام أحمد (توفي 241هـ) ولم يكن من التفاسير إلا لمن لا يوثق به كالكلبي ومقاتل- وكلاهما كذاب - فكان لهذا التأخير أسباب كما كانت له نتائج أما الأسباب فمنها:
الأول: أنّ التفسير والمغازي والسير "الغالب عليها المراسيل"(2)، وهي من كلام الصحابة، وقد تأخر تدوينها عن تدوين أحاديث الأحكام من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة لأن تدوين تلك الأحاديث كان أولى، كما أن تدوين القرآن كان أولى في القرن الأول، فبدأ التدوين لآثار التفسير والسير في النصف الثاني من القرن الثالث، وقيض الله لهذه العلوم من قام بها حق القيام من أمثال ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر (3)، فجاءت تفاسيرهم غنية بالأسانيد، كما هو الحال في كتب الحديث عامة، ولكنها لم تلق العناية كما في كتب الحديث، لاشتغال علماء
(1) الجامع للخطيب البغدادي (162/ 2)
(2)
مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص22، وهو الظاهر في تفسير الطبري وابن أبي حاتم وما بقي من تفسير ابن المنذر.
(3)
تفسير ابن المنذر بقي منه القليل وأكثره مفقود، يسّر الله جمعه، ومن تتبع أحوالهم وجد أن أولهم وهو ابن جرير (ت 319هـ) قد بدأ بطلب العلم سنة وفاة الإمام أحمد (241 هـ) وكانت ولادة ابن أبي حاتم وابن المنذر في ذات السنة، وكأنهم أخذوا بكلمة الإمام أحمد نصب أعينهم فصنفوا ما لم يصنف مثله أحد، وجمعوا مرويات التفاسير، كما قيض الله للسير والمغازي من أعطاها حقها ولله المنة والفضل.
الحديث بكتب الحديث وآثار الرسول صلى الله عليه وسلم لكون التفاسير أغلبها من كلام الصحابة، والمعلوم أن الغالب عليها كان التساهل في النقل لا التشديد.
الثاني: إنّ مرويات التفسير والسير والملاحم الأساسية قد شملها علم الحديث، ولم تفرد في كتب خاصة، مما جعل فكرة الجمع في كتب مختصة مسألة أسهل عند طلبها، فلم تكن بذات الأهمية لجمع أحاديث الأحكام، لكونها جزءاً منها. هذا مع اعتقاد المسلمين السليم بأن بيان القرآن مما تعهد الله به، وليس موقوفاً على احتمال صدق أحدهم أو حفظه من البشر، ومرويات التفسير "الذي يمكن معرفة الصحيح منه، فهذا موجود فيما يحتاج إليه ولله الحمد، فكثيرًا ما يوجد في التفسير والحديث والمغازي أمور منقولة عن نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه والنقل الصحيح يدفع ذلك، بل هذا موجود فيما مستنده النقل، وفيما قد يعرف بأمور أخرى غير النقل، فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره."(1)
الثالث: إنّ مرويات الصحابة في التفسير قد امتازت بتعدد الروايات واختلاف الكلمات والإضافات ونقل الكلام بحسب فهم السامع وليس بضابط المتن كما في الأحاديث، لكون الصحابة لم يفسروا من كتاب ولم يسمحوا بالكتابة عنهم في أغلب الأحيان (2)، وقد يقولون
(1) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص22، وهو ظاهر في كتب السنة والصحاح، فلا يخلو أحدها من فصل للتفسير بالآثار الصحيحة، ومنهم من أفرد كتاباً للتفسير، ولم يشتمل على تفسير القرآن كاملاً كابن ماجه، وهو كتاب مخطوط لم يطبع من قبل، يسر الله نشره.
(2)
أورد الخطيب البغدادي في كتاب تقييد العلم جل الروايات عن الصحابة رضوان الله عليهم في منع الكتابة، وكان هذا خوفا منهم على العناية بكتابة القرآن، ومما أورده الخطيب أن ابن عباس كان من الذين يكرهون كتابة الحديث، وهذا يفسر اختلاف المرويات عنه وأنه كان لتأخر كتابة كلامه.
شيئاً في مجلس ويقولون غيره مما لا يناقضه في مجلس آخر بحسب السؤال، فينقل عنهم هذا وذاك، بفهم من نقل هذا ومن نقل ذاك، والرابط بينهما فهم الصحابي وليس فهم الناقل ومن كتب عنهم، ولا سبيل للوصول لهذا الرابط إلا بجهد أكبر، مما صعّب المهمة على علماء الحديث عند البدء بجمع مرويّ التفاسير.
الرابع: إنّ نصوص الأحكام يراعى فيها تصحيح وتضعيف المتن كما يراعى فيها تصحيح وتضعيف السند، ومن أراد الحكم على متن فعليه العلم بأصوله من استقراء ودقيق اختصاص، كما هو الحال في أصول التفسير، ومن لم يحكم على مرويات التفاسير بضابط المتن في علم الحديث، اكتفى بتدوين الكلام مع اختلافه؛ لذلك أتى في آثار الصحابة المنقولة ما كان فيه اضطراب واختلاف كبير في المتن.
أما ما تسبب به تأخر التدوين وما نتج عنه من زيادة في المرويات الضعيفة فهو ظاهر في العديد من الأمور:
الأول: وهو الأهم أن رواية المحدِّثين كانت تعتمد على السماع أكثر من الكتابة، بينما أصبحت رواية المفسرين تعتمد على الكتب أكثر من كلام المحدثين لطول العهد، وعلم الجرح والتعديل تكفل بمعرفة أحوال المحدثين لا أحوال الكاتبين، وإن كان المحققون قد ذكروا بعض المشهورين من الكتبة وبيّنوا أحوالهم، لما اشتُهر عنهم من أحوال دعت لبيان حالهم، ولكن لا سبيل لحصر الأوراق وما كُتب في مجالس التفسير، إذ أكثر روادها من عوام المسلمين. كما أن الكتب يقع عليها التحريف والتصحيف، ولا مجال لمعرفة الصحيح منها في كثير من الأحيان، لعدم القدرة على معرفة خطوط الكاتبين وإضافاتهم، أما خطوط المحدثين فقد كانت محفوظة في
المكتبات، أو يوجد من هو خبير بها ويستطيع تمييزها عن غيرها من الحواشي (1)، لذلك لم يكن من سبيل لمعرفة الكثير مما روي بخطوط الناس، وقد قال الإمام أحمد:"ومَنْ يَعْرَى من الخطأ والتصحيف؟ "(2) وهذا عند المحدثين، فكيف بمن كتب ولم يكن محدثا، وكيف بمن كتب عمن كتب، ناهيك عما يلحق الصحف من تخريب وتبديل، لطول العهد وتأخر التحقيق فيها، ومثالاً عليها ما يرويه عبد الله بن صالح كاتب الليث عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وابن أبي طلحة هو صاحب صحيفة الوالبي المذكورة في كتب أهل الحديث والتفسير، والتي حدّث عنها
(1) هو ظاهر في كتب المحققين، كما جاء في سير أعلام النبلاء (259/ 12) من ترجمة إسحاق بن منصور (ت 251 هـ) وحمله المسائل التي رجع عنها الإمام أحمد من خرسان إليه في بغداد، وأنه عرض خطوط الإمام أحمد عليها في كل مسألة، وكان الخط عندهم بمثابة التوقيع، وما جاء في لسان الميزان (161/ 3) في ترجمة صاعد بن الحسن الربعي (ت 417هـ) وأنه قال: "
…
حتى ولّاني عبد العزيز بن يوسف خزانة كتبه فأصبت فيها خطوط العلماء وأصولهم التي استأثروا بها لأنفسهم دون الناس"، وترجمة محمد بن علي الواسطي (ت 572هـ) (316/ 5) قال: "وما أظنه حدث بشيء فإنه كان يقال إنه يزور على خطوط المشايخ قراءته، اشتهر بذلك فتركته الناس." وفي ترجمة ابن الملقن (ت 804هـ) في طبقات الشافعية (45/ 4) "رأيت خطوط فضلاء ذلك العصر في طبقات السماع توصفه بالحفظ ونحوه من الصفات العلمية"، وما جاء في الدرر الكامنة لابن حجر (446/ 5) في ترجمة محمد ابن القوبع المالكي (ت 738هـ) قال: "ويعرف خطوط الأشياخ"، والمكاتبة والمناولة معروفة في علم رواية الحديث، قال ابن تيمية في بيانها:"ثم المكاتبة يكفي فيها العلم بأنه خطه ولم ينازع في هذا من نازع في كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة بالكتابة" من مجموع الفتاوى (34/ 18)، وما جاء على لسان العالم المتبحر في علم المخطوطات خليل الخالدي من أن خطوط المحدثين كانت محفوظة لوقت متأخر في المدرسة الضيائية - نسبة إلى مؤسسها ضياء الدين المقدسي - في دمشق، حتى انتُهبت على يد المغول، وهي المدرسة التي تخرج منها كثير من علماء الإسلام الأفذاذ أمثال ابن تيمية والذهبي- من كتاب النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين (ج5 ص118).
(2)
المزهر للسيوطي (352/ 2) وقال شرحاً له: "قال المعري: أصل التصحيف أن يأخذ الرجلُ اللفظ من قراءته في صحيفة ولم يكن سمعه من الرجال فيغيّره عن الصواب، وقد وقع فيه جماعةٌ من الأجلاء من أئمة اللغة وأئمة الحديث حتى قال الإمام أحمد
…
" وقال: " وفي الصِّحاح: قال الأصمعي: كنت في مجلس شُعبة، فروى الحديث، فقال: تسمعون جَرْش طير الجنة بالشين، فقلت: جَرْس، فنظر إليّ وقال: خذوها منه، فإنه أعلم بهذا منا." وهو في الصحاح للجوهري (913/ 4).
الطبري وغيره من المفسرين رغم ما قيل فيها، وقد شكك فيها البعض واحتج بها البعض، والصواب أنّه لا يحتج بها وإن كان فيها خيرٌ. (1)
الثاني: أنّ حب الناس لسماع ما هو غريب، وطلبهم للمزيد في تأويل القرآن، كان من أهم الأسباب لكثرة المرويات الموضوعة مع قلة الصحيح المدون، وهذا واضح في كتب المحققين عند ذكرهم أسباب الكذب في الحديث بشكل عام وفي التفسير بشكل خاص، مما أدى لظهور بعض المفسرين المحِبّين للشهرة، المتخذين للكذب والادعاء بمعرفة التفسير طريقاً لهم، فكذبوا بالرواية عن الصحابة، ومثالاً عليها ما أورده الخطيب البغدادي "أنّ مقاتل بن سليمان، جاءه إنسان فقال له: إن إنساناً سألني ما لون كلب أصحاب الكهف فلم أدر ما أقول له قال: فقال له مقاتل: ألا قلت هو أبقع فلو قلت لم تجد أحداً يرد عليك"، وأورد بعدها قول نعيم بن حماد "أول ما ظهر من مقاتل الكذب هذا"(2)، وكذلك ما كان من أمر محمد بن السائب الكلبي، فلا تصح روايته، بل "ما رواه الكلبي لا يحل ذكره في الكتب."(3) وقد تأثر بعض المفسرين بكلام هذا الكذاب وغيره، مع علمهم بحال القوم، ولكنهم وجدوا في بعض كلامهم ما هو خير ولم يتنبهوا لما وراءه.
الثالث: ظهور بعض المفسرين من الذين تصدوا لتفسير القرآن كاملاً، وهم ثقات، ولكنهم سمعوا تفسير بعض الآيات من التابعين وما نقلوه عن الصحابة، وسمعوا ما روي من
(1) علي ابن أبي طلحة "أرسل عن بن عباس ولم يره
…
صدوق قد يخطئ" تقريب التهذيب (697/ 1) وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (227/ 9): "تركوه حتى إن صالح بن محمد جزرة قال: حديثه كذب كله." وقال الألباني عن هذا السند في الضعيفة (رقم 1019): "هذا ضعيف منقطع"، وقد ذكر أهل الحديث من قصة عبد الله بن صالح كاتب الليث وكيف كان جاره يحرّف كتاباته، وكان ابن صالح لا يفرق بين خطه وخط جاره، فالتحريف كان أول الأسباب للطعن في هذا السند، وقد أحصيت أحاديثه في تفسير الطبري فبلغت 358 موطنا، وفي تفسير ابن أبي حاتم 682 موطنا، وذكر غيرهم الكثير من مروياته، والحق فيها التوقف لا التكذيب ولا الرد، حتى لو لم تقم بها حجة، فلو لم يكن فيها خير أو كانت بيّنة الوضع لما رواها علماء التفسير من المحدثين.
(2)
الجامع للخطيب البغدادي (163/ 2)
(3)
حاشية سير أعلام النبلاء للمحقق (249/ 6) والكلام للإمام أبو حاتم بن حبان.
الإسرائيليات، وسمعوا ما قيل من هنا وهناك، فجمعوا ما طاب وما خاب من الأقوال، وفسروا القرآن كاملاً وخلطوا الحابل بالنابل، وروى عنهم خلق كثير منهم الصادقون ومنهم الكاذبون، وكُتب عنهم ما لا سبيل لمعرفة أصله، فكانوا موطن شك عند علماء الحديث لما روي عنهم في التفسير، لا بما حدثوا به الثقات، فأمسك البعض عن مجمل الرواية عنهم، وروى البعض عنهم على خلاف ظاهر، ومن هؤلاء إسماعيل السدي (127هـ)(1)، فأبلغ ما تصل إليه مروياته وقوفها عليه، فإن كان فيها خيراً أخذنا به، وإن كان فيها باطلاً رددناه، وخير ميزان للرجال ما
(1) اختلف علماء الجرح والتعديل في السدّي صاحب التفسير، وذكروا عنه أقوالاً كثيرة، واختلفوا بين تضعيفه وتوثيقه، قال الذهبي:" قال النسائي صالح الحديث وقال يحيى بن سعيد القطان لا بأس به وقال أحمد بن حنبل ثقة وقال مرة مقارب الحديث وقال يحيى بن معين ضعيف وقال أبو زرعة لين وقال أبو حاتم يكتب حديثه وقال ابن عدي هو عندي صدوق" سير أعلام النبلاء (265/ 5)، وفي تهذيب التهذيب (274/ 1):"قال الجوزجاني حدثت عن معتمر عن ليث يعني بن أبي سليم قال كان بالكوفة كذابان فمات أحدهما السدي والكلبي كذا قال وليث أشد ضعفاً من السدي وقال العجلي ثقة عالم بالتفسير رواية له وقال العقيلي ضعيف وكان يتناول الشيخين وقال الساجي صدوق فيه نظر وحكى عن أحمد أنه ليحسن الحديث إلا أن هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسنادا واستكلفه وقال الحاكم في المدخل في باب الرواة الذين عيب على مسلم إخراج حديثهم تعديل عبد الرحمن بن مهدي أقوى عند مسلم ممن جرحه بجرح غير مفسر وذكره بن حبان في الثقات وقال الطبري لا يحتج بحديثه." قلت: مع أن الطبري أكثر من الرواية عنه في التفسير والتاريخ! فتنبه، هذا ولا أطعن في السدي وقد وثّقه الكثير من أئمة الحديث، وحدث له الإمام مسلم وأصحاب السنن، وقد اختار أحمد شاكر تصحيح إسناده كما فعل الحاكم والذهبي، واستشهد به الألباني في بعض المتابعات وقال:"فمثله إذا تفرد بزيادة دون جميع الرواة لا تطمئن النفس لثبوتها" الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب (ص739)، ولكنني في شك كبير من كتاب التفسير المروي عنه، وأغلب الظن أن به علة أشد من علة الحديث الضعيف، وهي التحريف، وقد أخرجته عن باب المعقول فيما رواه من آثار مكتوبة في تفسيره، وقد جاء فيه كلام لا يقبله عاقل، فكيف نقبل نسبته لابن عباس؟ وعليه يكون حجة في الرواية إن كان له متابع كما وثقه عبد الرحمن بن مهدي وأحمد، وروى له مسلم في الأحكام اربعة أحاديث وفي فضل الصحابة حديث واحد، وروى له أصحاب السنن أحاديث كثيرة، وكذلك روى له الإمام أحمد وقد جاء فيما روى عنه أحاديث في فضل الصحابة وفضل أبي بكر وعمر، فكيف يستقيم سبه لهما وهو يروي في فضلهما، أما ما تفرد به من تفاسير وأقوال عن ابن عباس فلا يؤخذ بها، لأن الطبري وهو ناقلها لم يعتبرها حجة، ولقول الإمام أحمد:"إنه ليحسن الحديث إلا أن هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسنادا واستكلفه." وقد قال الإمام أحمد إن التفاسير كالمغازي والسير لا أصول لها ولم يكن لها في وقتهم كتب أصيلة، أي لم يكن كتاب السدي بخطه محفوظا بين دفتين ليطلع عليه ويحكم فيه، وأن هذه المرويات الكثيرة كانت سبباً للطعن فيه، وسبباً لما قيل عنه من كبار أئمة الجرح والتعديل، وتفسيره وقف عليه لأنه لا سبيل لمعرفة الصحيح من الضعيف فيه لضياعه.
زال قائماً بيننا وهو كتاب الله وسنة نبيه، فما وافقه أخذنا به وما شذ عنه رميناه، وإن كنا لا نردّ ما جاء عن أهل الكتاب لذات الغاية، فما روي عن السدي أولى، وإن كان كلامه لا حجة فيه البتة.
الرابع: إنّ فترة ما قبل التدوين كانت مرتعاً خصباً لأعداء الدين من اليهود والمجوس والطامعين لهدم هذا الدين العظيم، وكان نشر المرويات في تفسير القرآن من إسرائيليات وموضوعات لتحريف معاني القرآن من أدق أساليبهم، بعدما تيقنوا عدم قدرتهم على تحريف القرآن نفسه، وهذه المرويات ظاهرة في التفاسير، إلا من رحم ربي، ولم يتنبه إليها الكثير، بل نقل الكثير منهم بعض هذه المرويات وإن كانت من مُحدّث مشكوك في أمره، خوفاً من ضياع المعلومة، واكتفوا بوجود سند لهذه المرويات، فكانت سبباً لنقل ظاهر النص في القرآن عند الكثير من المفسرين، لأنها الدليل الوحيد الوارد في بعض الآيات، واعتبروها مما يستأنس به، وحاشا لله أن يستأنس بغير كلامه لبيان معانيه وهو الحق الأبلج. ومثالا عليه ما جاء في الإسرائيليات عن تفسير الحروف وأنها حُروف من حساب الجُمّل وهي مرويات مكذوبة. (1)
الخامس: إنّ فترة ما قبل التدوين كانت ساحة سياسية وفكرية للكثير من الطوائف المارقة والفرق الضالة بما أصابها من لوثات فلاسفة اليونان، وهو العجب العجاب، بأن أثّرت حضارة ميتة على أعظم الحضارات، وأثّرت كتب كانت ميتة فأحياها الناس على فهم أعظم الكتب على وجه الأرض، فحاول الكثير منهم نشر الشبهات للانتصار لقوله، بل وكَذَب بعضهم على كبار المفسرين، وأرادوا الانتصار لمفهوم تقييد القرآن، وهو السبب الأكبر للبعد عن فهم القرآن، وكانت فكرتهم عن التقييد من أثر القول بأن إعجاز القرآن كان إعجازاً للمشركين وليس
(1) قال ابن جرير الطبري فيها (208/ 1): "كرهنا ذكْر الذي حُكي ذلك عنه، إذْ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله." وكذا قال ابن كثير في التفسير (162/ 1) بأن الروايات تدور على من لا يحتج بما انفرد به.
إعجازاً لمن بعدهم، فساووا بين القرآن وغيره من الكتب، واعتبروا ما فيه من باب السرد، فانتصروا لأي رواية في التفسير تقوّي مذهبهم، ولو كانت ضعيفة أو موضوعة، ومن هذا ما روي عن بعض العلماء في تفسير الحروف المقطّعة بأنها أسماء للسور، وتبعه الكثير من أهل الكلام انتصاراً لقولهم بأن ليس في القرآن ما لا معنى له، وللرد على من قال بأن القرآن ليس عربياً خالصاً (1)، وهي أقوال ساقطة رد عليها كثير من العلماء، فالغاية سليمة والطريق سقيمة.
السادس: إنّ فترة ما قبل التدوين وخاصة فترة التابعين امتازت بظهور عدد من المفسرين الثقات الأئمة، من الذين أخذوا العلم عن الصحابة أو كبار التابعين وسمعوا التفسير منهم، وحدثوا عنهم ما سمعوه من أحاديث، فظن الناس أنهم أخذوا التفسير كله عن الصحابة، وليس الأمر كما ظنوا، فهم يفسرون مجمل القرآن برأيهم وما رجح عندهم من إسرائيليات وأخبار، والبعض مما يفسرون به سمعوه من الصحابة، فكان هذا سبباً لرفع أسانيدهم عند بعض المخبرين الكذبة بغية الشهرة، أو سبباً للاختلاف عند من وهم من المحدثين بأنها من كلام الصحابة أو التابعين، فتجدهم يروون عن هذا مرة وعن ذاك مرة، من ذلك ما جاء من قول ابن عباس في (يس) أي
(1) قال الرازي في التفسير (6/ 2): "هو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه." قلت: لم يثبت بأنه من كلام الخليل بما تناقله الناس عنه، كما أنكره سيبويه (180هـ) على العموم وجوزه في بعضها حيث قال في الكتاب (ج3 ص258):" وقد قرأ بعضهم: "ياسين والقرآن"، و "قاف والقرآن". فمن قال هذا فكأنّه جعله اسما أعجميّا، ثم قال: أذكر ياسين." وأنكر التسمية لغيرها مما ليس في أسماء السور في القرآن مثل كهيعص. وقول الرازي جاء اتّباعاً لقول الزمخشري في الكشاف (21/ 1): "وعليه إطباق الأكثر"، وهذا منهما انتصاراً لقول المتكلمين، وقد اختار الرازي هذا القول كتفسير للحروف وخالف الجمهور، وجاء رد الرازي في المحصول (310/ 1) بهذا القول على من ادعى بأن القرآن ليس عربياً خالصاً وأن الحروف معجمة ومبهمة، وكذل فعل الآمدي ردا على من قال بأن في القرآن ما لا معنى له، كما في الإحكام في أصول الأحكام (167/ 1) بقوله "أما حروف المعجم، فلا نسلم أنه لا معنى لها، بل هي أسامي السور ومعرفة لها. " والشبهة قول ظاهر الضعف، رد عليه الكثير من العلماء من غير وجه، وجاء في شرح الكوكب المنير لابن النجار (144/ 2) بأنه من قول الجمهور رداً على بعض الحشوية (أهل الرواية والحديث) الذين قالوا بأن حروف الفواتح لا معنى لها، وقال بأن قول الجمهور هو أنها أسماء للسور أو أسماء لله تعالى أو هي سر استأثر الله بعلمه أو غير ذلك من الأقوال في التفاسير. قلت: من قال بهذا من أهل الحديث فهو مردود عليه، لأنه باطل ولم يرد فيه أثر صحيح، وسآتي على تفصيل القول فيه لاحقاً. وقال أبو حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط (156/ 1):"فجمهور المفسرين على أنها حروف مركبة ومفردة." فلا تلتفت لقولهم أطبق وأكثر.
يا إنسان بالحبشية، (1) و (طه) يا رجل بالنبطية، (2) أو بالسريانية، (3) فهذه آثار موضوعة وهالكة، وابن عباس بريء منها، وإن كانت من أقوال قتادة وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك، وهو قول مرجوح، والوجه الصحيح من هذا الرأي بعيد عن التفسير، وسآتي على تفصيله لاحقاً، ومن هؤلاء أيضاً من لم يسمع من ابن عباس أصلاً، وذاع صيته فنسبت أقواله لابن عباس.
وعليه فالقاعدة هنا، حدّث المفسرون عن القرون الفضلى ولا حرج عليهم، فالحجة ليست فيما نقلوه لأن المفسرين "قد احتجوا في التفسير بقوم لم يحتجوا بهم في مسند الأحاديث المتعلقة بالأحكام وذلك لسوء حفظهم الحديث وشغلهم بالتفسير"(4)، والحجة في صريح القرآن وما صح من السنة فيما نقلوه، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتأويل لا يصح إلا ضمن الضوابط المنصوص عليها في أصول التفسير، وأهمها ألّا يضرب التأويل كلام الله بعضه ببعض، أو بكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يوافق ما بيّنه لنا أهل العربية من أصول، وألّا يخالف ما هو حقيقة دل عليها العقل بما لا يترك مجالاً للشك لقوله تعالى (أفلا تعقلون)، وألّا نحمل كلمات الله على شيء مظنون سواء في كتب المفسرين أو في أي علم من العلوم.
المسبب الثاني: وهو اقتصار علم أسباب النزول على الآثار والتساهل فيها، وما أورثه حصر هذا العلم في كتب عنيت بذكر أسباب النزول من بُعْدٍ عن تدبر القرآن، وقد اعتبرها بعض العلماء أقرب الطرق لفهم الآيات حتى قالوا فيها: "هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها، ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلاب، وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار في
(1) حديث موضوع رواه ابن جرير (488/ 20) عن محمد بن حميد الرازي، وابن حميد "كذبه أبو زرعة، وقال فضلك الرازي: عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث، ولا أحدث عنه بحرف، وقال صالح جزرة: كنا نتهم ابن حميد في كل شيء يحدثنا، ما رأيت أجرأ على الله منه، كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضه على بعض وقال النسائي: ليس بثقة."(من حاشية كتاب المجروحين لابن حبان ج2 ص303 للمحقق محمود إبراهيم زايد). قلت: ومن وثقه كالإمام أحمد فتوثيقه قبل أن يُعرف منه الكذب ويشتهر بالوضع. ورواية (طه)"يا محمد بالحبشية" عند الحاكم (409/ 2) بسند منقطع، بين عمرو بن طلحة القناد وعمر بن أبي زائدة، وعمرو بن طلحة صدوق، وقد خالف الأصل المروي عن عكرمة بأسانيد صحيحة بالوقف عليه، فحديثه ضعيف ولو كان متصلاً.
(2)
حديث موضوع رواه ابن جرير (266/ 18) عن محمد بن حُميد الرازي أيضاً، وهو زيادة عند الحارث في مسنده (ص225) عن أبي عبد الرحمن الأسود بن شاذان عن شريك، "قال شاذان: ربما قال شريك: طه يا رجل." ووهْم شريك واضح في الرواية من سوء حفظه، وقد رواه شريك من كلام سعيد بن جبير كما في مسند ابن الجعد (ص318)، وخالف الأصل المروي عن سعيد بالوقف عليه، قال ابن حجر في الفتح (8/ 431) (تفسير سورة طه): "وزاد الحارث في مسنده من هذا الوجه فيه ابن عباس." فهو ضعيف، ورواية (يا رجل) عند ابن جرير (266/ 18) من رواية محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، وهو سند مسلسل بالضعفاء، خلا محمد بن سعد لينه البعض وضعفه البعض، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (325/ 5) عن عطية العوفي، وهو الجد المحدث عن ابن عباس: "ضعيف الحديث"، وقال ابن حبان في الضعفاء كما أورد ابن حجر في تهذيب التهذيب (255/ 2) عن ابنه الحسن بن عطية العوفي: "منكر الحديث، فلا أدري البلية منه، أو من ابنه، أو منهما معا." ورواه الطبراني في الكبير (441/ 11) وفي سنده محمد بن معاوية النيسابوري وهو متروك، وعند البيهقي في دلائل النبوة (159/ 1) بسند فيه الكلبي وهو كذاب.
(3)
رواه ابن جرير (266/ 18) من حديث الحسين عن حجاج عن بن جريج، والحسين هو سنيد بن داود ولقبه سُنَيْدٌ المَصِّيْصِيُّ، كذا قال الذهبي وقال:"مَشَّاهُ النَّاسُ، وَحَمَلُوا عَنْهُ، وَمَا هُوَ بِذَاكَ المُتْقِنِ." سير أعلام النبلاء (627/ 10)، وفي تهذيب التهذيب (214/ 4):"قال عبدالله بن أحمد عن أبيه رأيت سنيداً عند حجاج ابن محمد وهو يسمع منه كتاب الجامع لابن جريج أخبرت عن الزهري وأخبرت عن صفوان ابن سليم وغير ذلك قال فجعل سنيد يقول لحجاج يا أبا محمد قل ابن جريج عن الزهري وابن جريج عن صفوان بن سليم قال فكان يقول له هكذا قال ولم يحمده أبي فيما رآه يصنع بحجاج وذمه على ذلك قال أبي وبعض تلك الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة كان ابن جريج لا يبالي عن من أخذها." وابن جريج هو عبد الملك، وهذا مما أخذ عليه، وكان يفسر برأيه أكثر من الإسناد، وأورد المزي في تهذيب الكمال (348/ 18) "عن أحمد بن حنبل: إذا قال ابن جريج "قال فلان" و "قال فلان" و "أخبرت" جاء بمناكير، وإذا قال:"أخبرني" و "سمعت" فحسبك به." وفي تهذيب التهذيب (359/ 6) وسير أعلام النبلاء (329/ 6): "عن مالك بن أنس قال: كان ابن جريج حاطب ليل." وعليه فالحديث موضوع لا محالة.
(4)
الجامع للخطيب البغدادي - شرح (1587) ج2 ص194
هذا العلم بالنار." (1) وهذا الكلام فيه ما هو حق لكون واقع التنزيل ركن أساسي في فهم التنزيل، وفيه ما هو وهم وباطل، وهو ذات الوهم الذي دفع بعض العلماء لعدم تفسير بعض الآيات إلا بعد الرجوع لسبب التنزيل فيما ورد من آثار، مخافة أن يكون تفسيره مخالفاً لواقع التنزيل، وأنا على يقين بأن هذا هو الحق في نظر الكثيرين، ولا أقصد بكلامي من شذّ في تفسير بعض الآيات بأن جعلها لذات الموقف المذكور في أسباب التنزيل، والذي حدا بأهل العلم من الأصوليين بوضع قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) فهذا الكلام مفروغ منه، وليس من سبب يدعونا للخوض فيه، "فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا، فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين" (2)، أما كلامي فهو عن الوهم الذي بدأ بالقول إنه لا يحل القول في أسباب النزول إلا بالرواية والسماع، وانتهى بالقول في امتناع معرفة التفسير إلا بالوقوف على ما أوردوه من أسباب للتنزيل، وفي حال انعدام وجود الأثر الصحيح يؤخذ بالضعيف بكل تهاون، وهذا الفعل وهم وباطل لعدة أسباب:
الأول: إنّ الفهم بأن أسباب التنزيل انحصرت فيما جاء في الآثار وأقوال الصحابة ينفي ذكر السبب وإن كان ظَاهِرًا في القرآن، وعليه يجب رد السبب إن جاء بخلاف ما ذكره القرآن ولو ضمنياً بأنه السبب، وذلك لأن تفسير القرآن بالقرآن أولى بالإجماع.
(1) أسباب النزول للواحدي، ص8
(2)
ابن تيمية - مقدمة في اصول التفسير ص16
الثاني: هو ذات السبب الذي نص على الأخذ بما ورد في القرآن أولاً والسنة ثانياً، وهو ذات السبب الذي ردّ فيه علماء الحديث متن الحديث وإن صح سنده لأسباب منها: إن خالف صريح ما دل عليه القرآن.
الثالث: إن تعذر فهم الكلام بشكل عام إلا ببيان السبب فسيكون السبب قرينة للكلام، وليس من الحكمة تركه إلا ببيانه ولو ضمنيّاً، لكونه نقص في دلالات الكلام، وحاشا لله أن يكون كلامه فيه نقص، فلو امتنعت معرفة التفسير للسور أو الآيات إلا بذكر السبب، فسيكون مذكوراً في سياق النظم لا محالة. وعليه "إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِلَ في مكان فإنه قد فُسِّرَ في موضع آخر، وما اخْتُصِر من مكان فقد بُسِطَ في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، يعني السنة" (1)
الرابع: إنّ أسباب التنزيل اسم لعلم من علوم التفسير، وجاء اسمه اختصاراً لبيان واقع الحال عند التنزيل بآثار الصحابة، ولا يجب تأكيد السبب في نزول القرآن إن كان أثراً - ولو صح سنده - باعتباره سبباً لكلام الله، ونستقي بذلك منه الحكمة المطلقة لكلام الله، بل يجب النظر إليه على حقيقته كبيان لواقع الحال، كما اعتبرها أهل الحديث شهادة من الصحابي وليس نقلاً للكلام، وذلك لفهم القرآن كما فهمه الصحابة في واقعهم، ولدرء صرف الانتباه عن السبب الحقيقي المذكور في القرآن ولو كان ضمنياً. وهذا ما كان عليه الصحابة أنفسهم "فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمة أو نظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن."(2)
الخامس: إنّ أسباب النزول تابعة لتنزيل القرآن، وهو كما قال أهل العلم "على قسمين: قسم نزل ابتداءً، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال." (3) ومعلوم أن معرفة الواقعة والسؤال هو ما اصطلح عليه بأسباب التنزيل، وهو كما "قال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب." (4) وفيه فوائد جمة ذكر منها السيوطي:"معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. وإن اللفظ قد يكون عاماً ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ماعدا صورته، فإن دخول صورة السبب قطعي وإخراجها بالاجتهاد ممنوع وجاء الإجماع على هذه الفائدة، والوقوف على المعنى وإزالة الإشكال"(5). وهذا مما لا ينكره أحد، بل هو مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة وعلماء الأصول، ولكن ما ننكره هو
(1) ابن تيمية - مقدمة في أصول التفسير ص39، والحديث رواه الإمام أحمد (130/ 4) وأبو داود (610/ 2)، وصححه الألباني في المشكاة (رقم163).
(2)
ابن تيمية - مقدمة في أصول التفسير ص45
(3)
الإتقان في علوم القرآن ج1 ص87 - القول في أسباب التنزيل، والقول للجعبري، وهو صاحب مختصر أسباب النزول للواحدي.
(4)
الإتقان في علوم القرآن، ج1 ص88
(5)
الإتقان في علوم القرآن، ج1 ص87
تقييد آيات الرحمن، وخاصة فيما نزل من القرآن ابتداءً، بسبب يورث تخصيص الكلام وإخراجه من عموم البيان (وما هو إلا ذكر للعالمين)، فما جاء في كتب أسباب النزول هو من السنة الواجب إتباعها في شؤون الدين كلها إن صحّت، ولكن هذه الكتب لم تأت بزيادة إلا بتقييد كلام الله بأسباب ظاهرة مجموعة في كتاب طلباً لابتداع علم جليل جديد، من غير إشباع للعلم نفسه، ولم تكن الأسباب المذكورة فيها إلا وصفاً للحال الذي نزلت فيه بعض آيات القرآن، ومنها ما هو شهادة حق ومنها ما هو وصف لواقعة معينة ليس فيها تأويل للآيات والسور، ومنها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف وموضوع، فكان جمعها على هذه الطريقة سبباً لفهم القرآن وكأنه كلام مبهم، لا سبباً في تنزيله والتوسع في بيان مقاصده.
ولبيان هذا السبب أورد بعض الأمثلة على احتجاج من قال بأن أسباب التنزيل من الآثار قد تكون الطريق الوحيدة لفهم الآيات، ومنها قولهم بأنه "قد أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآية وقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون، حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه. أخرجه الشيخان." (1) فأقول: لماذا أشكل عليه فهمها ولم يشكل على غيره؟ والسبب هو الأخذ بعموم اللفظ في سياقٍ واضح كالشمس، وقد أخذ بداية الآية وكأنه خطاب منفصل عما قبله، وما كان كلام ابن عباس رضي الله عنه إلّا بياناً لما جاء في الآية التي قبلها، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ
(1) الإتقان في علوم القرآن، ج1 ص88 - باب ما جاء في أسباب النزول، وهي عندي زلة قلم لا تحتسب على عالم جليل وإمام حافظ كالسيوطي، وقد كانت غايته أسمى من مجرد الكتابة، فقد جمع الجوامع في اللغة والحديث والتفسير والفقه، وغيرها من علوم القرآن، ويسر على المسلمين طلب العلم، بل وكان مِفصلاً من مفاصل العلم في تاريخ الإسلام، رحمه الله وجعل مأواه الجنة.
ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) آل عمران} فالسبب فيها واضح، وهو أن من أهل الكتاب (وكلمة من جاءت ضمنياَ من الآية التي قبلها أيضاً) أخلّوا بميثاق الله وما فيه من إلزام بعدم كتمان ما أنزل وعدم التقصير في بيانه للناس، ففعلوا العكس لغاية دنيوية وكأنهم اعتبروه ثمناً لسلعة، وهنا تشبيه بليغ لا يقوله إلا الخالق، وهو تنزيه كلامه عن كونه سلعة، ولم يقل باعوه وهو المتبادر للذهن، بل جعله الثمن وقال اشتروا به متاع الدنيا وجعل متاع الدنيا هو السلعة، وساءت السلعة إن قورنت بثمنها، فهو الخسران الحقيقي، وهم بفعلهم هذا أخذوا ما في الدنيا ونسوا ما عند الله من ثواب وعقاب، وقد حق عليهم العذاب لا محالة. وقد جاء النظم متسلسلاً بقوله تعالى لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا أي ما فعلوا من إخلال بالمواثيق، بكتمان الحق أو ببيانه على غير الوجه الصحيح، وكأنه شيء عظيم يدعوهم للفرح، وفوق هذا يحبون أن يكونوا من المحمودين بين الناس ومن المعظمين عندهم، فكانت العاقبة بأن لهم عذاباً أليماً ليسوا بناجين منه. وهذا المعنى مأخوذ من السياق، ولا يخفى على أحد، ولن يخفى على ابن عباس وهو ترجمان القرآن، ولن يخفى كذلك على مروان بن الحكم أيضاً! فهذا النص فيه خلل لا محاله، ولكون الخلل لا يكون إلا في السند أو المتن، فالسند في الصحيحين كما ذكر، والمتن كلام ابن عباس ترجمان القرآن، والسؤال فيه من مروان بن الحكم وهو الأمير الفقيه المحدث! ومن عاد لأصل الحديث وجد الخلل (وأعني بالخلل فيما ذكره المحتج وليس في أصل الحديث) بنص الحديث:
"أن مروان قال: اذهب يا رافع - لبوابهِ- إلى ابن عباس، فقل لئن كان كل امرئ منَّا فَرح بما أتَى وأحب أن يحمد بما لم يفعل -معَذَّبًا، لنُعَذبن أجمعون؟ فقال ابن عباس: وما لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} وتلا ابن عباس: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الآية. وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكتموه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أرَوْه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه." (1)
فالخلل واضح بيّن، أما في المتن فهو عدم ذكر استغراب ابن عباس بقوله وما لكم وهذه؟ إنما نزلت في أهل الكتاب. وأن ابن عباس تلا الآية التي قبلها، ومن ثم تلا الآية المعنية، ومن ثم قال فيها بَيَانًا. وأما في السند، فهو زيادة (أشكل على مروان) من غير ذكر سبب الإشكال، وهذا الحديث جاء فيه بأن مروان قال:(اذهب يا رافع -لبوابهِ- إلى ابن عباس) وهذا بيان بأن السؤال لم يكن من مروان طلباً للعلم، فهو سؤال من فقيه حاكم لفقيه عالم، ولو كان لطلب العلم لذهب بنفسه، لأن الحادثة وقعت وهو أمير وله بوّاب، فإن لم يكن السؤال لطلب العلم، فماذا سيكون إلا لغاية في نفس مروان، ويبين هذه الغاية ما رواه الطحاوي في مشكل الآثار بسند صحيح كالشمس عن رافع بن خديج أن مروان سأله عن تأويل الآية وهو أمير على المدينة،
(1) كذا رواه الإمام أحمد (298/ 1) والبخاري (40/ 6) ومسلم (2143/ 4) والترمذي (233/ 5) والنسائي في الكبرى (318/ 6) والطبراني في الكبير (300/ 10) وابن جرير (470/ 7) وابن ابي حاتم (839/ 3) والطحاوي في مشكل الآثار (86/ 5) والبيهقي في البعث والنشور (ص78) والواحدي في أسباب النزول (ص137)، والرواية من غير ذكر "لبوابه" عند ابن جرير (470/ 7) والحاكم في المستدرك (327/ 2)، كلهم من حديث عبد الملك ابن جُرَيج قال أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان بهذا الحديث، وفي رواية عند البخاري (40/ 6) أخبرني ابن ابي مليكة أن علقمة بن وقاص أخبره بالحديث، وهو خلاف المشهور من رواية ابن جريج، والبواب المرسَل من قبل مروان والمرسِل للحديث مجهول، وهو صادق لعلمنا بما دار في مجلس مروان، أما تسميته برافع فأظنه من الخلط في اسم رافع بن خديج، وأن الأصل فيه أن البواب قال بأن مروان قال له اذهب لابن عباس وقل له كذا، لكلام سمعه من رافع، وهذا يدل على الإرسال في الحديث، لا كما قرر الحافظ ابن حجر في الفتح ج8 ص233 (تفسير آل عمران) بأن الراوي كان من الحضور عند ابن عباس، مع إقراره بجهالة رافع البواب، فليس ما يدل على الاتصال من كلام الراوي أيّا كان، بل الدليل قائم على إرساله بلسان الراوي، وإن كان من المحدثين عن ابن عباس.
فقال إنها نزلت في المنافقين، وقال رافع كأن مروان أنكر هذا القول، وشهد زيد بن ثابت على صدق ما يقول، وقولهما وافق ما رواه الشيخان أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه " أنّ رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الآية" وحديث ابن عباس كان رواية لمن سمع بالقصة من أحد الحضور عند ابن عباس، فقال بأن مروان أرسل بوابهُ لابن عباس ليتبين منه حال الإشكال الحاصل من قول رافع بن خديج، لأن قوله يخالف الظاهر من السياق، فجاء جواب ابن عباس من دون علمه بما دار في مجلس مروان، وجاء جوابه بأجود ما يكون، وقد يظن القارئ أن كلام ابن عباس كان فيه بيان لسبب النزول الصحيح، وإنكار لغيره وليس كذلك، بل بيان السبب كان بذكر الآية التي قبلها، واستغرابه من تأويلها على عموم اللفظ لكل من فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل، أما قوله سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فكتموه هو التفسير بضرب المثل على إصرارهم كتمان العلم حتى أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون بأنه رسول الله وفعلهم هو الطغيان بعينه، وفي كلامه رضي الله عنه تفسير التأكيد من قوله تعالى {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . والدليل الدامغ على أنّه ضرب للمثل وأنه لم يقصد سبب النزول الصحيح، قول أبي سعيد الخدري وزيد بن ثابت ورافع بن خديج، ليس هذا فحسب، بل هنا ما هو أبلغ، وهو بيان واقع التنزيل فيما نقلوه كلهم لبيان الواقع، وما فيه من فعل لأهل الكتاب وللمنافقين في وقت التنزيل لهذه الآيات، وكلامهم رضي الله عنهم يُظهر الحق في وجوب الأخذ بالتوسع في بيان المقاصد، وأن أهل الكتاب هم سلف المنافقين وحالهم واحد فيما يفعلون، والعذاب لا يحق إلا عليهم، وإن كان فيها النهي عن النفاق العملي أيّاً كان، فهو من التوسع في بيان المقاصد، فمن كره فعل
أهل الكتاب وما طابق حالهم فيه حال المنافقين كان على صواب، قال ابن رجب الحنبلي:"ومِنْ أعظم خِصال النفاق العملي: أنْ يعملَ الإنسان عملاً، ويُظهرَ أنَّه قصد به الخيرَ، وإنَّما عمله ليتوصَّل به إلى غرض له سيِّئٍ، فيتمّ له ذلك، ويتوصَّل بهذه الخديعةِ إلى غرضه، ويفرح بمكره وخِداعه وحَمْدِ النَّاس له على ما أظهره، وتوصل به إلى غرضه السيِّئِ الذي أبطنه، وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود"(1)، ففعلهم وخلقهم مكروه وإن لم يكن في الإيمان، ومن ذلك ما روي أنه "كان شاب يمشي مع الأحنف بن قيس فمر بمنزله فعرض عليه الشاب فقال: يا ابن أخي لعلك من العارضين قال: يا أبا بحر وما العارضون؟ قال: «الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، يا ابن أخي إذا عرض لك الحق فاقصد واله عما سوى ذلك» " (2). وهذا من التوسع في التأويل لا التفسير، فلا حجة بقول الصحابة "نزلت في كذا"، وقد جاءت منهم رضي الله عنهم إما لبيان واقع التنزيل لكلام الله لنفهمه بذات الطريقة التي فهموه بها، أو كانت لضرب المثال كما سبق، ومعلوم أن قول الصحابي في بيان الواقع شهادة لا رواية، ولذلك رفع شأنها بعض علماء الحديث عما هو مسند إليهم من روايات موقوفة، ولو كان غير ذلك فكيف بجمع أسباب التنزيل مع بعضها إن اختلف السبب في نفس الآية، وهو كما قال ابن تيمية: "فقول أحدهم: نزلت في كذا، لا ينافي قول الآخر: نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما، كما ذكرناه في التفسير بالمثال." (3)
ومن الآيات التي احتجوا بها أيضاً قوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا .. الآية 93 المائدة} وقول من احتج بها على أن الخمر مباحة وأنهم لو علموا سبب
(1) جامع العلوم والحكم، حديث 48 (493/ 2)
(2)
في الزهد للإمام أحمد (ص406) وابن المبارك في الزهد والرقائق (ص492).
(3)
مقدمة في أصول التفسير، ص 17
النزول لما قالوا ذلك، وهو أن أناساً قالوا لما حرمت الخمر كيف بمن قتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس فنزلت الآية، وأقول لو قرأوا القرآن لما احتجوا بها، وبيان القول فيها جاء كحادثة فردية، والاحتجاج بها كالاحتجاج بقوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا .. الآية 29 البقرة} والخمر ولحم الخنزير ومحارم الإنسان مما خلق الله. وهذا كله في الآيات فقط، فكيف بسورة كاملة؟ فيقول البعض إن سبب نزولها كذا، ويورد أسباب نزول آيات منها أو آية واحدة منها، هذا إن كان سبب النزول قد جاء لإيضاح واقعة بعينها ويحتمل الصحة والضعف، فكيف بسورة قد ذُكر السبب فيها؟ ماذا ستكون فائدة ذكر سبب النزول بأثر ليس له علاقة إلا صرف النظر عن السبب الحقيقي لفهم النص كما نزل وهو الغاية من تدبر القرآن.
وأبلغ حجة للقائلين بأن أسباب التنزيل من الآثار قد تكون الطريق الوحيدة لفهم الآيات هو ذكر حادثة الإفك، وما نزل في عائشة رضي الله عنها، وهي حجة عليهم، بل وأبلغ الحجج على رد هذا الفهم عليهم، فقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] نزل في واقعة الإفك وبرّأ الله عائشة مما رماها به المنافق ابن سلول، ومن تبعه من الصحابة رضوان الله عليهم، والإفك هو "الكَذِب ورَجُل أفَّاك أي كَذَّاب"(1)، وعائشة رضي الله عنها بريئة بمجمل القرآن لا بخصوص هذه الآية، كيف لا وهي أمٌّ للمؤمنين بنص القرآن {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي
(1) لسان العرب - مادة أفك
الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6] وقد جاءت مع أمهات المؤمنين في الخطاب الإلهي ابتداءً تكريماً لهنّ {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الآية 59 الأحزاب} هذه البراءة والطهارة الأولى أما الثانية ففي قوله تعالى بعد آية الإفك في سورة النور {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)} ويكفيها طيباً أن تكون زوجاً لأطيب البشر لتكون خير المحصنات المبرّءات، ثالثاً إن المتتبع لآيات القرآن وقصص الأنبياء يعلم أن في القرآن قاعدة لبيان طهارة أهل الأنبياء جميعاً، أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم، وهذا معلوم بالاستقراء، فالتكرار في (إلا امرأته) و (إلا عجوزاً في الغابرين) في قصة لوط عليه السلام واستثنائها وزوجة نوح من بين أزواج الأنبياء بقوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شيئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] ما كان إلا لبيان القاعدة الأصيلة في أن أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم من المصطفين الأخيار، وهم خير الأهل لخير البشر، لكونهم عاشوا في بيوت نزل فيها الوحي، إلا اثنتين شذتا عن القاعدة كما شذت امرأة فرعون عن قاعدة أهل الفجور والطغيان، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11] فأزواج الأنبياء وأمهاتهم وبناتهم طاهرات، وخير الأنبياء وخير البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم، وأزواجه خير الزوجات، كما أن خير الأمهات مريم عليها السلام وخير البنات فاطمة، وعليه فلن يرضى مسلم أو صاحب مروءة بأن يتكلم أحد في عرضه، فكيف بأمهاتنا؟ وكيف بخير الأمهات وأشرف النساء المحصنات؟ هذا هو الإفك "وأفكته عن الأمر: صرفته عنه بالكذب
والباطل." (1) والقصد من الكذب المذكور هو صرف الناس عن أمر الدين، وهو هنا بالطعن في عرض الرسول صلى الله عليه وسلم وعرض صاحبه أبي بكر الصديق بحسب الآثار، والآية نزلت في هذه الواقعة فدلت عليها وكان النص أعم، فكان ما قيل في عائشة مثله كمثل الكذب الصارف عن طريق الله، ولو قرأ الآية أحد من المسلمين من غير علم بحادثة الإفك لفهم المقصود من الآية، فالله يقول {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أي أن الذين يكذبون في الأمور العظيمة من أمور الدين لتكون سبباً لصرف المسلمين عن دينهم وصرف للناس عن دين الإسلام هم في ظاهر الأمر من المسلمين، فمنهم منافق في الباطن ومنهم فاسق في الظاهر، ومنهم من جره القول كحال أهل الجاهلية، فهم عصبة، وما جمع بينهم غير العصبية للرأي أو للهوى، ولم يجمع بينهم عقيدة مناقضة لدين الإسلام فيكونوا من غير المسلمين على الإطلاق لذلك {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فهذا الكذب الذي يقولون في ظاهره الشر للمسلمين، كونه ينشر الفرقة ويبعد الناس عن دين الله، ولكنه في حقيقة الأمر خير لكم لأن فيه طهارة للمسلمين، وتنقية وتفريق بين الإيمان والنفاق، بل قد يكون السبب في دفع البعض من الصادقين لتمييز الحق من الباطل في الشبهات، فيكون فيه العلم كما ينبغي، وبالتالي يكون فيه بيان الحق للمسلمين وغيرهم، لتتم به دعوة الإسلام، وهو ما حصل ويحصل على الدوام في أمور المسلمين، وليس علم الكلام من هذا ببعيد، فما قالوا به في الحقائق من دين الإسلام إلا إفك أفكه البعض لغاية دنيئة، ومشى فيه البعض من المسلمين حتى ظن الناس أن الدين قد افترق، وأن الدين فيه ما يناقض العقل، وأن الله لا يتصف بصفات الكمال (تبارك الله أحسن الخالقين)، فما كان إلا أن أظهر الله الحق وميَّزه عن غيره، وزاد المسلمين به علماً فوق علمهم بأن برز فيهم من يذبّ عن
(1) العين: أفك
دين الله باللسان والقلم، بل وكان من أبواب الدفع عن دين الله أمام الفلاسفة والمنطقيين الكفرة وكان فيه خير عظيم، فقد تميّز الحق عن الباطل بما لا يخفى على المسلم ولا يخفى على من كان قلبه طاهراً بالإيمان، فكان القول هنا أما أنتم يا مؤمنون فلكم في هذا الخير، وأما العصبة الكاذبة {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} كلٌّ حسب نيته، {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فالمبتدع لهذا القول ومن تولى إظهار معظم الكذب بابتداع القول فيه له عذاب عظيم عند الله، إذ لولا البدعة في القول لما حصل منه شيء. ورحم الله القاضي أبو بكر الباقلاني لسان الأمة وسيف السنة المتكلم على لسان أهل الحديث، فقد أوّل الآية بعمله لا بقوله، فقد تعلّم علم الكلام وبرع فيه ليذبّ عن كتاب الله وسنة نبيه بأحسن الأقوال فكان خيراً للأمة، فأقام الحجج على المبتدعة والفلاسفة وعلماء الكلام من المسلمين، وحاجَّ أئمة الكفر في زمانه من زنادقة وملوك، وقد ظن الكثير أن علم الكلام شر محض وليس فيه خير، وعندما سأله ملك الروم عن قصة عائشة وما قيل فيها، قاسها بغيرها من النساء الآتي طهرهن الله فقال (1):(هما اثنتان في التاريخ قيل فيهما ما قيل، زوج نبينا ومريم ابنة عمران فأما زوج نبينا فلم تلد، وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفها وكل قد برأها الله مما رُمِيَت بِهِ فانقطع كلام الملك ولم يعرف ما يقول). ومن رمى عائشة من الذين يدّعون الإسلام ولم يأخذوا بأيّ من أحاديث البراءة، كان القرآن حجة عليهم وحده، بقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} في أول السورة ونحن نقول هاتوا بشاهد واحد على رميكم أعز وأشرف المحصنات يا فاسقين.
المسبب الثالث: ما جاء في الإسرائيليات من خفايا وما أورثته من تحريف لمعاني القرآن
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "بلّغُوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَجَ، ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأْ مقعده من النار"(2)، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم"(3)، وقد تكلم العلماء في هذا الباب وقالوا فيه الكثير، ومنهم من أفرد الكلام عنه بكتاب مفرد، وذكر فيه آثار الإسرائيليات في كتب التفسير مما يغني عن التفصيل فيه، ولكنني أقصد قسماً مما فصّله العلماء فيها وظنّوا فيه الخير، ويظهره ما نقل ابن كثير بياناً للحديث الأول:"هذه الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد. فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحتَه مما بأيدينا مما نشهدُ له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبَه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمِنُ به ولا نكذّبه، وتجوزُ حكايتُه لما تقدّم."(4) وهذا تفصيل نظريّ، وإن كان فيه حق، ولا أقصد الطعن فيه وإنما أقصد الإشارة إلى تطبيقه في كتب المفسرين، وخاصة ما كان من القسم الأخير، وهو ما رواه المفسرون واعتمدوا عليه وقال فيه ابن كثير: "وغالبُ ذلك مما لا فائدة فيه تعودُ إلى أمرٍ
(1) ذكر القصة عنه الكثير كالذهبي في سير أعلام النبلاء (192/ 17) في ترجمته، وابن كثير في البداية والنهاية (403/ 11) وذكرها محقق كتابه إعجاز القرآن السيد أحمد صقر في معرض تقديمه للقاضي الباقلاني في بداية الكتاب ص36، أما وصفه بلسان الأمة وسيف السنة والمتكلم على لسان أهل الحديث فهو قول القاضي عياض في طبقات المالكية كما نقل الذهبي في السير (190/ 17).
(2)
رواه الإمام أحمد (159/ 2) والبخاري (170/ 4) وعبد الرزاق (312/ 10) والترمذي (40/ 5) والدارمي (145/ 1) والبيهقي في معرفة السنن (138/ 1) وابن حبان (149/ 14) والطبراني في الصغير (281/ 1) والطحاوي في مشكل الآثار (125/ 1) وغيرهم.
(3)
رواه البخاري (181/ 3) والنسائي في الكبرى (426/ 6) وابن جرير (49/ 20) وابن ابي حاتم (3070/ 9) والبيهقي في شعب الإيمان (174/ 7) والبزار (210/ 15) وغيرهم.
(4)
مقدمة تفسير القرآن (9/ 1) والكلام لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - انظر مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص 42
دينيّ. ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلافٌ بسبب ذلك." وأقول بل منه ما جاء فيه من خفايا في بعض الأقوال أثّرت على فهم المفسرين وعلماء الكلام، ونقلت ظاهر المعنى في كلام الله من غير انتباه، وهو ما دخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم "من كذب عليَّ متعمدا" لورود الأمر بالتبليغ عنه صلى الله عليه وسلم ولو بآية، فالصحيح من الإسرائيليات إن رويناه للتفسير كنا متهوكين كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، وهو كالثاني إن رويناه لا يكون إلا من باب الحجة عليهم، وليس لبيان القرآن وتفسيره، والثالث أخطرها وأشدها وخاصة إن خلطناه بأقوال الصحابة والمفسرين، وهذا هو السبب الظاهر لكثرة المرويات الإسرائيلية في التفاسير وأن "من العلماء من اختصر الأسانيد، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسرين من أسلافهم دون أن يسندوها لقائليها، فدخل الوضع في التفسير والتبس الصحيح بالعليل وكان هذا مبدأ ظهور الوضع في التفسير وتطرق الروايات الإسرائيلية إليه" (1)، فأحاديث بني إسرائيل وأقاويلهم لا تنفعنا ولا تضرنا نحن المسلمين، ونقلُ أحاديثهم قد يكون فيه فائدة لم نعلمها بعد، وقد يكون فيه علم لا علاقة له بالدين، كعلم الأنساب والتاريخ والملاحم، وإن كان فيه من الغث ما فيه، ولكننا نملك العقل والميزان ونستطيع التمييز بين الحق والباطل،
(1) الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير، لرمزي نعناعة - ص 19، وهو من الكتب القيمة في هذا الباب، لولا فرضية الكاتب بأن من أسباب الطعن في تفسير عصر التابعين أن العباسيين قد وضعوا على ابن عباس أحاديث كما وضع شيعة علي أحاديث عليه وعلى آل البيت، وأقول إن هذا تأصيل لسبب من أسباب الطعن في الدين والحديث الشريف، فإن كذب الناس على ابن عباس فالذين كذبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر، وما زادت الروايات المكذوبة على ابن عباس في التفسير إلا لعلم الناس بأنه ترجمان القرآن وقوله ينصر الآراء، وعلم الجرح والتعديل قادر على بيان الصحيح من الضعيف فيها. ولو اقتصر الكاتب على ما أورده من أسباب للطعن بأن الإسرائيليات اختلطت بالتفسير في ذلك الزمان لكان أحق، وقد كرر هذا السبب بين أسباب فساد التأويل في عصر تدوين الحديث، وهذا حق لولا نسبته للعباسيين من غير دليل، وخير من فصّل في أسباب الوضع في التفسير محمد أبو شهبة في كتاب الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، وهو سفر جليل، بيّن فيه الكاتب أدق أسباب الوضع ومبدأ ظهوره في الرواية والأثر.
ويدخل في هذا الميزان كل آية من كتاب الله أو أثر عن رسوله صلى الله عليه وسلم نحن مأمورون بروايته، ومثالاً عليها جميعاً ما قالوه عن سليمان عليه السلام بأنه كفر، بل وقالوا عنه ساحر (1)، فهذا يبين لنا عقيدتهم الفاسدة، ويعطينا دلالة على قول الله (وما كفر سليمان) رداً عليهم، للتوسع في بيان المقاصد لا لحاجة كتاب الله إلى كلامهم الغث، وزعمهم بأن داود لم يكن نبيّاً وإنما ملك مظفر، يوضح لنا عقيدتهم في داود وأسباب كذبهم عليه، أما ما ذكر عندهم من أحاديث يعقوب عليه السلام وأبنائه في قصة يوسف (2) وذكر قصة موسى وهارون وما كان بينهم وبين فرعون (3) فلا نقول كذبوا فيه كله، ولا نقول صدقوا، فقد وافق قولهم ما جاء في القرآن من قصص في نواحي كثيرة، وخالفها في أخرى، والقرآن لم يذكر شيئاً من أحاديثهم في بعضها، فلا نكذبهم وقد يكونون على حق، ولا نصدقهم فنثبت للتاريخ ونظلمه بما ليس منه، ولا حرج في تناقل هذا الأخبار لكونها لا تضيف ولا تنقص من ديننا بشيء، ولكن بعيدا عن تفسير القرآن بكل محتوياتها، فالقاعدة الأولى والأخيرة والتفصيل الفعلي والتطبيقي هو أن القرآن لا يفسر وتعطى معانيه بناء على الإسرائيليات بكل ما حوته من صحيح وسقيم، وما لا علم لنا به، لعدم حاجة القرآن إليه أصلاً، ولكونه تهوك كما قال صلى الله عليه وسلم. ومثالاً عليه ما جاء في قصة يوسف، فقد ذكروا
(1) يقول الطبري (413/ 2): "أنكروا أنه كان لله رسولا وقالوا: بل كان ساحرا"، وانظر ما روي في قولهم بأنه كفر، ونسبة كتب السحر إليه في الطبري (410/ 2) وهم لا يعتبرونه كما لا يعتبرون داود عليهما السلام من الأنبياء بل من الملوك، وانظر إن شئت في الأسفار التوراتية وإدراج سليمان وداود عليهما السلام في سفر الملوك الأول وكيف يفصلون عهد الملوك ويرون بأن داود الملك الثاني لمملكة إسرائيل ملك وشاعر وموسيقي، وهم يعظمون مزامير داود ويعتبرونها من أسفار العهد القديم ليس لاعتبارها وحياً إلاهيّاً بل لاعتبار قائلها ومؤلفها مؤسس دولتهم وبانيها. بل إنهم يعتقدون بأن الجد الثامن لداود وهو فارص ابن يهوذا كان ابن زنى وأن يهوذا زنى بكنَّتِه (زوجة ابنه) فولدت فارص (سفر التكوين إصحاح 38)، وهم يعتقدون أيضاً أن أبناء الزنى لعشرة أجيال لا يدخلون في جماعة الرب (سفر التثنية إصحاح 23)، ومن قرأ في العهود التوراتية وجد الطوام العظام، كقولهم بأن سليمان ارتد وكفر وعبد الأصنام (سفر الملوك الأول إصحاح 11) ألا لعنة الله على الكافرين.
(2)
قصة يوسف عليه السلام وإخوته في العهد القديم (التوراة بزعمهم) في سفر التكوين (إصحاح 50 - 37).
(3)
قصة موسى عليه السلام من مولده لخروجه من مصر في السفر الثاني من العهد القديم وهو سفر الخروج كاملاً.
ما كان من أمره ببعض الزيادة أو النقص والتغيير فقالوا مثلاً إن صاحب الملك كان من أهل مصر وهو الفرعون (1) - مع العلم أن كلمة فرعون لم ترد في تاريخ مصر القديمة، وهذا دليل على أنها صفة من أقوام آخرين، ومنهم بني إسرائيل - والقرآن يقول هو الملك، وفيه إشارة على أن الملك زمن يوسف لم يكن من أهل مصر، بل كان من قوم آخرين، وهو ما نص عليه التاريخ من أن الهكسوس حكموا مصر في ذلك التاريخ (2)، فنكذبهم بما قال القرآن بظاهر النص كعقيدة، وبما علمناه من التاريخ المثبت كحقيقة، ولا نكذبهم فيما أوردوه من تفاصيل، إلا ما خالف نصاً أو علماً وصلنا بطريق سليم، وكذلك قصة فرعون مع موسى وما كان فيها من تفاصيل، فقد بيّن القرآن هذه القصة بأروع ما يكون، حتى كانت أكثر القصص تكراراً في القرآن مما يلزمنا بعدم أخذ الزيادات والخرافات من بني إسرائيل، وقد جاء في كلامهم أنهم لم يؤمنوا بموت فرعون إلا بعد طلبهم رؤية جثته، فألقاها البحر على هضبة، فما لنا وهذا الكلام؟ أفيه من فائدة ترجى بعدما كرر القرآن قصة موسى وفرعون حتى صارت محفورة في قلوبنا، والطامة أن البعض فسر عليها قوله تعالى {الْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً
…
الآية 92 يونس} فالعلم والقرآن حكموا بأن جثة فرعون نجت بعد غرقه، فالقرآن يقول إن الله نجّى جثة فرعون بعد موته لتكون عبره لمن خلفه واكتفى، وفيه الكفاية للمسلمين ولا نزيد، والعلم يقول بأن الفراعنة هم أهل التحنيط وسادته، وأن جثث الفراعنة قد حفظت ليومنا هذا على اليقين من علم الآثار والتاريخ، وهي ظاهرة للعيان، فأي فائدة من خرافات بني إسرائيل وذكرها إن كانت تفسر القرآن، وقد نزل القرآن لتكذيبهم ولبيان الحق فيهم.
(1) انظر سفر التكوين (إصحاح 41 - 40)
(2)
للتأصيل: اقرأ ما ذكره الشعراوي في كتاب الأدلة المادية على وجود الله عن هذا الموضوع.
وفساد التأويل بسبب الإسرائيليات ظاهر في السور المشتملة على الحروف المقطّعة، بل في مفاصل تأويل الحروف وما فيها من إشارات، ومنها ما ذكره المفسرون في تفسير قصة داود عليه السلام مع الخصمين في سورة (ص)، وهي من مفاصل البيان لما في الحروف من مقاصد وما فيها من دلالات وإشارات، وما ذكروه هو الظلم بعينه لنبي الله داود عليه السلام، وتحريف لما جاء به القرآن من معاني، لا لبيان معانيه، حتى حُملت آيات القرآن على ما ورد في الإسرائيليات، وأبعدت أنظار المفسرين فضلاً عن عوام المسلمين، فقال بعضهم إن النعجة في قصة داود أريد بها المرأة، وأن العرب كانوا يفعلون ذلك في كلامهم! و"إن داود قال: يا رب قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لوددت أنك أعطيتني مثله، قال الله: إني ابتُليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتُليتك بمثل ما ابتُليتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم، قال: نعم، قال له: فاعمل حتى أرى بلاءك; فكان ما شاء الله أن يكون، وطال ذلك عليه، فكاد أن ينساه; فبينا هو في محرابه، إذ وقعت عليه حمامة من ذهب فأراد أن يأخذها، فطارت إلى كوّة المحراب، فذهب ليأخذها، فطارت، فاطلع من الكوّة، فرأى امرأة تغتسل، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم من المحراب، فأرسل إليها فجاءته، فسألها عن زوجها وعن شأنها، فأخبرته أن زوجها غائب، فكتب إلى أمير تلك السَّرية أن يُؤَمِّره على السرايا ليهلك زوجها، ففعل، فكان يُصاب أصحابه وينجو، وربما نُصروا، وإن الله عز وجل لما رأى الذي وقع فيه داود، أراد أن يستنقذه; فبينما داود ذات يوم في محرابه، إذ تسوّر عليه الخصمان من قبل وجهه; فلما رآهما وهو يقرأ فزع وسكت، وقال: لقد استضعفت في ملكي حتى إن الناس يتسوّرون عليّ محرابي، قالا له:{لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} ولم يكن لنا بد من أن نأتيك، فاسمع منا; قال أحدهما:{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أنثى {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} يريد أن يتمم بها مئة، ويتركني ليس لي شيء {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} قال: إن دعوت ودعا كان أكثر، وإن
بطشت وبطش كان أشد مني، فذلك قوله {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} قال له داود: أنت كنت أحوج إلى نعجتك منه {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} .. إلى قوله {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ونسي نفسه صلى الله عليه وسلم، فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك، فتبسم أحدهما إلى الآخر، فرآه داود وظن أنما فتن {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} أربعين ليلة، حتى نبتت الخُضرة من دموع عينيه، ثم شدّد الله له ملكه." (1) فانظر ما حملوا كلام الله عليه من افتراء وقدح في الأنبياء، والكذب فيها والتفصيل على ما ورد في القرآن واضح، وأثر الصناعة فيها واضح. ومنهم من شق عليه تصديق القصة فقال إن الرجل كان خطيب المرأة وليس زوجها! وكأن القرآن نزل مكمّلاً للعهد القديم والجديد عند أهل الكتاب، فما استطعنا تفسيره واستقراء معانيه إلا بالرجوع إلى قصص كتبهم، ونسى علماؤنا الكرام (2) أن اليهود لم يعترفوا بنبوة داود أصلاً،
(1) روى الطبري هذه القصة (182/ 21) بهذا النص عن ابن عباس بسند ضعيف جداً قد سبق تخريجه، وذكر القصة غيره من المفسرين كالقرطبي والبغوي والألوسي والشوكاني وابن الجوزي والرازي والسمرقندي والواحدي والجزائري وأنكرها البعض ممن ذكرها، وفسر بها البعض، ومنهم من أنكرها من غير ذكرها واكتفى بالإشارة لبطلانها، كابن كثير والزمخشري والشنقيطي والقطان وغيرهم، واختلفوا في ذنب داود، وأكثرهم رجّح أن ذنبه كان عدم سماعه لحجة الثاني قبل إصدار الحكم، وما هذا الخلاف إلا من تأثير هذه القصة. أما من لم يذكر القصة ولم يعقب عليها ولم يأخذ بكلام المفسرين في هذه الآية، فاقتصر على ذكر معاني الكلمات كما في التفسير الميسر، أو زاد بالقول بما أخذه المفسرون من عدم سماع داود لحجة الثاني كما في المنتخب، وفصّل القول فيها محمد أبو شهبة في كتاب الإسرائيليات والموضوعات ص264. وهذه القصة هي ذات القصة في العهد القديم إلا أنهم لا يتورعون عن نسبة الزنى للأنبياء والملوك، فزادوا عليها بقولهم على داود بأنه زنى بامرأة أوريا وكاد له كي يقتله وأنها حملت منه بالزنا (سفر صموئيل إصحاح 11).
(2)
ولا أقصد فيما ذكرت الطعن في علماء التفسير، فقد نقلوا وقالوا إن العهدة على الراوي، وكانت غايتهم تفسير القرآن كاملاً لبيان معانيه للناس، وهي غاية عظيمة، ونسأل الله لهم حسن الثواب، وإن زلّوا في تفسير آية أو أكثر فهذا من عدم العصمة للبشر، وكلّ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما علمهم وما ردنا إلا كما قال الله في داود عليه السلام:{وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] فعلمهم داخل فيما شاء الله أن يعلموه وردّنا داخل في دفع الناس بعضهم ببعض.
واعتبروه ملكاً ومؤسساً لدولتهم، كما هو ظاهر للعيان في وقتنا هذا (1)، فلا ينزهون أنفسهم - وهم حملة راية داود - عن قتل الأطفال والنساء والعجزة فضلاً عن تعاليهم على البشر جميعاً، وداودهم المكذوب في كتبهم لا يزيد عنهم في خلق أو دين، فما هو الحق في تأويل هذه الآيات، أهو داودنا وسلف نبينا أم داودهم وسلفهم؟ أنزلت هذه الآية لتأكيد أقوال اليهود فيه، أم نزلت بما دلت عليه كلمات رب العزة من غير زيادة أو نقصان؟ والأنكى من ذلك من أشربوا القصة بما حوته وبدأوا بالجدال في قول الملكين فقالوا هل يأمر الله الملائكة بقول الكذب؟ وزادوا عليه بتفصيل القول في كذب الملائكة بأنه للضرورة وغيره من الكلام السقيم، فقلبوا بقولهم كلام الله وما دل عليه، ووقعوا فيما جاءت الآية للرد عليه – كما سأبين -، فإن كان داود عليه السلام والذي له زلفى وحسن مآب عند ربه أذنب بظنه نعاج القوم في قولهم من نعاجنا، فحكم ظلماً فغفر الله له، فما حال الذين لا زلفى لهم ولا حسن مآب وظنوها من نعاجنا وكذّبوا الملائكة وقالوا على الله ما لا يليق، فكانوا هم من حرّف كلام الله عن مقاصده، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
(1) للتاريخ (1430هـ): عندما يظهر أحد قادة دولتهم المزعومة وأرضها المغصوبة المسماة إسرائيل (أذلها الله) - وفي القدس بالذات – يظهر تحت شعار الدولة (مملكة الملك داود).